شبح التاريخ.. القصة المستحيلة للشيوعية

شبح التاريخ.. القصة المستحيلة للشيوعية
تحميل المادة

على سبيل التقديم..

تُراجع هذه المادة المترجمة لديفيد أ. بيل؛ كتاب "الإطاحة بالعالم: صعود وسقوط وصعود الشيوعية" (To Overthrow the World: The Rise and Fall and Rise of Communism)، الصادر في أيلول/ سبتمبر 2024، لشون مكميكن (Sean McMeekin)، وهو مؤرخ متخصص في تاريخ الاتحاد السوفياتي، ولكنه معاد إلى الشيوعية وإلى الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي دفع المراجع إلى النظر في الاختلالات السردية والمنهجية في الكتاب، وأبرزها تناوله لتاريخ الشيوعية بقراءته من أعلى إلى أسفل؛ أي من خلال القادة المتعطشين للسلطة، وما أوقعوه من معاناة على مجتمعاتهم فحسب، فهذه المعالجة، بحسب المُراجع، لا تفسّر انجذاب ملايين البشر إلى الشيوعية واستعدادهم للموت من أجلها، ومن ثمّ كيف خيّب هؤلاء القادة آمال تلك الجماهير، وكيف حوّلوا الفكرة إلى ديكتاتوريات فاسدة، أو بيروقراطيات مهترئة، أو أنماط من رأسمالية الدولة، وهذه القضية، أي عدم القدرة على التأريخ الشامل والدقيق والمعمق للشيوعية؛ دون تناول موقع الجماهير منها، وبقية أحداثها التاريخية متعددة الأوجه في بلاد العالم المختلفة؛ إذ ركّز مكميكن على الاتحاد السوفياتي، مع إهمال نسبيّ أو تامّ للكثير من القضايا والموضوعات؛ يجعل التأريخ لها بنحو موجز؛ مهمّة مستحيلة.

ثمّة نقاط نقدية أخرى تتناول أوجه القصور في الكتاب، وأخرى تشيد بمواضع تميّزه، مع إشارات إلى كتب أخرى أُلِّفت في التأريخ للشيوعية، نتركها للقارئ الكريم.

لكن الذي يهمنا من ترجمة هذه المراجعة، هو الشيوعية بوصفها واحدة من السرديات الكبرى التي انتشرت في هذا العالم وجذبت إليها ملايين الناس، وتداخلت في الجنوب العالمي مع حركات التحرر الوطني؛ إذ نعيش اليوم زمن انهيار السرديات الكبرى، وسيطرة الرأسمالية المتداخلة مع الإمبريالية على العالم، دون أن يَجمع أهل الجنوب، وفقراء العالم ومنهوبيهم ومستضعفيهم، سردية واحدة تربط بين مصالحهم، لدفع الطغيان الشمالي عنهم وعن مستقبلهم، وهو ما يتضح اليوم من حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزّة، بدعم سافر ومكشوف من الولايات المتحدة الأميركية، في ظرف بدا فيه العالم مشلول الإرادة تمامًا في حرب تتقصد الإبادة وتمارسها بنحو معلن ومشاهد على مدار الساعة؛ دون أن يتقدم أحد بخطوة واحدة لوقفها عن سكان غزّة، المحاصرين، والملاحقين بالموت والجوع والنار.

ليس من واجب أهالي غزّة بالتأكيد استنقاذ هذا العالم من انحطاطه المخزي، ولكنّهم، بهذا الهول الفادح المصبوب عليهم، وبقدر آلامهم العظيمة، وبسالة مقاتليهم المدهشة، يُعرّفون هذا العالم بالقاع المتعفن الذي سقط فيه، حيث إنّ هذه البشرية اليوم إمّا تسقط كلّها إلى هذا القاع وتتعفن فيه، وإمّا أن تتلمّس طريقها إلى النور.

هيئة التحرير.

