ديناميكيات التهجير الإسرائيلي في غزة: المحو سعيًا للإحلال
من إحدى خزائن تفكيره يعود سموتريتش مجددًا لطرح فكرة أخرى تدعم سوابقه، تدور جميعها في الفلك نفسه، التوسع والاستيطان والتطهير والتهجير، وإن كانت معظم خططه السابقة تخص الضفة الغربية؛ فإن الارتياح الإسرائيلي للإدارة الأمريكية الجديدة وأذرعها المغرقة في الصهيونية، والمتوعدة سلفًا بتحقيق حزمةً من الأحلام الإسرائيلية في الضم والتوسع، قد حولت أنظار سموتريتش من الضفة التي يراها "محسومة المستقبل"، إلى قطاع غزة الذي ما زال مصيره متطايرًا أمام موجات المشاريع والأفكار والاستراتيجيات.
يقدم سموتريتش خطته التي لا تختلف كثيرًا في سياقها عن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين منذ الأزل، فيقول: "يمكننا احتلال غزة، وتقليص عدد سكانها إلى النصف خلال عامين، من خلال استراتيجية تشجيع الهجرة الطوعية، من الممكن خلق وضع كهذا، لن يكلف الكثير من المال، وحتى لو كان مكلفًا، فلا ينبغي لنا أن نخاف من دفع ثمنه".
وعلى الرغم من أن سموتريتش لم يكن يومًا منتقيًا لألفاظه ومراعيًا لحساسيات الملاحقة أو المحاسبة الدولية، إلا أنه تماهى مع التوجه الإسرائيلي الأخير في تلطيف المصطلحات وتورية المعاني بما لا يُخل بالأهداف العامة، فاستخدم مصطلح "تشجيع الهجرة الطوعية" في إشارة للمساعي لإسرائيلية لتغيير شكل القطاع، وتوزع سكانه، وديموغرافيته الحالية.
من خطة سموتريتش الأخيرة، وما سبقها من خططٍ وخطوات تنطلق السطور التالية في استطلاعها للتهجير – باعتباره جوهر النكبة المتجددة- وديناميكياته بصفته آلية احتلال وإحلال إسرائيلية أساسية، تجري إعادة إنتاجه من خلال عدة خطوات، تستهدف كُلًا من الأرض والإنسان والمستقبل لتصنع واقعًا جديدًا في القطاع، لا يترك أمام الفلسطينيين خيارًا سوى ما أسماه سموتريتش "الهجرة الطوعية"، تمهيدًا لإحلال استيطاني يُشَرعَن بأساليب مختلفة تمهيدًا لتدويله.
الحاجة الإسرائيلية إلى نكبةٍ متجددة
تُرَمّز السردية الفلسطينية بالنكبة رغم أن التاريخ الفلسطيني لا يبدأ بها، لكنها بالنسبة للفلسطينيين أشبه بهوةٍ سحيقة دفعتهم إليها العصابات الصهيونية عام 1948 فأوقفت مسار تاريخهم في مكانه دون مراوحة، هذا الترميز يرتبط باتجاهين؛ أولهما كثافة الفعل الصهيوني، وثانيهما اتساعه.
ففي الأولى اعتمدت العصابات الصهيونية -التي أصبحت لاحقًا أنوية جيش الاحتلال الإسرائيلي- على التهجير أساسًا لتحقيق انتصارها، وقد اتخذ الدفع نحو التهجير أنماطًا مختلفة ما بين الحرق والمجازر والحرب النفسية والتفجيرات، وجميعها عملت على تحفيز التهجير وتكثيفه.
أما الاتجاه الثاني فهو مطاولة الفعل لأكثر من 750 ألف فلسطيني -هذا العدد تقديري ويعتمد على من سجل في قوائم الإغاثة للأونروا، وهو غالبًا أقل من العدد الفعلي بكثير، ما جعل نتائج التهجير وآثاره أكبر من أن يتم تجاوزها، أو معالجتها، أو حلّها وفق أقنية القانون الدولي وديباجاته المنمقة، رغم أكثر من 75 عامًا على حدوثه.
لا سيما وأن الفعل بحد ذاته لم يتوقف أبدًا منذ النكبة الأولى، بل تكرر باتجاهات وأشكالٍ مختلفة ولو كانت بكثافةٍ أقل، طالت فلسطيني الـ 1948، وفلسطيني الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، وسُكان سيناء والجولان والقرى اللبنانية الجنوبية.
لكن الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة وحداثتها في الوعي الفلسطيني والإنساني الجمعي، تركت دلائل عميقة على أن التهجير ليس خيارًا اسرائيليًا بقدر ما هو إجماعٍ تاريخي متكامل، وعلى أنه ليس أثرًا جانبيًا لأعمال عسكرية وإنما خاتمة مقصودة لها، وعلى أنه ليس انتقامًا "ودماء غضب حارة" وإنما تخطيط ممنهج وجد الاحتلال إمكانيةً لتطبيقه، يدلّ عليه التصريحات الصريحة، والمساعي العسكرية والسياسية لتطبيقه، وإعادته إلى كثافته واتساعه الأول (عام 1948)، بل وأكثر.
