شقبا ونكسة 1967.. الذاكرة الجمعية لزمان الحرب والهجرة
تجمع الذاكرة الجماعية لأهالي قرية شقبا غرب رام الله على أن قريتهم تعرضت إلى ثلاث حروب أو إلى ثلاثة أحداث مفصلية كان لها أثرها الكبير في القرية، أولها حرب 1948 أو ما اصطلح على تسميته عند الأهالي بالحرب الأولى، التي كان لها وقع كبير على الأهالي، ورغم أن تلك الحرب لم ينجم عنها أية خسائر مادية تذكر في شقبا، إلا أن أثرها النفسي لازال عالقًا في أذهان الكثيرين ممن عايشوا تلك الأحداث، فأخبار القرى المجاورة والمجازر التي ارتكبت بحق ساكنيها، لاسيما قرى (الخيرية، بيت نبالا، الحديثة، قولة)، كانت تصل تباعًا إلى أهالي القرية من القادمين من تلك المناطق؛ أما الحرب الثانية على حد وصف الأهالي فتمثلت في مجزرة قبيا أو ما يسميها الأهالي (بهدمة قبيا) في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1953م والتي راح ضحيتها قرابة السبعين شهيدًا جلّهم من أهالي قرية قبيا، ناهيك عن مئات الخائفين والمشردين، وبما أن قرية قبيا من القرى المجاورة لشقبا والتي تبعد عنها 2 كيلو متر غربًا، فقد كان لتلك المجزرة تأثير قوي على أهالي شقبا، لاسيما وأن شائعاتٍ راجت بأن القوات الإسرائيلية ستقوم بمهاجمة القرية فور انتهاء عملياتها العسكرية في قبيا؛ والحرب الثالثة هي حرب حزيران/ يونيو 1967م والتي شكّلت نقطة تحوّل مفصليةً في تاريخ القرية، وأنتجت واقعًا جديدًا خلافًا لحرب 1948 ومجزرة قبيا 1953. فهذه المرة كانت هناك هجرةٌ قسريةٌ جزئيّةٌ بلا عودة، إلى الضفة الشرقيّة من نهر الأردن، بالإضافة إلى خضوع القرية للاحتلال العسكري الإسرائيلي الذي نجم عنه تغيرّات في بنية القرية من النواحي الاجتماعيّة والثقافية والاقتصادية والإدارية، وبذلك كانت تلك الحرب نقطةً يجب أن نقف عندها ونحلل تبعاتها وتأثيراتها.
وقد اعتمدتْ المادةُ التي بين أيدينا الروايةَ الشفوية مصدرًا رئيسيًا في البحث لعدة اعتبارات: أولها: ندرة الأدبيات التي تناولت قرية شقبا عمومًا، وتأثرها بنكسة 1967 خصوصًا، ثانيها: أهمية هذا المصدر في أنه يقدّم بعدًا تاريخيًا جديدًا ويكتشف مساحات معتمةً ومهمشةً تتجاوزها عادة المصادر التاريخية التقليدية.
يساهم هذا العمل في أرشفة الذاكرة الجماعية وحفظها، ليساعدنا على إعادة فهم التغيرات في البنى الاجتماعية والثقافية بصورة أقرب فيكون بذلك أيضًا نواة لأعمال تأريخية أخرى.
رياح الحرب...
حتى بداية حزيران/ يونيو 1967 لم يكن الأهالي في قرية شقبا قد أنهوا حصادهم، كان معظم الناس في البراري، في السفوح وفي المروج المحيطة بالقرية منهمكين في حصاد محصول القمح الذي يعدّ الأغلى والأثمن.
"في تلك الفترة كانت هناك شائعات أو أخبار أتت عبر أجهزة المذياع، التي لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة، أن هناك حربًا قادمةً لا محالة، وأن هناك حشودًا عربيةً عبر الحدود تتجهز لمهاجمة إسرائيل"[1].
كانت تلك الأخبار تجد صدىً لها في القرية، خصوصًا في مجالس القرية ودكاكينها، حيث يجتمع الناس لسماع الأخبار، ومن ثم يتبادلون الأحاديث فيما بينهم حول ما ستؤول إليه الأمور، وفي الحقيقة كانت معظم السجالات والأحاديث التي تجري فيما بينهم تحمل وجهة نظر تفاؤليةً، فقد كانت الإذاعات العربية، بتضخيمها للقوة العربية واستخفافها بالقوة العسكرية الصهيونية، السبب الأساسي لذلك التفاؤل.
لم يكن الأهالي على وعي سياسي عميق بتلك الأحداث، فشِدّة ارتباطهم بالأرض وبعوالم القرية أبعدتهم بشكل كبير عن تكوين نظرةٍ عامة تساعدهم في إدراك ما يجري من حولهم. تذكر روز ماري صايغ في هذا الصدد "أن فلسطينيي اليوم، وهم ينظرون إلى آبائهم الفلاحين، يرون فيهم أناسًا طيبي القلوب ووطنيين لكنهم يفتقرون إلى الوعي السياسي"[2]. رغم ما كان يجري تناقله من أخبار، لم تكن الأحداث على الأرض توحي بأن حربًا على وشك الوقوع، وبالأخص حتى الثالث من حزيران/ يونيو، لذلك استمر الأهالي بأداء أعمالهم اليومية كالمعتاد، أما بعد الثالث من حزيران، وعلى عجل، بدأت القوات الأردنية بالانسحاب من القرية.
