شهيدان وأسير محرر: القصة الكاملة لأطباء يلاحقهم الاحتلال

شهيدان وأسير محرر: القصة الكاملة لأطباء يلاحقهم الاحتلال
تحميل المادة

على سبيل التقديم

الطبيب في غزة لا يؤدي دوره الوظيفي، بمعنى مهنته، ومهماته، باعتباره طبيبًا يعالج الناس أو يناوب مراقبًا المرضى. فالأطباء منذ بدء حرب الإبادة على غزة، ومن أبرزهم عدنان البرش، وأدهم أبو سلمية، وإياد الرنتيسي، وغيرهم من رؤساء المستشفيات والأقسام، عرفناهم طيلة فترة الحرب وشاهدناهم في غرف الطوارئ، وأروقة المباني، أو نائمين منهكين من التعب على أرضيات المشافي، وحول البيوت المقصوفة، وأمام شاشات التلفاز، أو وهم يأمّون الصلاة على الشهداء، وبين الجموع العارية التي تتعرض للضرب والتعذيب في السجون الإسرائيلية، أو شهداء بعد قتل مباشر أو اغتيال جبان.

 يتجاوز هؤلاء الأطباء دورهم الوظيفي أو الاشتغالات المهنية منذ بدء حرب الإبادة، وقد تغير شكل ارتباطهم بالناس والأرض وكل عناصر البيئة المحيطة في الحرب. فهم لا يعالجون الناس بما أوتوا من موارد طبية فحسب، وإنما يخاطبون العالم أجمع باسم الناس، وقد أوكلوا بمهمة الحفاظ على حياة أهل غزة جميعًا: الحوامل، ومرضى السرطان، والكلى، وكبار السن والأطفال، والجرحى الذي تجاوز عددهم مئات الآلاف.

تكيف دور هؤلاء الأطباء مع ندرة الموارد والأجهزة إلى حد انهيار المنظومة الصحية ولكنهم ظلوا سدًا منيعًا يحمي الناس ويتحدث باسمهم، ويُسمِع الرسائل بصوت عال، لطالما بكوا أمام شاشات التلفزة العالمة، لطالما خاطبوا العالم أجمع، وتواصلوا مع المؤسسات الحقوقية، هؤلاء لم ينادوا بأصواتهم وشهاداتهم الطبية، بل نادوا بأعماق أرواحهم ودمائهم.

ولهذا فاستهداف "إسرائيل" هؤلاء الأطباء بنحو مباشر، أطباء بأعيانهم، بأسمائهم، ومن أماكن وجودهم، وقتلهم؛ لا يعني فقط قتل المدنيين، وإنما إعدام أسباب عيشهم، أو شروط حياتهم، وهو ليس قتلاً مباشرًا فقط وإنما قتل ما يمكن أن يمدد آجال حياتهم، فالاحتلال عندما يهدم مؤسسة صحية، مستشفى، عيادة، مبنى صحيًا، أو يقتل طبيبًا أو ممرضًا، فهو يمنع سبب حياة آخرين، الآلاف منهم، والأمر ينطبق على استهداف أرحام النساء وإعدام خصوبتهن، فهو إن قتل امرأة فلا يقتلها وحدها فحسب وإنما يقتل جيل أبنائها وأحفادها.

في هذا التقرير نُسلط الضوء على القصة الكاملة لملاحقة الاحتلال الإسرائيلي لثلاثة من أبرز أطباء غزة، والتي انتهت باستشهاد اثنين منهم تحت التعذيب في المعتقلات، فيما تحرر الأخير بقرار خاطئ من الأجهزة الأمنية في دولة الاحتلال الإسرائيلي.

هيئة التحرير

الطبيب الشهيد عدنان البُرش

الطبيب الشهيد عدنان البُرش

عدنان أحمد عطية البرش [17 أيلول/ سبتمبر 1974 - 19 نيسان/ أبريل 2024]: جراح عظام فلسطيني، واستشاري، ورئيس قسم العظام في مجمع الشفاء الطبي، ورئيس الدائرة الطبية في الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم. ولد في جباليا، شمالي قطاع غزة، وحصل على شهادة الثانوية العامة من مدرسة حليمة السعدية في غزة، ثم سافر إلى رومانيا حيث نال شهادة البكالوريوس في الطب من جامعة يانش.