من بينها تصريحات عضو الكنيست أرييل كالنر ودعوته إلى "نكبة ستطغى على نكبة 1948"، وتصريح المفكرة الصهيونية ماي غولان التي قالت:"من حاول إلحاق الكارثة بنا يجب أن يتلقى نكبة"، وتصريحات إيتسيك كوهين الضابط في الجيش الإسرائيلي المتعلقة بما وصفه "تطهير" شمال قطاع غزة، ومنع سُكانها من العودة إليها، أما العمل على الأرض فتؤكده تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشيه يعلون الذي شدد على أن ما يجري في غزة من "تهجير سكان شمال القطاع وتدمير منازلهم تحت توجيهات سياسية تهدف إلى تغيير التركيبة السكانية إنما هو تطهيرٌ عرقي".
بهذا النفَس الإحلالي وأكثر انطلقت ماكينة التهجير الإسرائيلية بحق القطاع، لتعيد سيرة النكبة الأولى بكثافةٍ واتساعٍ أكبر باستهدافه لجميع سُكان قطاع غزة (أكثر من 2 مليون) وباستخدامه لأنماطه الأولى من الحرق والتفجيرات والخطط العسكرية الهادفة للتهجير والإحلال، وبمنظومة سياسية حيّدت؛ المجتمع الدولي وقوانينه، والعقل العربي الجمعي والفردي عن عِظم الكارثة، وتركت الميدان خاليًا أمام المهجرين؛ ومسننات الدبابات تُسوي ما تركوه خلفهم.
التهجير خطوةً بخطوة
منذ اللحظة الأولى بُعيد عملية طوفان الأقصى والضربة القاصمة التي وجهتها المقاومة الفلسطينية للأمن القومي الإسرائيلي ولعقيدة الردع والسيطرة، كان الإجماع العسكري والمدني للاحتلال يقوم على ردٍ عسكريٍ طاغٍ قادرٍ على محو الهزيمة في أذهان "الإسرائيليين" أنفسهم، وإفناء الروح الفلسطينية التي أينعت بالطوفان وتطاولت حتى بات في وعي الفلسطينيين والعرب والعالم أنّ دحر الاحتلال ممكن.
فانطلق الرد الإسرائيلي من مبدأ "المحو" بأكبر قدرٍ ممكن، والتدمير حتى تغدو غزة المدمّرة مثالاً عصيًا على النسيان، ومستحيلة على الإعمار لأجيالٍ لاحقةً؛ بحيث تبقى معالم الدمار دالة على الردع الإسرائيلي، مع بقاء التهجير هدفًا نهائيًّا، ولتظلّ غزّة بيئة طاردة للفلسطيني المضطر والخائف والمحاصر والجائع.
تمثل ذلك في تزامنية مختلف الأذرع العسكرية الإسرائيلية؛ وذلك بالهجوم برًا وجوًا وبحرًا على كمٍ هائل من المرافق والأهداف، وفقًا للاستراتيجية العسكرية للجنرال إيزنكوت والتي مبدؤها: "عمليات التقرب وتحقيق التماس المتزامن، وذلك عبر جناح الطائرة وجنزير الدبابة وماتور الزورق" فعلى مستوى الحشد البري فقد نشر جيش الاحتلال الإسرائيلي 350 ألف جندي احتياطي و170 ألف جندي في الخدمة الفعلية في الأسابيع الأولى من الحرب، من بينهم 3 فرق قتالية مكونة من 60 ألف جندي على حدود قطاع غزة وحده.
أما على مستوى الحشد الجوي فقد استخدم أكثر من 339 مقاتلة جوية، ما بين (F16) و(F15) و (F35) وطائرات هيلوكوبتر كالأباتشي وغيرها، قامت بعمليات قصفٍ جوي عنيف حرثت خلالها أرض قطاع غزة بأكثر من 6 آلاف قنبلة، وضربت أكثر من 3600 موقع خلال الأسبوع الأول فقط، بعض هذه القنابل تتجاوز زنتها 2000 كغم وهي قادرة على تبخير الأجساد تمامًا.
ومن جهة البحر شاركت المقاتلات البحرية والزوارق العسكرية والغواصات في استهداف الحدود البحرية للقطاع والمنشآت المطلة عليه، وذلك بعتادٍ يتجاوز 9 آلاف جندي بحري، و45 سفينة أو زورق قتالي، إضافةً إلى زوارق مزودة بصواريخ بحرية ومدافع، ما تسبب في موجات نزوح وتهجيرٍ كبيرة طالت أكثر من مليون و900 ألف فلسطيني خلال الشهر الأول، في اتجاهات مختلفة.
نزح المواطنون من المناطق الحدودية مع غلاف قطاع غزة، والمناطق الشمالية، ومنطقة معبر فيلادلفيا ورفح المصرية، والمناطق المشاطئة، والمناطق السكنية إلى المناطق المحمية وفقًا للقانون الدولي، مثل المشافي والعيادات والمدارس والجامعات -تبين لاحقًا أن القانون الدولي لا يحمي نفسه في غزة- وبلغ أكبر عددٍ من النازحين في المناطق الشمالية حيث تجاوز عدد النازحين فيها حتى نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ما يقارب الـ 700 ألف مواطن.
ولتحقيق (حُلم التهجير الكبير)، سعى الاحتلال الإسرائيلي لتنفيذه على عدة خطوات صغيرة، متتابعة أو متزامنة لكنها جميعًا تهدف لإجبار الفلسطينيين على ترك مكان سكنهم، يستهدف بعضها الأرض، وبعضها الإنسان، وجميعها تستهدف مستقبل الفلسطينيين على ما بقي لهم من المكان.
