سيرة شهر الجهاد.. من بيانات القتال حتى جبهاته الجديدة

سيرة شهر الجهاد.. من بيانات القتال حتى جبهاته الجديدة
تحميل المادة

يحمل شهر رمضان المبارك معه حمولات تاريخيةً جهاديةً في الوجدان الإسلامي. فالشهر المزدحمة أيامُه بالمعارك التي خاضها المسلمون في معركة الحق والباطل الممتدة، منذ بدايات الدعوة الإسلامية مع الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم، يحل على الأرض التي بارك الله فيها (فلسطين) بنص الكتاب الأقدس في الإسلام: القرآن الكريم، وقد تحفزت في كل عام لمعركة جديدة مع المشروع الاستعماري الذي يمثل تحديًا حضاريًا لكل الأمة منذ أكثر من 100 عام.

فلسطين، حيث المعركة الأوضح بين "الحق والباطل"، تزداد فيها تجليات شهر رمضان الذي يفترض فيه أن يسعى الناس في تطهير ذواتهم من محبة الدنيا ودفعها على مدارج الزهد سعيًا للاقتراب من "الإنسان الكامل"، الذي كله للناس، مع الشهداء الذين هم كلهم للناس، يعزفون بالرصاص والدماء والأشلاء على مقامات سامية يحققونها في المعركة مع العدو، الذي هو أيضًا عدو للحق والحقيقة والنور الذي جعله الله في هذه الأرض مقيمًا إلى يوم القيامة.

واللقاء مع العدو على أرض الجهاد والإيمان، في شهر رمضان، يتسع بالعمليات والمواجهات على طول تاريخ الصراع مع العدو الإسرائيلي، والعنوان هو التحقق العملي بــ"شهر الجهاد" على أرض الإسراء والمعراج، من ساحات الأقصى إلى جبهات مختلفة.

الأبعاد الروحية والإيمانية لرمضان في الثورات الفلسطينية المتعاقبة أوسع من مجرد العمل العسكري المباشر، بل تمتزج مع سياقات طويلة من مركزية الجهاد في مواجهة الاستعمار والتزكية الروحية التي تمنح المجاهد/ المقاتل دفعةً معنويةً وتفوقًا أخلاقيًا، في صراع مع قوة أشد بأسًا على المستوى المادي. وهذه الأبعاد الدينية في الصراع اكتسبت أهميةً إضافيةً مع انخراط علماء وشيوخ في ثورات الفلسطينيين. وفي زمن رمضان يضيءُ الشيخ فرحان السعدي أحد قادة المجموعات القسامية، الذي أعدمته سلطات الاحتلال البريطاني في 22 من تشرين الثاني/ نوفمبر 1937 وهو صائم لرمضان، مثالًا ناصعًا على الشيخ الذي حمل البندقية واكتسب من الفقه والعلم والأحكام الشرعية عُدةً في تنظيم الناس وتأطيرهم في المواجهة.

 

حماس ورمضان انتفاضة الحجارة

حمل انخراط التيار الإسلامي بقوة في الصراع مع الاحتلال (بعد تأسيس حركتي حماس والجهاد الإسلامي)، اتساعًا في الخطاب الإسلامي الذي انعكس على الممارسة الكفاحية أيضًا، من جهة تثوير المناسبات الدينية واستغلال المعاني المستوحاة من التاريخ الجهادي الإسلامي، في التعبئة الفكرية الداخلية وتنظيم العناصر وبثّ الأفكار للمجتمع، ثم انعكس هذا كله على العمل العسكري المباشر الذي كانت عناوينه الإعلامية تحمل شعارات إسلاميةً، وتسعى لاستغلال اسم كل ذكرى معركة منذ العهد الإسلامي الأول حتى مراحل الصراع المباشر بين الأمة والاستعمار في عملياتها.