وبعد عودته إلى أرض الوطن، أكمل البرش تعليمه متخصصًا بجراحة العظام والمفاصل، وحصل على بورد الطب الأردني من المجلس الطبي الأردني، وهو عضو لجنة البورد في المجلس الطبي الفلسطيني، كما نال الزمالة البريطانية في جراحة الكسور المُعقّدة من كلّية كينغز لندن، كما حصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة الأزهر في غزة، وبنى سمعة كبيرة في الوطن العربي، وتولى رئاسة قسم العظام في مستشفى الشفاء منذ العام 2010، وظل أحد أعمدته الطبية.

في حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة؛ ظل البرش مصرًا على استكمال العمل، عمل في المستشفى الإندونيسي، شمالي القطاع، وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، انتشر مقطع فيديو يوثق لحظة إصابته أثناء إجرائه عملية جراحية، وشوهد غارقًا في دمائه بعد إصابته جرّاء قصف إسرائيلي استهدف المستشفى، وجرت عملية علاجه وسط الظلام جراء انقطاع الكهرباء.

ثم دخلت قوات الاحتلال المستشفى وأجبرت من فيه على إخلائه بالقوة، بعد ذلك، انتقل إلى مستشفى كمال عدوان للعمل، ثم عمل في مستشفى العودة في بيت لاهيا، إلى أن اقتحمت القوات الإسرائيلية هذا المستشفى أيضًا.

استشهاد داخل السجون: في كانون الأول/ ديسمبر 2023 اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي رئيس قسم جراحة العظام في مجمع الشفاء الطبي الدكتور عدنان البرش إلى جانب مجموعة من زملائه العاملين في القطاع الصحي من مستشفى العودة شماليّ قطاع غزة، وبدلًا من التنقل بين غرف المرضى والجرحى كما اعتاد خلال مسيرته المهنية، صار يُنقَل من معتقل إسرائيلي إلى آخر لعدة أشهر، قبل أن يستشهد تحت التعذيب في معتقل عوفر في 19 نيسان/ أبريل من العام الجاري، ولا يزال جثمانه محتجزًا عند سلطات الاحتلال حتى اللحظة.

يقول الدكتور منير البرش مدير عام وزارة الصحة وابن عم الدكتور عدنان والذي كان موجودًا معه لحظة اعتقاله: "كنا نتواصل مع مراكز حقوق الإنسان والمحامين الذين وكلناهم ليأتونا بخبر عنه فجاءوا لنا بخبره كما يُقال" ويضيف: "للأسف الشديد كانت قوات الاحتلال تمنع أي شكل من أشكال التواصل مع الدكتور عدنان، كما يمنع الاتصال بجميع المعتقلين. ولم يسمح لهم بمقابلة المحامين أو الصليب الأحمر".

وتابع: "خمسة شهور من التعذيب والتحقيق، ولا نعلم عنه شيئًا، إلا من خلال بعض الذين خرجوا من الاعتقال وأخبرونا أن الدكتور عدنان لم يخرج من التحقيق". وواصل: "لو أخذ منه المحققون ما يريدون، لكان قد أُطلق سراحه، لكن عدنان شخص عنيد في الحق، وهذا هو عهدنا به وبرجولته وبصموده، لذلك قتلوه".

وعن لحظة اعتقال الدكتور عدنان البرش، يقول الدكتور منير الذي كان موجودًا معه في هذه اللحظات: "حوصر في المستشفى الإندونيسي لكنه تمكن من الخروج يوم الهدنة، وبقي على رأس عمله حتى اللحظة الأخيرة، ثم انتقل إلى مستشفى كمال عدوان للعمل، ثم إلى مستشفى العودة، ليحاصر ويعتقل هناك".

وأضاف: "كان الجيش الإسرائيلي يصرخ بأعلى صوته من أمام المستشفى، إذا لم تنزل، سوف نهدم المستشفى على رأسك". وأوضح الطبيب منير أن: "عدنان البرش هو الطبيب الوحيد الذي بقي في التحقيق كل هذه المدة، وهذا يدل على أنه كان تحت التعذيب طيلة هذه الفترة. كان هناك تركيز عليه من بين الأطباء، بسبب تهديد الجيش الإسرائيلي له لأكثر من مرة، وكأنه مطلوب بشكل مباشر". ويتابع قائلا: "آخر كلماته كانت أن أوصانا بعائلته وأولاده وزوجته، لأن منزلهم هدم إثر القصف، وعائلته الآن تُقيم في إحدى المدارس".

