صعود التيار الصهيويني الديني في جيش الاحتلال .. القتل بنكهة تلمودية
“فَانْتَقَلَ مَلاَكُ اللهِ السَّائِرُ أَمَامَ عَسْكَرِ إِسْرَائِيلَ وَسَارَ وَرَاءَهُمْ، وَانْتَقَلَ عَمُودُ السَّحَابِ مِنْ أَمَامِهِمْ وَوَقَفَ وَرَاءَهُمْ. فَدَخَلَ بَيْنَ عَسْكَرِ الْمِصْرِيِّينَ وَعَسْكَرِ إِسْرَائِيلَ، وَصَارَ السَّحَابُ وَالظَّلاَمُ وَأَضَاءَ اللَّيْلَ. فَلَمْ يَقْتَرِبْ هذَا إِلَى ذَاكَ كُلَّ اللَّيْل”. (سفر الخروج، الإصحاح 14، الآيات 19-20).
توطئة
مع صعود الليكود واليمين المُتطرف عام 1977، بدأت تظهر مفاهيم جديدة في الساحة السياسية، رَفَضَتْ قاعدةَ الدينِ الأمنيَّ القوميَّ، مُقابل الدين الخلاصي الإلهي، والتي يُفسّرها المؤمنون المُتشبثون بها، بأنّها فرضٌ دينيٌ داخل المؤسسة العسكرية. هذا ما يدفع إلى الإدراك بأنّ الجيش العسكري الإسرائيلي في طريقه للتديين والامتثال إلى سلطة الحاخامات[1]. ومن ثمّ فإنّ الدين يقلب الصراع إلى صراعٍ أكثر حدة، إذ تؤثر القضايا والمسائل الدينية هذه على فعالية الصراع؛ لأن المنظمات الدينية تتجه نحو التصعيد وفق ركائزَ دينيةٍ. هذا ما حاولتُ أنّ أُركز عليه عند إسقاط هذه الرؤية على الحالة الإسرائيلية حتى يتسنى فهم مدى حضور الدين في النهج العسكري.
توسع نفوذ المُتدينين داخل الجيش
للصهيونية الدينية حضور كبير في الجيش[2]، ومن ثمّ تأثير عميق في "إسرائيل"، فقد جاء انخراط المُتدينين في الجيش نتيجةً للتقاطع الذي حدث بين احتلال الأراضي عام 1967، ودور الجيش في الحفاظ على الأرض والاستيطان فيها. إذ عَدّت الصهيونية الدينية نتيجة الحرب بمثابة العودة إلى "أرض إسرائيل الحقيقية"، و أنّ الضفة الغربية هي البؤرة المركزية للديانة اليهودية[3].
بعد الاحتلال الإسرائيلي والتغني بنصر العام (1967)، وجه الحاخام الصهيوني تسفي كوك، نداءً إلى طلاب المدارس الدينية للعمل من أجل تحقيق الأهداف اليهودية القومية، من خلال تعزيز الاستيطان والتجنّد في الجيش[4]، فازداد عدد المدارس الدينية العسكرية المرتبطة بالتيار القومي، والتي يُمكن عدّها الدفيئات المُنتجة لجنود بطابع ديني متطرف، وتضاعفت هذه المدارس بعد عام 1980، لتُشكّل حلقة وصل بين الشباب الصهيوني المُتدين الذي يرى في تعاليم التوراة قيمةً عُليا في حياته من جهة، والجيش بوصفه قيمةً قوميةً دينيةً من جهة أخرى، بذلك صارت المدارس وكيلاً غير رسميٍ للصلة بين اليهودية بصفتها الدينة والجيش الإسرائيلي[5]، إذ تُشكِّلُ هذه المدارس مرحلةَ إعدادٍ ديني تكون سابقةً للخدمة العسكرية، وتستند لمفاهيم تلموديةٍ تمنح الشرعية الدينية للخدمة في المسار العسكري، كما يتميّزُ خريجو تلك المدارس بالاستعداد الكبير للعمل ضمن مُحفزات عقائدية[6].