 قصة الشيوعية هي واحدة من أعظم المآسي في التاريخ الحديث. نشأت الحركة، في الأساس، من شعور بالرهبة إزاء التكاليف البشرية الهائلة التي خلفتها الرأسمالية المبكرة. ومن هذا الرعب ولدت آمال بمستقبل أفضل وأكثر عدلاً، إلى جانب نظرية تشرح كيفية الوصول إلى هذا المستقبل. كما أوضح كارل ماركس وفريدريك إنجلز في "البيان الشيوعي" عام 1848، فإن الأنظمة الرأسمالية في الدول الأكثر تصنيعًا لن تصبح فاسدة ومتهالكة فقط مع نموها وتوسعها؛ بل ستخلق أيضًا، مع إجبارها المزيد والمزيد من العمال على بيع عملهم مقابل أجر، حفاري قبورها: بروليتاريا قادرة على النهوض وإنشاء نظام اجتماعي جديد.

في العقود التي تلت ظهور "البيان الشيوعي"، ظهرت العديد من المنظمات – من الأحزاب الانتخابية إلى جمعيات العمال، إلى الجمعيات السرّية والجماعات الإرهابية – ملتزمة بتحويل النظرية إلى واقع. تستمد الحركات الاشتراكية والشيوعية الحديثة أصولها منها. وفي إطار اتحادين عالميين للعمال[2]، وكذلك في الصحف، واجتماعات الأحزاب، والجامعات، والمنازل الخاصة، وألف مقهى متواضع، شارك الشيوعيون في نقاشات حادة وفوضوية حول كيفية تحقيق أهدافهم.

ولكن الأنظمة الشيوعية التي ظهرت فعليًا في القرن العشرين خالفت النظرية، وأخمدت النقاشات، وخانت الآمال، ولم تحقق الأهداف. لم يستول العمال الصناعيون على السلطة في الدول الرأسمالية المتقدمة. وبدلاً من ذلك، وفي الحالات الأهم، استولت مجموعات من المسلحين القساة على السلطة في دول زراعية بشدة انهارت بسبب الحروب العالمية، ولا سيما روسيا عام 1917 والصين عام 1949. ثم، في مواجهة المعارضة الخارجية والانقسامات الداخلية، لجأوا إلى الديكتاتورية، والإرهاب، وفي النهاية القتل الجماعي لفرض رؤيتهم للمستقبل بالقوة.

ومع ذلك، لم تنطفئ الآمال فورًا؛ إذ استمر الملايين حول العالم في الالتفاف حول القضية الشيوعية والإيمان بوعودها، حتى في الوقت الذي عانى فيه الملايين الآخرون وماتوا على أيدي الشيوعيين. لكن في النهاية، لم يبقَ من الدول الشيوعية سوى بيروقراطيات ثقيلة وقمعية، غير قادرة على منافسة الاقتصادات الرأسمالية أو الحفاظ على ولاء شعوبها. وفي النهاية، انهارت هذه الأنظمة تحت وطأة أعبائها (كما حدث في أوروبا)، أو أبرمت صفقات مشبوهة مع الرأسمالية لضمان بقاء قادتها في السلطة (كما في آسيا).

اليوم، وبعد 107 سنوات من أول ثورة شيوعية كبرى، أصبحت الدولة التي شهدت تلك الثورة الأولى ديكتاتورية فاسدة، عدوانية، وشبه فاشية. أما بقايا السلطة الشيوعية الأخرى فتشمل نظامًا شموليًا غريبًا على النمط الفرعوني في كوريا الشمالية، ورأسمالية دولة قمعية في الصين وفيتنام، وكوبا يائسة ترزح تحت وطأة نخبتها الفاسدة والحصار الأميركي الطويل والقاسي.

لا يمكن لأي شخص ما زال يأمل في التصدي للأضرار الهائلة التي تسببها الرأسمالية غير المقيدة أن يتجاهل أو يبرر هذا السجل الكئيب والمحبِط.