أول هذه الخطوات؛ تقسيم قطاع غزة إلى مناطق، ومن ثم إلى مربعات مرقمة، وتوجيه الفلسطينيين للإخلاء من مربعٍ إلى آخر بحجة الحفاظ على سلامتهم وأمنهم، وكانت أولى المناطق التي طالب فيها الاحتلال الفلسطينيين بالنزوح هي مناطق الشمال، والتي تضم بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا ومخيم الشاطئ والرمال وشيخ عجلين والصبرة والزيتون.
وترافق مع هذه الخطوة إشارة إسرائيلية متكررة إلى "المناطق الآمنة" و"الممرات الآمنة"، وذلك للتخفيف من الضغط الدولي الذي يطالب الاحتلال بالحرص على "التقليل من أعداد الضحايا"، وقد قلّص الاحتلال مساحة هذه المناطق طول مدة الحرب حتى وصلت مع تشرين الأول/ أكتوبر 2024 إلى 11% فقط من مساحة القطاع، في ما طاولت أوامر الإخلاء بحجة "الأمن" أكثر من 84% من مساحته، رغم ذلك فما أثبته التاريخ أكدته الجغرافيا ولم يلبث الاحتلال أن قصف المناطق والممرات التي وجّه لها الفلسطينيين باعتبارها "آمنة".
ونتيجةً لفشل التحكم الإسرائيلي في حركة المواطنين الفلسطينيين، بدءًا من أول أيام الحرب حين قررت العائلات الفلسطينية العودة إلى بيوتها شماليّ قطاع غزة، وتحدي أوامر الإخلاء الإسرائيلية، مرورًا بجميع مفاصل التحركات العسكرية والهجمات الجوية والبحرية والبرية للاحتلال التي لم تنجح في محو الوجود الفلسطيني من مناطق القطاع.
اتجه الاحتلال إلى الخطوة الثانية، وهي تنفيذ منع العودة من خلال وجوده الفعلي في القطاع إثر قطع الطريق بين الشمال والجنوب ليحرم العائلات الفلسطينية من العودة إلى مساكنها أو إلى ما بقي منها، فسيطر على طول شارع صلاح الدين حتى شاطئ الزهراء مرورًا بدوار النابلسي، وأقام أبراجًا ونقاط تفتيش وكمائن قنص لترهيب العائدين من السكان.
ثم عزز وجوده العسكري بشق طريق 749 مؤسسًا بمحاذاته وجودًا عسكريًا على عمق 3 كم داخل القطاع، أطلق عليه قاعدة نتساريم، أسنده ببؤرتين استيطانيتين إحداهما على مفترق طريقي نتساريم وصلاح الدين، والأخرى في ملتقى الطريق الساحلي لغزة، ويسعى الآن إلى توسيعه عبر زيادة مساحته لتصل إلى 56 كيلومترًا مربعًا، وهي مساحة تعادل نحو 15 % من إجمالي مساحة قطاع غزة.
كما نفّذ عمليات هدم وتجريف واسعة لتوسعة ما يعدّها "منطقة عازلة جديدة" مقتطعًا من مساحة القطاع ما نسبته 20%، بابتلاعه مساحات بعرض 595 مترًا من السياج الحدودي، وبطول 58 كيلومترًا حول السياج، وبتدميره أكثر من 2850 مبنى كان يقيم فيها ما يُقارب النصف مليون فلسطيني.
ومع منتصف العام الحالي شق محورًا آخر في الشمال هو محور مفلاسيم، بعد هدمه لبيوت ومرافق سكنية في كلٍ من جباليا وبيت لاهيا وأحياء نصر وعباد الرحمن والعودة والكرامة، أما جنوبًا فقد شق طريق "ديفيد"، لعزل جنوبيّ غزة عن مصر، بامتدادٍ يبدأ من معبر كرم أبو سالم حتى شارع صلاح الدين، ونتج عنه أيضًا هدم وتجريف لمبانٍ تتبع أحياء بلدة الشوكة والسلام، وحي الشابورة ويبنا والشعوث، والقرية السويدية.
أما الخطوة الثالثة فهي تجريف دوافع العودة، سواءً باستهداف البيوت، أو مرافق الحياة، أو مصادر العيش، بما لا يُبقي للفلسطينيين مكانًا ولا حاجة ولا مرفقًا يعودون إليه، ففي إحصائيات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، مع نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر المنصرم، كان الاحتلال قد قصف القطاع بأكثر من 87 ألف طن من المتفجرات، دمّر من خلالها 160 ألف وحدة سكنية تمامًا، و83 ألف وحدة لم تعد صالحةً للسكن، و 193 ألف وحدة مدمرةً جزئيًا.
ترافق ذلك مع تدمير مرافق الحياة وأساسيات العيش، فقد استهدف الاحتلال أكثر من 125 محولًا كهربائية، ودمر ما يزيد عن 330 ألف متر من شبكات المياه، و655 ألف متر من شبكات الصرف الصحي، ومليونين و835 ألف متر من شبكات الطُرق والشوارع، وأكثر من 700 بئر مياه، و33 خزانًا رئيسًا، ما خفض حصة الفرد من المياه لأقل من أربع لترات يوميًا في أحسن الأحوال، مقابل 120 لترًا للفرد عالميًا.