طبيب الفقراء: ياسمين البرش، زوجة الدكتور عدنان، قالت للأناضول: "زوجي، بعد تخرجه، جاء ليتفرغ لخدمة المرضى والجرحى ويبدع في إجراء العمليات لهم، رغم نقص الإمكانيات الطبية في قطاع غزة، كان همّ زوجي إنقاذ المرضى والجرحى، وكان يجري عمليات في العظام لذوي الحالات الإنسانية بشكل مجاني".

وأوضحت ياسمين، أنه في اللحظات الأولى من الحرب، استيقظ زوجها على صوت الصواريخ، وتوجه على الفور إلى المستشفى لإنقاذ الجرحى دون أي تفكير، حيث كان يعمل لساعات طويلة دون توقف".

بدوره، قال عوني البرش، شقيق الطبيب في مقابلة أجرتها معه وكالة الأناضول التركية: "تأثر الجميع باستشهاد الدكتور عدنان الذي كان يعالج الجميع، فقيرًا وغنيًا، ويداوي جميع أفراد شعبه، تم اعتقال شقيقي وهو على رأس عمله، طبيبًا يحظى بالاحترام والثقة. ورغم محاصرته بالعديد من المستشفيات خلال التوغل البري الإسرائيلي للقطاع، لم يتوقف عدنان عن مزاولة عمله وممارسته بكل مهنية، شقيقي تعرض لتعذيب كبير داخل سجون إسرائيل، وقتل بدم بارد داخل المعتقلات".

ومن المشاهد المؤثرة التي شاهدناها، ابنته الصغيرة التي قالت ببراءة: "كان نفسي بابا يطلع والله اشتقت له كثير، والله كان يجبلي إلي بدي ياه، الله يرحمه استشهد، كنت أحبه كتير. عملي عيد ميلاد ما أحلاه جبلي هدية ما أحلاها حلق ذهب، كنت محضرة رسالة عشان أعطيها له بس استشهد الله يرحمه، اليهود حرموني أحكي كلمة بابا".

نفت زوجة الطبيب أن يكون لزوجها أي علاقة بأعمال عسكرية، مؤكدة أنه "طبيب يعالج المرضى الأبرياء". وطالبت ياسمين، المجتمع الدولي ومؤسسات حقوق الإنسان ومحكمة الجنايات الدولية بالتحقيق في استشهاد زوجها والتعذيب الذي يتعرض له الأسرى الفلسطينيون داخل السجون الإسرائيلية. ودعت إلى تسهيل استلام جثمان زوجها، لتُلقي عليه النظرة الأخيرة، وليدفن في شمال قطاع غزة.

اغتصاب حتى الموت: في شهادة الدكتور خالد حمود، حول ظروف اعتقال واستشهاد الطبيب البُرش، وهو سجين سابق أيضًا في قاعدة "سيدي تيمان" أن العديد من السجناء في القاعدة هم من الأطباء المتخصصين؛ مشيرًا إلى أن القاعدة التي احتجز فيها، كانت تضم حوالي 100 سجين، ربعهم على الأقل يعملون في مجال الرعاية الصحية.

ويضيف: "طُلب مني إحضار الدكتور البرش عند البوابة، وعندما أحضرته قال زميله؛ إنه تعرض للضرب المبرح، وكان يشعر بألم في جميع أنحاء جسده، وعلى الأرجح كان الدكتور مصابًا بكسور في الأضلاع، ولم يكن قادرًا حتى على الذهاب إلى الحمام بمفرده".

في 14 تشرين الأول/ نوفمبر الجاري نشرت شبكة سكاي نيوز البريطانية تقريرًا تحاول من خلاله الكشف عن تفاصيل الفترة الأخيرة في حياة الطبيب عدنان البرش في سجون الاحتلال، واعتمد التقرير على إفادة أدلى بها أحد الأسرى الذي كان يعرف الدكتور البرش لمحامين من منظمة "هموكيد" الإسرائيلية لحقوق الإنسان حيث قال: "وصل الدكتور عدنان البرش إلى القسم 23 في سجن عوفر في منتصف نيسان/ أبريل 2024 في حالة يرثى لها، وكان من الواضح أنه تعرض للاعتداء، إذ كانت على جسده إصابات، وكان عاريًا من الجزء السفلي.

