ذرائع صُنع الحكم العسكريّ الإسرائيلي 1948- 1949: قراءة في أرشيف اللجنة التحقيقيّة الأولى
مقدّمة
أرمي في هذا النصّ لإطلاع القرّاء على أرشيفٍ صهيونيّ متعلقٍ بعمليّة إنشاء حكم عسكريّ في مناطق فلسطينيّة وقعت تحت سيطرة السلطات الإسرائيليّة إثر حربِ التطهير العرقيّ التي انطلقت في أواخر عام 1947. ما يهمّنا هو إنتاج نقدٍ أرشيفيّ للدوافع والضرورات التي اصطنعتها المؤسسة الأمنيّة الصهيونيّة، لتشرّع بذلك الحكم العسكريّ في كلّ تشكيلاتهِ وتجسيداتهِ القمعيّة والإباديّة فيزيائيًا وسياسيًا.
لم يكن مسار تأسيس الحكم العسكريّ ناتجًا عن قرارٍ ففعلٍ مباشرين، بل مرّ بتطوراتٍ وتراكماتٍ نتجت عن الحرب وما تلاها من توسّع واحتلال للأراضي الفلسطينية، إذ كان من الضروريّ "تنظيم" هذهِ الأراضي وتثبيت ضباطٍ عسكريين بشكلٍ مؤقّت لإدارة الأراضي والمدن، خصوصًا في ظلّ الهاجس البنيويّ الإسرائيلي إزاء عودة اللاجئين، حيثُ ظلّ الاحتلال يتعامل مع العودة بوصفها خيارًا ممكنًا وخطيرًا، إذ نجد العديد من القرى والبلدات التي عادَ إليها أهلها مع انتهاء زخّات الرصاص، بما أن الحدود لم تكن بعد محسومةً وثابتةً ومحصّنةً. ونجد ذلك جليًا في مذكّرات دافيد بن جوريون، في توثيقهِ لمراسلاتٍ وجلساتٍ تكشف عمّا يؤرّق المؤسسة الصهيونيّة وقيادتها السياسيّة والعسكريّة قبيلَ إعلان الاستقلال وما بعده إزاء تطوّرات الحرب، حيث إن الحكم العسكري، وفق هذه المذكرات، جاء نتيجةً لضروراتٍ راهنة وعينيّة، وأقتبس:
"ثمّة حاجةٌ إلى وضع قانون خاصّ بمدينةٍ (أو قرية) محتلّة: من سيكون الحاكم؟ القائد أم حاكم معيّن؟- ومِن قبل من؟ ما هي سلطته تجاه الجيش؟ تجاه السكّان؟ أملاكهم؟ ماذا يحقّ للجيش أن يُصادر؟ ما هو مصير لجنة شؤون العرب؟ هل سَتُعلَنُ منطقةٌ عسكريّة؟ ما هي أحكامها؟ ما هو حُكم اللصوص؟ هل هناك تعويضات عن الأملاك المسروقة؟ هل سيُطرد عرب؟ .. ما هي الأحكام بالنسبةِ للعربِ الباقين؟ أملاكهم؟ ما هو المسموح مصادرته؟ ما هو المحظور مصادرته؟ من سيتولى الاهتمام بالباقين؟ من سيحرس المكان: الجيش أم الشرطة؟ لمن هم خاضعون؟ من سيهتمّ بحاجات العرب؟ من سيعطي الميزانيّة؟" [1]بن جوريون، 8 أيّار، 1948
ربّما تعدّ هذهِ الكلمات هي الأولى التي تحيل إلى التفكير الصهيونيّ المبكّر في إنشاء الحكم العسكريّ، وسؤال كيفيّة التعامل مع العرب الفلسطينيين الباقين. وبالتأكيد استمرّت الظروف تلّح على تثبيت الحكم عسكريّ وتعيين ضباطٍ ثابتين، ففي اليوم ذاتهِ كتبَ بن جوريون الآتي: "ألميليخ أفنير، قائد الحكم العسكريّ - تنقَّلْ في جميع الأماكن وتكلّم مع الأركان"، من هُنا نرى أن عمليّة الإنشاء قد بدأت، مع الانتباه إلى أن فرْض الأحكام العسكريّة في هذهِ اللحظة لم يكن من المعلوم مداهُ الزمنيّ، وكيف سينتهي، وما هي مآلاتهِ. كانت الفكرة منهُ هي إنفاذ السلطة والسيادة الإسرائيليتين، وإحكام القبضة على الأراضي المحتلّة حديثًا، وعدم إتاحة عودة اللاجئين.