فهم القصة الهائلة والمعقدة والجذابة للشيوعية بكامل أبعادها يتطلب مزيجًا نادرًا من الخبرة والمهارات. المؤرخون الذين يسعون إلى كتابة هذه القصة يحتاجون إلى فهم عميق للسياقات الفكرية التي تطورت فيها الأفكار الشيوعية لأول مرة. كما يحتاجون إلى إلمام واسع بالتاريخ العالمي واستعداد للتعلم، بقدر الإمكان، عن الأماكن المختلفة التي تجلت فيها القصة الشيوعية حول العالم، إضافة إلى مختلف الطبقات الاجتماعية. عملهم، في أفضل حالاته، يجب أن يعكس ما تعنيه الشيوعية للمثقفين الأوروبيين ومقاتلي العصابات الآسيويين، وللبيروقراطيين الكوبيين وعمال المصانع الأوزبكيين، وللطلاب الأمريكيين وسجناء الجولاج[3]، وغيرهم الكثير. يحتاجون أيضًا إلى التعاطف لفهم ما جذب الناس إلى الشيوعية، ولكن في الوقت ذاته، إلى البعد اللازم للحكم على أفعال الشيوعيين بحيادية.

العمل الممتاز المتمثل في السلسلة المكونة من ثلاثة مجلدات بعنوان "تاريخ كامبريدج للشيوعية"[4] ينجز الكثير من هذا العمل، لكنه مجموعة تحريرية متخصصة تضم عشرات المؤلفين الفرديين، ولا يدعي تقديم سرد موحد لجمع كل هذه العناصر في مجلد واحد، سيحتاج الكاتب إلى معرفة موسوعية ومهارات استثنائية في السرد القصصي.

هل يمكن حتى كتابة مثل هذا التاريخ؟ كتاب "صعود وسقوط الشيوعية" (2009) للمؤلف البريطاني وعالم السياسة آرشي براون، ربما اقترب أكثر من أي دراسة جدية مكتوبة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. في حين أن براون، الذي نصح مارغريت تاتشر بشأن الاتحاد السوفياتي، لم يكن لديه تعاطف كبير مع الشيوعية، إلا أنه كان يعرف الاتحاد السوفياتي جيدًا وقدم سردًا تاريخيًا سلسًا للأنظمة الشيوعية الرئيسة، بالإضافة إلى صور حية للقادة الأفراد والمقاتلين. ومع ذلك، كانت هناك فجوات كبيرة؛ إذ قدم براون القليل عن تاريخ الأفكار الشيوعية أو الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الدول الشيوعية، واختصر العديد من الحلقات المهمة في صفحات قليلة للحفاظ على طول الكتاب معقولًا.

كتاب "الإطاحة بالعالم: صعود وسقوط وصعود الشيوعية" لشون مكميكن، للأسف، يبتعد كثيرًا عن هذا المعيار. مكميكن مؤرخ مخضرم لروسيا والاتحاد السوفياتي، ومعرفته الجيدة بالأرشيفات السوفياتية تظهر بشكل واضح هنا. لكن عداءه الطويل للشيوعية السوفياتية شوه فهمه للموضوع، ما أدى إلى تصوير قادة السوفيات على أنهم شخصيات أحادية الأبعاد، تآمرية، وجائعة للسلطة، مع تقديم القليل من الفهم لما قد يدفع الناس العاديين لدعمهم. كتابه لعام 2017 "الثورة الروسية: تاريخ جديد" استند إلى أدلة متوترة لتصوير روسيا القيصرية باعتبارها نظامًا صحيًا بطبيعته، لم يكن لرعاياه أسباب كثيرة للتمرد ضده (وتضمن أيضًا انتقادًا غريبًا لبرني ساندرز بوصفه بلشفيًا حديثًا). في كتابه لعام 2021 "حرب ستالين"، اقترب من تصوير تشرشل وروزفلت كونهم أغبياء أنقذوا الاتحاد السوفياتي بمساعداتهم الوفيرة أثناء الحرب، في حين كان بإمكانهم، على حد قوله، مساعدة المعارضة لإسقاطه.

ظهر كتاب مكميكن الجديد بعد ثلاث سنوات فقط، ويعيد تقديم أجزاء كبيرة من كتبه السابقة، ويظهر عليه العديد من علامات التسرع، وفي خاتمة تبدو وكأنها مأخوذة من تغريدة سيئة لإيلون ماسك، ينزلق إلى نظريات المؤامرة. القراء الذين يفترضون أن العنوان الفرعي للكتاب، "صعود وسقوط وصعود الشيوعية"، يشير إلى تقدير للحركات الراديكالية المعاصرة من أجل العدالة الاجتماعية سيصابون بخيبة أمل شديدة.

