ذكريات سيرين الحسيني :من القدسِ وإليها .. قبل التهجير وبعد العودة (الجزء الثاني)

ذكريات سيرين الحسيني :من القدسِ وإليها .. قبل التهجير وبعد العودة (الجزء الثاني)
تحميل المادة

هل ينفلتُ الزمان في الحروب والنكبات، أم أنها قبضةٌ لا تجاوز للحواجز فيها، بل بوحٌ وسردٌ وإماطةُ لثامٍ عن حوادث ومسارد زمنيةٍ مسكوت عنها.

إن تدوين الذكريات هو أخذ لمسردٍ زمني للتواتر التاريخي. وقد شهدت الكتابة التاريخية تطورًا ملحوظًا في الأسلوب والأدوات، وأهمُّ سمات تطورها هو خروجها عن قناة التاريخ وحدوده، ودائرة التخصص الضيق فيه، وكتابة المنشغلين فيه وحدهم، وانفتاح الجمهور على الكتابة فيها، من أدباء ومحدثين وغيرهم. ومدونو الذاكرة؛ هؤلاء الذين يستقصون ذاكرتهم الحية؛ الذاكرة الاجتماعية والأنثروبولوجية، والسياسية، وغير ذلك. والمرويّةُ مصدرٌ مُثارٌ من طرفِ المؤلف صاحب الرواية، يفكر فيها، ويقلبها على أحاسيسه، وينطقها وفيها أثره. وإن اقتحام القارئ أو الباحث لها إنما هو إسقاطاتٌ في أبعاد مسارد تاريخية محيطة.

إنني هنا أقتحم ذاكرة سيرين الحسيني ضمن سياقاتِ التجربة الاستعمارية المستمرة متواصلةِ التفكير والنقاش والتفكيك والتدوين والتأريخ، وهذا ما يدفعني إلى خوض تجربة تفكيرية في التحولات والمراجعات. وما يميز ذاكرة الحسيني أنها ذاكرة قريبة، لا يزال الاستعمار فاعلًا فيها، وهو ما يجعل النكبة في حوادثها وذاكراتها فعلًا متجددًا بأدواتٍ استعمارية ورقابية عنيفة وجديدة وأكثر حكامةً وضبطًا. إننا اليوم نفكر في تاريخ فوري؛ سرد للحوادث واجتهاد في تفسيرها. وتاريخُ فلسطين من الأمثلة البارزة على هذا التاريخ الفوري؛ فالاعتماد على العمق الزمني في مذكرات سيرين الحسيني، على سبيل المثال، ما هو إلا تاريخ مركزي ينزاح إلى التاريخ الفوري، وهو العمل الذي تشتغل فيه الصحافة ووسائل الإعلام، وما يؤوله الباحثون في الأبعاد الإنسانية المختلفة.

ما يميز ذاكرة الحسيني أنها ذاكرة قريبة، لا يزال الاستعمار فاعلًا فيها، وهو ما يجعل النكبة في حوادثها وذاكراتها فعلًا متجددًا بأدواتٍ استعمارية ورقابية عنيفة وجديدة وأكثر حكامةً وضبطًا

إن الفرد منتجِ ذاكرتِه ومَنتُوجها، والكلمةُ فيها هي الشاهد، هي دلائل شاهدة، ومن هنا لا بد من اقتحامها أنّى تأتّت السبل للكشف عن عنف المستعمر واستبداده.

 

في المنفى

تُدوّن سيرين مرحلة الانتداب البريطاني، وقتما كانت تتنقل بين القدس وبيروت، للدراسة، ومن ثم إلى بغداد، عندما انتقلت معظم القيادات السياسية الفلسطينية هناك، في عهد نوري السعيد، ومن بينهم الحاج أمين الحسيني مفتي القدس، وداود وعلي وعبد القادر وموسى، وكلهم من آل الحسيني. وكانت سيرين حينئذ تتنقل بين بغداد وبيروت. ومما تذكره عن تجربتها في تلك الفترة العيش بجوار الست وجيهة زوجة عبد القادر الحسيني، الجميلة الفاتنة. وعبد القادر الحسيني ابن عم أبيها، وهو أكثر قربًا لسيرين من الست وجيهة. كان يدرس في الجامعة الأميركية بالقاهرة، وتذكره يتردّد إلى بيتهم في القدس باستمرار، وإبان ثورة عام 1936، بدأ بالانشغال بتكوين كتيبة من الرجال وتسليحهم. وفي بغداد كانت الست وجيهة وأطفالها الأربعة، موسى وغازي وفيصل وهيفاء، وكان عبد القادر معتقلًا لدى البريطانيين في سجن عراقي. في ذلك الوقت، لم تتوقف الست وجيهة يومًا عن تجميع الرجالات حول زوجها في أسره، كانت حاضرةً في كل الأماكن، وعندما أُطلق سراح زوجها عاد إلى القدس، بينما ظلت هي في العراق، امرأةٌ بالغة الكرامة، متكتِّمةٌ إلى حد أن أحدًا لم يعلم بأنها تعيش في فاقة، وقد كانت ثريةً طائلةَ الثروة في فلسطين. تقول سيرين: ".. حين فاجأت أمي وهي تهمس لصديقتها، بأنه بينما تقدم وجيهة صواني الطعام للمقيمين الشبان، الفلسطينيين الذين يمضون الليل تحت سقفها، ولم يكن أبناؤها يأكلون حتى الشبع".