القوات الأردنية في أيامها الأخيرة
"كان الضابط أبو غالب من قرية تدعى سحم الكفارات قرب الحمة السورية مسؤولًا عن القرية، وكان له مقر لا يزال بناؤه قائمًا إلى الآن [جرى في الحقيقة هدمه وتشييد مبنىً جديد مكانه]، كان آخر عمل قام به تسليح القرية، وبالأخص أهالي القرية الذين كانوا عناصر تابعين للجيش الأردني، فوزّع عشر بنادق إنجليزية تسمى (مارتينه) أو (مارتين)، و100 طلقة نارية لكل جندي، ورشاش (برن 500) وثلاثة رشاشات (ستين) أُعطيت للعناصر المدربين من القرية الذين كانوا منظمين في صفوف الجيش الأردني وهم جادالله عيد وحسين نخله ومحمود ثريا"[3].
بعد انسحاب القوات الأردنية من القرية تعيّن على هؤلاء الأفراد أن يقوموا بمهمتي الدفاع والحفاظ على الأمن، جرى توزيعهم على مجموعات تقوم كل مجموعة بحماية جهة من جهات القرية "موقع عند دار طعم الله شرق القرية، وموقع عند دار نصر غربًا، والموقع الثالث شمالًا عند دار أبو سميح"[4]، كانت دفاعاتهم تتشكّل من الخنادق، والأسلاك الشائكة، والألغام في بعض المناطق، وكانت تلك التجهيزات والتعليمات مما خلّفه الجيش الأردني في القرية قبل انسحابه.
"كل موقع كان يحرس فيه ثلاثة أفراد، وكانت الحراسة تتم على مناوبتين، صباحية ومسائية، وكان بإمكان أيّ فرد من أفراد الحراسة أن يكلّف أحدًا غيره، إما من الأقارب أو أيّ كان ليخلفه، بأجر بلغ وقتها عشرة قروش، وشكّل قدوم ثلاث مركبات وحدات خاصه مصرية- فلسطينية إلى القرية من العوامل التي آزرت السكان وألهبت حماسهم، بالأخص أفراد وحدة الحماية في القرية"[5].
بقيت تعليمات قيادة الجيش الأردني تطبّق في القرية حتى يوم الخامس من حزيران/ يونيو، يوم اشتعلت الحرب، حتى أن كلمة السرّ أو ما اصطلح على تسميته "سرّ الليل"، والتي هي عبارة عن كلمة تعريف يجري تداولها بين أفراد الجيش الأردني، لم تصل إلى القرية بسبب تقهقر القوات الأردنية، وقد طُلب من أحد أفراد القرية، وهو صبيّ في مقتبل العمر، أن يوصلها إلى مقرّ أفراد الحماية، وقد أفصح لنا عنها بعد مرور خمسة وأربعين عامًا. كانت كلمة "طلال" هي كلمة السرّ الأخيرة للقوات الأردنية على أراضي القرية.[6]
ثانيًا: نظرية التسليم، وتسليح القرية
ماذا يعني انسحاب القوات الأردنية من القرية قبل الحرب بيومين؟ إذا ما علمنا أن القرية تقع على خطوط التماس مع العدوّ، ولو أنّ موقع القرية كان غير ذلك لأدركنا أن ذلك الانسحاب ربما يكون مناورةً عسكريةً، أو محاولةً لحشد القوات في المنطقة الأمامية. هل يدعم ذلك نظرية التسليم؟ أي أن الملك حسين كان قد سلّم الضفة الغربية للقوات الإسرائيلية سلفًا قبل وقوع الحرب؟ وإذا كان ذلك صحيحًا فما معنى أن تقوم القوات الأردنية بتسليح الأهالي، حتى لو كان هذا التسليح متواضعًا إلى حد ما.
ربما كان سبب التسليح علاقةً خاصةً ربطت الضابط أبو غالب بعناصر الجيش الأردني من أهالي القرية، أو يمكن القول إن تلك السياسة كانت متبعةً في باقي القرى أو باقي المناطق لتوفير الشيء اليسير من الأسلحة التي تمكّن الأهالي من الدفاع عن أنفسهم ليس إلا، فعشر بنادق إنجليزية وأربع رشاشات ليس بالسلاح الكافي لمجابهة سلاح الطيران الحربي الإسرائيلي والقوات على الأرض، أضف الى ذلك أن معظم الأفراد الذين حملوا السلاح من المتطوعين الذين لم يكونوا على قدر كاف من التنظيم ليتمكنوا من حماية حدود القرية، خصوصًا بعد انسحاب القوات الأردنية المفاجئ الذي أثّر على معنويات الأهالي بشكل كبير، ولعل الجيش الأردني، ممثلًا بقيادته العليا، أراد حفظ ماء الوجه ليبعد عن نفسه تهمة الخيانة.
يجمع الأهالي أن ما حدث فيما يتعلق بانسحاب القوات الأردنية ما هو إلا عملية تسليم مدبّرة ومخططٌ لها سابقًا. يروي لنا بشير عطالله ثابت روايةً تتعلق بذاك الشأن: "كنت في الكويت منذ العام 1966، عندما سمعنا بنشوب الحرب في حزيران 1967 توجهنا إلى مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في الكويت وطلبنا منهم أن ينظّمونا في جماعات للقتال في فلسطين، وبالفعل أمّنوا لنا الباصات، كان هذا العمل بتعاون مع الجيش العراقي الذي كان على عاتقه تأمين السلاح في هذه المهمة، وصلنا إلى منطقة الأغوار الأردنية، طَلب منا القائد أن نقوم بتغطية الباصات بالطين كي لا تكون مرئيةً لطائرات العدو، وصلنا إلى الحدود، باختصار لم نتمكن من المرور وأقنعونا بأن الأمر أعقد مما نتصور، رجعنا أدراجنا وتوجّهنا إلى معسكر الرشيدية في العراق، بعد ذلك كلٌّ ذهب إلى حال سبيله"[7].
