رمضان الفلسطينيين .. ميقاتُ المواجهة المقدسة
لتسمية رمضان باسمه هذا حكايات مختلفةٌ، أشهرها أنّ العرب لمّا أرادت تسمية شهورها وافق ذلك أن رمضان أتى في شدة الحرّ التي هي الرَّمْضاءُ، فجعلوه "رمضان" اشتقاقًا من الكلمة. غير أنّ حكاياتٍ أخرى قيلت في التسمية، كقولهم إن فَرْضَ الصيام في رمضان وافق شدّة حرٍّ فيه، وقولهم إن العرب كانوا يَرْمِضون أسلحتهم فيه (أي يدقّونها ويشحذونها بين الحجارة) استعدادًا لجولة قتالٍ تاليةٍ ستنشب في شوّال قبل الأشهر الحرم[1].
ومهما يكن من أمر أصل تسمية الشهر، فإن للذي يرى أنّ الأسماء مقاديرُ لا مصادفاتٌ، أن يلمحَ معنىً ما وراءَ هذه المفردة التي تسمّت بها هذه الأيام الثلاثون ما بين الهلالين. وحاصل الأقوال أنّ ضربًا من ضروب المشقّة هو من منح الشهر اسمه، وليس أي مشقّةٌ، بل مشقّة متعلقةٌ بالرَّمَضِ، رمض الجو، أو رمض الحرب والقتال.
الصوم: قتالٌ في الطريق إلى القتال
جاء الصّوم رمضانيًا بعدُ، والصّوم من عبادات المشقة والمجاهدة، فهو تركٌ – وإن كان مؤقتًا- لما تقوم به الحياة وما تشبّعت به النفس واعتادت عليه، وهو فعلٌ يورثُ الجوع والعطش، والعطش شيءٌ يشبه النار في الجوف، فلنا أن نقول إنه من تجليّات معنى الرمض في جوف الصائم. وبهذا تُلمَحُ مناسبة الاسم لواقع الحال الذي يُقيم عليه المسلم شهرَه في مكابدةٍ ومشاقّةٍ ومجاهدة، لا ينفي طبيعتها أجرُها المترتب عليها بل يؤكّده، ولا ينفيها كذلك أيادي العون الربانية للمؤمن من تصفيدٍ للشياطين وهمةٍ تُقذف في القلب بل تؤكده كذلك، فهي لمّا كانت مشقةً تطلّبت العون الجليل والأجر العظيم.
حينما شحذَ المسلمون سيوفهم أوّل مرةٍ لقتال أعدائهم في بدر كان ذلك في رمضان، ولمّا شحذوا سيوفهم لإنهاء سلسلة القتال مع أعدائهم الأوائل في قريش كان ذلك في رمضان كذلك. إذن، كانَ شهرُ الرَّمَضِ والصيام شهرَ قتال المسلمين، وفاتحةَ حربهم الأولى وخاتمتها. وفي القرآن استخدم اللفظ نفسه للإشارة إلى فرض الأمرين اللذين طبعا رمضان، الصيام والقتال .. "كُتب عليكم الصيام" و "كُتب عليكم القتال".
يبيّن هذا اشتراكًا يبدو عميقًا بين معنيي الصيام والقتال، حتى يُكتبا على المسلمين بالصيغة نفسها، ويتزامنا في أهمّ مواقيت حربهم الأولى. فالصيام هو قتالُ الإنسان في الميدان الأول، ميدانِ نفسهِ حيث يغالبُ هواه ورغائبه، وركونه إلى السبب الدنيوي في استمرار حياته، فيخلُصُ بذلك إذا استقام له صيامه إلى معنى التقوى "لعلكم تتقون". والقتال هو قتال المسلم الذي تحقق بمعاني التقوى في ميدان الواقع، ثمّ هو مبشّرٌ بأن هذا الذي يبدو له كُرها لعلّه يكون خيره وهو لا يعلم. فكان رمضان إذن جماع الأمرين، وميقاتهما المشترك الذي يحضُران فيه متمازجين لا مفترقين، فتكثّفت فيه معاني القتال على مستوياتها المختلفة، فصار هو هو شهر الصوم وشهر القتال، النقطة التي يشتبك فيها المعنيان، فيمدّان بعضهما من بعضهما.
