رمضان في غزة.. هل يأتي بالبهجة التي أذابتها الحروب؟
ما أن يحطَّ شهر رمضان المبارك رحاله في قطاع غزة حتى يحمل معه طقوسًا فريدةً من نوعها في استقباله، بفعل تراكم التجارب وتزاحم الذكريات من دمار وفقد ونزوح، عاشها السكان على مدار سنوات طويلة تحت وطأة القصف الإسرائيلي الشديد، وبضع فصول من المعارك الطاحنة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال، وعدد لا بأس به من الاجتياحات البرية؛ فبات الخوف والحذر وترقب الأحداث في القدس المحتلة وضواحيها، والتي ينتظر أن يُرى أثرها في القطاع، بمثابة تحري هلال الشهر حسب طقوسهم.
مؤخرًا، دفعت التطورات الميدانية المتسارعة، وارتقاء العشرات من الشهداء في مدن الضفة الغربية المحتلة، لاسيما مدينتي نابلس وجنين، أهالي القطاع إلى تذكر ما جرى من أحداث ميدانية ساخنة قبل اندلاع معركة "سيف القدس"، في العاشر من أيار/ مايو عام 2021، حين دخلت المقاومة الفلسطينية بغزة في جولةً جديدةً من القتال مع "إسرائيل"، ردًّا على اقتحامات المسجد الأقصى، وسياسات التهجير المتعمدة بحق سكان حي الشيخ جراح الواقع في الجانب الشرقي للقدس المحتلة.
حينها نغّصت "إسرائيل" على السكان إحياءَ ما تبقى من ليالي الاعتكاف الأخيرة للشهر المبارك، وقتلت فرحة الاستعداد لاستقبال العيد، ليتحول القطاع في لحظات سريعة إلى طقوس من نوع آخر كان قد اعتاد عليها في جولات قتال سابقة على مدار العام، كوداع الشهداء، وتفقد الجرحي، وإعانة العائلات المشردة.
سحور وإفطار على وقع القصف
لم تكن معركة "سيف القدس" وحدها من تركت طقوسًا مختلفةً لرمضان الغزيين، حيث عاش قطاع غزة معظم أيام الشهر تحت حمم الصواريخ وقذائف الدبابات، في أطول معركة أدارتها المقاومة الفلسطينية خلال تموز/ يوليو، وآب/ أغسطس عام 2014 لـ51 يومًا، وقتها كانت عيون الفلسطيني ترقب عن كثب تداعيات ما جرى في الضفة الغربية المحتلة بعد اختطاف ثلاثة مستوطنين إسرائيليين في 12يونيو/ حزيران والعثور عليهم قتلى بعد 18 يومًا، إلى جانب حرق مستوطنين الطفل "محمد أبو خضير" من مدينة القدس المحتلة.
ما بين معركتي "سيف القدس" و"العصف المأكول"، تبقى المئات من جولات التصعيد الإسرائيلي جوًّا وبرًّا عالقةً في ذاكرة الفلسطيني منذ بدء انتفاضة الأقصى الثانية عام 2000، يشحن في طياتها الاحتلال لغة التهديد والوعيد، وما أن يحل الشهر الفضيل حتى تحيا في داخله الكثير من الصور والذكريات المؤلمة، تارةً على مائدة الإفطار، وتارةً أخرى على السحور.
ليست صور الدمار والخراب والعدوان وحدها من تعيد للفلسطيني تفاصيل ما عاشه في الأيام الفضيلة، بل إن بطولات المقاومة خلال معاركها مع الاحتلال أضفت رونقًا خاصًّا للشهر ذاته، إذ باتت عملية خطف الجندي الإسرائيلي "شاؤول أرون"، على يد قوة خاصة من كتائب القسام خلال معركة "العصف المأكول"، ذكرى سنويةً تخلدها سجلات الصراع مع "إسرائيل"، بالإضافة إلى معركة "أيام الغضب"، شمالي قطاع غزة، والتي استمرت 17 يومًا، من 29 أيلول/ سبتمبر وحتى 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2004، ونفّذت المقاومة خلالها عددًا كبيرًا من الاشتباكات واقتحامات المستوطنات والكمائن والصواريخ، وقد دخل رمضان على الغزيّين أثناء هذه المعركة التي سمّاها الاحتلال "أيّام الندم".
حياة بالجدول
لم يكن العدوان وحده من يفسد طقوس العبادة والحياة في شهر رمضان لسكان القطاع، بل الاستمرار في تفاقم سياسات الحصار الإسرائيلي المفروضة عليه منذ عام 2007، وتسببها حتى الآن في تعطيل نحو 47% من المشاركين في القوى العاملة عن العمل، ومعاناة نحو 53% من السكان من انعدام الأمن الغذائي.