 يشير "الصعود" الأخير إلى اعتقاد مكميكن بأن "النموذج الشيوعي الصيني للحكم الاجتماعي والدولة"، يهيمن الآن على العالم الغربي. يتحدث عن "مفوضي الفكر الحديث"[5]، ويقارن "غير الملقحين ضد كوفيد" و"معارضين آخرين"، مثل القومي البريطاني اليميني نايجل فاراج[6]، بضحايا القمع في الدولة الصينية. ويحذر من أن مصيرًا قاتمًا ينتظر الآن أي شخص يتحدى "التوافق المعتمد للنخب الاجتماعية والحاكمة الغربية بشأن… تغير المناخ (لاحظ علامات الاقتباس المخيفة)، والهجرة، والعرق، والتوجه الجنسي، أو الهوية الجندرية". من الصعب أخذ كتاب على محمل الجد لكاتب انزلق بهذه الطريقة في مثل هذه الفوضى الفكرية، ولا يمكنني إلا أن أتساءل كيف سمحت [7]Basic Books بنشر مثل هذه الأفكار المأخوذة من مستنقع تويتر تحت طابعها.

لحسن الحظ، تمكن مكميكين من تجنب الإشارات المليئة بالروح المتهكمة على طريقة ماسك في معظم نص كتابه، لكن العمل يعاني من مشكلات أخرى. لضغط تاريخ كامل للشيوعية العالمية في 458 صفحة (160 صفحة أقل من دراسة آرشي براون التي كانت بالفعل موجزة)؛ اعتمد مكميكين نهجًا سرديًا يعتمد إلى حدّ كبير على القيادة العليا، ونادرًا ما يتجاوز السطحية.

 بعد استعراض سريع على نمط الكتب الدراسية للثورة الفرنسية والاشتراكيين الطوباويين الأوائل، يخصص مكميكين 45 صفحة لاذعة لكارل ماركس، الذي يصفه بأنه صاحب "رؤية عقائدية وغريبة الأطوار". يقضي 20 صفحة أخرى في محاولة فك تعقيدات السياسة في الأممية الثانية، واستبعادها للأناركيين[8]، وانهيارها النهائي عندما فشل عمال العالم في الاتحاد مع بداية الحرب العالمية الأولى، واختاروا بدلاً من ذلك الالتفاف حول قضاياهم الوطنية.

في هذه النقطة، يصل مكميكين، مع ارتياح واضح، إلى مجال خبرته الحقيقي - الثورة الروسية - ويخصص نصف الكتاب تقريبًا للاتحاد السوفياتي حتى وفاة ستالين في عام 1953. القسم الأخير يتنقل بين الاتحاد السوفياتي والصين الشيوعية، ليصل إلى الخاتمة التي تدعي أننا جميعًا أصبحنا ضحايا "النموذج الصيني للرقابة الحكومية الشيوعية".

يبرع مكميكين في تفسير كيفية استيلاء الشيوعيين على السلطة في روسيا والصين. في فصوله عن روسيا، على سبيل المثال، يستخدم مواد أرشيفية لتقديم وصف حي لكيفية استيلاء لينين والبلشفيين على المؤسسات الروسية، مع التركيز بشكل خاص على المصادرة الهائلة للممتلكات الخاصة، وخاصة في قطاع البنوك. تُعدّ أعمال ستالين المبكرة في سرقة البنوك لحساب الحزب الشيوعي في جورجيا مقدمة لما كان في أحد معانيه أكبر مجموعة من عمليات السطو على البنوك في التاريخ، إذ كان المسؤولون البلشفيون يدخلون البنوك حرفيًّا، ويفتحون الخزائن بالقوة، ويأخذون المحتويات.

يقدم مكميكين أيضًا وصفًا قويًا لسياسات الصين الجماعية بعد انتصار الشيوعية عام 1949، موضحًا، على سبيل المثال، كيف جابت كوادر الحزب الريفَ بحثًا عن كل مصدر ممكن من الأسمدة لزيادة إنتاج المحاصيل، لدرجة أن أحد زعماء الحزب في سيتشوان أعلن: "حتى البراز يجب أن يُجمع لصالح الجماعة!".