ثمّ على طول التاريخ التالي للمسلمين، كان رمضان ميقاتًا هامًّا لمعاركَ فاصلةٍ في تاريخهم، فبعد بدر وفتح مكة، كانت القادسية، وفتح عمّورية، وفتح الأندلس، وعين جالوت، ثمّ كانت في عصرنا حرب رمضان (حرب أكتوبر 1973)، وحربا العصف المأكول (2014) وسيف القدس (2021)، اللتين ابتدأتهما المقاومة في رمضاني العامين.
حرب العصف المأكول في رمضان 2014
رمضان .. ميقات حرب الضرورة والنقاء
بالرّجوع إلى كون رمضانَ ميقاتًا افتتح مسيرة قتال المسلمين الأولى ضدّ قريش واختتمها، يضيءُ هنا ملمحان، أولهما: الأهمية القصوى، فبدر كانت الحرب التي إن هلكت عصابتها لن يعبد الله في الأرض وفق تعبير النبي "صلى الله عليه وسلم"، فهي إذن حرب البقاء وفتح الباب الأول لإمكانية استكمال المسيرة؛ وفتح مكّة جمعَ إلى كونه النصر الذي اختتم هذه الحرب، كونَه الحدثَ الذي فتح باب العالم أمام الدين الجديد. أما الملمح الثاني فهو النقاء، فقد كانت هذه الحرب حربًا نقيّةً تتمايز فيها الصفوف، ولا يلتبسُ فيها العدو، ولا تغالب غاياتِها العليا مطالبُ الدنيا وتهويمات السياسة، ويُجمِعُ عليها أهلها، فينطلقون نحوها بصفٍّ موحّد.
يُمكن لنا الزعم أن فلسطين في عصرنا هي أقرب الميادين إلى تلك الحالة الإسلامية الأولى، لقتالِ المسلمين الأوائل، فهي أهمّ حروب المسلمين ومعاركهم، فـ "إسرائيل" القائمة على أرضها هي مشروعُ تخلّف المسلمين، وشرطٌ موضوعيٌّ لضعفهم، وهزيمتها شرطٌ موضوعي لإمكانِ قيام نهضتهم وبناء مشاريعهم المستقلة، فالحاصل إذن أنّه لا إمكان لانتصار العرب والمسلمين، أو قيام مشروع حضاريٍّ مستقلٍّ لهم دون أن يخوضوا هذه الحرب، حرب الضرورة القصوى والأهمية البالغة؛ ثمّ هي أنقى حروب العرب والمسلمين، العدوّ فيها عدوٌّ خارجيٌّ لا بينيٌّ، عداوته بالغة الوضوح، والحقّ فيها شديد الظهور، وحظوظ النفوس والتباسات السياسة تنخفض فيها إلى الحدّ الأدنى، لا ينفي ذلك عنها محاولاتُ نظم التطبيع المعاصرة سلبها ميّزاتها، بل يؤكّده ما تلمحه من التفاف شعبيٍّ كبيرٍ حول فلسطين رغم ردّة هذه الأنظمة عنها.
اعتكافات رمضان في المسجد الأقصى ليلة القدر بداية معركة سيف القدس
كان رمضانُ إذن ميقاتًا هامًّا لحروب فلسطين، أو حروب نشبت على إثر قضيتها كحرب أكتوبر 1973، لتشترك في مواقيتها مع مواقيت حروب المسلمين الأولى، بل وتشترك كذلك في تسمياتها، فالخطّة التي نفّذها الجيش المصري في حرب أكتوبر مثلًا، سُميت بخطة "بدر" تيمّنًا بمعركة المسلمين الأولى.