عُقدت جلسة لجنة شؤون العرب التابعة للاحتلال بتاريخ 18 آب/ أغسطس عام 1948، وكانت إحدى أهمّ الموضوعات المطروحة على طاولتها: "إعادة العرب أم لا؟"، وتضمنت ثلاثة مباحث: (أ) التعامل مع ممتلكاتهم ولا سيّما الأرض، (ب) توطين اللاجئين في البلاد العربيّة: كيف وبأية وسيلة، (ج) هل سنعيد أحدًا منهم إلى البلد وبأية شروط ومتى ومن؟ وتميّزت هذهِ الجلسة بتحديد مدى صعوبات فلاحة الأراضي المتروكة بعد طردِ اللاجئين، إذ إنّ الدولة الصهيونيّة تحتاج إلى زراعة الأراضي واستغلالها بهدفِ توفير الغذاء للمستوطنين، وخصوصًا مستوطني موجات الهجرة القادمة، والتي قدّر تعدادها شهريًا بـ (10- 120) ألف مستوطن مهاجر جديد، مع التأكيد على نقصِ الطاقات البشريّة بسبب الفراغ الهائل الذي أحدثتهُ عمليّة التطهير العرقيّ. كما أنّ الخوف الأساسيّ الذي ظهر لـ "الدولة" الناشئة كان من عمليّة تسلل واسعة للعربِ المطرودين خارج الأراضي التي احتلّت، بينما لم يشكّل المطرودون داخل الأراضي المحتلّة تهديدًا استراتيجيًا وفق الرؤية الإسرائيلية، ولكن مع وجوب منعهم أيضًا من العودةِ إلى أراضيهم.[2] إذ إن المنطق الإسرائيلي كان خلق بلدات للمهجرين والعرب هي أشبه بمراكز اعتقال كبيرة، أو محميّات فلسطينيّة، علمًا أن بن جوريون قد أشارَ إلى ذلك في إحدى جلسات الكابينت عام 1956.[3]
طالت الحرب على عمليّات "التسلّل" -والتي تخلّلها فعل فدائيّ كما وثّق ذلك بيني موريس- حتى العدوان الثلاثيّ في عام 1956، وعدّ الصهاينة هذهِ الحرب امتدادًا لحربِ التطهير العرقيّ التي انتهت رسميًا في الفترةِ ما بينَ حدوث انتخابات إسرائيليّة في شباط/ فبراير 1949 وتوقيع اتفاقيّات الهدنة مع دولِ الطوق الرئيسة: لبنان، وسوريّة، والأردن، ومصر في تموز/ يوليو من العامِ ذاته.[4]
بموجب قوانين الطوارئ المستمدّة من القانون الانتدابيّ البريطانيّ (1945) أصبحَ الحكم العسكريّ هو ناظم الحياة العموميّة في الأراضي المحتلّة، ومنذُ ذلك الحين بدأ الحكم العسكري يسيطر تدريجيًا على المدن الكبرى مثل اللدّ، الرملة ويافا ثمّ عكّا، أما في حيفا فلم يثبت وجود حكم عسكريّ بالمعنى الرسميّ، إلّا أنّ العرب جرى تسييجهم وضبط حركتهم وقمعهم، أما في المناطق الأخرى التي استتب فيها الأمر للمستوطنين وتحوّل وجودهم إلى غالبيّة أو تحولت إلى "مناطق يهوديّة طاهرة"، فقد خرجت من سلطة الحاكم العسكريّ إلى سلطة الحكومة.[5]
إذًا ما هو الدافع الأساس لإبقاء الحكم العسكريّ، بل وتنظيمه وإعادة تشكيله على أسس أكثر متانةً؟ كيفَ نعي الضرورات الاستراتيجيّة التي جعلتهُ "دولةً داخل دولة" بتعبير صبري جريس، للإشارة إلى مدى قوّته وسلطتهِ؟
أحد المصادر الأساسيّة في التنقيب عن ذلك هو اللجان الرسميّة التحقيقيّة التي تشكّلت تلبيةً لرغبةِ القيادة السياسيّة وعلى رأسهم بن جورين حتى عام 1952، نظرًا لأن هذهِ اللجان عُقدت في ظلّ عمليّة الإنشاء والبناء، ولا يزال سؤال "مستقبل العرب في إسرائيل" راهنًا وفي أوجهِ، زد على ذلك المسألة المتعلّقة بالتعداد السكّاني وارتباطها بصناعة الحدود وتثبيتها وتقنين حقّ العودة (1950) "للشعب اليهودي"[6] وحتى صياغة قانون المواطنة (1952).