في عام 1942، اعتُقل عدد من رجالات فلسطين، ووالد سيرين أحدهم، في الأهواز بإيران، ومن ثم نُقلوا إلى روديسيا، وقد قاضوا الحكومة البريطانية، لعدم وجود اتهاماتٍ وقضية واضحة، فربحوا القضية وعادوا إلى فلسطين.

أما سيرين فتزوجت في بيروت وعاشت مع زوجها هناك، كان ذلك إبان النكبة، وقد تدفق الفلسطينيون إلى لبنان لجوءًا، واستقبلت هي عائلتَها في بيتها. وأصبح عملُها، إلى جانب حملها بابنتها، مساعدةَ اللاجئين وتقديم المعونات والإسعافات، والالتحاقَ بالجمعيات والمؤسسات الاجتماعية التي كانت تُعنى بهم.

تزوجت سيرين في بيروت وعاشت مع زوجها هناك، كان ذلك إبان النكبة، وقد تدفق الفلسطينيون إلى لبنان لجوءًا، واستقبلت هي عائلتَها في بيتها. وأصبح عملُها، إلى جانب حملها بابنتها، مساعدةَ اللاجئين وتقديم المعونات والإسعافات، والالتحاقَ بالجمعيات والمؤسسات الاجتماعية التي كانت تُعنى بهم.

 

العودة إلى فلسطين: الذكرى .. الحُلمُ .. الألم

انقضى زمن المنفى في لبنان وبغداد، وعادت سيرين في عام 1972 إلى البلاد بموجب قانونِ لم الشمل الذي قام به خالها موسى العلمي، وكان أبوها مستشارًا للملك السعودي، وقد تزوج امرأتين هناك. تقول سيرين: "عند وصولي إلى أريحا، رفعت رأسي وتوجهت نحو البيت، سالكةً الممر المرتفع الذي كان يفصل الحديقة عن البناية، مستنشقةً بسعادةٍ عطرَ أزهار البرتقال إليّ عبر جرعات متتالية، نزعت نظارتي المضببة بسبب الانفعال ووجدت نفسي أمام شجرة الكاوتشوك بالقرب من البيت، كم كانت كبيرة. أحسست بغيظ لأنني وجدتني مبعدةً، متروكةً، تساءلت: ماذا كنت تنتظرين، أن تكون الشجرة قد كفت عن النمو لأنك لم تكوني هنا؟".

تستحضر سيرين عودتها، إلى بيت الطفولة، البيت الذي كان يعج بالسكان، والأصوات، والأثاث، تستعيد صوت أبيها، تسترجع أمها شابةً قويةً، تروح وتجيء، استعادت الماضي من خلال الصور. وتعود من غير قصد، إلى المخيم، ومن ثم إلى بيت في القدس مرة أخرى، تطوف على مكتبة والدها. تتجول في الحديقة وتتلمس الأشجار التي كبرت في غيابها.

ومن ثم توجهت سيرين إلى القدس، منشئِها الأول، مرورًا بالأميركن كولن، والمدرسة الأسقفية، والمسكوبية، والمدرسة الفرنسة، وفندق الملك داود، وتلك أماكن طفولتها. طلبت أمها بعد ذلك الذهاب إلى بيتها، هي وبناتها الأربع، رفضن في البداية خشيةً على أنفسهن ولكنها أصرت. تقول سيرين: "عندما توقفت السيارة أمام المدخل أصبحنا عاجزاتٍ عن القيام بأدنى حركة، وكل واحدة تحاول إخفاء دموعها، وكتمان حزنها. حين رفعت بصري نحو بيتنا القديم الذي لم يتغير فيما يبدو، نفس الشرفة والشجرة العتيقة، ونفس النوافذ في الغرفة المطلة على العذراء الحاملة الطفل في دير الدومنكيين المعانق السماء الزرقاء؛ أحسستُ أن سنوات الفراق قد صعقتني فأخذت أرتعش من الانفعال".

صعدت السيدات إلى بيتهن، دققن الباب ثلاث مرات، ففتحت امرأة يهودية، قالت الأم: "هل تأذنين أن أرى داخل بيتي؟". أجابت اليهودية: "بيتك؟، لقد اشتريناه". "أنا لم أبعه"، أجابت الأم. تابعت اليهودية: "أوف، لقد كان لنا بيت في العراق، ما الذي جاء بنا إذا كنا سنجد أنفسنا في موقف كهذا؟". دخلت الأم بيتها ولم تتبعها الفتيات، ثم خرجت مثقلةً وركبت السيارة. وذكرت موقفًا لطبيب زار بيته في القدس، بعد أن توفيت ابنته، أراد أن يرى غرفةَ طفولتها مرةً أخرى، أصابته جلطة قلبية وتوفي في اليوم ذاته، فهل يكون لأمها وصحتها الهشة صمام أمان يتيح لها تحمل ذلك الأسى!

