ساذج نصّار .. ريادة الوطنية النسائية بالكلمة والموقف

ساذج نصّار .. ريادة الوطنية النسائية بالكلمة والموقف
تحميل المادة

على سبيل التقديم..

تضيء هذه المادة على أفكار الأديبة والرائدة الفلسطينية ساذج نصّار ومواقفها الوطنية عبر تتبع نصوصها في "صحيفة النساء" الملحقة بـ "جريدة الكرمل" إحدى الصحف الفلسطينية خلال الانتداب البريطاني.

اهتمّت نصّار بالمرأة الفلسطينية، وبالنهوض بواقعها على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث يسهل على نظرة معاصرةٍ قاصرةٍ أن تصنّفها في خانة النّسوية، غير أن النسوية لم تكن قد تبلورت حينها في مقولاتها المعاصرة، بينما بلورت ساذج من خلال كتابتها موقفًا نسائيًا متقدمًا قائمًا على ضرورة النهوض بالنساء الفلسطينيات وواقعهنّ، لا عبر الانشغال بقضايا عابرةٍ للثقافات، بل عبر الاستغراق في القضية الوطنية المحلية باعتبارها قضيةَ النساء كما هي قضية الرجال، ثمّ بالانطلاق من الأرضية الثقافية المحليّة لا بالقطيعة معها.

يمكن أن تستلهم نصّار، وإنتاجها الأدبي، لتكون مثالًا للمرأة الفلسطينية المعاصرة، وللرائدة الفلسطينية المعاصرة، من حيث تقديمها تلك الرؤية التي يمكن تجديدها وإعادة إحيائها واستلهامها لتطوير واقع النساء المعاصر، عبر قضيتهنّ لا بالقفز عنها.

·      التحرير

 

إنّ أروع ما نتمثّله في أديبتنا القديرة هو الثورة على كل ما تراه خاطئًا ومستحقًا للثورة؛ فهي ثائرة على ما بلى من تقاليد، ثائرة على القوى الغاشمة، وعلى الظلم أنّى كان... فتسمع ذلك في مقالاتها التي يلهبها الإخلاص الفياض وتذيبها العاطفة، وفي إثرهما صوت العاصفة يلعلع ويدوي في السطور. وهذا التأثير الذي تحدثه الكتابة في النفوس هو أقوى دليل على بيان قولها وبلاغتها. جملة مقتضبة قصيرة تحضن وتلمّ، فتبلغ بها المراد ويتحقق الأمل. ثمّ هي تضمّن كتاباتها أمثالًا سائرةً وتشابيه رائعةً تبدعها بإيجاز ويصقلها الأسلوب فتبرز كالخال في وجنة الحسناء جذّابًا فاتنًا. وذكاؤها نيّر "تلتقطها وهي طائرة" كما يقولون، و"قد كان صاحب الكرمل يتلو مقالًا وكانت ترمي كلمات في مواطن خاصّة، والأستاذ سائر في مقالته، فتسقط [الكلمات] في محلها كما يسقط الأمل في قلب الهائم، أو النحلةُ على الزهرة الجميلة. وهذا الذكاء يكهرب القول والكتابة فيلمع لمعان النور ويبتسم تبسم الفجر. يتساقط اللفظ من فمها مشرقًا واضحًا ... فترى أدب الكاتبة ... أدبٌ يمليه الإخلاص والتمرد والذكاء فيتهادى في حقول الصحف والمجلات كما تتهادى المليحة بين الحدائق الفيحاء تكسبها بهاء وجمالًا"[1].

ساذج نصار "حفيدة البهاء"[2]، قرينة مؤسس جريدة الكرمل الحيفاوية[3]، نجيب نصار[4]. بدأت ساذج تنشر في عام 1922، المقالات التاريخية والاجتماعية والنسوية. في عام 1941 تسلمت رئاسة التحرير حتى عام 1944، إلى أن رفضت السلطات البريطانية إعطاء رخصة جديدة للصحيفة بموجب قانون أنظمة الدفاع؛ إذ كانت صحيفة الكرملإحدى الصحف الثائرة التي فتحت العيون على وعد بلفور.