وأضاف الأسير السابق في شهادته بأن حراس السجن ألقوا الدكتور وسط الساحة وتركوه هناك، ولم يكن قادرًا على الوقوف، فساعده أحد السجناء ورافقه إلى إحدى الغرف، وبعد بضع دقائق، سمع صراخ السجناء من الغرفة، معلنين أن الدكتور عدنان البرش قد استشهد. أثار هذا التقرير ضجة واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك لأنّ تفاصيل التقرير تشير ضمنيًا لتعرض الطبيب إلى الاغتصاب قبل استشهاده.

وفي ذات السياق؛ قالت المقررة الخاصة للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيسي، في تغريدة نشرتها على حسابها في موقع التواصل الاجتماعي (X) : "طبيب، جراح بارع، تجسيد للأخلاق الفلسطينية، من المرجح أنه اغتصب حتى الموت".

وأضافت: "إن عنصرية وسائل الإعلام الغربية التي لا تغطي هذه القضية، وكذلك السياسيون الغربيون الذين لا يدينونها، رغم وجود الآلاف من الشهادات والاتهامات الأخرى بالاغتصاب وغيره من أشكال سوء المعاملة والتعذيب التي عانى منها الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية، أمر مثير للاشمئزاز بشكل مطلق".

إدانة عالمية: علّق الكاتب البريطاني أوين جونز قائلًا: "هناك الآن أدلة دامغة على اغتصاب الفلسطينيين من قبل الجيش الإسرائيلي. وحقيقة أن هذا الأمر حينما لا يهتم له ولا يعتبر جديرًا بالنشر، فإنما يؤكد العنصرية المعادية للعرب، فمزاعم الاغتصاب لا تهم إلا إذا كان من الممكن استخدامها لإظهار أعداء الغرب على أنهم همجيون".

وقال المدون مليح أوزكان: "حتى الإبادة الجماعية لها قواعد، هذه الدولة لا تفتقر للإنسانية فحسب، لكنها تفتقد الشرف أيضًا؛ هل أصبح الاغتصاب عقوبة، اغتصاب الناس، الأطباء؟ لا أستطيع أن أصدق وأنا أكتب هذا".

وكتب الناشط جيم فيتزباتريك: "هل أصبح الاغتصاب والاعتداء الجنسي أمرًا طبيعيًا؟ نعم الاغتصاب، أصبح الآن أمرًا طبيعيًا من قبل قتلة الأطفال في الجيش الإسرائيلي".

أمّا الإعلامي ألون مزراحي فكتب: "المستعمر يقتل ويدمر الأكثر موهبة وقدرة من بين المستعمرين ليبدو وكأن المستعمرين وحدهم من يملكون الثقافة والقيم والقدرات، إنها استراتيجية مبنية على مرض عميق، ولكن أيضًا على الخوف والحسد؛ فالإسرائيليون لا يطيقون طبيبًا أو شاعرًا أو مثقفًا أو صحفيًا أو خطيبًا كاريزميًا فلسطينيًا".

فيما انتقد الكاتب الإسرائيلي البارز جدعون ليفي التعامل غير الأخلاقي الذي تتعامل به إسرائيل مع الفلسطينيين، وذلك على خلفية التعذيب المروّع الذي تعرض له الطبيب عدنان البرش وأدى إلى استشهاده داخل معتقل عوفر الإسرائيلي.

ووصف ليفي، في مقال بعنوان "وفاة طبيب غزة الشبح تفضح نفاق إسرائيل وضميرها المعوج" في صحيفة هآرتس الإسرائيلية، الدكتور عدنان بأنه كان طبيبًا جراحًا ورئيسًا لقسم جراحة العظام في مستشفى الشفاء بمدينة غزة، وكان رجلًا وسيمًا وذا شخصية جذابة، ومؤثرة استخدم وسائل التواصل الاجتماعي لتوثيق ما يقوم به من عمل في ظروف يتعذر فهمها حيث لا كهرباء أو دواء أو عقاقير للتخدير، ودون أسرَّة في أغلب الأحيان.