وتَسبب تفاقم الحصار الإسرائيلي، كذلك، في إفقار أكثر من 61% من سكان القطاع البالغ عددهم نحو مليونين و380 ألف نسمة، فضلاً عن تعقيده حركة الأفراد والبضائع من خلال معبري بيت حانون وكرم أبو سالم، حيث لا تزال "إسرائيل" تحظر دخول عدد كبير من المواد والمعدات المهمة للقطاعات الصحية والتجارية والإنتاجية تحت حجج أمنية[1].
أفرزت تلك السياسات أعقد أزمة تواجه سكان القطاع منذ منتصف عام 2006، وهي انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة بشكل يومي، إثر قصف الاحتلال لمحطة التوليد الوحيدة، ما أدى إلى توقفها عن العمل بشكل كامل، والتسبب في عجز كبير بالطاقة الكهربائية، حينها اضطر الفلسطيني إلى جدولة تفاصيل حياته اليومية وزياراته للأقارب والأصدقاء وفقًا لساعات مجيء الكهرباء.
وعليه، فإن متابعة الأخبار المتعلقة بجدول الكهرباء اليومي وتغيراته المفاجئة بالنسبة لسكان القطاع، لا سيّما في الأيام الفضيلة، لا تقل أهميةً عن تتبع أدق تفاصيل ما يجري طيلة أيام العدوان الإسرائيلي، حيث لا يمكن أن تعقد، ولا أن تُلبّى دعوات الإفطار الرمضانية للأقارب والأصدقاء إلا وفقًا لساعات مجيء التيار الكهربائي، بينما، تتلمّس العائلات الغزيّة لُقيمات إفطارها وسحورها، أغلب أيّام رمضان، على العتمة مع انقطاع الكهرباء.
ومع قرب دخول الأزمة عامها السابع عشر، وتعمّد "إسرائيل" قصف مخازن الوقود في كل عدوان، حاول الفلسطيني في القطاع ابتداع حلول بديلة بعد انسداد أفق الحل السياسي، بدءًا بالشموع، ومرورًا بـ "ليدات إضاءة" تعمل على البطاريات، ومولدات منزلية صغيرة، وصولاً للمولدات التجارية المنتشرة حاليًا على نطاق واسع، إلا أن ارتفاع ثمن المولدات لا يسمح للكثيرين بالاشتراك في خدماتها بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية[2].
في العام الماضي، استمرت أزمة الكهرباء على النحو ذاته تقريبًا، إذ لا يحصل السكان في قطاع غزة على الكهرباء سوى لمدة 12 ساعةً يوميًا في أفضل الأحوال، وهي ساعات تقلّ في أحيانٍ كثيرةً. ويتوقف استمرار الخدمات على استمرار فتح معبر كرم أبو سالم لإدخال الوقود، والذي قد يغلقه الاحتلال في أي وقت وفقًا لـ "تقديراته الأمنية"، إلى جانب استمرار تمويل الوقود الذي تعمل به محطة توليد الكهرباء الوحيدة في قطاع غزة، حيث تتكفل دولة قطر بدفع ثمن الوقود منذ سنوات[3].
المسجد العمري الكبير في غزة
طقوس" غزاوية" ثمينة
وما بين صور العدوان وأزمة انقطاع التيار الكهربائي وسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تختصر الكثير من معاني مكابدة الحياة اليومية بغزة، تبقى محاولات استقبال الأيام الفضيلة بعد انتظارها بفارغ الصبر حاضرةً لدى المواطن الفلسطيني، حيث تبدأ واجهات المنازل والمحال التجارية وأزقة الشوارع بتزيينها بالأضواء الملونة وحبال الزينة، فضلاً عن عرض العديد من التجار والباعة منتجات رمضان الخاصة.
تظهر ملامح استقبال الشهر في غزة عند الدخول إلى "سوق الزاوية" الشعبي، ذي الطراز العثماني، بتصميماته التي تميزه عن باقي أسواق القطاع، حيث يقع بين شارعي عمر المختار والوحدة الرئيسين وسط المدينة، وتتميز ممراته الجانبية بالأسقف المقببة والمعقودة بعقود متقاطعة، فيما يعكس ممره الرئيسي مدى دقة العمران القديم، ما جعله قبلةَ توافدٍ لكل الفئات والشرائح المجتمعية من شمال القطاع حتى جنوبه طيلة أيام العام، حيث تنتشر عند مداخل السوق الرئيسية بسطات بيع الفوانيس والزينة، وحبال الإضاءة وغيرها[4].