بعد الاحتلال الإسرائيلي والتغني بنصر العام (1967)، وجه الحاخام الصهيوني تسفي كوك، نداءً إلى طلاب المدارس الدينية للعمل من أجل تحقيق الأهداف اليهودية القومية، من خلال تعزيز الاستيطان والتجنّد في الجيش . بالتالي ازداد عدد المدارس الدينية العسكرية المرتبطة بالتيار القومي، والتي يُمكن عدّها الدفيئات المُنتجة لجنود بطابع ديني متطرف
يُلاحق الجمهور الديني القومي بمُعظمه موروث الحاخام كوك، والذي يَعُدُّ الجيشَ أداةً تلعب دورًا هامًّا في تقريب الخلاص، وتلك معتقدات مسيانية خلاصية يتبناها المؤمنون بالمشروع الاستيطاني بالتحديد، حيث إن الصراع على الأرض بالنسبة إلى جزء كبير من أبناء الصهيونية الدينية ومنهم الجنود المتدينون، هو صراع مسياني، بمعنى أنّه كُلما وقع تحت أيديهم أراضٍ أكثر اقتربوا من قدوم الماشيح، لتصبح المصلحة الأمنية ومصلحة المعتقد واحدةً[7].
يُمكن القول إنّ البدء بتديين الجيش، جاء نتيجة الجهود المقصودة والمركزة من جانب زعامة التيار الصهيوني الديني والهادفة إلى زيادة تأثير الجمهور المُتدين على الجيش بصفتهِ مؤسسةً مركزيةً في المجتمع الإسرائيلي؛ مع استغلال "نشوة النصر1967"، من أجل تشجيع الشبان المُتدينين على اختيار مسار الحياة العسكرية. ذلك التوجه في زيادة حجم المُتدينين داخل المؤسسة العسكرية قلب شكل الفئات المكونة للجيش فصار على رأسها أتباع المعسكر الديني القومي[8]، ومنذ ذلك الوقت تزايدت أعدادهم بشكل لافت للانتباه وداعٍ إلى القلق، فقد تنامى هذا النفوذ إلى مستوىً قد يوصل إلى السيطرة الكاملة على المؤسسة العسكرية[9].
يُلاحق الجمهور الديني القومي بمُعظمه موروث الحاخام كوك، والذي يَعُدُّ الجيشَ أداةً تلعب دورًا هامًّا في تقريب الخلاص، ، حيث إن الصراع على الأرض بالنسبة إلى جزء كبير من أبناء الصهيونية الدينية ومنهم الجنود المتدينون، هو صراع مسياني، بمعنى أنّه كُلما وقع تحت أيديهم أراضٍ أكثر اقتربوا من قدوم الماشيح بالتالي تصبح المصلحة الأمنية ومصلحة المعتقد واحدةً .
يرى الباحث الفلسطيني مهند مصطفى، بأن التيار الديني القومي يسعى لفرض أجندته على المؤسسة العسكرية، باعتبار أن الجيش هو جيش الشعب. وذلك يصنع أداةً تعمل على تعزيز الدافعية لدى المُجتمع الإسرائيلي نحو الانخراط والانضمام في الجيش.
لذا فالتغيرات الديمُغرافية داخل الجيش تقوم على حصر صيرورة التديُن في الجيش من خلال الربط بينها وبين ازدياد أعداد الضباط والجنود المُتدينين. إضافةً إلى آليات هذه الصيرورة، التي عملت على إبراز دور المدارس الدينية العسكرية وحث رجال الدين من الصهيونية الدينية على الخدمة العسكرية؛ فإنّ تديين المؤسسة العسكرية نبع بالأصل من تحولات عسكرية وقومية ودينية، حدثت، وما زالت، داخل التيار الديني الصهيوني. فالمدارس الدينية العسكرية يُمكن النظر لها بأنها تسوية بين الدولة التي أرادت بناء جيشٍ وطنيٍ موحدٍ، مُقابل التيار القومي الذي أراد الحفاظ على خصوصيته الدينية في المؤسسة العسكرية[10].