كما استهدف مصادر عيش فلسطينيي قطاع غزّة ورزقهم، فقد أشار مدير منظمة الأغذية والزراعة التابعة إلى الأمم المتحدة إلى أن الاحتلال دمر ما يقارب 70% من الأراضي الزراعية، التي كانت تساهم فيما يصل إلى ثلث الاستهلاك اليومي؛ وأحرق ثلاثة أرباع الأشجار المثمرة من تين وحمضيات وزيتون في قطاع غزة، واستهداف 95% من الماشية بالحرق والقصف، وأكثر من نصف قطعان الخراف والماعز.
ونتيجةً لهذا الاستهداف المتعمد، إضافةً إلى الحصار الجوي والبري والبحري وإغلاق المعابر فقد أنتج العقل الإسرائيلية خطوة أخرى للتهجير؛ أدواتها الجوع والمرض، يقوم فيها الموت مقام الرصاص في تقليص أعداد الفلسطينيين، بدءًا باستهداف ممنهج لجميع مراكز الغذاء والماء والدواء، شملت مخازن غذائية ومحطات تنقية مياه، ومخازن أدوية لمشافي وعيادات بعضها تتبع منظمات أممية مثل الأونروا ومنظمة الصحة العالمية.
مرورًا بسلسلة من مجازر الطحين يستهدف فيها جيش الاحتلال شاحنات المساعدات بمجرد دخولها إلى القطاع وتجمهر الفلسطينيين حولها لاقتسام أكياس الطحين والمساعدات، فقد استهدف شاحنات مساعدات على دوار النابلسي، وأخرى عند دوار الكويت، وشارع الرشيد وغيرها؛ ليسفر ذلك عن مقتل أكثر من 400 فلسطيني.
وانتهاءً بالتعاون مع عصابات وقطاع طرق على سرقة المساعدات ونهبها، وتمكينهم من قتل سائقي الشاحنات ونقل المساعدات إلى مناطقهم الخاضعة لسيطرة الاحتلال، وتأمين الحماية لها وإتاحة المجال لوجودها وتحركها تحت نظره، في مقابل قتل قوات الشرطة الفلسطينية واستهدافهم، ولجان الطوارئ واللجان الشعبية التي شُكلت لحماية المساعدات، وهو ما اعتُبر تعمدًا لنشر الفوضى وخلق حالة من الفلتان سمحت بظهور اللصوص وقطاع الطرق
وقد أفادت تسع وعشرون منظمة دولية غير حكومية، بأن الجيش الإسرائيلي يشجع على نهب المساعدات الإنسانية في قطاع غزة عن طريق مهاجمته قوات الشرطة الفلسطينية، التي تتبع حركة حماس وتحاول تأمين المساعدات، في مقابل عملها بحرية في مناطق يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي، في ما صرح المفوض العام لوكالة الأونروا فيليبو لازاريني مطلع كانون الأول/ ديسمبر الحالي، أن الوكالة أوقفت عملية إدخال المساعدات نتيجة غياب الأمن وتعرضها المستمر للسرقة، والتي كان آخرها قبل أسبوعين حين سرقت عصابات من المجرمين الفارين من السجون 98 شاحنة من أصل 109، ضمن قافلة ضخمة للمنظمات الأممية كانت تحمل كمية من الدقيق تكفي لإنتاج الخبز لثلثي سكان غزة لمدة أسبوع.
الحصار وضرب المخازن والمساعدات وتجاهل عصابات النهب والسرقة صدّرت الجوع والمرض لتكون العوامل الأكثر تأثيرًا في واقع سكان قطاع غزة ونزوحهم، فقد عدّ التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي (IPC) أنّ نحو 96% من سكان غزة (2.1 مليون شخص) يواجهون مستويات مرتفعة من انعدام الأمن الغذائي الحاد، فيما يواجه أكثر من 495 ألف شخص (22% من السكان) مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي الحاد في المرحلة الخامسة (المرحلة الأخيرة)، وهو ما يعني أنهم يقضون أيامًا وليالي كاملة دون تناول أي طعام.
تكنو تهجير بهامش خطأ 100%
المزامنة بين استهداف الأرض والإنسان لم تقتصر فقط على الهجمات العسكرية التقليدية وعمليات القتل والحرق والاستهداف وتخريب الممتلكات ومنع المواطنين من العودة، وتجريف أراضيهم ومصادر رزقهم، بل اتخذت مع هذه الحرب بُعدًا آخر، وذلك بالمزامنة بين التكنولوجيا والنار لإخضاع سُكان قطاع غزة بأكملهم، فبينما كان الاجتياح البري يتعمق والقصف الجوي يتكثف كانت الوحدات العسكرية تستعين بالتكنولوجيا في اختيار أهدافها أولًا، وثانيًا في غربلة أهل المكان.
وقد نسب جيش الاحتلال الإسرائيلي قدرته في إنشاء مصنع أهداف، لاستعانته ببرنامج "هبسورا" للذكاء الاصطناعي، ما مكّنه "من تحديد أكثر من 12 ألف هدف خلال أقل من شهر من الحرب"، وأتاح له تكثيف هجماته الجوية، مدعومًا بقدرته على التحديث المستمر ومراجعة آلاف البيانات من أجل تحديد الأهداف المحتملة تلقائيًّا وبوتيرة مستمرة، إذ يتصل مباشرةً بما تلتقطه الطائرات المسيرة، ويتابع المحادثات والرسائل عبر مواقع التواصل الاجتماعية، كما يدمجها بما يجمعه الجواسيس على الأرض وبتتبعه لمواقع الهواتف الخلوية.