ورمضان، الذي هو موعد ركن الصيام الإسلامي، هو موعد تتكثّف فيها معاني القتال على الطريقة الإسلامية، أو القتال الذي تحضر فيه روح الإسلام، فالمعارك الآنفة الذكر التي جرت في رمضان، تجلّت فيها هذه المعاني بأشكال متعددة، ففي أكتوبر، ومع كون النظام المصري غير مصطبغ بالصبغة الإسلامية، إلا أنّ حضورًا لافتًا للمعاني الإسلامية عمّ الحالة القتالية للجيش المصري. يروي طرفًا من ذلك رئيس أركان الجيش المصريّ حينها سعد الدين الشاذلي في مذكّراته وشهادته، إذ كان هتاف "الله أكبر" هتاف الجيش وشعاره وصيحةَ حربه[2]، كما وُزّع على الجنود كتيبٌ بعنوان "عقيدتنا الدينية طريقنا إلى النصر"[3]، جاء فيه: "إنّ عقيدتنا الدينية هي إحدى العوامل الرئيسية لتحقيق النصر، فهي التي تضيء لنا الطريق، وهي التي تبعث الصلابة في أنفسنا .. وهي التي تثبت أقدامنا، وهي التي تبشرنا بالنصر، وهي التي تعِدُ من يستشهد منا بجنات عرضها السماوات والأرض".[4] .. "إن القيم الروحية والمثل العليا النابعة من عقيدتنا الدينية تعتبر الأساس المتين للحصول على النصر في المعركة، ومن هذه العقيدة يمكن أن نستخلص خير المناهج لإعداد المقاتل الكفء الذي لا يقهر، ويكفي على سبيل المثال أن نقارن حال العرب قبل الإسلام بحالهم بعد الإسلام، ثمّ نبحث عن سرّ ذلك التحول العظيم الذي حدث للعرب بعد الإسلام".[5]
رمضان .. الطلقة ودفقة الدم
يبيّن هذا الاستدعاء العميق والمكثّف للمعاني الإسلامية في أكتوبر عمق حضورها الأصليّ في شخصية المسلم والعربي، ثمّ عمق فاعليتها في شخصيته وفي فعله، فهي تحضر تلقائيًا في وجدانه في لحظة الاحتدام، ثمّ يكون لهذا الحضور بالغ الأثر في الفعل الواقعي، بما يشير إلى أنّ الاستغناء عنها–لو حدث- إنما هو استغناء عن جزء أساسي من شخصيتنا، ومحرّكٍ أساسيٍّ من محركاتنا، ثمّ يحضرُ رمضانُ هنا بما يحمله من مضامينَ إسلاميةٍ ليكون ميقات هذا الحضور، فيصبغ زمن المقاتل وروحه.
لا يَخفى بعد ذلك الحضور الديني المكثّف لمعاني رمضان الإسلامية في جولات غزة مع الاحتلال، من جهة أنّ قادة الحرب أصلًا هي حركاتٌ ناهضةٌ على منح القتال الفلسطيني بعده الإسلاميّ، بما يعنيه ذلك من تكوين الشخصية المقاتلة على هيئة المقصد الإسلامي والصورة الإسلامية، وحضور الخطاب الإسلاميّ في مسيرة القتال الممتدة إعدادًا وقتالاً، وإعادة واحدٍ من أهمّ عوامل القوة والنصر إلى ساحة المواجهة.
في العصف المأكول، التسمية المأخوذة من القرآن الكريم، وفي أحد خطابات الرّجل الذي سيسمّى بعدُ قائد أركان المقاومة محمد الضيف، وسيصير الهتاف له ثيمةً فلسطينيةً معبّرةً عن الالتفاف حول نهجه، يقول الضّيف: "الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على قائد المجاهدين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم يشفِ صدور قومٍ مؤمنين" .. اللهم بك نصول وبك نجول وبك نقاتل ولا حول ولا قوة إلا بك .. إن موازين المعركة باتت مختلفة، فأنتم تقاتلون اليوم جنوداً ربانيين يعشقون الموت في سبيل الله كما تعشقون الحياة". [6]
رمضان والأقصى .. حرب على الزمان والمكان المقدسين
أما سيف القدس، فقد كانت المعادلة التي اجتمعت فيها المؤثرات الإسلامية على مستويات الزمان والمكان والخطاب والفعل، فهي بالإضافة إلى اتصافها بما تتصف به العصف المأكول، اكتسبت زخمًا إضافيًا يومَ كانت الحربَ التي اندلعت في مواجهة محاولات الاحتلال كسرِ الحضور والاعتكاف الإسلامي الرمضاني في المسجد الأقصى، بما يعني تسييد الزمان والمكان الإسرائيليين على الزمان والمكان الإسلاميين المقدسين، فجاءَت الحربُ لتستنقذ المقدس الإسلامي، وتفرض الصبغة الإسلامية على الزمان والمكان، كما هما في أصلهما.