بالعودة إلى بيانات حركة حماس التي رافقت انطلاقتها في عام 1987، نعاين بوضوح حضور شهر رمضان في الثقافة الفكرية والتعبوية للحركة، وفي تعميماتها التي كانت ترسلها لكوادرها والجمهور المتعاطف معها أو الموالي لها وللمجتمع الأوسع. في كل بيان للحركة بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، إذ حرصت حماس منذ انطلاقتها على إصدار بيان لتهنئة الشعب الفلسطيني بهذه المناسبة ومختلف الأعياد الدينية، كان البيان عبارة عن برنامج متكامل لاستغلال كل يوم من أيام شهر رمضان في تصعيد المواجهة مع جيش الاحتلال أو إعلان الإضرابات أو تنظيم الفعاليات الاجتماعية والدينية.

وفي مفردات بيانات حماس بمناسبة شهر رمضان، يحضر وصفه بشهر "الجهاد" و"القرآن" و"الصبر" و"التكافل"، وكلها معانٍ لها حضورها العملي في حياة الفلسطيني المسلم الذي يواجه قوةً استعماريةً، يحتاج في مقاتلتها إلى زاد معرفي/ إيماني متكامل، كما تؤكد أدبيات الحركة، يجعله أكثر اندفاعًا في المقاومة وتخففًا من الحياة الدنيا، التي تراها الأدبيات الإسلامية قيدًا على عقل الساعي في مرضاة الله وروحه، وليس من شيء أحب في أيام الله من الجهاد في مواجهة العدو الذي يعيث في الأرض خرابًا ويدمر المقدسات ويقتل الناس ويحتل أحد أقدس مقدسات المسلمين.

هذا الأثر العملي لمعاني رمضان: "الصبر" و"التكافل"، يحضر في محاولات شدّ أزر المجتمع ومنع "الحرب الاقتصادية"، التي نفّذها الاحتلال ضدّ الشعب الفلسطيني خلال الانتفاضة الأولى، من تحقيق أهدافها: "إن شهر رمضان يعلمنا الصبر عند البلاء ولقاء الأعداء، ونحن أصبر مما يتصور أعداؤنا وسنقتسم رغيف الخبز بيننا، وسنقدّم كل التضحيات وسنبقى ثابتين في سيرنا، لا نبالي بمؤامرات العدو ولا بخنقه الاقتصادي"، كما جاء في أحد بيانات الحركة خلال الانتفاضة.

في البرنامج الذي كان يحمله بيان حماس الرمضاني للجمهور، ربطٌ بين كل فعالية جهادية/ كفاحية ومعركة إسلامية، خاصةً في العهد النبوي الشريف. ففي بيان الحركة الصادر في 12 رمضان الذي كان يوافق 5 آذار/ مارس 1993 تدعو الحركة إلى ثلاثة أيام من التصعيد إحياءً لذكرى غزوة بدر الكبرى.

وفي رسالة إلى "شعبنا المسلم" في شهر رمضان، في عام 1988، توجه الحركة الجماهير الفلسطينية إلى بيان متكامل في كل أيامه: اليوم الأول للتوبة، والثاني لتلاوة القرآن الكريم ومدارسته، وفي اليوم التالي توجيه للمجتمع لجمع الزكاة والصدقات وتشكيل لجان دعم للفقراء في كل حي، وتخصيص اليوم الرابع من الشهر لتوزيع الصدقات على عائلات الشهداء والفقراء والمتضررين والعاطلين عن العمل.. وهكذا حتى يصل إلى اليوم السابع عشر من رمضان الذي تحلّ فيه ذكرى غزوة بدر والدعوة إلى اعتباره يوم مواجهات مع العدو.

وفي سياق الرسائل "السياسية/ الإيمانية" توجّه حماس الشعب الفلسطيني إلى افتتاح رمضان والتعبّد في أيامه بالجهاد "ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا"، كما افتتحت بيانها رقم "107"، الذي كان محوره الأساس التحذير من اتفاقيات التسوية التي بدأت تنضج في تلك المرحلة، وهي تذكّر بشهر "الانتصارات" الذي فتح الله لعباده المؤمنين فيه، تشير إلى "خطورة المرحلة" جراء "المؤامرة الغربية" على القضية الفلسطينية التي هي قضية مركزية في عقل وحاضر الأمة الإسلامية.