تكوين اللجنة: الحاكم العسكريّ ناصحًا
في أعقاب نهايات الحرب، وهدوء الجبهات، وبدء سلسلة عقد اتفاقيّات الهدنة، برزَ السؤال الآتي: هل هذهِ هي اللحظة المناسب لإلغاء الحكم العسكري؟ يبدو أن دافيد بن جوريون قد نظرَ في بدايةِ الأمر إلى وجوب إلغاء الحكم العسكريّ، خلال لقاء يعقوف دوري معه بتاريخ 22 آذار/ مارس 1949حينما أشار دوري إليه بضرورة إلغاء الأحكام العسكريّة، مع العلم أن دوري شغل مناصب عسكريّة عديدة، وعُيّن أول قائد للأركان أثناء "حرب الاستقلال" مع قيام "جيش الدفاع الإسرائيلي"، وعليه كانت توصيته بإلغاء هذهِ المنظومة مع بدايات عام 1949 ذات ثِقل كبير.[7] ولكنّ حديث بن جوريون مع قائد الحكم العسكري أفنير حولَ نشاطاته الأخيرة والمستجدّات الميدانيّة، في الأيام التالية من شهر آذار/ مارس، جعلهُ مترددًا حول ما يجبُ فعلهُ، وهل من الممكن الاعتماد على رأيٍ واحد فقط؟ وتبيّن أن هذا اللقاء ساهم في بناء صورةٍ عند بن جوريون حولَ أهميّة الحكم العسكريّ وضرورته، أو على الأقلّ عدم التعجّل في إلغاء هذهِ الأحكام وإنفاذ الحكومة المدنيّة.[8]
من ثمّ، طلبَ بن جوريون تكوين لجنة تحقيقيّة حيال الحكم العسكريّ، ورشّح أفنير لرئاستها، وشملت اللجنة شخصيّات مهمّة، منها ميخائيل هَانچبي الحاكم العسكريّ في النقب، ويهوشاع بالمون عن وزارة الخارجيّة (وهو أوّل مستشارٍ للحكومة لشؤون العرب)، وهذا ما جعلها لجنةً ذات مصداقيّة عالية إسرائيليًا، أضف إلى ذلك عقدها عشرات المقابلات مع العديد من الشخصيّات في مختلفِ الإدارات المدنيّة والعسكريّة، والقيادات السياسيّة المحليّة اليهوديّة والعربيّة، وتنسيقها مع مؤسسات وسلطات مثل الوكالة اليهوديّة، والهستدروت، والحكّام العسكريين، وقيادة جهاز المخابرات العامّة، وبلديّة حيفا، وغيرها من البلديّات والمجالس المحليّة، والاتحادات العماليّة والنقابات، وغيرها الكثير.