لكن بقية الكتاب، للأسف، لا ترتقي إلى مستوى هذه الفصول ولا تضيف الكثير على تاريخ براون السابق. الضحايا الأوائل في هذا السرد هي القضايا العميقة والتفاصيل المعقدة. على سبيل المثال، قصة انضمام كوبا فيدل كاسترو إلى المعسكر السوفيتي معقدة، وتتضمن أمورًا مثل ضغوط الكوبيين العاديين للسيطرة على الموارد الطبيعية بعد استلام كاسترو للسلطة، وسلسلة طويلة من سوء التقدير وردود الفعل المبالغ فيها من الحكومة الأميركية. ومع ذلك، يعتمد مكميكين في ثلاث فقرات فقط عن هذا الموضوع على المصادر السوفياتية، ما يجعل القصة إلى حد كبير تدور حول كيفية إغراء السوفييت لكاسترو بذكاء للانضمام إلى معسكرهم.

الفصول الأخيرة تعاني بنحو خاص من تفاوت كبير، إذ يخصص مكميكين خمس صفحات لتناول تعاطي الرياضيين في الكتلة الشرقية للمنشطات، ولكن ثلاث جمل فقط لسقوط النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية. وبما يتماشى مع تركيزه الضيق على قمة القيادة، يركّز سرده لانهيار الشيوعية في أوروبا بالكامل تقريبًا على آخر زعيم سوفياتي، ميخائيل غورباتشوف. أي شخص مهتم بدور المنشقين في الكتلة الشرقية أو التحالف الابتكاري بين المثقفين والعمال في حركة "كور" البولندية[9] لن يجد أي شيء تقريبًا عنهم هنا. كما يتجاهل مكميكين تمامًا التجربة التشيكوسلوفاكية المتمثلة في "الاشتراكية ذات الوجه الإنساني"[10] وقمعها من قبل الاتحاد السوفياتي في عام 1968.

قد يتوقع المرء، أن يقدم تاريخ عام للشيوعية شيئًا، عن التأثير الهائل للشيوعية على الحياة الثقافية في القرن العشرين، وأن يناقش شخصيات مثل بابلو بيكاسو، وجان بول سارتر، وبيرتولت بريخت، وأيمي سيزير. قد يتوقع المرء أيضًا أن يتضمن الكتاب تحليلاً مستدامًا للتشابك المعقد بين الشيوعية والقومية، خاصة في الجنوب العالمي، حيث وصلت الشيوعية غالبًا على شكل حركات تحرير وطني (مثلما حدث في فيتنام). كما قد يتوقع المرء معالجة أكثر من سطحية لكيفية إعادة تشكيل الشيوعية للعلاقات الجندرية. على الرغم من أن الأنظمة الشيوعية تصرفت بنفاق كبير في هذا الموضوع، إلا أنها في كثير من الحالات ضمنت المساواة الرسمية، وفتحت المهن أمام النساء، ووفرت وسائل منع الحمل والإجهاض، وأنشأت أنظمة رعاية للأطفال.

بالنسبة إلى كتاب مكتوب لجمهور أمريكي، قد يتوقع المرء أن يخصص مكميكين أكثر من فقرة واحدة فقط للشيوعية في الولايات المتحدة - فقرة، علاوة على ذلك، تتناول في الغالب العملاء الشيوعيين الذين اخترقوا الحكومة الأميركية. لا يحتوي الكتاب على شيء عن دور الشيوعيين في حركة الحقوق المدنية، على سبيل المثال، أو عن آثار مكافحة الشيوعية على المجتمع الأميركي خلال الحرب الباردة.

قد يَرُدّ مكميكين على هذه الانتقادات بالإشارة إلى أنه لم يكن بإمكانه تضمين كل هذه المواد في كتاب قصير نسبيًا. وبمعنى ما، سيكون على حق. ولكن لا يمكن استبعاد هذه المواد بسهولة من سرده السياسي من أعلى إلى أسفل. بدونها، يُختزل تاريخ الشيوعية إلى مجرد أفعال مقاتلين أيديولوجيين متعطشين للسلطة وقساة، وما ألحقوه من معاناة بمجتمعاتهم. ومع ذلك، لم يكن بالإمكان أن يكون للشيوعية تأثير كبير على تاريخ البشرية إذا كانت هذه هي كل القصة. ما الذي جذب الناس إليها؟ ما الذي جعلهم على استعداد ليس فقط للقتل، بل أيضًا للموت من أجلها؟ ما الذي جعلهم على استعداد لقبولها وعيش حياتهم وفقًا لمبادئها؟ إذا كان من المستحيل الإجابة بشكل كافٍ على هذه الأسئلة الحاسمة في كتاب قصير كهذا، فربما لم يكن كتابة كتاب قصير فكرة جيدة في الأساس.