هذا الانغماس في شهر رمضان ومفاعليه الإيمانية/ الجهادية تطوّر مع أداء الجهاز العسكري والأمني للحركة، الذي انطلقت بواكيره منذ المجموعات الأولى مع الشيخ أحمد ياسين قبل الانطلاق الرسمي لحماس. حمل مقاتلو الحركة شعار "شهر الجهاد" في عملياتهم منذ انطلاقتها الأولى مع أجيال عماد عقل، وياسر النمروطي، وياسر الحسنات، وطارق دخان، وخالد الزير، ومحمد عزيز، وصلاح شحادة، ومحمود المبحوح، وصلاح جاد الله، وبشير حماد، وعادل عوض الله، وأمجد خلف، وجميل وادي، وزكريا الشوربجي، وعوض السلمي، وسعد العرابيد، وجهاد غلمة، وطاهر قفيشة، وعدنان مرعي، وعلي عاصي، ويحيى عياش وغيرهم.

منذ عملية الشهيد عماد عقل في 26 من شهر رمضان الذي وافق 19 آذار/ مارس 1993 قرب مقبرة الشهداء شرق جباليا وأدت لمقتل 3 جنود، إلى عمليات الاستشهاديين تيسير أحمد العجرمي على حاجز بيت حانون، وأسامة بحر ونبيل حلبية في القدس، وجهاد حمدي المصري ومسلمة الأعرج في مستوطنة "إيلي سيناي"، وعبد العزيز ناجح الجزار وعبد الستار رزق الجعفري عند معبر "صوفا"، وعاصم ريحان عند مستوطنة "عمانوئيل"، وماهر حبيشة في حيفا، ونائل عزمي أبو هليل في القدس، ومعارك أيام الغضب والعصف المأكول، وعمليات "سيل النار" عام 2010 التي بدأها الشهيدان نشأت الكرمي ومأمون النتشة وانتقلت إلى رام الله مع خلية الأسيرين إسلام حامد وعاطف الصالحي، بقي شعار "شهر الجهاد" ناصعًا حيًا مع دماء الشهداء والاستشهاديين.

 

"بدر الكبرى"

فجر السابع عشر من شهر رمضان الذي وافق في عام 2002 تاريخ 22 تشرين الثاني/ نوفمبر، كان الاستشهاديان جمال إسماعيل ومحمد المصري من سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي يعبُران البحر في عملية استهدفت قوة من سلاح البحرية الإسرائيلية، في بحر بيت لاهيا شمال غزة.

حملت العملية اسم "بدر الكبرى" والهدف منها تفجير قارب مفخخ بزورق تابع لبحرية الاحتلال، في عرض البحر شمال القطاع، ومع الساعات الأولى من السابع عشر من شهر رمضان مضى الشهيدان نحو الهدف، ورغم رصد زورق إسرائيلي لهما، فقد رفضا تسليم نفسيهما وأكملا الطريق وفجّرا القارب في الهدف، وأعلن الاحتلال عن إصابة أربعة من جنوده.

يصف الشهيد المفكر فتحي الشقاقي، مؤسس حركة الجهاد الإسلامي، الانتفاضة الأولى بأنها "إسلامية مباركة" ويؤكد أنها نشاط كفاحي لــ"اكتشاف الذات" و"الهوية" التي يرى أنها تعرضت لمحاولات "تغييب". وفي أدبيات الحركة حضور دائم للإسلام هويةً مركزيةً لحركة المقاومة في صراعها مع الاحتلال على أرض فلسطين التي هي "قضية الأمة المركزية"، المفهوم الذي اشتغل عليه مفكرو الحركة وعلى رأسهم الشهيد الشقاقي.