كانت هذه اللجنة هي التي ساهمت في وضعِ صورةٍ عامّة حول الحكم العسكريّ ونشاطاتهِ الراهنة على عدّة أصعدة، لتكوّن بذلك مقدمةً للإجابةِ عن أسئلة سنناقشها في هذه المقالة، وسنناقش ما تنتجهِ من رؤيةٍ ومنظومةٍ قيميّة سياسيّة إزاء الفلسطينيين الباقين تحت الاحتلال، وطرحت المقدمة عددًا من النقاط للنقاش، منها: الحفاظ على الأمن والقانون والنظام، وإفراغ قرى وإعدادها للمستوطنين، ومراقبة حركة السكّان، وتمشيط أراضٍ، وحظر السلاح، ومتابعة أعمال الوزارات المختلفة في الأراضي التي وقعت تحت الحكم العسكريّ، ومعالجة التعامل مع العرب في ملفّات الصحة والعيادات والمراكز الطبيّة والأوبئة، ثمّ تسهيل العمل والزراعة خصوصًا مع وجود أراضٍ زراعية هائلة متروكة خُصّص منها للمزارعين والفلاحين 8 آلاف دونم في الجنوب، و20 ألف دونم في الشمال. وأيضًا، معالجة موضوع المساعدات الاجتماعيّة والرفاه، وفتح مكاتب ومراكز لتوزيع المؤن والمساعدات، والتعليم وإعادة فتح أبواب المدارس، وتأسيس خدمات سلطة محليّة بدءًا من إعادتها في المدن حتى إتاحتها في القرى والبلدات. ثمّ العمل على تعداد سكّاني للعرب. وأما إحدى أهمّ النشاطات التي ذكرها تقرير اللجنة فكانت توسيع الاستيطان وجذب أعداد من المهاجرين اليهود تبلغ ما يقارب 60 ألف يهوديّ ليستوطنوا المدن الكبرى في تلكَ الفترة كيافا، والرملة، واللدّ، وعكّا، والمجدل، وبئر السبع، وما يقارب 25 ألف يهوديّ ليستوطنوا في 18 قرية تقريبًا. جميع ما ذكر تمّ من خلال منظومة عسكريّة لا يزيد عدد قوّاتها البشريّة عن 120 ضابط وعسكري هم القوام البيروقراطي لهذه الهيئة المنوط بها تنفيذ هذه السياسات.[9]
وجاءت هذهِ المقدّمة بهدف الإجابة عن ستة أسئلة أساسيّة[10]:
1)هل هذا هو الوقت المناسب لإلغاء الحكم العسكري، وفي أي مناطق؟
2) في أيّ المناطق يجب إبطال كلّ التقييدات بخصوص حريّة التنقّل لمواطني الدولة بين القرى والبلدات وأيضًا إلى الحدود؟
3) هل تتاح عودة المهجّرين/ اللاجئين داخل "إسرائيل" إلى قراهم ومناطقهم التي هجّروا منها؟
4) ما الذي يجب فعله حيال المهجّرين الذين لا يمكن إعادتهم من مخيمات مختلفة إلى مساكنهم السابقة؟
5) ما إجراءات وسياسات الإسكان للمهجّرين المسموح لهم بالعودة؟
6) ما الذي يجب فعله وتصحيحه حيال أوضاع العرب. والعمل والتعليم والصحة في البلدات العربية؟
لماذا حكم عسكريّ؟
في الإجابةِ عن الأسئلة سألخّص أهمّ المبادئ الموجّهة التي جاءت في التقرير:
- استمرار الحكم العسكريّ طالما لم تعقد "إسرائيل" اتفاقيّات سلام ثابتة مع البلاد العربيّة المحيطة بعد، لأنه في هذهِ الحالة ستبقى مسألة مواطنة العرب في "إسرائيل" موضع شكّ كونهم لم يسلّموا بعد بواقع الدولة الجديد؛ ولأنّ الجمهور العربيّ داخل "إسرائيل" في علاقةٍ مع العرب خارج البلاد، ومن المحتمل أن تصبح جهات معيّنة عاملًا مساعدًا في نشاطاتٍ مسلّحة ضدّ الدولة ومستوطناتها، والحكم العسكريّ يعزّز عمليّة حظر حركة المتسللين إلى أراضيهم وقراهم؛ كما أنه يركّز جميع الخدمات والوزارات المعنية بشؤون العرب في سلطةٍ واحدة، ويسهّل الإجراءات البيروقراطيّة وعمليات السيطرة والمراقبة؛ كما يحفّز وجود الحكم العسكريّ حركة السيطرة على الأرض وتسريع الترتيبات الديموغرافيّة، أي زيادة أعداد المستوطنين.