أما على المستوى الشخصي فقد أكد ضُباط في وحدات مختلفة من جيش الاحتلال استخدامهم برامج للتعرف على الوجوه، يُطلق على أحدها اسم "الذئب الأحمر" يُدار عبر وحدة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، فقد نصب أذرعًا ومجسات للمنظومة في منطقة محور نتساريم وما حولها، وتقوم بمسح وجه النازح الفلسطيني دون أن يشعر، وذلك من خلال كاميرات المراقبة المنتشرة أو المركبة على الحاجز، ثم مقارنة صورة الشخص بقواعد البيانات، ثم تحديد إذا ما كان هذا الشخص مطلوبًا أو ناشطًا أم لا.
وتتورط في هذه الحرب الرقمية شركات إسرائيلية وأخرى عابرة للحدود، إذ تُستخدم تكنولوجيا من شركة "كورسايت" الإسرائيلية، وصور من غوغل، وخدمات التخزين السحابي من أمازون ويب للخدمات وجوجل كلاود وميكروسوفت آزور لدعم عملية جمع المعلومات عن المواطنين الفلسطينيين في القطاع وتتبع تنقلهم، كما أدخل جيش الاحتلال تقنية قنص معزز بالذكاء الاصطناعي طورته شركة "سمارت شورتر" وزودت به أسلحة الجيش ورشاشاته.
في ما تُستخدم تطبيقات عسكرية مختلفة تحول الأرض الفلسطينية إلى لعبة قتالية يخوضها جنود الاحتلال بحق المواطنين، فتطبيق "زد تيوب" يسمح للجنود بالوصول إلى لقطات حية لجميع أجهزة التصوير العسكرية في غزة، وتطبيق "مابلت" يسمح للجنود بوضع علامات على الأهداف في الوقت الفعلي على خريطة تفاعلية حيث يبدو أن كل منزل له هدف، بينما يُستخدم تطبيق "هانتر" لتحديد الأهداف وكشف أنماط السلوك باستخدام الذكاء الاصطناعي.
أما على مستوى برامج الذكاء الاصطناعي فهناك برنامج "لافندر" الذي يُقدر هامش الخطأ فيه بأكثر من 10%، فقد سجل أكثر من 37 ألف فلسطيني باعتبارهم مقاتلين مشتبهًا بهم، دون وجود شرط للتحقق بدقة من سبب التسجيل، مع إعطاء مهلة 20 ثانية لكل حالة قبل استهدافها، وبرنامج "أين أبي" الذي يتعقب الأفراد عند دخولهم لمنازلهم ليُقصَفوا بعد اجتماعهم بأسرهم، وبرنامج "البشارة" الذي يستهدف المرافق والمنشآت (استخدم بنحو مكثف في بداية الحرب لتحقيق عنصر الصدمة بين الفلسطينيين).
ونتج عن الاستخدام العسكري المكثف لهذه التكنولوجيا ارتفاعًا كبيرًا في أعداد الضحايا، في مقابل تحكم أكبر في حركتهم وأنشطتهم، يعبّر عن ذلك البروفيسور أحمد سعدي بالقول: "وفقًا للأنظمة يُسمح بقتل كأضرار جانبية معقولة ما يصل إلى 20 مدنيًا إلى جانب كل ناشط صغير من حماس وحوالي 100 مدني مع كل قائد من حماس".
لا يقتصر الأثر بواقع الحال على القتل، بل يمتد إلى تجدد أنماط التهجير بأذرعٍ تكنولوجية، فقد اعتبرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" أن استخدام الاحتلال لتقنية تتبع هواتف الفلسطينيين، تسبب في تمكينه من تعقب عملية تهجيرهم ونزوحهم ومحاولاتهم المتكررة للعودة مرةً أخرى، ومن ثمّ استهدافهم.
فمنذ الـ 13 من تشرين الأ ول/ أكتوبر 2023 وبالتوازي مع أوامر الإجلاء الإسرائيلية لسُكان شمالي القطاع انطلقت آلية مراقبة الإجلاء عبر تتبع بيانات مواقع الهواتف الخلوية ومن ثمّ حركة أصحابها عبر غزة، ومن خلال مقر القيادة الجنوبية في مدينة بئر السبع تجري عملية تقسيم قطاع غزة إلى 620 جزءًا وتتبع درجة إجلاء السكان وحركتهم في كل جزء.
سيطر نظام التتبع على أكثر من مليون و41 ألف جهاز خلوي في القطاع، واستخدمت أبراج الهاتف الخلوية وبيانات المراقبة الجوية لتوفير تتبع حي ومباشر لتحركات السكان، ومن ثمّ تحديد الخطة العسكرية المناسبة مع كل موقع، بل وتحديد نوع سلاح الهجوم.
كما يضخ النظام تحديثات مباشرة عن عدد الهجمات التي يتعرض لها جيش الاحتلال في كل منطقة، وسلاح المقاومة المستخدم، ومن ثمّ نمذجة تحركات المقاومة والأسلحة بين مختلف مناطق القطاع، كما يوفر النظام معلومات شخصية عن السكان وأكبر العائلات الموجودة في كل منطقة.