وقد ظهر في أحد المقاطع المصورة وهو يحمل مجرفة في يده ويحفر قبرًا جماعيًا في فناء المستشفى للمرضى المتوفين بعد أن غصّت الثلاجات بالجثث. وقال ليفي إن البرش أصبح بطلًا محليًا في حياته، ودوليًا بعد وفاته.

ونقل عن أرملته ياسمين أنه بالكاد كان يرجع إلى بيته بعد اندلاع الحرب؛ فقد أُجبر هو وفريقه الطبي على الفرار من 3 مستشفيات دمرها الجيش الإسرائيلي في إطار التزامه- أي الجيش الإسرائيلي- الدقيق بالقانون الدولي، في تعليق ينمّ عن سخرية موجعة وينطوي على تهكّم من جيش يتباهى باحترامه لذلك القانون.

وروى ليفي -وهو كاتب يساري تكرهه دولة الاحتلال- تفاصيل عن اعتقال الجيش الإسرائيلي للبرش، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، من مستشفى العودة في جباليا -وهو آخر مرفق طبي يعمل به- عندما استدعوه إلى خارج المستشفى واختطفوه.

وأوضح أنه تعرض لتعذيب بشع طوال الأشهر القليلة التي قضاها في مركز تحقيق لجهاز الأمن العام (الشاباك)، ولاحقًا في معسكر اعتقال سدي تيمان، حتى إن طبيبًا فلسطينيًا شاهده في مركز الاحتجاز قال إنه بالكاد تعرّف عليه؛ فقد تحوّل البرش الذي كان يعتني بلياقته البدنية ويمارس السباحة كثيرًا إلى شبح، ومن معتقل سدي تيمان، نُقل بعد ذلك إلى معتقل عوفر حيث استشهد في 19 أبريل/ نيسان. وأشار الكاتب إلى أن "إسرائيل" تجاهلت وفاته في السجن، في تصرف يعكس خصال دولة الاحتلال. ووفقًا للمقال، فقد لقي عشرات من المعتقلين حتفهم في المعتقلات الإسرائيلية هذا العام، على غرار ما يحدث في أسوأ سجون العالم سمعة.

الأسير المحرر: الطبيب محمد أبو سلمية

محمد محمد أبو سلمية هو طبيب فلسطيني متخصص في طب الأطفال، ولد بتاريخ 18 تشرين الأول/ أكتوبر 1973 في مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين غرب مدينة غزة، لأبوين تعود أصولهما إلى قرية الجورة في عسقلان. متزوج وله 4 أولاد، تخرج أكبرهم من الثانوية العامة عام 2023. حصل على شهادة الثانوية العامة عام 1991 من مدرسة الكرمل في غزة، ثم سافر إلى العاصمة الأوكرانية كييف لدراسة الطب في جامعة بوغوموليتس الطبية الوطنية وذلك بسبب منع الاحتلال الإسرائيلي ترخيص أي كلية طب أو صيدلة داخل القطاع، وتخصص أبو سلمية في طب الأطفال ثم عاد إلى قطاع غزة عام 1998، وحصل على البورد الفلسطيني في طب الأطفال عام 2013.

تولى منصب المدير الطبي لمستشفى النصر للأطفال في مدينة غزة عام 2007، ثم تولى منصب رئيس قسم الأورام لمستشفى الرنتيسي للأطفال في المدينة ذاتها عام 2013، قبل أن يصبح مديرًا للمستشفى عام 2015، وفي عام 2019 أصبح مديرًا لمجمع الشفاء الطبي حتى اعتقاله بتاريخ 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023.

عمل محاضرًا في الجامعة الإسلامية وجامعة الأزهر حتى تاريخ اعتقاله، وترأس نادي الصداقة الرياضي الكائن في مخيم الشاطئ. كما تولى منصب نائب نقيب الأطباء للمحافظات الجنوبية (قطاع غزة)، قبل أن يُعين مديرًا لمجمع الشفاء. وكان يرأس مؤتمرات طب الأطفال التي تعقد في قطاع غزة، ويشارك في مؤتمرات طبية خارج القطاع، آخرها مؤتمر علمي يجمع وزارة الصحة في غزة والضفة الغربية في عاصمة جمهورية مصر العربية القاهرة عام 2023، وكان برعاية المكتب الإقليمي لشرق البحر المتوسط.