ويضيف أيضا في السياق نفسه "في داخلي كنت على إدراك تام أن ما حصل ليس أمرًا طبيعيًا، ما أكّد شكوكي تلك هو جندي سابق في الجيش الإسرائيلي من أصول ليبية عملت في بناء منزله قرابة العام 1970، روى لي أنه كانت هناك تشديدات أمنية في منطقة هرتسليا في أحد أيام ما قبل الحرب، ولما سأل الجنديُّ عمّا يجري، كانت الإجابة أن هناك اجتماعًا يجري ما بين الملك حسين والقيادة الإسرائيلية".[8]
ومن الروايات أيضًا ما يتعلق بفساد الأسلحة والذخيرة التي كان الجيش الأردني يوزعها في الضفة، والإجراءات التعسفية التي تفرض على الجنود، فقد كان المجند في الجيش الأردني إذا أطلق رصاصةً في غير أوانها، أو أضاعها فإن ثمنها يخصم من راتبه، وبلغ ثمن الرصاصة في حينه عشرة قروش مع العلم أن راتب المجند كان في حدود الدينارين، وبهذا فإن عشر رصاصات تكلفه حوالي نصف الراتب، وهذا بالطبع يدل على مدى ضعف الجيش وفساده ماديًا ومعنويًا.
ثالثًا: الأيام الأولى للحرب
ترددت الأنباء بأن القوات الإسرائيلية أصبحت على مشارف القرية، كان جزءٌ كبير من الأهالي خارج بيوتهم لأداء أعمالهم اليومية المعتادة في الأرض، "في تلك الأثناء مرت جموع من أهالي قرية قبيا المجاورة من وسط البلد، كان يبدو عليهم البؤس والخوف، مروا ومعهم ما استطاعوا أن يحملوه من مؤن وحاجيات، صار بعضهم يعرض مواشيه وبضاعته للبيع وبأثمان بخسة، البقرة بتسعة دنانير والعجل بخمسة"[9]. ربما كانت تلك الحادثة هي ما أثار الرعب والخوف في القرية، كل من كانت عنده دابة ركبها، ومن لم يكن عنده ذهب راكضًا وتوجه إلى أهله في الحصاد ليخبرهم بأن عليهم العودة وفي الحال إلى القرية، ولم يكن هناك ما يكفي من الوقت ليخبرهم عن السبب.
"كان الناس غير مصدّقين لكلّ ما يحدث، تصريحات أحمد سعيد في الإذاعة جعلتنا نظن أنّ العرب منتصرون، تجوَّع يا سمك البحر، كانت إحدى عباراته. كنّا واهمين بأن الطائرات التي تمرّ من فوق القرية هي للعرب وأنها ذاهبة لقصف تل أبيب، لا ندري ما حدث، فجأةً تبين لنا كلّ شيء وظهرت الحقيقة"[10].
صبحي شحادة المصري يروي لنا اللحظات الأولى: "كل شيء حدث بسرعه، فجأة قالوا لنا بأن الجيش الإسرائيلي متمركز في الجهة الغربية للقرية، ركضتُ مسرعًا إلى منطقة الميشة بالقرب من مغارة شقبا لأخبر أمي ومن معها بأن اليهود قادمون وأن عليهم الحضور"[11].
جرّب الأهالي تلك الأحداث لمرتين سابقتين، أولاها في حرب 1948، والثانية عام 1953 يوم حدثت مذبحة قبيا، وفي هذه المرة تحتّم على الأهالي بأن يفعلوا الشيء ذاته الذي فعلوه في المرتين السابقتين. لم يكن بيد الأهالي من حيلة غير الرحيل، فهم ليسوا بقادرين على مواجهة القوات الإسرائيلية التي كوّنت تاريخًا مظلمًا في ذاكرتهم نظرًا لما ارتكبته من مجازر بحق جيرانهم في القرى المجاورة. على عجل وبشيء من الصخب، جهّز الأهالي أغراضهم، وحملوا ما استطاعوا أن يحملوه استعدادًا للرحيل.
رابعًا: القوات الإسرائيلية في أراضي القرية
في السادس من حزيران/ يونيو دخلت القوات الإسرائيلية إلى مشارف القرية دون حدوث أية مواجهة تذكر، باستثناء بعض المناوشات التي أطلقت فيها عدة عيارات نارية في المنطقة الغربية، وهي منطقة مزروعة بالزيتون تدعى حنونة، أصيب خلالها شاب من أفراد الحماية. تمركزت قوات الاحتلال على أطراف القرية هو ما دفع الناس إلى الرحيل، خرج معظم سكان شقبا وتوجّهوا إلى التخوم، البعض استقرّ في المغارات القريبة، عجّت مغارة "أبوسبله" شمال شرق القرية بالناس، توجه بعضهم إلى أبعد من ذلك، إلى منطقة تدعى "أرطبّة" على بعد 3 كلم شرق القرية بالقرب من وادي الناطوف، وهي المنطقة التي تجمّع فيها غالبية السكان، وفيها عين ماء تحيط بها المزروعات من كل جانب، وتمتلئ بمغارات للمبيت، كما توجّه البعض الآخر إلى المناطق المرتفعة المحيطة بالقرية ليراقب ما سيحدث، وفي ذلك اليوم خرج معظم السكان.