وتشير الكثير من الأرقام إلى تعزز حضور الصهيونية الدينية في الجيش، فمع تراجع حافز الشباب العلماني للانخراط في الجيش إلى 48% بعد أن كانت 60%، فقد زاد في الوقت ذاته الحافز عند الشباب الديني القومي إلى 68%. وقد كان أتباع التيار الديني في مطلع الثمانينيات يشكلون 2% فقط من ضباط الوحدات القتالية، وأصبحوا الآن يشكلون 35-40% من ضباط ألوية الصفوة والوحدات القتالية. أما ما يعرف بـ "سرايا النخبة" فإن الجنود المنتمين للتيار الديني القومي يحتكرون الخدمة فيها تقريبًا، إذ يشكلون 60% من القادة والمنتسبين للواء جفعاتي، على سبيل المثال. ومنذ العام التالي لاغتيال إسحاق رابين (منذ 1995) فقد ارتفعت نسبة المتدربين في أكاديميات الجيش الدينية بنحو 250%.[11]
مع تراجع فكرةِ التجنِّدِ في الجيش لدى الفئة العلمانية، ونقص القوى البشرية الذي نتج عن هذا التراجع. ومع وجودُ نقص في الجنود الذين تتوفر لديهم الدوافع القيميّة والمعياريّة للانخراط في الخدمة العسكرية. فقد كان أبناء الصهيونية الدينية الفئة الاجتماعية الجديدة التي تسدّ هذه الثغرات في الجيش الإسرائيلي
أسباب انخراط التيار الديني القومي في الجيش الإسرائيلي:
السبب الأول: تخلّف حضور الفئات العَلمانية:
لا تعدّ الخدمة في الجيش الإسرائيلي واجبًا مدنيًا فقط، وإنما فريضةً دينية وفقًا لأيديولوجية التيار الديني القومي، ومع تراجع فكرةِ التجنِّدِ للجيش لدى الفئة العلمانية، فقد خَلقت هذه الحالة مُعضلةً معنويةً، سببت نقصًا في القوى البشرية بالنسبة للجيش الإسرائيلي من حيث الحاجة لتفعيل الجيش[12]، ذلك ما دفع الجيش إلى تقديم رواتب ومنحٍ دراسية تتعلق بالشأن التكنولوجي لمن ينتسب إلى الجيش. يضاف إلى هذه المشكلة وجودُ نقص في الجنود الذين تتوفر لديهم الدوافع القيميّة والمعياريّة للانخراط في الخدمة العسكرية، لذلك فرض الواقعُ الحاجةَ إلى ضرورة الاعتماد على فئات اجتماعية أخرى بجانب الفئة العلمانية، وقد كانت هذه الفئة هي مجموعة أبناء الصهيونية الدينية وذلك لِمَا أظهروه من معنويات عالية، في كافة مراحل الخدمة العسكرية، في مقابل تردي معنويات الفئات العلمانية[13]. ويُعزى انعدام الدافعية عند العلمانيين للتجند في الجيش إلى أسباب رئيسية:
◄ أزمة "إسرائيل" المادية خلال منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، والتي تم خلالها تفضيل المصالح الخاصة على المصالح العامة، فتراجعت دافعية الفئة العلمانية من الشباب للانخراط في الجيش، لا سيما وحداته القتالية، حيث انقضت الأزمة دون أنّ تتمكن "إسرائيل" من منح الجنود إغراءات مالية للثبات في صفوفه[14]. فقد عمل التيار الديني القومي على توجيه أتباعه إلى إشغال الفراغ الذي قد تركه العلمانيون، لإدراكهم واستيعابهم حجم التأثير الذي يتمتع به الجيش في عملية صنع القرار السياسي[15].
◄الاتفاقيات (التسويات) السياسية: حيث إن نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات شهدا تعاظم الجهود لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، ممّا ولّد انطباعًا عامًا لدى العلمانيين بأن المخاطر على وجود الدولة تراجعت، فسعى الكثيرون إلى الاهتمام بالمصالح الخاصة والشخصية، في مجالات أخرى بعيدةٍ عن المجالات العسكرية.
◄ طرح أفكار ثورية تتعلق بالجيش، فقد عَلت داخل المؤسسة العسكرية أصواتٌ تُنادي بضرورة إعادة النظر في الفلسفة التي أسست لبناء الجيش، والعمل على تغييره من جيش شعبي يؤدي الخدمة الإجبارية في القطاعات السكانية، إلى جيش مهني يعتمد على المُحترفين فقط، وصاحب ذلك تراجعٌ كبيرٌ في المنظومة العلمانية الإسرائيلية[16].
ومما لا شك فيه أنّ ترك العلمانيين المسارات القيادية في الجيش وتخليهم عنها، خلّف فراغًا واضحًا؛ سعى أتباع التيار الديني الصهيوني إلى ملئه، وقد وافق ذلك مساعي هيئة أركان الجيش الصهيوينة التي كان على رأس أولوياتها العمل على سد النقص الكبير في عدد الشباب المتطوعين للخدمة في الوحدات الميدانية، في خضم الأعباء الأمنية والقتالية المُستمرة، فأيدت هذه المساعي وفتحت الباب لها[17].