"عندما توقفت السيارة أمام المدخل أصبحنا عاجزاتٍ عن القيام بأدنى حركة، وكل واحدة تحاول إخفاء دموعها، وكتمان حزنها. حين رفعت بصري نحو بيتنا القديم .. أحسستُ ان سنوات الفراق قد صعقتني فأخذت أرتعش من الانفعال" .. صعدت السيدات إلى بيتهن، دققن الباب ثلاث مرات، ففتحت امرأة يهودية، قالت الأم: "هل تأذنين أن أرى داخل بيتي؟". أجابت اليهودية: "بيتك؟، لقد اشتريناه". "أنا لم أبعه"، أجابت الأم. من مذكرات سيرين الحسيني

إن كل ركن من الماضي في القدس يعود إلى الانبثاق، وكم على الإنسان أن يتحمل! ويعود من جديد، ويعالج جراح اللجوء، وحزنه الذي اختزنه منذ التهجير، كم عليه أن يتحمل حقًا. سيرينُ، في زيارتها للقدس، وأخواتُها وأمُّها، يحاولن تشرب الذكريات، والامتلاء بها، إنها ذكريات ثمينة، ويمكن أن تكون هذه المرة الأخيرة!

توجهت سيرين إلى الغرفة التي كانت تقطنها أثناء دراستها في الأمريكن كولني، طلبت من الموظفة مفتاح الغرفة 43... تقول: "فتحتُ الباب وتقدمتُ خطوةً، ثم قفلته ورائي، لم أكن أتوقع مثل تلك الصدمة، جاهدت لأتحكم في انفعالي، إلا أنني كنت أرتعش بكل جوارحي. من النافذة لمحت الصنوبر، والجدار وراءه، والمارة في الشوارع، مسحتُ الغرفة ببصري، فتعرفتُ على المكان الذي كان يوجد به السرير والمغسل وحنفية الماء. أحسستُ بطعم التراب على شفتي [وقد كان من طبع سيرين أكل التراب وهي طفلة] وكذلك طعم الصابون الذي غسلتْ به الأختُ حنَّة فمي قبل ذلك بسنوات عديدة. توقفتُ متريثةً عند الركن الذي كنت أمكث فيه حين معاقبتي. في تلك اللحظة انهرت. وكان لا بد من وقت لأسترجع رشدي. خرجتُ أخيرًا مغلقةً الباب ورائي...".

تابَعَتْ سيرين مسيرها، خلال الأيام التالية، إلى حي الشيخ جراح أو باب الزاهرة، في كل الأماكن المليئة بالذكريات، في الساحات والحدائق التي تلعب فيها وأولاد عمها وأخواتها في المصرارة.

 في عام 1977 مرضت أم سيرين، نعمتي الحسيني، ودعاهم خالها موسى لمرافقتها في بيته في أريحا، و"وهل أتينا هنا لندفن؟". هل يعود الفلسطيني عند وقت احتضاره، أيعود ليتشرب كل نسمة هواء في بلاده ليعوض سنوات بعده!  

عادت سيرين إلى لبنان، وهنا كان والداها قد توفيا، تعود وهي امرأة متينة تنصت إلى نساء المخيم أم علي وأم يوسف وغيرهن، القادمات من يافا وحيفا والقدس، وكل المناطق الفلسطينية، إلى لبنان، يجثين على ركبهن لحتّ الأرض، والمضي في سبلها لكسب رزقهن.

كانت سيرين تلحق بهنّ وهنّ يبعن أثوابهنّ للعيش، وهي تقول: "هوية تلك النساء مجسدةٌ في فساتينهن القروية، كنت أعرف أن تلك الفساتين لا تعوَّض". كانت تبتاع الفساتين لعلها تنقذ بعضًا من الهوية والتراث!  

توجهت سيرين إلى الغرفة التي كانت تقطنها أثناء، تقول: "لم أكن أتوقع مثل تلك الصدمة، جاهدت لأتحكم في انفعالي، إلا أنني كنت أرتعش بكل جوارحي. من النافذة لمحت الصنوبر، والجدار وراءه، والمارة في الشوارع .. توقفتُ متريثةً عند الركن الذي كنت أمكث فيه حين معاقبتي. في تلك اللحظة انهرت. وكان لا بد من وقت لأسترجع رشدي. خرجتُ أخيرًا مغلقةً الباب ورائي...". من مذكرات سيرين الحسيني

تحكي سيرين سرديتها، وتحرص، وأحرص مثلها، على ذكر أسماء أصحاب الحكاية الأصلية، الذين هاجروا، والذين عادوا وماتوا بمحاذاة درج البيت. قصةِ زليخة الجدة، وأمها أسماء، والأم نعماتي، وبدرية، وأم علي وأم يوسف، وجميع الصور المخبأة في قاع الحقيبة إلى يومنا هذا.