تروي لنا الحاجة سارة قصة خروجها مع أهلها عندما سمعوا بقدوم القوات الإسرائيلية: "كنّا بانتظار أخي وأمي اللذين كانا في الحصيدة، عندما وصلا سارعنا بالخروج، وعندما كنّا على حدود القرية التقينا بزوجة أبي حمد وكان معها أطفالها، كانت قد أكملت خبيزها عندما سمعت بأن اليهود قادمون، ومن شدة خوفها انطلقت مع أولادها إلى خارج القرية ونسيت أمر الخبز أو أي شيء آخر، لما التقينا بها كانت تتحسر لأنها نسيت أن تأتي بأي شيء ليأكله صغارها، ولحسن حظها فقد تطوعت امرأة أخرى وذهبت عوضًا عنها لإحضار الخبز رغم مخاطر الطريق"[12].
وكذلك يروي لنا عبد الوهاب ذياب قدح كيف كانت قصة خروجه مع أهله وقد كان في سِنّ التاسعة: "كان عندنا بغل، حملْنا عليه ما استطعنا من مؤن وأغطية وحتى الذهب الخاص بعمتي أم أحمد، وكذلك حملنا معنا بندقيةً، فربما نحتاجها، عمي عوده كان يقودنا، توجّهنا مباشرةً باتجاه الشرق، كنّا نقصد الأغوار ومن ثمّ الأردن، مشينا في طريق كانت قد أنشئت زمن الإنجليز تمرّ من قرية دير نظام إلى بيرزيت ومن ثم شرقًا، فجأةً وبينما كنا على مشارف قرية دير نظام حوالي 7 كم شرق قريتنا، لمحنا جيبات عسكريةً؛ جاءنا إحساس بأنها ليست عربية، لُذنا بالفرار، صاحوا علينا وأمرونا بالتوقف، فتابعنا المسير بعيدًا عنهم، لسوء الحظ لمحو البندقية (الخرطوش) وكانت موضوعة على ظهر البغل، حاولوا الإمساك به وحين لم يتمكنوا أطلقوا عليه النار وأخذوا البندقية، بعد ذلك بدأنا العودة إلى مكان الحادثة شيئًا فشيئًا، وبعد أن تأكّدنا من خلو المكان منهم توجّهنا إلى مكان البغل، ولحسن الحظ لم يتمكنوا من رؤية ذهبات عمتي أم أحمد"[13].
من مكث من أهالي القرية في "أرطبّة" استطاع أن يرى طائرات العدوّ وهي تقصف مقر دير قديس، وهو المقرّ الرئيسي للقوات الأردنية في منطقة قرى غرب رام الله والواقع على بعد 3 كم جنوب شقبا، وقد حدث هذا القصف في 7 حزيران/ يونيو، وكانت مهاجمة مقرّ دير قديس، حصن القوات الأردنية، على يد الطائرات الإسرائيلية، ومن ثمّ استيلاء قوات الاحتلال عليه في اليوم المذكور، وهو فارغ من أيّ قوات عربية؛ بمثابة الهزيمة الكاملة للعرب في نظر السكان.
في تلك الأثناء حاول عامل الهاتف في القرية الاتصال بمركز دير قديس، حيث موقع بدّالة القرية، فوجئ بمجندة إسرائيلية تردّ عليه وتخبره بأنك وصلت إلى قيادة الجيش العراقي. كانت تلك الحادثة سببًا في خروج من بقي في القرية. وقف الناس عاجزين عن تصديق ما حصل، وانقلبت الموازين بسرعة من وعود بالنصر، وبأن القوات العربية ستسحق "إسرائيل"، إلى هزيمة نكراء، وفي غضون ساعات قليلة أصبح سكان القرية خارج منازلهم مشتتين في المغارات والجبال.
يروي لنا محمد شلش، وكان آنذاك فتى في مقتبل العمر، أنه مكث مع عائلته في منطقة مطلة على أطراف القرية: "دخلت القوات الإسرائيلية إلى القرية بسبع آليات نصف مجنزرة، أطلقت بالتحديد تسع رصاصات، توجهت بعدها إلى قرية عابود المجاورة بعد أن لم تواجه بأية قوة عربية داخل القرية"[14]. كان أفراد الحماية قد أخفوا أسلحتهم قبل مجيء القوات الإسرائيلية، وجرى ذلك بطلب من أهاليهم الذين حضّوهم على عدم المواجهة، وأقنعوهم بأنهم غير قادرين على مواجهة قوّة سلاح الطيران الإسرائيلي بعد أن رأوا قصفه لمقر دير قديس، وقد كانت القرية مهددةً بهجمة جوية وقصف مدفعي إن حدثت فيها أية مواجهة للجيش الإسرائيلي.
كانت أكثر كلمة معبّرة عما حصل هي كلمات الحاج محمد على لسان زوجته صبيحة إبراهيم شلش: أخذوها من المي إلى المي".
مكث الأهالي على تخوم القرية ليلتين، اعتاشوا في تلك الأثناء على بعض المؤن التي كانوا قد جلبوها معهم، وكذلك على بعض المزروعات حول عيون الماء، نامت عوائل بأكملها أطفالًا ونساءً داخل المغارات، أما الرجال فناموا خارجًا في العراء، بقي في القرية عدد قليل من الناس، منهم من كان قد سئم الهروب واللجوء، والبعض الآخر خاف على غلاله ومواشيه من السرقة.