الحضور لمزيج الإسلام مع مركزية قضية فلسطين في مسار إعادة نهوض الأمة، يحتم حضور شهر رمضان في أدبيات الحركة وبياناتها، وهو الأمر الملحوظ في فعالياتها منذ الانتفاضة الأولى التي ارتبطت أيضًا بتواريخ معارك المسلمين الكبرى، لا سيّما الأولى منها. وفي بيانها الصادر في السادس من شهر رمضان الذي وافق عام 1993 تاريخ 27 شباط/ فبراير تقول الحركة في رسالة وجدانية عن الشهداء: "نرى أن الهناء الأكبر هو لأولئك الذين كانت لهم أعراس الشهادة، لأولئك الذين خضبوا بالدم الزكي هذا الثرى الطاهر، ونرى أن الهناء أيضًا لمن أدى الواجب فكان له أجر الشهادة دون أن يستشهد".

وتوجه الحركة في البيان إلى فعاليات اجتماعية وميدانية أهمها تقديم يد العون للفقراء والمحتاجين، والوقوف إلى جانب عائلات الشهداء والأسرى والجرحى والمبعدين الذين زادت أعدادهم بشكل كبير، خلال سنوات الانتفاضة الأولى.

أحد الأحداث المركزية في تأسيس حركة الجهاد الإسلامي ودفعها إلى الأمام، في الميدان والفعل العسكري، كانت عملية الهروب الكبير من سجن غزة التي نفّذها مصباح الصوري، ومحمد الجمل، وسامي الشيخ خليل، وصالح أبو شباب، وعماد الصفطاوي، وخالد صالح، في العشرين من شهر رمضان، قبل شهور تحديدًا من انطلاقة الانتفاضة الأولى.

خلال سنوات عملها العسكري/ الجهادي المباشر، نفّذت حركة الجهاد الإسلامي بمختلف مسميات جهازها العسكري الذي استقر مع انتفاضة الأقصى على اسم "سرايا القدس"، عدة عمليات خلال شهر رمضان، لعلّ أبرزها عملية "زقاق الموت" التي نفّذها الشهداء أكرم الهنيني، وولاء سرور، وذياب المحتسب، خلال انتفاضة الأقصى، وأدت لمقتل أكثر من 12 جنديًا وضابطًا بينهم الحاكم العسكري للخليل.

وفي السجل العسكري للحركة خلال شهر رمضان عمليات عديدة بينها عملية الشهيد رائد الريفي في يافا المحتلة، وعملية الاستشهادي مصطفى أبو سرية مع الشهيد عبد الكريم أبو ناعسة من كتائب الأقصى في "العفولة"، والعملية الاستشهادية التي نفّذها سامر شواهنة في "برديس حنا"، وعملية حسن أبو زيد في "الخضيرة"، بالإضافة لمشاركتها في مختلف المعارك التي خاضتها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وصولًا إلى "سيف القدس" التي انطلقت في العشر الأواخر من رمضان، قبل عامين.

حضور معركة بدر بما لها من رمزية في التاريخ الإسلامي، وهي الغزوة التي افتتحت عهد انتصارات الإسلام وتمكينه نحو النصر النهائي والانتشار العالمي لاحقًا، لم يقتصر على فلسطين وامتد إلى ساحات أخرى في المواجهة مع الاحتلال. ففي 30 أيار/ مايو 1987 أطلقت المقاومة الإسلامية في لبنان سلسلة عمليات "بدر الكبرى"، وهاجمت مواقع لجيش الاحتلال وميلشيات العملاء في تلال جبل صافي وجزين في المنطقة المحتلة حينها، وقتلت عددًا من جنود العدو واللحديين.