بَصمته في مجمع الشفاء الطبي: عمل أبو سلمية على تطوير مجمع الشفاء، إذ بدأ مشروع ترميم مبنى الولادة القديم في المجمع قبل عدوان الاحتلال الإسرائيلي على القطاع عام 2023، كما افتتح قسم الطوارئ الجديد في تموز/ يوليو 2023، الذي أصبح الأكبر على مستوى الضفة وغزة والقدس. ووعد أبو سلمية بتطوير قسم الأشعة التداخلية، الذي يُعدّ من أحدث الأجهزة على مستوى العالم، بتمويل من الرابطة الفلسطينية الطبيبة الأميركية (بي إيه إم إيه)، والذي كان سيشكل نقلة نوعية للخدمات الطبية في قطاع غزة.

وكان على بعد خطوات قليلة من توطين زراعة الكلى في قطاع غزة، كما أصبحت للمستشفى القدرة على التعامل مع عمليات جراحية كبرى ذات مهارة عالية كانت في السابق تحوّل إلى خارج قطاع غزة. إذ بلغ عدد العمليات الجراحية التي أجريت في مجمع الشفاء 31 ألفًا و971 عملية خلال عام 2022

"لم توجه لي أي تهمة": في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي مدير مجمع الشفاء الطبي الدكتور محمد أبو سلمية وعددًا من الكوادر الطبية، بعد اقتحام قسم الطوارئ في المجمع، ثم أفرج عنه بعد أكثر من سبعة أشهر من احتجازه وتحديدًا في 1 تموز/ يوليو الماضي، ومعه نحو 50 أسيرًا فلسطينيًا بعضهم من الكوادر الطبية، ولم توجه له أي تهمة، كما جاء في تصريحات له أدلى بها لوكالة الأنباء الفرنسية (أ – ف – ب).

وتحدث أبو سلمية في مقابلة مع الصحفيين بعد الإفراج عنه عن تفاصيل اعتقاله وظروف السجون والمعتقلات الإسرائيلية، وما يعانيه الأسرى بداخلها، فقال: "الأسرى يمرون بأوضاع مأساوية جدًا لم يشهدها الشعب الفلسطيني منذ عام 1948، بمن فيهم الأسرى القدامى والجدد، الجميع يعاني من نقص في الطعام والشراب إلى جانب إهانات جسدية، الاحتلال يعتقل الآن الجميع بمن فيهم الكوادر الطبية، وهناك من استشهد داخل السجون الإسرائيلية دون أن يحصل على حبة دواء"، وطالب أن يكون للمقاومة والشعوب العربية والإسلامية كلمة حاسمة للإفراج عن جميع الأسرى"

انقسام وتبادل للاتهامات: لحق الإفراج عن الطبيب أبو سليمة، انقسام وتبادل للاتهامات وردود فعل غاضبة في "إسرائيل"، فصرّح جهاز الأمن الداخلي "الشاباك"، إنه تكلف إلى جانب الجيش الإسرائيلي بإطلاق سراح عشرات السجناء من أجل توفير أماكن في معتقل سدي تيمان المخصص لاحتجاز المعتقلين لفترات قصيرة.

فجاء في بيان الجهاز: "نظرًا للحاجة الوطنية التي حددها مجلس الأمن القومي فقد تقرر إطلاق سراح عدد من المعتقلين من غزة الذين يشكلون خطرًا أقل، بعد تقييم واسع للمخاطر بين جميع المعتقلين". من جانبها، قالت مصلحة السجون الإسرائيلية في رسالة لها إن قرار الإفراج عن مدير مجمع الشفاء جاء بقرار من الجيش والشاباك، وأنه لم يكن بسبب الاكتظاظ في السجون الإسرائيلية، ونشرت مصلحة السجون نص قرار الإفراج عن أبو سلمية مذيلاً بتوقيع من ضابط في الجيش الإسرائيلي، كما جاء في الرسالة.