صورة قديمة لجانب من قرية شقبا
خامسًا: القوات الإسرائيلية تطلب الاستسلام من الأهالي
بعد انتهاء الحرب و"إتمام المهمة"، طلبت قوات الاحتلال من السكان عبر الإذاعات أن يعلنوا استسلامهم، وأن يرفعوا الرايات البيضاء كي لا تمسهم قوات الجيش بسوء، سمع أهالي القرية هذا الإعلان عبر المذياع وتوجّهوا صوب القرية وفي نفوسهم الريبة والشك مما سيحصل، كانت كل مجموعة توكّل أحدًا من أفرادها بأن يحمل قطعة قماش بيضاء على عصا أو أي شيء متوفر. عند وصولهم، لم يكن على الأرض ما يوحي بأن شيئًا قد حدث، فلا أثر للعدوّ ولا أثر للمعركة، تفاجأ البعض بأن غلاله ومواشيه قد سرقت، دون ذلك، لم يكن هناك تغيّر ينبئ عن المعركة والزمن الجديد القادم.
في تلك اللحظة كان خافيًا عن الأهالي مدى التغيير التي ستحدثه هذه الحرب، كان وجه البلد قد تغيّر منذ تلك اللحظة، لم يعلم الأهالي بأنهم أصبحوا يعيشون تحت احتلال، أو أنهم من الآن فصاعدًا سيخضعون لقوانين الحاكم العسكري الإسرائيلي، فما مدى التغيّر الذي سيلمسونه بعد خروج القوات الأردنية وحلول القوات الإسرائيلية محلها؟
شقبا تحت الاحتلال الاسرائيلي
عاشت القرية حِقَبًا متتاليةً من هيمنة القوى "الأجنبية" في القرن العشرين، الحكم العثماني في أيامه الأخيرة، والذي ووجه بقدر من رفض الأهالي نظرًا لتعسف الأتراك في جباية الضرائب، ولأن الحامية التركية المرابطة بالقرب من القرية كانت تقاسم بعض الناس في مصادر عيشهم خصوصًا بعد ضعف الإمدادات. أما الانتداب البريطاني فقد جمع القسوة إلى السلطة الأجنبية، عمليات دهم وتفتيش مفاجئ للبيوت بحثًا عن الثوار، حيث كان حسن سلامه يمكث في القرية باستمرار برفقة أتباعه من أبناء البلد.
أولاً: أول لقاء لقوات الاحتلال مع الأهالي
في يوم الجمعة التاسع من حزيران/ يونيو جاءت قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى القرية وطلبوا لقاء المخاتير (كان لكل حمولة مختار)، بعضهم لم يكن قد رجع إلى القرية والبعض الآخر رفض مقابلتهم، تمكّنوا أخيرًا من مقابلة المختار عيسى حسين مختار حمولة المصري، أعطوه بعض التطمينات بأنهم لن يتعرّضوا للقرية ما دامت مسالمةً وتسير وفق "القانون"، بعدها عرضوا عليه قائمة بالأسلحة الموجودة في القرية وهي الأسلحة نفسها التي وزّعتها القوات الأردنية داخل القرية، ولا يدري أحد من أين حصلوا على تلك القائمة، وعلى أية حال فقد طلبوا من المختار بأن يساعدهم في جمعها، وقد حدث ذلك فعلًا، حتى أنهم صادروا أسلحةً فرديةً أخرى امتلك أصحابها تراخيص لحملها زمن الأردنيين. أخبر الضابط الإسرائيلي المختار أنه بإمكان السكان أن يتعاملوا بالليرة الإسرائيلية بدلًا من الدينار الأردني، وأن سعر الصرف الدينار هو ثماني ليرات إسرائيلية[15].
في العاشر من حزيران/ يونيو كان كل سكان القرية قد عادوا واستقرّوا في منازلهم، ولكن هذا الاستقرار كان يكتنفه الشكّ والتخوف، إذ إنّ ماضي القوات الصهيونية في نظر أبناء القرية كان يلفّه السواد، فمن مذابح نكبة 1948م وخصوصًا في قرية "الحديثة" المجاورة، إلى مذبحة قبيا القريبة سنة1953م، كل تلك الذكريات التي أختزنها أهل القرية ولّدت لديهم شعورًا بعدم الارتياح، وبالأخصّ أنهم أصبحوا تحت حكم القوات التي مارست القتل والترهيب بحق جيرانهم، رفع بعض الأهالي الرايات البيض فوق بيوتهم خوفًا من قوات الاحتلال، والبعض الآخر رفع الراية السوداء حسرةً وألمًا على ما ضاع، والبعض رفع الاثنتين معا.
في اليوم نفسه جاءت قوة صهيونية إلى القرية من جهة قرية عابود إلى الشمال الشرقي من القرية، وأعلنت منع التجوّل، بعد أن طلبت من جميع الرجال وكذلك الصبيان البالغين التجمّع في ساحة المدرسة، بالطبع أثارت هذه الحادثة الرعب في أرجاء القرية، إذ خاف الأهالي بأن تنفّذ هذه القوات إعدامات جماعيةً، وبعدها نفّذ جنود الاحتلال عمليات تفتيش ودهمٍ للمنازل والبقّالات، كانت تلك الحادثة تجسيدًا لصورة المحتلّ الذي يداهم ويفرض حظر التجوال ويثير بالتالي الرعب والفزع في أوساط السكان. في ساحة المدرسة استُجوب بعض الرجال وحُقق معهم، وقد استخدم منزل "أبو الزعرورة" مركزًا للتحقيق والحجز المؤقت، وكان الجيش يهدف من وراء تلك العملية إلى "تنظيف" القرية من الأسلحة، وكذلك التأكّد بأنه ليس في القرية أيّ تنظيمات "معادية لهم"[16].