الشهيد مصباح صوري

 

رمضان… شهر المعارك الكبرى

في العاشر من رمضان الذي وافق عام 1973، 6 تشرين الأول/ أكتوبر، دكّت مدافع الجيش المصري مواقع الاحتلال الإسرائيلي على طول قناة السويس، واندفعت قوات المشاة إلى هذه المواقع معززةً بالأسلحة المضادة للدروع التي أحدثت دمارًا واسعًا في آليات جيش العدو، ضمن الخطة التي وضعها الجنرال سعد الدين الشاذلي، وكانت الفكرة المركزية فيها هي السيطرة على مساحة تغطيها الأسلحة المضادة للطيران التي تعطل تفوق سلاح الجو الإسرائيلي.

تزامنًا مع الهجوم المصري، نفّذ الجيش السوري عمليةً واسعةً في الجولان المحتل، مكّبدًا العدوّ الإسرائيلي خسائر واسعةً، في أكثر من موقع. الهجوم المصري - السوري الذي شاركت فيه أيضًا قوات عربية بينها فلسطينية، أحدث رعبًا واسعًا بين المستويات السياسية والعسكرية العليا في جيش الاحتلال. ورغم تراجع النتائح في الأيام اللاحقة من الحرب، نتيجة عوامل مختلفة، ولاحقًا استغلال النظام الرسمي المصري لحرب رمضان للتطبيع مع الاحتلال، إلا أن لها نتائج معنويةً عاليةً في استرداد الثقة العربية بالنفس بعد الهزيمة الكبيرة التي لحقت بالأمة، في عام 1967.

في رمضان عام 1982، عاش الشعب الفلسطيني واللبناني ملحمةً جديدةً بعد أن فرضت قوات الاحتلال الإسرائيلي حصارًا على العاصمة بيروت، لإجبار قوات الثورة الفلسطينية على الخروج منها. الحصار الذي امتدّ إلى أيام رمضان والعيد، وعاشت فيه الجماهير الفلسطينية واللبنانية في الشق الغربي من العاصمة، الجوع والضنك، وذاقت المجازر البشعة التي ارتكبها جيش الاحتلال بحق المدنيين، واجهته قوات الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية بصمود أسطوري.

وفي داخل فلسطين المحتلة، ومع دخول قطاع غزة في زمن المعارك والحروب مع الاحتلال مع استقرار بنية عسكريةٍ لفصائل المقاومة فيه بعد 2007، خاض القطاع عددًا من الحروب مع الاحتلال، كان نصيب رمضان منها حربين انطلقتا في أيامه.

 فحرب العصف المأكول انطلقت في التاسع من رمضان الذي وافق7 تموز/ يوليو، لتمتّد 51 يومًا، وتكونَ أطولَ معاركِ الفلسطينيين التي خاضوها في جغرافية فلسطين المحتلة، وأشدّها ضراوةً، وواحدةً من أهم فصول قتال الفلسطينيين أثرًا على مستوى الوعي والإلهام للجيل الفلسطيني الجديد، وعلى مستوى خفوت مسارات التسوية مع الاحتلال وبناء سرديّات جديدة لمقولات المقاومة في فلسطين.

وفي الثامن والعشرين من رمضان الموافق لـ 10 أيّار/ مايو عام 2021، انطلقت ملحمة سيف القدس، التي أبانت عن تطورٍ كبيرٍ في قدرات المقاومة الصاروخية في قطاع غزة، وأسّست لمفهوم وحدة الساحات مع انخراط الداخل والضفة في المواجهة، وشهود حدود فلسطين من الشرق والشمال لمسيراتٍ كبيرة، وفتحت المجال أمام دخول الضفة الغربية في موجة قتالٍ جديدةٍ خلال الأعوام التالية لها التي شهدت صعودَ العمل المنظم من خلال مجموعاتِ عرين الأسود وكتيبة جنين وما شابهها من التشكيلات المسلحة، إضافةً إلى العمل الفردي، فضلاً عن أثرها الكبير على مستوى الوعي. لتكون عاملًا حاسمًا في بناء فلسطينيّ جديد مناقض تمامًا لمفهوم الفلسطيني الجديد الذي صاغته مسارات اللاقتال.