عند مدخل السوق، المضاءة ممراته بالفوانيس الرمضانية، وعلى وقع أغاني وأهازيج خاصة باستقبال الشهر، يعرض الباعة والتجار بضاعتهم ومنتجاتهم، مثل التمور والفواكه المجففة، والبهارات والمكسرات النيئة، والمخللات، والأوراق العطرية الخضراء كالبقدونس والنعناع والجرجير، إلى جانب ألعاب الأطفال، والمشروبات الطازجة، والتي تميز الشهر وتبلّ ريقَ الصائم عند إفطاره، مثل الخروب وعرق السوس و الكركاديه وغيرها.
أما عن حلويات رمضان، فتتربع حلوى القطايف بأحجامها المختلفة وحشواتها المتنوعة بجوز الهند والقرفة وعين الجمل والزبيب وغيرها، وسط أصناف الحلويات الأخرى، حيث يُطلِق عليها السكان اسم "فاكهة رمضان"، حيث تكثر نقاط بيعها داخل الأسواق وخارجها، وعلى طول الطرقات، ما جعلها مصدر رزق وفير للعديد من العائلات الفلسطينية، لاسيما وأنها لا تباع في الأيام العادية.
سوق الزاوية في غزة
رائحة من القدس
إحياءُ صلاة التراويح، و"المسحراتي"، وإقامة المسابقات الرمضانية داخل المساجد، وتبادل الزيارات العائلية وصلة الأرحام، إلى جانب تنظيم الإفطارات الجماعية للأسر الفقيرة، وعائلات الشهداء والأسرى، وحلقات الذكر المكثفة للفئات العمرية كافةً؛ من أكثر الشعائر الدينية والطقوس الرمضانية التي يتطلع سكان القطاع إلى تأديتها على أكمل وجه دون أيّ منغصات إسرائيلية، كالتي اعتادوها في الحروب الماضية.
تجذب المساجد الكبيرة، ذات المعالم الأثرية، والجدران العتيقة سكان غزة في أيام رمضان، لاسيما في ليلة القدر والعشر الأواخر منه، حيث يتسابق عشرات الآلاف من الفلسطينيين في الحضور مبكرًا بصحبة عائلاتهم وأطفالهم، كما في المسجد العمري الكبير، أكبر مساجد القطاع، وأهم معالمه الإسلامية والتاريخية، إذ يستقطب الآلاف من الزوار تحت أقواسه التاريخية، وبأصوات الأئمة العذبة والندية القادمة من مختلف مدن القطاع.
يستحوذ المسجد العمري على مكانة كبيرة في نفوس سكان غزة، إذ يرون المكوث فيه لساعات طويلة تعويضًا جزئيًا عن حرمانهم من زيارة المسجد الأقصى في القدس المحتلة، فلا تخلو جنباته من الدورس والدعاة على مدار العام، حيث يضم في طابقه الأول قاعةً رئيسيةً للصلاة، ومصلىً للنساء، بينما يضمّ الطابق العلوي مدرسةً لتعليم القرآن الكريم، والسفلي يحتوي على قاعة استقبالات، وأخرى أثرية يتعدى عمرها ألفي عام مجهزةً لتكون متحفًا إسلاميًا[5].
إلى جانب أكبر مساجد القطاع، فإن مسجديْ الحساينة والخالدي المقامين على شاطئ غزة، من أكثر ما يجذب المصلين أيضًا في رمضان إلى صلاة التراويح، لتفردهما بالتصميمات المعمارية الحديثة المستوحاة من الثقافة العثمانية، وساحةٍ خارجيةٍ كبيرةٍ أشبه بالحديقة يفترشها المصلون وعائلاتهم حتى ساعات الفجر الأولى، خاصةً وأنهما قريبان من البحر الذي يُعدّ متنفسًا لسكان القطاع، وهربًا في الوقت نفسه من أزمة انقطاع التيار الكهربائي.
مسجد الحساينة في غزة
وعلى الرغم من محاولات الفلسطينيين في قطاع غزة استقبال شهر رمضان المبارك، والاستعداد لتأدية طقوسه على أكمل وجه والخروج للتسوق في البازارات والأسواق الرمضانية، تبقى احتمالات التصعيد الإسرائيلي واردًة، بالتزامن مع التطورات المتلاحقة في مدن الضفة المحتلة، لا سيما مع ما صرح به نائب رئيس أركان كتائب القسام في غزة "مروان عيسى"، منتصف الشهر الجاري آذار/ مارس 2023، حين قال: "إن أي تغيير في الوضع القائم في المسجد الأقصى سيحوّل المنطقة إلى زلزال.. وإن المقاومة في غزة تتيح الفرص للمقاومة في الضفة، لكن ذلك لا يعني بقاء غزة صامتة"[6].
[3] المصدر السابق