صورة قديمة لمغارة شقبا
ثانيًا: بداية النزوح
أولى العائلات التي بدأت بالنزوح عن القرية؛ كانت تلك التي تربطها علاقات مع الخارج، منها مثلًا أنّ بعض النساء كان لهنّ أزواج يعملون في الكويت منذ الخمسينيات، فطلب الأزواج منهنّ اللحاق بهم، آخرون كانوا يمتلكون بعض الأعمال في الأردن، وفي مدينة الزرقاء تحديدًا، فوجدوا قاعدةً لهم هناك، وكان من السهل عليهم الانتقال والاستقرار، وكذلك الطلاب الذين أرادوا إكمال تعليمهم الجامعي فأعطتهم الحرب دافعًا أقوى لإكمال تعليمهم في الخارج، وأخيرًا عائلات عناصر الجيش الأردني الذين خافوا على أنفسهم من بطش القوات الإسرائيلية[17].
ومما ساهم في ترحيل نسبة كبيرة من السكان الشائعات التي أطلقها بعض المدسوسين أو المنتفعين من رحيل السكان، فقد أطلقوا شائعاتهم التي تحضّ السكان على الرحيل، وبأن مكوثهم في القرية سيعرض حياتهم للخطر، وبذلك بدأت موجة النزوح في القرية بالمئات وقدرت بحوالي 50%-60% من إجماليّ عدد السكان، توجهت الغالبية العظمى منهم إلى الكويت وإلى مدينة الزرقاء الأردنية.
ثانيًا: الوجه الجديد للقرية بعد الحرب
أصبحت قوات الاحتلال تأتي إلى القرية باستمرار، بجيباتها العسكرية غالبًا، وبدوريات راجلة في بعض الأحيان، كانوا يهدفون من ذلك إلى: الاطمئنان على استتباب الأمن وعدم وجود حالات مقاومة لهم، وإلى التعرف على جغرافية القرية والمنطقة عمومًا، فوضعوا علاماتٍ حول المغارات والآبار لينفّذوا بعض المخطّطات عليها فيما بعد. الغريب في كلّ ذلك أنّ معاملتهم مع السكان بعد ضمان سيطرتهم عليهم لم تكن ظاهريًا بالسيئة، وربما يعود ذلك إلى السياسة التي خطّط لها وأقرّها موشي ديان، وهي سياسة تضييق الخناق دون أن يلاحظ الرأي العام والإعلام الدولي هذا التضييق.[18]
مورست سياسة فرض منع التجوال على القرية في كثير من الأيام، وكانت تمتد من 4 صباحًا وحتى 7 مساءً، واستمرّ هذا المنع المتقطع لأشهر بعد الحرب، كانت قوات راجلة من حرس الحدود الإسرائيلي تتجوّل في القرية لضمان سريان هذا المنع، وقد كانت هذه الوسيلة من أبرز الوسائل التي استخدمها جيش الاحتلال، بالإضافة إلى الدهم والتفتيش، لدفع الناس إلى الهجرة.
السكان والأوضاع الاقتصادية
كان عدد سكان القرية يُقدّر قبل الحرب بحوالي 1800 نسمة، أمّا بعد الخامس عشر من حزيران/ يونيو فقُدّر بنحو 950 نسمة، أي أنّ العدد هوى إلى النصف. روى لنا سعيد طه حواس عن ذلك: "أصبحت القرية شبه خاوية، تمرّ في الطرقات فلا تجد أحدًا، غادر البعض، والبعض الآخر ما زال حتى تلك اللحظة خائفًا أو مصدومًا من هول ما حدث"[19].
بعد أن خلت العديد من منازل القرية من ساكنيها، أحصتها سلطات الاحتلال وأضافتها إلى سجل أملاك الغائبين في "بيت إيل"، ومن هذه المنازل منزل محمد عبدالسلام شلش، ومنزل أحمد محمد سويلم. وحتى وقت قريب ظلّ ساكنو هذه المنازل يدفعون إيجارها لسلطات الاحتلال في "بيت إيل".
أثّر ذلك بشكل كبير على النشاط التجاري والزراعي في القرية، وحدث ما يمكن وصفه بركود اقتصادي عطّل مناحي الحياة كافةً، استمر هذا الحال لعدة أشهر، وما زاد من حدّة الأمر هو أن القرى المجاورة تعرّضت بالوتيرة نفسها أو أشدّ، لعملية "تهجير" سكانيّ، وهذا أدّى إلى شلل في التبادل التجاري المعهود بين تلك القرى، وبذلك يمكن أن يُضاف عامل سوء الأحوال الاقتصادية إلى مجمل العوامل التي دفعت السكان إلى الهجرة.
أوضاع الصحة والتعليم في القرية
كانت المدارس في القرية حديثة العهد، جرى إنشاؤها وتطويرها زمن الأردنيين، كان الصفّ يضم أعمارًا متفاوتةً، وسبب ذلك أنه حينما افتتح الصف الأول التحق به بالإضافة إلى من هم في سن السادسة، الأطفال الأكبر سنًا ممن لم تسمح الظروف بالتحاقهم بالتعليم سابقًا، أو لأنّ مدارس القرية لم تكن قد شُيّدت في عهد بلوغهم السادسة بعد، كان الحدّ الأعلى للتعليم في القرية هو الصفّ السادس، وبعدها يستكمل الطالب تعليمه في قرى مجاورة حتى المرحلة الإعدادية، ومن ثم إلى رام الله في المرحلة الثانوية.