نرى هنا بشكلٍ واضح الأسس التي يقوم عليها الحكم العسكريّ، كما نكتشف الفرضيّة الأساسيّة التي تحيط هذهِ المبادئ وهي أنّ ضرورة هذهِ المنظومة هي إتاحة الوقت اللازم لتمكين الدولة وأجهزتها العسكريّة من تحقيق مهام حيويّة إزاء العرب، بدون أن يكون هذا الوقت محدّدًا.
- اقترحت اللجنة آنذاك تقسيم الحكم العسكريّ إلى أربع مناطق: النقب، والمثلّث، والناصرة (وبناتها)، والجليل. ولكن كما نعلم فعليًا جرى تقسيمهُ إلى ثلاث إذ عُدّت الناصرة (وبناتها) جُزءًا من منطقة الجليل، ومن ثمّ فإن جميع المدن التي استوطنها اليهود بعد طردِ أهلها، مع بقاءِ مجموعة فلسطينيّة صغيرة فيها مثل يافا واللدّ والرملة، أصبحت جميعها خارج الحكم العسكري حتى نهاية العام، ثمّ تبعتهم عكّا لاحقًا. ونظرت اللجنة إلى الحكم العسكريّ بوصفه حكمًا مفروضًا ضدّ العرب وليسَ على أساس مناطقيّ، مما يعني أنّ العرب داخل هذهِ المدن سيجري التعامل معهم ضمن إجراءات عسكريّة مغايرة بسبب وجودهم بجانب مستوطنين يهود في المدينةِ ذاتها، ولكن هذا لا يعطيهم حقوقًا وحريةً كما جيرانهم المستوطنين.
- وفي موضوع عودة المهجّرين (داخل الأراضي المحتلة عم 1948) أكّدت اللجنة عدم قبول عودة غالبيّتهم لعدّة تبريرات، منها: أن بعضًا منهم معتاد على الحركة والتنقّل منذ فتراتٍ سابقة قبل قيام الدولة، وليست بمصيبةٍ كبيرة عدم عودتهِ إلى قريتهِ التي طُرد منها، كما أن بعضهم لديه ممتلكات في تلك القرى التي طُردوا إليها، وأن كثيرين، في غالبِ الظن، رحلوا نحو أقرباء ومعارف في القرى المجاورة.
يظهر من خلال هذا التوجّه، المنطق التبريريّ القائم على تشريع العنف والحفاظ عليهِ واستغلال نتائجهِ.
وقد نصّ تقرير اللجنة أن 3000 من مهجري حيفا سيمنعون من العودة بشكلٍ مؤكّد، وأن 9000 مهجرٍ آخرين ستعالج مشكلاتهم على أساس توفير مسكن ثابت وأراضٍ يزرعونها بما أن الكثير منهم فلّاحون، بعد تأسيس جسم مسؤول عن هذهِ العمليّة، مع التأكيد على أن اللجنة لم تضمن عودة أيّة شخص طُرد من أرضهِ.[11]
كان من أهداف الحكم العسكري تسهيل المراقبة والسيطرة على الأرض ومنع عودة المهرجين إلى قراهم
حكم عسكريّ ومعلّم وفلّاح: ضرورة صناعة الولاء
ساهمت اللجنة في خلقِ صورةٍ مفادها أنّ العرب ليسوا في وضعٍ سيء، بل تنقصهم بعض الأمور التي يجب تحديدها بدقّة ثم معالجتها. أوضحَ التقرير أنه لا توجد مشكلة جديّة عند العرب من حيث العمل والتوظيف والتشغيل، وقدّر عدد المحتاجين إلى عملٍ من العرب بما يقارب 11 ألفًا، كما أكّدت اللجنة على أن الحكومة بدأت العمل على هذا الموضوع من خلال توظيفهم في مجال البناء والخطط المستجدّة، واقترحت تشغيلهم في الإصلاحات ومدّ الشوارع الجديدة، وفتحت بعض مصانع البناء في الناصرة مثلًا لتشغيل ما يقارب 200- 300 عامل، ولكن ليسَ من الواضح فيما إذا كانت هذه المقترحات قد نُفّذت.