السبب الثاني: رغبة التيار الديني القومي في التأثير على الساحة السياسية والأمنية:
تولدت لدى التيار الديني القومي بشكل كبير الرغبة في التأثير على صنع القرار [18]، انطلق ذلك من توقع المُتدينين بأنّهم سيكونون ضحية أي تقدم كان في العمليات السياسية؛ لكونهم مَن يقودون المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية وقطاع غزة، بالإضافة إلى المشاريع التهويدية في القدس. كما أنّهم يشكلون أكثر من 65% من مستوطني هذه المناطق، فضلاً عن المُنطلقات العقائدية التي تدفع المتدينين إلى بذل كُل ما في وسعهم لإحباط أي تسوية سياسية كانت، والتي من المُفترض أنّ تقترن بالانسحاب من الأراضي التي تعدّ وِفقًا للخطاب الديني اليهودي أراضيَ يهوديةً محررةً.
توقع المُتدينون بأنّهم سيكونون ضحية أي تقدم في العمليات السياسية؛ لكونهم مَن يقودون المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية وقطاع غزة، بالإضافة إلى المشاريع التهويدية في القدس. كما أنّهم يشكلون أكثر من 65% من مستوطني هذه المناطق، لذلك اعتبر الحاخامات اليهود أنّ الانخراط في الجيش والنجاح في الحصول على مواقع قيادية عُليا فيه، سيُمكنهم من لعب دور كبير في صنع القرار، بصورة تخدم العقيدة الصهيوينة الدينية
لذلك اعتبر الحاخامات اليهود أنّ الانخراط في الجيش والنجاح في الحصول على مواقع قيادية عُليا فيه، سيُمكنهم من لعب دور كبير في صنع القرار، بصورة تخدم العقيدة الصهيوينة الدينية بشكل أساسي[19]. ومع تزايد مشاركة الأحزاب الدينية في الحياة السياسية وازدياد قوتها، توصل المتدينون إلى أن تأثيرهم على الأحداث لن يكون كاملاً من دون أن يكون لهم موطئ قدم في الجيش مع السعي بأنّ يكون وجود ضمن مراتب قيادية عُليا[20].
استنبطت مرجعيات التيار الديني الصهيوني أن عوائد "اختراق" الجيش، لن تمنح التيار المقدرة في التأثير على دائرة صنع القرار أثناء الخدمة العسكرية فحسب؛ وإنما ستُمكنهم من التأثير على الحلبة السياسية الداخلية بصورة فعالة، وذلك بعد انقضاء الخدمة العسكرية لعدد من منتسبيها في الجيش ضباطًا كبارًا. حيث تنهمك الأحزاب السياسية في "إسرائيل" بالتنافس على استقطاب الجنرالات المُتقاعدين لتطعيم قوائم مرشحيها في الانتخابات؛ فيُصبح هؤلاء وزراء في الحكومة و نوابًا في الكنيست[21]، علاوةً على أنّ الكيان يمنح الجنرالات المتقاعدين الأولوية لرئاسة الشركات الحكومية وشبه الحكومية وشغل الشواغر في السلك الدبلوماسي وهذا يشكل مصدرًا هائلاً للتأثير على دوائر صنع القرار في "إسرائيل".
انعكاس تغلغل وانخراط المُتدينين في الجيش الإسرائيلي:
يرى الباحثون في الجيش والدين والسياسة في "إسرائيل" بأنّ عملية تديين الجيش هي إشكاليةٌ حقيقية تستحق البحث فيها وإعطاء الآراء حولها، تحسُّبًا من أي انقلاب قد تخوضه الأوساط الدينية المُختلفة، ضد مُتخذي القرارات السياسية، والذي يُعتقد أنه سيغيّر من شكل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي[22]. فإنّ المُختصين يتوقعون أن يخلّف تغلغل المُتدينين داخل الجيش تأثيرات مُستقبليةً هامةً وكبيرةً على الصعيد الداخلي، وكذلك على الصعيد الخارجي من ناحية الاستخدام المُفرط للقوات العسكرية في ردع الفلسطينيين.
وفي هذا السياق يرى الباحث المختص في الشأن الإسرائيلي صالح النعامي أن تبوُّء المتدينين مواقع قياديةً داخل الجيش الإسرائيلي هو عبارة عن تهديد خطير للنظام السياسي في دولة "إسرائيل"، حيث يرى النعامي بأن كبار الضباط المتدينين عندما يتسرّحون من العمل في الجيش، فسوف يتمّ استيعابهم داخل المرافق والمؤسسات المدنية المتنوعة، وأنّ هذا الأمر سيمنح المُتدينين فرصًا عديدةً للتأثير على الرأي العام الإسرائيلي وجعله يتقبل المنطلقات الأيديولوجية المطروحة لهذا التيار، الذي يشارك رموزه بصورة واضحة في القضايا الجدلية، فلا يكاد يخلو برنامج في الإعلام الصهيوني من حضورهم اللافت، بخلاف ما كانت عليه الأمور سابقًا[23].