فيما أعلن مكتب رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، أن الإفراج عن محمد أبو سلمية وبعض المعتقلين الآخرين من غزة جاء بقرار من المحكمة العليا .وأضاف مكتب نتنياهو بأن الأسماء التي أفرج عنها اختيرت من قبل قادة الأجهزة الأمنية، كما أمر بفتح تحقيق بشأن إطلاق سراح مدير مجمع الشفاء الطبي، ونقلت القناة 12 الإسرائيلية أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو غاضب لأنه علم هو ووزير الدفاع الإسرائيلي آن ذاك يوآف غالانت من وسائل الإعلام بإطلاق سراح مدير مجمع الشفاء الطبي، وندد نتنياهو بقرار الإفراج عن أبو سلمية ووصفه "بالخطأ الجسيم"، وأضاف أن القرار خرج دون إبلاغ القيادة السياسية، وشدد على "أن هذا الرجل مسؤول عن قتل رهائننا واحتجازهم وأن مكانه هو السجن".

فيما قال ما يعرف بوزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير عبر منصة إكس: "أن الإفراج عن مدير مستشفى الشفاء الطبي في غزة إلى جانب عشرات الإرهابيين الآخرين، تنازل عن الأمن". وعدّ الوزير السابق في مجلس الحرب بيني غانتس أن الحكومة ارتكبت خطأ عملياتيًا وأخلاقيًا عندما أفرجت عمن وصفه بمانح الرعاية للقتلة يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، والمساهم في إخفاء المختطفين.

وضمن التفاعلات ذاتها، نقلت القناة 12 الإسرائيلية عن وزير الشتات عميحاي شيكلي قوله إنه طلب من غالانت توضيحات بشأن الإفراج عن مدير مجمع الشفاء الطبي. متسائلا: "كيف يتم الإفراج عن مدير مستشفى قُتل فيه مختطفون إسرائيليون وعملت قيادة حماس داخله".

وقد نشرت وسائل إعلام إسرائيلية نسخة مصورة عن تبادل رسائل بين وزراء حكومة الاحتلال -في تطبيق واتساب- وتعقيبهم على الإفراج عن أبو سلمية. وأظهرت الرسائل تبادلًا للاتهامات وتحريضًا من عدة وزراء ضد الإفراج عن أبو سلمية بوصفه "مديرًا لمستشفى استخدمته قيادة حماس مقرًا وتم إخفاء وقتل أسرى إسرائيليين بداخله".

وفي تصعيد للتحريض كتب وزير الرفاه يعقوب مرجي: "قد يتم اغتيال أبو سلمية على يد حماس"، في تلميح لإمكانية اغتياله من قبل إسرائيل، ومن ثم اتهام حماس بذلك، وأضاف: "كان ينبغي أن يتعرض أبو سلمية لمزيد من الاعتداءات الجنسية.

الطبيب الشهيد: إياد الرنتيسي

الطبيب الشهيد إياد الرنتيسي

إياد الرنتيسي (أبو أحمد؛ 1971 - 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023) هو طبيب نسائية فلسطيني، شغل منصب رئيس قسم الولادة بمستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا شمالي قطاع غزة، وعمل أيضًا في مستشفى أصدقاء المريض.

في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي الدكتور إياد الرنتيسي من على حاجز نتساريم أثناء محاولته العبور مع أسرته من شماليّ قطاع غزة إلى جنوبه، ولم يصل أسرته منذ ذلك الوقت أي نبأ عن مصيره حتى 18 حزيران/ يونيو الماضي حينما كشف الإعلام الإسرائيلي عن استشهاده في مركز تحقيق تابع لجهاز "الشاباك" في مدينة عسقلان جنوبيّ فلسطين المحتلة تحت التعذيب بعد أسبوع واحد من اعتقاله، وقد نعته ابنته دينا في تغريدة على منصة (X) بالقول: "بكل فخر واعتزاز، أزفّ إليكم خبر استشهاد حبيب الفؤاد، والدي الدكتور إياد الرنتيسي".

حول ظروف استشهاد الطبيب الرنتيسي أشارت صحيفة هآريتس الإسرائيلية، أن وزارة العدل الإسرائيلية أمرت الجيش بإجراء تحقيق في ظروف وفاة الطبيب الفلسطيني، وأن محكمة الصلح بمدينة عسقلان أصدرت -عقب وفاة الرنتيسي- أمرًا بحظر نشر أي تفاصيل عن القضية لمدة 6 أشهر، وقد انتهت صلاحيته في أيار/ مايو ٢٠٢٤، من جانبه، ادعى جهاز الشاباك أن الطبيب البالغ من العمر 53 عامًا اتهم بـاحتجاز رهائن.