 

رمضان… عطش الفلسطيني لهزيمة الهزيمة

"قضت وحيدةً عطشى خلال طردنا من اللد"، هذه العبارة التي حملها نصب تذكاري للحاجة نبيهة الهنيدي على ماء سبيل عن روحها أقامه حفيدها، كشفت عن قصص الفلسطينيين الذين استشهدوا عطشًا بعد طردهم في أوج حر الصيف وهم صيام في شهر رمضان، بعد المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في مدينة اللد، عام 1948.

عطش الفلسطيني المقتول على طريق الطرد من الوطن، في رمضان الجهاد والتضحية، ما زال يشعل فيه روح المقاومة لإنهاء المأساة التي لم تنقطع وما زال يذوق مرارتها في كل أيامه ومناسباته الدينية وأعياده، ومن رمضان إلى الآخر يتجدد عهد الفلسطيني مع مقاومة العدو.

وفي رمضان، ذاق الفلسطيني مجازر الاحتلال من مجزرة المسجد الإبراهيمي عام 1994، التي نفّذها المستوطن الإرهابي باروخ غولدشتاين وأكملها جيش الاحتلال، إلى الاعتداءات المتكررة في كل عام على المسجد الأقصى، وإلى المذابح التي ارتكبها الاحتلال في قطاع غزة، خلال حروبه المتعددة من عام 2007.

وفي السنوات الماضية التي اشتعلت فيها أنماط عمليات فدائية فردية وجماعية، كان لرمضان حضوره البهي في هذا المسار، من عملية إطلاق النار التي نفّذها الأسير محمد أبو شاهين قرب بلدة دير بزيع غرب رام الله وأدّت لمقتل مستوطن وإصابة آخر، إلى مقتل مستوطن في عملية إطلاق نار نفّذها الشهيد محمد الفقيه قرب مستوطنة "عتنائيل" المقامة على أراضي جبل الخليل، وعملية محمد وخالد مخامرة في "تل أبيب" وأدت لمقتل 4 مستوطنين، والعملية المزدوجة التي نفذها عادل عنكوش وأسامة عطا وبراء عطا في القدس المحتلة وأدت لمقتل مجندة، ثم عملية الشهيد رعد خازم في "تل أبيب" في أوج العمليات العسكرية التي نفّذها الاحتلال ضد مجموعات المقاومة في نابلس وجنين، وغيرها من العمليات التي أكّدت على الطابع الجهادي/ الكفاحي لرمضان.

وفي أوج المساعي الإقليمية والأمريكية لمنع انفجار معركة جديدة مع الاحتلال، في رمضان العام الحالي (1444 هـ = 2023 م)، دفعت الجرائم التي ارتكبها جيش الاحتلال في المسجد الأقصى، بالاعتداء الوحشي على المعتكفين والمعتكفات فيه واعتقال المئات منهم، إلى تجدد عمليات المقاومة، ومنذ بداية الشهر نفّذت مجموعات المقاومة عدة عمليات إطلاق نار في مختلف مناطق الضفة المحتلة، ومع بداية الشهر أصيب عدد من جنود الاحتلال في عملية إطلاق نار ببلدة حوارة، ثم دخلت غزة في المواجهة عبر إطلاق رشقات من الصواريخ والرد بالمضادات الأرضية على طيران الاحتلال الذي هاجم عدة مواقع في القطاع، أما التطور الأبرز فكان في دخول جبهة جديدة هي لبنان على خط المواجهة، بعد إطلاق صليات من الصواريخ نحو مستوطنات الشمال، وخلال انشغال الاحتلال باحتمالات اندلاع الحرب شمالًا وجنوبًا ومحاولة الفصل بين الجبهات، جاءت المباغتة من الضفة بعد عملية إطلاق نار في الأغوار أدت لمقتل ثلاث مستوطناتٍ، ثم الداخل بعملية في "تل أبيب" نفّذها فدائي من بلدة كفر قاسم.