وأشادت اللجنة بدورِ حكومة الاحتلال ومؤسساتها، فهي مثلًا تتحدّث عن تخصيص أكثر من 12 ألف ليرة لإنشاء مشاريع استثمارية لإتاحة فرص عمل في عكّا وما حولها، وتحفيز إقامة صناديق دعم للقرى وتعاونيّات عمل، فضلاً عن مساهمة دُور "حارس أملاك الغائبين" في إتاحة فرص عمل للعمل لأكثر من 2500 عامل (للمفارقة لو أعادَ حارس الأملاك الأراضي المسلوبة لوجدَ العرب عملًا).
وأشارت اللجنة إلى أنّ مشكلات التعليم في المجتمع العربيّ، متعلّقة أولًا بتعريف الأجسام المسؤولة عنه، وهل هي السلطات المحليّة؟ ومع ذلك، فإن الحكم العسكريّ كان حتى تلك اللحظة هو السلطة الوحيدة في الكثير من البلدات والقرى العربيّة، بينما لا يوجد مجالس محليّة في العديد منها، ما يمنع إمكانية أن يكون هناك جهةٌ مسؤولة عن التعليم سوى الحكم العسكري. كما ناقشت اللجنة موضوع التمويل من خلال فرض ضريبة على المواطنين العرب بهدف تعزيز المجالس الموجودة هناك وجعلها قادرةً على تحمّل الأعباء والمسؤوليّات. واهتمت اللجنة بتعيين معلمين يهود في المدارس العربيّة كي يدخلوا المضمون الصهيونيّ إلى العرب، ضمن سياق شحّ المعلمين العرب عمومًا.
وخلصت اللجنة إلى اقتراح عدّة وسائل وأساليب للإجابة على الإشكاليات المطروحة في قضية التعليم، وأهمّ هذهِ الحلول عمليّة أسرلة بطيئة تتضمّن: تأهيل معلمين عرب على أساس الولاء للدولة وقيمها الصهيونيّة، واختيار هؤلاء المعلمين المؤهّلين ليكونوا في قيادة الأجسام المسؤولة عن التربية والتعليم للعرب، وزيادة المراقبة على المدارس، وإقامة علاقات ولقاءات مشتركة بينَ طلبة عرب ويهود، وأخيرًا ملاءمة مناهج التدريس العربيّة لتوجّهات صهيونيّة توافق الدولة واحتياجاتها.
في المجال الصحي، وحسب ادعاء التقرير، فإنه، ومنذُ تاريخ استقلال الدولة، "قامت الدولة بتطوير الصحة العامّة على نحو غير مألوف وبكثافة في قضايا الأوبئة والعيادات والتغذية وغير ذلك من قضايا صحيّة وطبيّة، كما أكدت أن خطةً جرى وضعها بهدفِ افتتاح عيادات بجانب جميع المدارس، وأيضًا مراكز طبيّة نسائيّة في القرى كما فتحت في حيفا وعكا والناصرة، وزعم التقرير أن المتسللين يجلبون معهم الأمراض والأوبئة من الخارج، أي أنهم يشكّلون "خطرًا" على العرب داخل "إسرائيل".[12]
بعد فشل سياسات ترحيل الفلسطينيين الذي ظلّوا في أراضيهم المحتلة عام 1948، لاسيما بعد مجزرة كفر قاسم، استخدمت "إسرائيل" سياسات المحو والدمح.
الختام
أوصت اللجنة بإلغاء الأحكام العسكريّة في المدن التي يقطنها المستوطنون اليهود رفقة العرب، وهذا ما جرى تدريجيًا، وكانت عكّا هي آخر المدن التي ألغي الحكم العسكري فيها، أما مناطق نفوذ الحكم العسكريّ فكانت النقب، والحدود مع المملكة الأردنيّة أي منطقة المثلّث، والجليل، ويتطلب ذلك طاقةً بشريّةً ثابتةً تطبّق التعليمات إزاء المجتمع العربيّ تحت الحكم العسكريّ، ويجب على جميع الوزارات والأجسام الحكوميّة الأخرى أن تقوم بنشاطاتها داخل مناطق العرب تحت إطار الحكم العسكريّ، كما اقترحت اللجنة قيام جسم حكوميّ مسؤول عن العرب، وهذا ما سيتمّ تطبيقهُ في تمّوز/ يوليو 1949.