لم تَكُنِ الحربُ إلا استمرارًا لإرادة وفعلٍ ممتدين، يتكثّفان في رمضان، يقودهما الشباب الفلسطيني للحفاظ على المسجد الأقصى، الزمان والمكان، فيسيل الشّبان الملاحقون بالتقييد والقمع، والمحاصرون بالسطوة والمنع، إلى مسجدهم ليرابطوا فيه، ثمّ يَصِلون إليه بأيديهم وملابسهم الممزقة، وأحيانًا بعظامهم المكسّرة، من آثار تسلقهم جدران الاحتلال وأسلاكه الشائكة التي صُنعت لتحول بين الفلسطيني وامتداده وقتاله، وتحول بينه ومسجده الأقصى، عنوان قضيته، وبعدها الإسلامي الأظهر.
يحضر رمضانُ، موسمَ العبادة الإسلامي، وموسمَ القتال الإسلامي على مستويي النفس من حيث هو، والأعداء من حيث سيرته التاريخية وفاعليته مع المسلمين، ليكون زمنًا متوقعًا للنهوض والقتال في فلسطين، لا سيّما مع هذا الارتباط العميق مع المسجد الأقصى، ليمتزجا معًا، الزمان المقدس - رمضان، والمكان المقدس – الأقصى، ويكثّفا قصّة الصراع مع الاحتلال على الوجود في الزمان والمكان، وهو وجودٌ يسعى الاحتلال إلى نفيه.
يبدو رمضان الفلسطينيين، وقتًا مرشحًا لبثَّ معانيه (معاني المجاهدة)، وإرثه (إرث القتال)، في نفوس أهل البلاد، وقتًا تخفتُ فيه مشاريعُ الرّدة عن فلسطين وتتأزم كأنّها تشترك في الأصفاد مع المردة، وتعلو مشاريع المواجهة وتكسبُ نفسًا جديدًا، وهي تتحصّلُ همّة الوقت وعونه في القلوب والسواعد.
وفي رمضاننا هذا، يُنظر بترقبٍ إلى ما يمكن أن تحمله أيامه من "احتمالاتٍ للتصعيد"، لا سيّما وأنّ عيد الفصح اليهودي يتزامن مع الأسبوع الثالث من رمضان، حيث يعدّ المستوطنون لاقتحاماتٍ مكثّفةٍ للمسجد الأقصى خلاله، بينما يتهيأ الفلسطينيون للاعتكاف والرباط في المسجد الأقصى لمنع الاحتلال من استباحته، ومنع فرض المزيد من الإجراءات التهويدية فيه، وفرض تقسيمه الزماني والمكاني.
قبل رمضان شهدت المنطقةُ حراكًا واسعًا لمنع التصعيد المرتقب، فكان مؤتمرا العقبة وشرم الشيخ، وما ينتظر أن يتلوهما من اجتماعات. ولنا أن نقول إن المستهدف بالمنع هو الرفض الفلسطيني، أي أنّ المطلوب هو تمرير المخطط الإسرائيلي بأقل قدر من الرفض الفلسطيني، وهو ما يجعلهُ رمضانُ صعبًا، مع تدفّقُ معانيه الإيمانية في النفوس، ومع شيوع حالة الرباط والاعتكاف في المسجد الأقصى خلال أيامه.
معركة بدر في 17 رمضان
[3] مذكرات الفريق سعد الشاذلي عن حرب أكتوبر، دار رؤية.
[4] عقيدتنا الدينية طريقنا إلى النصر، سعد الدين الشاذلي.
[5] المصدر السابق.