في قسم يتناول الاقتصاد في الاتحاد السوفياتي تحت حكم ستالين، يلاحظ مكميكين أن "النتائج كانت واعدة، على الأقل من الناحية المادية". بالإضافة إلى تقديم إحصائيات عن نمو الناتج المحلي الإجمالي، يشير إلى التطور السريع لمدن مثل ماغنيتوغورسك، حيث تحوّل خلال بضع سنوات فقط امتداد قاحل من جبال الأورال، إلى "أكبر مصنع للحديد والصلب في العالم بأسره، حيث يعمل حوالي 250,000 شخص." في الملاحظة الهامشية لهذه الجملة، يستشهد مكميكين بدراسة المؤرخ ستيفن كوتكين عام 1995 بعنوان: "الجبل المغناطيسي: الستالينية كحضارة."[11] ولكن من المؤسف أنه لم يحاول أن يحاكي نهج هذا الكتاب، الذي لا يزال يعتبر أعظم كتاب كُتب عن نظام شيوعي.

ركز كوتكين على الجانب المظلم لهذا المشروع الاجتماعي الهائل وغير المسبوق، بدءًا من القسوة في ظروف العيش والعمل في المدينة الجديدة، إلى عدم المساواة بين العمال وكوادر الحزب الشيوعي، وصولًا إلى النزعة القمعية للامتثال التي فرضها الحزب، وظهور إرهاب ستالين. ولكنه أظهر أيضًا الطوباوية التي دفعت المشروع في بدايته، والحماس الحقيقي الذي ولّده لفترة بين المواطنين السوفيات العاديين، وأيضًا، وهذا مهم للغاية، الطريقة التي تعلموا بها "التحدث بلهجة البلاشفة"؛ العمل داخل النظام والعيش وفقًا لقواعده المكتوبة وغير المكتوبة؛ ليصبحوا نماذج جديدة من الأفراد. مثل طالب متعمق في أعمال ميشيل فوكو؛ كان كوتكين يعرف أن السلطة لا تأتي فقط من فوهة البندقية. للحفاظ على نفسها، تحتاج إلى تغيير طريقة تفكير الناس وسلوكهم. أي تاريخ ذي قيمة للشيوعية يجب أن يتناول هذه النقطة الأساسية.

غالبًا ما تُستخدم اليوم كلمة "مأساة" رديفًا لكلمة "فظاعة"، ولكن الكلمتين ليستا متطابقتين؛ الفظاعة هي فعل متعمد من القسوة والشر، بينما تشير "المأساة" إلى موقف تقع فيه أمور رهيبة لأسباب خارجة عن السيطرة البشرية. موت الأطفال في حادث سيارة هو مأساة؛ موت الأطفال في إطلاق نار جماعي هو فظاعة. ارتُكبت العديد من الفظائع باسم الشيوعية، ولكن على عكس الانطباع الذي يتركه كتاب مكميكين، فإن تاريخ الشيوعية ككل ليس فظاعة، بل هو، بالأحرى، مأساة.



[1]. المادة منشورة بلغتها الأصلية في مجلة The Nation، بعنوان History’s Specter: The impossible story of communism""، بتاريخ كانون الأول/ ديسمبر 2024، على الرابط: https://www.thenation.com/article/politics/sean-mcmeekin-history-communism/?utm_source=chatgpt.com

[2]. يقصد الكاتب بالاتحادين العالميين للعمال: "الأممية الأولى 1864-1876"، واسمها الرسمي: "الجمعية الدولية للعمال"، و"الأممية الثانية 1889-1916"، (إطار).