 

الكرمل

 

كانت ساذج رمزًا للتحدي والصبر وقوة الاحتمال، وذلك ما نراه في رواية مفلح الغساني[5]، وقصة اختفاء نجيب نصار من جور الإنجليز. وقد أسست في عام 1930، بالاشتراك مع السيدة مريم خليل عويضة ومجموعة من السيدات، في حيفا، جمعية الاتحاد النسائي العربي، وكانت عضوًا في جمعية نهضة الفتاة التي تأسست في 1933.

كانت ساذج تكتب وتخطب وتقود المظاهرات وتحضر المؤتمرات. قبيل النكبة في عام 1948 بعد وفاة زوجها ودفنه في الناصرة هاجرت إلى لبنان مع ولدها فاروق الذي عمل في مجال الصحافة. واستمرت في العمل بالصحافة في الجرائد اللبنانية والسورية، مخلفةً وراءها تاريخًا من النضال والعمل[6]. اعتقلت تسعة أشهر في عام 1941 وكانت أول سجينة في العالم العربي[7].

وإن ممّا نذكره لساذج، حفيدة البهاء، مقالاتها في ملحق جريدة الكرمل التي تولّت تحريرها، وكان هذا الملحق مخصصًا للنساء، فإمّا أن يحويَ مقالات بأقلامهنّ، وخصوصًا ساذج، أو ردودًا على رسائل تصل لها، وتعليقًا عليها، أو يورِدَ أخبارًا من صحف غربية كالديلي تلغراف. وفي بعض الأحيان مقولات أو قصصًا عن النساء. ولكن المحتوى في المجمل كان محتوىً نهضويًا يقصد إلى تطوير وعي المرأة بذاتها، وهويتها، وقضيتها، إذ إن ساذج كانت تجمع بين التركيز على القضايا التحررية والسياسية بالإضافة إلى الاجتماعية، فتطرق باب المشاركة والحشد والدفاع عن كرامة الأمة، ومن ذلك مقالها في ملحق صحيفة النساء المعنون بـ  "إلى السيدات الفلسطينيات": "أتى المندوب السامي السير (تشانسلر) واتّهم في منشوره العرب "يعني أزواجكن وأبناءكن وذوي القربى" بالوحشية والهمجية في حين لم يكونوا يقاتلون إلا بالعصي والحجارة دفاعًا عن أنفسهم وحقوقهم وأوطانهم ومقدساتهم، بينما كان خصومهم يردون برصاص البنادق ومسدساتهم وقذائفهم ... نحن معشر النساء والبنات يجول في عروقنا نفس الدم الذي يجول في عروق الرجال فيجب ألا نتخلف عن الرجال في العمل لسلامة الوطن وإنقاذه ... لا يجوز أن تترك اللبؤةُ الأسدَ يعمل وحده للمدافعة عن العرين والأشبال، وهي تقف وقفة المتفرج الجامد ... نحن نصف مجموعة الأمة، وأعمال الرجال الوطنية تبقى ناقصةً إذا لم ترافقها أعمالكن...".

 

صحيفة النساء

 

وفي مواضع أخرى تدعو ساذج النساء العربيات للتطلع إلى تجربة النساء الغربيات، لا في المأكل والملبس ولكن في العمل والجدّ والاجتهاد، والاستفادة من تجربتهن: 
"تقلدن النساء الغربيات في كل حركة من حركاتهن فلم لا تقلدنهن في العمل للمصلحة العامة وللمحافظة على الوطن المقدس؟"[8]. وهي كذلك تشيد بالأعمال الوطنية التي قامت بها النساء في العشرينيات من مظاهرات واعتصامات في وجه المندوب السامي، وكذلك حملات التبرعات لجمع المال، ومقاطعة بضائع العدو، وغيرها من الجمعيات التي أسسنها وأسندن فيها الحركة الوطنية.

إن لغة ساذج لا تكفّ عن كونها حماسيةً، فيها دعوات صريحة للدفاع عن الوطن والقيام بالواجب، وهي امرأة مؤثّرة تعلم جيدًا صدى كلمتها عندما توجهها للنساء: "الوطن يناديكن ... فلبين نداءه عاجلًا، واجمعن المال واشترين الأراضي وأْلَفْنَ مشاغل الخياطة واستغنين عن مصنوعات الخصوم ونادين بعضكن بلزوم التعاون والتضامن مع أبناء الوطن".[9]

 

صحيفة النساء عنوان

 