كانت اللجنة ذات تأثير واسع على القيادة السياسيّة وخصوصًا بن جوريون وأيضًا مستشاره القادم بخصوص العرب بالمون، لأجل ذلك ازدادت صلابةً رؤيةُ بن جوريون حيال استراتيجيات التعامل مع العرب، حينما عُقدت اجتماعات لقيادات وسكرتاريا "حزب ماباي" لوضعِ استراتيجيّات وسياسات حول مستقبل العرب في "إسرائيل"، وبرزَت عدّة توجّهات نستطيع أن نلخّصها على النحو الآتي: سياسة الترانسفير (التهجير) باعتبار أنّ العرب لا يوجد لهم مستقبلٌ داخل "إسرائيل"، وسيبقون تحت حالة الطوارئ بانتظار موعد طردهم في أقربِ فرصة ممكنة. وسياسة أخرى هي المحو والإدماج التي تنبع من المنطق الإقصائيّ ذاته، وترى في العرب خطرًا وطابورًا خامسًا يجب التعامل معهم بحذر من خلال المحو والإدماج، ومراد ذلك الحفاظ على الصورة الديمقراطيّة للدولة الناشئة، وفي الوقتِ نفسهِ العمل بشكلٍ منظّم على أسرلتهم.
نستطيع أن نرى على الأقل حتى عام 1956 أنه قد سادَ الرأي الأول القائل بإمكانيّة طرد العرب وأهمّيته، ومع فشل سياسة مجزرة كفر قاسم وخطّة "حفرفرت" أصبحَ جليًا أن "إسرائيل" تتجه نحو التعامل مع وجود العرب داخل حدودها بجديّة كاملة، ما يدفعها نحو التخطيط للإبادة والمحو بطرقٍ وأشكالٍ مختلفة.[13]
[1] دايفد، بن غوريون. يوميات الحرب 1947 - 1949. مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ترجمة عن العبريّة سمير جبّور. 1971. صفحة، 305
[2] المصدر نفسه. 504- 505
[3] أنظر إلى: Tom, Segev. A State at Any Cost: The Life of David Ben-Gurion, (Translated from the Hebrew by Haim Watzman). Farrar, Straus and Giroux, 2018
[4] Benny, Morris. Israel's Border Wars, 1949-1956. Clarendon Press. Published: 25 September 1997
[5] أنظر إلى: أرشيف الدولة. ديوان رئيس الوزراء، الحكومة العسكرية. رسالة السلطة المحلية - نهاريا إلى وزير الدفاع بتاريخ 28/09/1949. 5427/ 7-G (بالعبريّة)
[6] حقّ استعماري يمنح المواطنة والامتيازات لكلّ يهوديّ مستوطن لمجرّد وصوله إلى فلسطين
[7] دايفد، بن غوريون. يوميات الحرب 1947 - 1949. مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ترجمة عن العبريّة سمير جبّور. 1971. صفحة، 737
[8] Yoav, Gelber. 2013. Israel's policy towards its Arab minority, 1947–1950, Israel Affairs, 19:1, 51-81.
[9] أرشيف الدولة. مكتب رئاسة الحكومة. ملّف: الوضع القانونيّ للحكم العسكريّ، تقرير لجنة التحقيق مُشكلات الحكم العسكريّ ومستقبلهِ، 3/05/1949. 5393/ 5- G (بالعبريّة)
[10] المصدر نفسه.
[11] المصدر نفسه.
[12] المصدر نفسه.
[13] أنظر إلى: آدم، راز. مجزرة كفر قاسم- السيرة السياسيّة. ترجم إلى العربيّة نوّاف عثامنة. مكتبة كلّ شيء، 2017.