[3]. سجناء الجولاج هم الأشخاص الذين سُجنوا في نظام معسكرات العمل القسري في الاتحاد السوفياتي، والمعروف باسم جولاج (Gulag)، وهو اختصار لـ الإدارة الرئيسة لمعسكرات العمل القسري (Glavnoe Upravlenie Lagerei). كان هذا النظام جزءًا من آلية القمع السياسي والاجتماعي التي استخدمها الاتحاد السوفياتي، خاصة في عهد جوزيف ستالين. (إطار)

[4]. صدر عن جامعة كامبريدج بعنوان " The Cambridge History of Communism" عام 2017 في ثلاثة مجلدات، تناول المجلد الأول: ولادة الشيوعية، والثاني: الشيوعية العالمية، والثالث: الانهيار والإرث. (إطار).

[5]. مصطلح "مفوضي الفكر الحديث" (Modern-day thought commissars) يشير إلى تشبيه ساخر أو نقدي لشخصيات أو جهات يُعتقد أنها تفرض رقابة على الأفكار أو توجه الخطاب العام بطريقة سلطوية. المصطلح مستوحى من "المفوضين السياسيين" الذين كانوا موجودين في الأنظمة الشيوعية، وخاصة في الاتحاد السوفيتي، حيث كان المفوضون مسؤولين عن ضمان التزام الأفراد والمؤسسات بالمبادئ الأيديولوجية الرسمية. استخدم مكميكين المصطلح للإشارة إلى من يراهم مراقبين يفرضون أفكارًا أو سياسات محددة في القضايا المعاصرة. (إطار).

[6]. سياسي بريطاني يميني دعم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وله مواقف صارمة ضد سياسات الهجرة في بريطانيا. (إطار).

[7]. دار نشر أمريكية أُسست عام 1950 في نيويورك. (إطار).

[8]. في عام 1896، خلال مؤتمر لندن للأممية الثانية، صعدت الخلافات بين الماركسيين والأناركيين. الماركسيون كانوا يتمتعون بالأغلبية داخل المنظمة، ورأوا أن الأناركيين بتكتيكاتهم العنيفة وأيديولوجيتهم الرافضة للدولة يعوقون الجهود المشتركة لتحقيق الإصلاحات الاشتراكية. صُوت لصالح قرار رسمي بمنع مشاركة الأناركيين في الأممية الثانية. (إطار).

[9]. يشير إلى التعاون المميز الذي ظهر بين شريحتين اجتماعيتين مختلفتين، المثقفين والعمال، ضمن حركة لجنة الدفاع عن العمال (KOR) في بولندا خلال السبعينيات. هذه الحركة كانت أحد العوامل الأساسية التي مهدت الطريق لظهور النقابات المستقلة في بولندا، مثل "تضامن" (Solidarity)، وساهمت في إضعاف النظام الشيوعي في أوروبا الشرقية. (إطار).

[10]. “الاشتراكية ذات الوجه الإنساني” هو مصطلح يشير إلى محاولة إصلاح النظام الاشتراكي الشيوعي ليصبح أكثر إنسانية وديمقراطية، مع الحفاظ على المبادئ الاشتراكية الأساسية. ارتبط هذا المفهوم بشكل خاص بـ الإصلاحات التي جرت في تشيكوسلوفاكيا عام 1968 تحت قيادة ألكسندر دوبتشيك خلال فترة تُعرف باسم ربيع براغ. (إطار).

[11]. "الجبل المغناطيسي: الستالينية كحضارة" هو كتاب صدر عام 1995 للمؤرخ الأمريكي ستيفن كوتكين، يُعدّ أحد أهم الدراسات حول الاتحاد السوفيتي في عهد جوزيف ستالين. الكتاب يتناول بشكل مفصل عملية التحول الاجتماعي والسياسي والاقتصادي التي وقعت في مدينة ماغنيتوغورسك (Magnetogorsk)، وهي رمز للمشروع السوفياتي الطموح لبناء مجتمع اشتراكي جديد. وهي مدينة صناعية تقع في جبال الأورال في الاتحاد السوفياتي، بُنيت في أوائل الثلاثينيات في إطار خطة ستالين للتصنيع السريع، وكان الهدف منها أن تكون مركزًا ضخمًا لصناعة الحديد والصلب، لتصبح رمزًا للثورة الصناعية السوفياتية. (إطار)