وذكرت هآرتس أن التقارير الأولية تفيد أن الاحتلال أعدم الطبيب الرنتيسي من خلال قوة سجانين إسرائيلية عرّضته للتعذيب بالصعق بالكهرباء وممارسة أشكال مختلفة من التعذيب بحقه، مما أدى إلى استشهاده، ويذكر أن الرنتيسي هو الطبيب الثاني من قطاع غزة إلى جانب عدنان البرش اللذَين تعلن سلطات الاحتلال عن استشهادهما في معتقلاتها.

تفاصيل يوم الاعتقال: تقول رندا زوجة الطبيب الرنتيسي، إن زوجها اُعتقل في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي على يد قوة لجيش الاحتلال متمركزة على حاجز عسكري بمحور نتساريم، الذي يفصل شماليّ قطاع غزة عن جنوبه، وزعمت "تل أبيب" آنذاك أنه ممر آمن. وتضيف: "توجهنا في ذلك التاريخ إلى الممر الآمن المزعوم للنزوح إلى المناطق الجنوبية، بناءً على أوامر الجيش لسكان شماليّ قطاع غزة".

وتتابع: "كان زوجي حينها على رأس عمله بمستشفى (أصدقاء المريض) في مدينة غزة يجري عملية جراحية لإحدى السيدات، وعندما انتهى منها رافق العائلة -الزوجة وأبناءه الثلاثة ووالدته وشقيقته-في رحلة النزوح، ولم يسعفه الوقت لتبديل ملابس عمله (زي الأطباء الأخضر) التي كان تحوي بقعًا من دماء الجرحى".

وتستطرد: "أثناء مرور العائلة ضمن أعداد أخرى من النازحين عبر الحاجز العسكري بمحور نتساريم، الواقع على شارع صلاح الدين شرق مدينة غزة، أمر الجيش الإسرائيلي النازحين بالنظر إلى الأمام وعدم الالتفات، قبل أن يأمرهم بالتوقف عن السير، ليبدأ في عملية تصويرهم والتدقيق في هوياتهم".

وتواصل: "فجأة أمر الجنود الطبيب الرنتيسي بالتوجه إلى النقطة العسكرية بالحاجز، وحين وصل إلى هناك أجبروه على الجلوس على ركبتيه، فيما تلقى الجميع أوامر باستئناف السير مرة أخرى".

وتشير إلى أنهم بعد أن عبروا من الحاجز سمعوا أصواتًا لإطلاق نار من قبل الجيش على نازحين، فيما هرعت سيارات إسعاف إلى المكان، ونقلت العديد من الشهداء والجرحى إلى مستشفى شهداء الأقصى شرق مدينة دير البلح، وسط القطاع.

وقالت: "حينها شعرنا بالخوف والقلق"، لافتة إلى أن العائلة أخذت تستفسر عن مصير الرنتيسي وعما حدث له عبر سؤال نازحين فروا من المكان بسرعة خشية استهدافهم من الجيش، فقد توقع البعض إطلاق سراحه، فيما قال البعض الآخر إنه اُعتقل.

وتعرب الزوجة عن صدمة العائلة من وفاة الطبيب الرنتيسي، الذي كان يتمتع بصحة جيدة، بعد اعتقاله بأسبوع واحد، وتكتم الاحتلال على هذا النبأ مدة 7 أشهر. وتوضح رندا أن العائلة تواصلت مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر في محاولة لمعرفة مصير الطبيب الرنتيسي، لكنها لم تتلق أي معلومات بالخصوص، وبقيت تنتظر على أحر من الجمر.

وتستغرب رندا الأنباء التي تحدثت عن وفاة زوجها بأزمة صدرية، وتؤكد أن الرنتيسي البالغ من العمر 53 عامًا "لم يكن يعاني من أي أمراض، بل كان معطاء نافعًا للناس محبوبًا من الجميع". وتتساءل مستنكرة: "ما هو الذنب الذي ارتكبه الرنتيسي والكوادر الطبية التي تم اعتقالها من المستشفيات والمراكز الطبية في غزة؟! ما ذنب هذه الكوادر الطبية التي تقدم خدمة إنسانية للمدنيين؟!"، مطالبة "إسرائيل" بتسليم العائلة جثمان زوجها.