"كنا في الصف السادس 17 طالبًا، في السنة الدراسية الجديدة لم نتجاوز 7 طلاب"[20]. هكذا يصف لنا محمد شلش حال المدارس بعد الاحتلال، فمع الهجرة التي قلّصت عدد الطلاب، دفعت بعض العائلات أولادها إلى ترك المدارس خوفًا من أن يعلّمهم اليهود اللغة أو الثقافة العبرية. وفي مدرسة الطالبات اعتُمد بشكل كبير على المعلمات القادمات من عمان، كما طلب من طالبات الصفوف الأكبر سنًا تعليم الطالبات الأصغر، لسدّ النقص في عدد المعلمات.
"كنا في الصف الرابع 36 طالبةً من أعمار متفاوتة، في السنة الدراسية الجديدة لم نتجاوز الخمس طالبات"[21]
يلاحظ أنّ عدد الطلاب في القرية قد هوى بشكل كبير للغاية، خصوصًا في مدرسة الإناث، وهذا يعود بالطبع إلى هجرة بعض الطلاب برفقة أهاليهم، كذلك عدم اهتمام الناس بالتعليم في ذلك الوقت بسبب عملهم واهتمامهم بالأرض أكثر من أيّ شيء آخر، يضاف إلى ذلك الزواج المبكر فيما يخص الفتيات بالتحديد. وقد شاركت مدارس القرية في الإضرابات التي عمّت مدارس القرى والمدن الأخرى، بعد قرارات الحاكم العسكري بتغيير أجزاء كبيرة من المنهاج الأردني.
بعد مذبحة قبيا سنة 1953 أو ما عرف بعام "الهدمة" أقام الاتحاد اللوثري العالمي عيادات في شقبا وعددٍ من القرى المجاورة، وكان الاتحاد يقدم خدمات صحيةً شبه مجانية. وبعد احتلال 1967 استمرّ بتقديم خدماته كالمعتاد، بل استُحدث تطوير بإضافة عياداتٍ بتخصصات أكثر تنوعًا، وبقي الأهالي يعتمدون على خدمات العيادات بشكل كبير، إلا في بعض الحالات الطارئة التي تتطلب الذهاب الى مستشفيات القدس ورام الله.
التغيّرات في أنماط العمل والمعيشة
شهدت القرية بعد هدوء الأوضاع تغيراتٍ اجتماعيةً شملت نواحٍ عديدةً، كانت هذه التغيرات أيضا قد حدثت في باقي القرى والمدن الفلسطينية، كان من أهمها: تراجع الاهتمام بالزراعة[22] مصدرًا رئيسيًا للعيش، إذ إنه في السنة التالية للنكسة (1968) كانت بعض الأيدي العاملة الفلسطينية قد توجّهت للعمل داخل "الخط الأخضر"، في أعمال البناء وفي المصانع والبلديات. لم تكن الزراعة في ذلك الحين توفّر للمزارعين أكثر من طعامهم وشيء يسير لا يلبي احتياجاتهم اليومية، بل لم يكن التعامل بالنقود منتشرًا على نطاق واسع، وظلّت "المقايضة" لسنوات طويلة من تلك الحقبة هي السائدة في التعامل بين الناس، فمثلًا كان حلاق القرية في معظم الأحيان يتقاضى مقدارًا من البيض أو القمح مقابل عمله. أمّا العمل داخل "الخط الأخضر" فوفّر للأهالي أعمالًا أكثر سهولةً، وأجورًا أكبر وسيولةً نقديةً طمحَ لها الناس في ذلك الوقت ليسهلوا حياتهم.
شجّع الاحتلال الأهالي للعمل داخل "الخط الأخضر"، حتى أنّ سيارة "الليشكة" (مكتب العمل) الإسرائيلية كانت تأتي إلى القرية صباحًا لتقلّ العمال وتعيدهم في المساء، إذ كانت هناك حاجة إسرائيلية ماسّة للعامل الفلسطيني نظرًا لأعمال التطوير والبناء الهائلة التي حدثت بعد الحرب مباشرةً، بسبب حالة الاستقرار التي تمتّع بها كيان الاحتلال، ونتيجة لذلك تزايدت أعداد المهاجرين والوافدين إلى "إسرائيل". ومن جهة ثانية كانت هناك سياسة مخطّطة ومدروسة عمادها دمج جزئيّ للسكان، أو بالأحرى عملية تدجين للسكان، فالاحتلال لم يتمكّن من الحصول على الأرض فقط، بل وقع على عاتقه أيضًا أكثر من مليون فلسطيني في الضفة وقطاع غزة، كان عليه أن يتولّى إدارة احتياجاتهم الأساسية، والشروع في رؤية تقوم على تحييد أكبر قدر منهم عن مقاومته، وإلحاقهم بالاقتصاد الإسرائيلي كان جزءًا من هذه الرؤية.
يروي لنا الحاجّ أحمد أن الفقر والعوز هما ما دفع السكان إلى العمل في الداخل المحتل، فضلًا عن مغريات العمل التي كان يقدّمها المقاولون الإسرائيليون. في البداية لم يتقبّل الأهالي ذلك ولكن مع مرور الوقت ومع ازدياد الوضع الاقتصادي سوءًا، أصبح العمل داخل "الخط الأخضر" مطلوبًا ومستساغًا لدى أوساط واسعة[23].