ومؤخرًا اعتبر خبراء أمميون أن الاستخدام الإسرائيلي الواسع للذكاء الاصطناعي تسبب في اتساع دائرة التدمير وأعداد الضحايا وموجة التهجير، معتبرين أن "استخدام الجيش الإسرائيلي لأنظمة الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى تراجع الاهتمام بدور العنصر البشري في تجنب أو تقليل الخسائر في صفوف المدنيين والبنية التحتية، يفسر حجم عدد القتلى وتدمير المنازل في غزة".
واعتمد الخبراء في رأيهم على سلسلة من الجرائم الإسرائيلية التي أُحيلت إلى الذكاء الاصطناعي، كان من أبرزها استهداف العاملين في منظمة المطبخ العالمي في نيسان/ أبريل المنصرم، فقد أرجعت هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي سبب الإغارة على قافلة مركبات المنظمة الإنسانية إلى "خطأ فادح" مرده اعتقاد جنود وحدة الطائرات بدون طيار "أنهم رأوا سلاحًا في يد أحد العاملين في المجال الإنساني، فقرروا استهدافه بثلاث دفعات من القصف حتى قُتل جميع الركاب".
سيسيولوجيا التهجير وإعادة التهجير
استمرار الحرب الإسرائيلية وعمليات الهجوم المكثف على المناطق المدنية التي تجبر المواطنين الفلسطينيين على النزوح والتهجير المتواصل ترك آثارًا عميقة على البنية الاجتماعية والنفسية الفلسطينية، فوفقًا لتقارير منظمة الأمم المتحدة للطفولة، فإن الأطفال هم الفئة الأكثر تأثرًا بحالة الرعب والخوف الدائم وانعدام الاستقرار.
لا سيما وأن صعوبة الثبات والاستقرار في مكانٍ واحد تتسبب لهم في صعوبة مواصلة تعليمهم، أو الحصول على رعاية صحية مناسبة، أو تحقيق حالة من السكينة النفسية التي تعينهم على تجاوز أزمة الحرب ونتائج خسارة السكن أو المدرسة أو أحد الوالدين أو كليهما، أو بعض الأقارب.
وفي حالاتٍ كثيرة يفقد الأطفال في غزة ذلك كله، إضافةً إلى مشاعر الجوع وتردي الوضع الصحي، وهو ما يُنذر بأن جيلًا كاملًا من الأطفال الفلسطينيين تتجاوز نسبته 54% من سُكان القطاع، مهدد بالإصابة باضطرابات نفسية طويلة مثل "اضطراب ما بعد الصدمة"، وما ينتج عنه من هلع واكتئاب وكوابيس ونوبات صمت أو بكاء وفوبيا فقدان، و"اضطراب انتظار الموت"، وهو ما يدفع العديد منهم لعدم القدرة على النوم أو ممارسة الحياة الطبيعية خوفًا من الموت.
لا تقتصر المأساة على الضحايا من الأطفال الشهداء والذين تتجاوز أعدادهم 15,694 طفلاً، وإنما تمتد لما يعانيه قرابة 34,000 طفلٍ جريح، وأكثر من 200 طفل أسير اختفطته قوات الاحتلال، إضافةً لقرابة 40 ألف رضيع تسببت حالة النزوح والتهجير المتواصل، واستهداف المرافق الطبية والعيادات في حرمانهم من التطعيمات واللقاحات الضرورية.
من بين هذه الفئة هناك أكثر من 10 ألف طفل فقدوا أطرافهم أو عيونهم وأصيبوا بإعاقات مستديمة، لا تتيح لهم الحرب آليةً للتكيف معها وتمثل عمليات التهجير المستمر معضلةً أساسيةً لهم تهدد حياتهم، هناك أيضًا أكثر من 17 ألف طفل تركتهم آلة الحرب يتامى، 3% منهم فقدوا كلا والديهم.
ومن أصل مليون و900 ألف مواطن غزّي تعرضوا للتهجير المتواصل، هُناك 700 ألف طفل، من بينهم 650 ألف طفل تعرضت منازلهم إلى تدميرٍ جزئي أو كلي، أما من نجا منهم من القتل فقد فتك به الجوع والمرض، وقد شخصت وكالة الصحة التابعة للأمم المتحدة إصابة أكثر من 8 آلاف طفل دون سن الخامسة بسوء التغذية الحاد، من بينهم 1600 يعانون من سوء تغذية وخيم (مفضي إلى الموت).
هذه الأرقام وضعت الاحتلال الإسرائيلي على رأس "قائمة العار" وفقًا للأمم المتحدة، بعد أن صُنفت "إسرائيل" دولة تقتل الأطفال، ما يعني أن الجيش الإسرائيلي هو جيش يقتل الأطفال، وفيما لا يُبدي المحتل أي تراجعٍ عن حربه بالرغم من هذه التصنيفات؛ يظل استهدافه لهذه الفئة مهدّدًا الفلسطينيين على المدى البعيد.
لا يتوقف الخطر على الأطفال وحدهم، ولا أدوارهم المتغيرة في المستقبل المنظور للقطاع، التي ستتجاوز مرحلة اللهو والطفولة إلى عمق المسؤولية وتحمل العبء الأسري، بل يطال كينونة الأسرة الفلسطينية الواحدة، فقد استُهدف الرجال بالاعتقال والقتل والتعذيب للتنكيل بالنساء والأطفال، وأجبرت النساء على النزوح والخضوع لأوامر المحتل بترك المكان للتنكيل بالرجال وصمودهم.