وفي موضع آخر تعلق ساذج على دعوة موسليني لمصانع الخياطة والمنسوجات توحيد الأزياء في إيطاليا في طراز معين حتى لا يُفنين أوقاتهنّ وأموالهنّ في دور الأزياء وفي ابتياع الأقمشة الباهظة، وأن مشروعه معرض للفشل في ضوء عقلية النساء الإيطاليات، وهي توجه رسالة إلى النساء العربيات وتقول بأنهنّ سابقات على أفكار موسليني إذ إن لباس المرأة منذ الجاهلية وصدر الإسلام كان محتشمًا ومتواضعًا وبسيطًا. وأن الأزياء ليست من المدنية في شيء: "وإن تقليدنا للغربيين كتقليد القردة للإنسان يضرّ باقتصادياتنا وبأدبياتنا وبأخلاقنا وينحرف بنا عن تقاليدنا الرفيعة ويحول دون نهضتنا ورقينا".[10]

كما وتشجع النساء على العمل والإنتاج والاستقلال الاقتصادي، وتَعلّم المهن والمهارات المختلفة، وترى من الواجب تعويد المرأة على حُبّ العلم والاعتماد على النفس، وبالدرجة الأولى المعلمات ومديرات المدارس. و"ليس أفضل من تعليم البنات تربية الطيور والنحل ليربحن منها مع الخياطة والأشغال اليدوية".[11]

وكانت ساذج تكتب افتتاحيتها في كل حدث سياسي أو عسكري، تدعو وتدافع وتشجب وتحشد النساء، وتحاول بذلك جمعهنّ على العمل والاجتهاد والإنتاج والتعلم والوقوف جبنًا إلى جنب مع الرجل للدفاع عن الوطن.

 



[1] أديبتنا في الميزان. مرآة الشرق، 14 شباط/ فبراير 1931.

[2]  هكذا كانت توقع مقالاتها كما في الصورة أدناه

 هامش

[3] أُسست جريدة الكرمل عام 1908، على يد نجيب نصار، أي أنها صحيفة عثمانية انتدابية، كانت أسبوعيةً أوّل تأسيسها، ركّزت على السياسة والقضايا الاجتماعية، كما خصص ملحق أسبوعي لقضايا النساء بعنوان "النهضة النسائية" ومن ثم سُمّيَ "صحيفة النساء". أُغلقت جريدة الكرمل بسبب خلافات مع السلطات العثمانية في​ الأعوام 1913/1914، ثم جددت الجريدة نشاطها في فترة الانتداب البريطاني بين السنوات 1920-1940. في عام 1934 تغير اسم الجريدة ليصبح "الكرمل الجديد"، متخذًا خطًا معاديًا للصهيونية وللانتداب. توقفت عن الصدور في عام 1942.

[4] ولد نجيب نصار في عام 1865 في عين عنوب اللبنانية، وهو أديب وصحفي فلسطيني، أسس نجيب نصار عام 1908 في حيفا جريدة "الكرمل" التي صارت تصدر مرتين في الأسبوع، وحذر من مخاطر الصهيونية، عطلت السلطات العثمانية صحيفته في حزيران 1909 لمدة شهرين، بعد حملة شنها الصهيونيون عليه. وبأمر من وزارة العدلية في إسطنبول سنه 1910 حاكمته السلطات العثمانية ولكن برأته المحكمة من تهمة تفرقة العناصر وتهييج الأفكار. له مجموعة مؤلفات منها: "الصهيونية .. تاريخها، غرضها، وأهميتها"، في عام 1911، و"نجدة العرب أو شمم العرب" سنة 1920، و"في ذمة العرب" سنة 1920، و"الزراعة الجافة" سنة 1927، و"رواية مفلح الغساني" سنة 1931، و"الرجل في سيرة الملك عبد العزيز آل سعود" سنة 1936.

[5] نجيب نصار، رواية مفلح الغساني: أو صفحة من صفحات الحرب العالمية، 1930.

[6] نساء من بلدي، الاتحاد 5 أيار 1995

[7] الصنارة، 13 نيسان/أبريل 1990.

[8] الكرمل، إلى السيدات العربيات، 5 كانون الثاني/يناير 1929.

[9] المرجع نفسه.

[10] المرجع نفسه، توحيد أزياء النساء، 22 آب/أغسطس 1926.

[11]  المرجع نفسه، إلى ابنة بلادي، 5 كانون الأول/ديسمبر 1926.