نستنتج مما سبق أن الاراضي الزراعية أُهملت، في مقابل بداية تحسّنٍ للأوضاع الاقتصادية، وقد نتج عن الوضع الاقتصادي الجديد تغيير في أنماط المعيشة المعتادة، كدخول أنواع جديدة من الطعام والشراب إلى القرية، وتبدّل أثاث المنازل، فمثلًا كان هناك ما يعرف "بالنملية" أو الصندوق لوضع الملابس، لتحل محلّها الخزانة المتعارف عليها حاليًا. ثم حدث تغيّر كلّي في طرق البناء، فبعد الطريقة التقليدية في البناء، والتي اعتمدت بشكل أساسي على الحجارة والطين المخلوط بالتبن و"الشيد"[24] والتي امتدّ تاريخها لمئات السنين، أصبح الناس يستخدمون الإسمنت والطوب والحديد في عملية البناء.
التعليم في القرية ضَعُفَ كثيرًا بعد أن كان يسير إلى التحسن زمن الحكم الأردني، كانت ممارسات التضييق الاحتلالية سببًا في ذلك، ومن ذلك التضييق على المعلمين، والتدخل في مضامين المناهج. كما أنّ تحول الناس إلى العمل داخل "الخط الأخضر" كان من الأسباب المهمة لتراجع التعليم؛ ذلك أن الحصول على أجر أكبر أفقد الناس ثقتهم بالتعليم، إذا ما قارنا الأجر الذي يتقاضاه العامل بالذي يتقاضاه المعلم.
فيما يتعلق بالعادات والتقاليد في القرية فإنه لم يحدث فيها تغيّر جوهري، عادةُ "العونة" مثلًا بقيت كما هي، لكنها انتقلت من الزراعة إلى عملية البناء، كان معظم رجال القرية يشاركون بعضهم البعض في عملية بناء البيوت، وبالأخصّ الأجزاء التي تتطلب جهدًا كبيرًا مثل "العقدة" أي بناء السقف. أما عادة الزواج المبكر وتعدد الزوجات فقلّت تدريجيًا، إذ كان من دوافعها سابقًا إنجاب أبناء أكثر لتوفير الأيدي العاملة، وهو المنطق الذي تبدّل في أذهان الناس.
بشكل عام يجمع الكثيرون أن العشرين سنةً التي تلت الحرب (1967- 1987) يمكن وصفها بفترة الهدوء النسبي في العلاقات بين الطرف الفلسطيني ومحتله الإسرائيلي، حدثت خلالها علاقات خاصة بين أفراد من الطرفين وصلت إلى تبادل الزيارات، ولكن هذه العلاقات كانت آنيّة انتهت بانتهاء مصلحة أحد الطرفين مع الآخر. وكذلك يجمع الكثيرون أن سياسة التدجين والدمج الجزئي التي طبقها الحاكم العسكري الإسرائيلي في القرية وغيرها من مناطق فلسطين قد فشلت بشكل مطلق، وكانت انتفاضة العام 1987 خير دليل على ذلك، إذ قام الفلسطينيون ورفضوا سياسة التدجين وسياسة التمييز العنصري المعلنة والواضحة.
[1] مقابلة أجريت مع صبيحة إبراهيم شلش بتاريخ 7|11|2012 الساعة 8:30م
[2] صايغ، روزماري. الفلاحون الفلسطينيون من الاقتلاع الى الثورة. ترجمة خالد عايد، القدس: منشورات صلاح الدين، 1980.
ص11
[3] مقابلة مع محمد أحمد مصطفى شلش بتاريخ22|11|2012 الساعة 6:30م
[4] مقابلة مع سعيد طه حواس بتاريخ 13|12|2012 الساعة 4:50م
[5] مقابلة مع محمد شلش. مصدر سبق ذكره
[6] محمد شلش. مصدر سبق ذكره
[7] مقابلة مع بشير عطالله ثابت 13|12|2012 الساعة 3:51م
[8] المصدر نفسه
[9] مقابلة مع ساره علي إبراهيم 14|11|2012 الساعة 9:00م
[10] مقابلة مع بشير عطالله ثابت. مصدر سبق ذكره
[11] مقابلة مع صبحي شحادة المصري بتاريخ 13|12|2012 الساعة 6:45م
[12] مقابلة سارة علي إبراهيم. مصدر سبق ذكره
[13] مقابلة مع عبدالوهاب ذياب قدح 12|12|2012 الساعة 5:40م
[14] مقابلة مع محمد شلش. مصدر سبق ذكره
[15] مقابله مع محمد شلش. مصدر سبق ذكره
[16] مقابلة مع صبحي المصري. مصدر سبق ذكره
[17] مقابلة مع محمد حسن نمر المصري 18|11|2012 الساعة 8:34م
[18]
[19] مقابلة مع سعيد طه حواس 13|12|2012 الساعة 4:50م
[20] مقابلة مع محمد شلش. مصدر سبق ذكره
[21] مقابلة مع ساره علي شلش. مصدر سبق ذكره
[22] هناك أراض عديدة في القرية لم تزرع منذ العام 1967 وإلى الآن، باستثناء القليل الذي جرى إصلاحه وزراعته مؤخرًا.
[23] مقابلة مع احمد محمد عبدالله ثابت بتاريخ 24|11|22012 الساعة 1:34م
[24] عبارة عن رماد الصخور التي تحرق بدرجة حرارة مرتفعة في مكان خاص يعرف ب "اللتّون" وهو عبارة عن حفرة كبيرة كان يتم ملؤها بالحطب ومن ثم بالصخور لتجري بعدها عملية الحرق.