يعمد الاحتلال لإنتاج واقعٍ جديد تكون الأغلبية فيه للنساء الأرامل واليتامى، ما يعيد توزيع الأدوار التقليدية بشكلٍ حصري على هذه الأغلبية، فتضطر النسوة أو الأبناء لإعالة الأسرة وحمايتهم وتوفير الطعام والمسكن لها، والاضطلاع بمهمات ذكورية، مثل إصلاح الخيمة وجمع الأخشاب والوقوف في طوابير المياه أو نقاط توزيع المساعدات.
هذا الواقع الجديد يجري ترسيخه احتلاليًا وبشكلٍ كبير من خلال موجات التهجير المتتابعة وفقًا لأنظمة الذكاء الاصطناعي، التي يُفصل فيها النساء والأطفال عن الرجال، ويُدفعن لمواصلة طريقهن بعيدًا عن أزواجهن أو آبائهن أو إخوانهن، ويُجبرن على النزوح سيرًا على الأقدام لمسافات طويلة من منطقة إلى أخرى داخل القطاع، في ظل حرمانٍ لهن من الحماية التي يوفرها الرجل.
ينسجم ذلك مع واقع ما بعد التهجير، والذي أنتج اكتظاظًا شديدًا وغيابًا للخصوصية الفردية المتسمة بالحساسية وفقًا لطابع المجتمع الفلسطيني المحافظ، فتضطر المرأة حينها لتجاوز الكثير من احتياجاتها الحيوية لتأمين هذه الخصوصية، فترتدي حجابها طوال الوقت، وتقلل من تناول الطعام والشراب لتجنب الذهاب إلى الحمام الذي يفتقر في كثيرٍ من الأحيان لأدنى مقومات النظافة.
وكانت الأمم المتحدة قد اعتبرت في تقريرٍ لها حمل عنوان "الندرة والخوف" أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة إنما هي حربٌ على النساء، فقد أشارت إلى افتقاد النساء إلى إمكانية الوصول إلى خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة، والتي تكاد تكون غير متاحة في غزة، وهو ما يجعل من الحرب المستمرة والنزوح المتواصل وغياب المساعدات وما توفره من منتجات صحية ودعم غذائي، محطاتٍ في معارك مستمرة تخوضها الغزّيات للبقاء والصمود اليومي.
بينما أكدت المقررة الأممية الخاصة المعنية بالعنف ضد المرأة والفتيات، ريم السالم، أن الجنود الإسرائيليين يستهدفون النساء الفلسطينيات بشكل منهجي وعنيف، يشمل القتل الميداني والتعذيب والاعتقال، مقرّةً توثيق "اعتداءات جنسية تشمل الاغتصاب والتعذيب الجنسي، وتصوير النساء في أوضاع فاضحة، وجمع ملابس النساء الفلسطينيات وتصويرها كغنائم حرب، ومشاركة هذه الصور بين الجنود كجزء من سياسة الترهيب والإذلال".
واستخدمت المقررة الأممية مصطلح "العنف التناسلي" في إشارتها لاستهداف الاحتلال للنساء، معرفةّ إياه بأنه: "تدمير البنية الأساسية للنساء الفلسطينيات وقدرتهن على الإنجاب من خلال استهداف كل ما يتصل بالولادة والرعاية ما بعد الولادة".
مستقبل المكان في ضوء التهجير
لا ينفصل ذلك كله عن الفكر الصهيوني في التوسع المتواصل داخل عمق القطاع، هُناك حيث تتحرك دانييلا فايس بخطوات تتجاوز سُرعة سموتريتش متسللةً إلى داخل قطاع غزة مرة على الأقل أسبوعيًا، منذ تمترس جيش الاحتلال الإسرائيلي في محور نتساريم، تستكشف المكان وتؤسس لتحقيق أحلام الاستيطان فيه المتعاظمة أمام موجات التهجير لسكانه الفلسطينيين، وهي لا تُخفي ذلك أو تنمقه، بل تعدّ السابع من أكتوبر فرصةً لتغيير التاريخ، بما "يُشكل نهاية لوجود العرب في قطاع غزة، في مقابل عودة الكثير والكثير من اليهود إلى المستوطنات، والذين سيبنون مستوطنات جديدة".
يُشاركها بن غفير ، ووزير الإسكان الصهيوني يتسحاق غولدكنوبف، هذا الحُلم، ويسعيان بإلحاحٍ لتأكيده حكوميًا مدعومًا بآراء صريحة لا تخفي رغبتها في دفع الفلسطينيين خارج القطاع، بجميع الأساليب التي يصفونها بـ "الهجرة الطوعية"، "الانتقال إلى سيناء"، "الاستيعاب في دولٍ أخرى"، لكن دانييلا لا تهتم للأسلوب، فهي تمتلك الخبرة المسبقة في كيفية فرض مستوطنةٍ على منطقة هُجّر منها الفلسطينيون، من خلال خبرتها في منظمة "نحالاه" التي تُديرها والتي أشرفت على بناء أكثر من 200 مستوطنة في الضفة الغربية، آخرها 64 مستوطنة خلال العام المنصرم، جميعها بدأت من كرفانٍ ومحولٍ كهربائي ثم توسعت لتُصبح ما تطلق عليه فايس "مجتمعًا يهوديًا"، وهو الحُلم الذي تسعى لتحقيقه في قطاع غزة.
فبُعيد السابع من أكتوبر بقليل كانت النحالاه قد أنجزت 6 مخططات هندسية لبناء 6 بؤر استيطانية في القطاع، مدعمةً خطواتها بتحركٍ حكومي في تقديم مشروع قانون يقضي بإلغاء خطة "فك الارتباط" لعام 2005 وإعادة بناء المستوطنات التي أخليت من "غوش قطيف" في جنوبي القطاع.
التحرك لم يقتصر على المخططات والورق بل تجاوزه لزيارات ميدانية لفحص المواقع، وتجهيز 40 كرفانًا بكل المعدات والمستلزمات ومولدات الكهرباء بانتظار "اللحظة المناسبة" لغرسها في قلب القطاع، كما أعدت منظمة نحالاه مسبقًا قوائم لأكثر من 700 عائلة من المستوطنين على استعدادٍ للانتقال فورًا للاستيطان في قطاع غزة.
ولا يمكن قراءة هذا السعي المحموم إلا في ضوء الخطوات العسكرية المتسارعة لتحقيق أكبر تهجيرٍ ممكن، وتقليص لعدد السكان الفلسطينيين في القطاع بدءًا من أول أيام الحرب وحتى خطة الجنرالات التي يواصل جيش الاحتلال تنفيذها بديناميكيا التجويع والقصف والتجريف والتفخيخ في شمالي القطاع تحت اسم "التطهير"، وانتهاءًا بموجةٍ من التقارير الغربية التي تُصور غزة مكانًا يُستحال العيش فيه بالنسبة للفلسطينيين، لكنه على الجانب الآخر مكانٌ مثالي لبدء استيطاني إسرائيلي جديد.
فمنذ الأشهر الأولى للحرب بدأ الضخ الإعلامي الغربي والعربي المُطبع والساذج بالترويج لمستقبل غزة، ففي الـ17 من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 انتشرت التقارير الإعلامية التي تصف حجم الخسائر بأنها 5 أضعاف خسائر عدوان 2014، ومع بداية الشهر الأول من العام الحالي انطلقت المنظمات الدولية في تقديرات تشير إلى أن الاقتصاد والحياة التجارية في غزة بحاجة لـ7 عقود للعودة لما كانت عليه قبل الحرب، فيما قدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الوقت الزمني لإعادة إعمار غزة بعد الحرب بقرابة الـ80 عامًا.
والحقيقة أن واقع الميدان في القطاع يبدو من الكارثية والاستحالة بحيث لا يبدو للأمل أي مكانٍ فيه، كما أن التقارير التي تُشير لتردي نوعية الحياة وتدهور الوضع الصحي وانتشار الأوبئة والأمراض والمجاعات وغياب النظافة، واختلاط المياه الجوفيه بالمياه الملوثة وعدد المصابين بأمراض معدية، وأعداد الأرامل والأيتام والبيوت والمرافق الحكومية والتعليمية والصحية والإنسانية المدمرة تؤكد ذلك.
لكن حجر الزاوية في تقديرات الأمم المتحدة لم يكن واقعيًا ولا دقيقًا، بل يبدو بالنسبة للفلسطينيين مسيسًا ودعائيًا رغم أنه يُعبر عن محنتهم، وذلك لسببين أولهما اعتماده حصرًا على عملية إعادة إعمار ما بعد عدوان 2014 مرجعية له، حيث كان يُعمر ألف منزل سنويًا، بينما من الممكن أن تجري هندسة إعادة الإعمار بآليات أفضل بعد انتهاء الحرب الحالية.
وثانيًا لأن التقديرات موجهة للفلسطينيين أصحاب الأرض، لتحفيزهم على ترك المكان المستحيل إلى الحيز الممكن، في تجاهلٍ لعودة الألوف منهم خلال أشهر الحرب إلى ما بقي من منازلهم وركامها للتمترس فيها بإصرارٍ وتحدٍ رغم استحالة الحياة فيها، في الوقت الذي لا يُعيق حجم الدمار المخططات الإسرائيلية لمزيد من التوسع والاستيطان والضم.
بالمحصلة، تتنوع الديناميكيات والأساليب الإسرائيلية في دفع الفلسطينيين ترهيبًا وترغيبًا للنزوح وإعادة النزوح مرةً تلو الأخرى، بالحديد والنار والحمم والتكنولوجيا، بالعصا والجزرة وبالمساعدات أو العصابات، بالحصار المطبق وسلب الروتين والاستقرار والصحة والسقف والخيمة، حتى يغدو موطأ القدم أقرب إلى حفرة القبر منه إلى خطوة الحياة.
ولا يطيق الاحتلال صبرًا على التهجير تلو التهجير تلمسًا لمخططاته حتى يراها رأي العين، أرضًا تخلو من الفلسطينيين ملكًا له وحده بسطوته التي أراد له العالم أن يلقي بحممها عن آخرها على رأس الفلسطيني عله يفرّ، لكنه يتشبث، ويعود ثم يعود، ويقاتل حتى يعود، طوفانًا أو نارًا أو حممًا في وجه أعدائها، فلطالما كانت غزة أرضًا تلفظ الغرباء.