لذلك كان انتقال الجنرالات المُتدينين للعمل السياسي بعد تسرحهم من الجيش، أمرًا يزيد -بشكل كبير- من تأثير التيار الديني على صنع السياسات العامة في "إسرائيل"، وعلى رأسها الدفع بالتوسع والتغلغل في ممارسة القمع ضد الفلسطينيين، واعتبار شن الحرب أمرًا سهلًا وبديهيًّا من خلال فتح الأُفق أمام المتطرفين والحاخامات الذين لم يتهاونوا في إصدار فتاوى تنص على ضرورة محاربة الفلسطينيين. وهُنا نرى بشكل واضح وجود علاقة متينة بين مدى تأثير المُتدينين على الجيش، ومدى ميله لاستخدام القوة المُفرطة ضد الفلسطينيين[24].
لربما تجلّت أكثر المخاوف من تغلغل التيار الديني في الجيش فترة توقيع اتفاقية أوسلو، وما تبعها من تطورات اقتصادية فيما بعد، دفعت بعدد كبير من ضباط اليهود الغربيين إلى الابتعاد عن الجيش والانغماس بالمشاريع الاقتصادية؛ ما دفع اليهود الشرقيين الذين ينتمي معظمهم للتيار الديني القومي، بأن يحلّوا مكانهم بهدف عرقلة أي تقدم في العمليات السياسية يمكن أن يفضي إلى تسليم أراضٍ للسلطة الفلسطينية مُستقبلًا. فأصبحت هذه الفئة تشغل حاليًا مقاعد عُليا في هيئة الأركان.
كان انتقال الجنرالات المُتدينين للعمل السياسي بعد تسرحهم من الجيش، أمرًا يزيد -بشكل كبير- من تأثير التيار الديني على صنع السياسات العامة في "إسرائيل"، وعلى رأسها الدفع بالتوسع والتغلغل في ممارسة القمع ضد الفلسطينيين، واعتبار شن الحرب أمرًا سهلًا وبديهيًّا من خلال فتح الأُفق أمام المتطرفين والحاخامات الذين لم يتهاونوا في إصدار فتاوى تنص على ضرورة محاربة الفلسطينيين
استحضار الدين في حملة "الجرف الصامد":
باتت الحاخامية العسكرية تتزايد بالقوة والتأثير، فشكّل التديين وما تبعه من تحولات عميقة داخل صفوف الجيش الإسرائيلي، أثرًا كبيرًا على القتال والحروب، فقد أظهرت الحرب على غزة عام 2014 الرواسخ الدينية التي تعززت لدى قوات الجيش المُحاربة[25]، فقد شكّلت حملة "الجرف الصامد"[26] (حرب العصف المأكول وفق تسمية المقاومة)، على قطاع غزة تعبيرًا صريحًا عن كثافة الحرب الممتلئةِ بروح دينية خالصة[27]، والتي جرت صياغتها برؤية يمينية جديدة تُثبّت خلالها حضورًا مميزًا للتيار الديني القومي[28]. فهذه الحرب جاءت انطلاقةً للإعلان عن المنهجية التي سيجري التعامل فيها مع الوجود الفلسطيني بِرمته على أساسها[29]، فمن الجانب العسكري لم تكن حربًا تختلف عن المجازر التي سبقتها، لكنها كشفت عن اليمين الصهيوني المُتطرف الجديد[30].
في خضم حملة "الجرف الصامد"، حرّض الحاخامات المُتدينون الجنودَ على ضرورة إضفاء صبغة دينية على الحرب، مثل: تدمير المآذن والمساجد، وإطلاق النار بكثافة دون أي اعتبار، ومن ثم التفاخر بذلك علنًا. والعمل على فرض ضوابط مُستقبلية تمنع أي انسحابات مُحتملة من الضفة الغربية[31]. فقد تحول الجيش لكيان تتصاعد فيه الأسس الدينية، على سبيل المثال: صلوات الجماعة قبل البدء بالحرب والضرب، كذلك إقصاء النساء من صفوف الحرب، وتنفيذ الأوامر الدينية بصورة سريعة.
في هذا السياق، توجد إفادة لإحدى الجنود تظهر صدمته عندما سمع حاخامًا يلقي درسًا يحض فيه على القتال، وذلك قبل الانطلاق إلى قطاع غزة، فكان مُلخّصُ الحديث بأنها حرب بين أبناء النور ضد أبناء الظلام، وأنّ الهالة القدسية ستكلل الجنود لكونهم في مُهمة تقع تحت مضمون الفرائض الدينية. كما ركّز على طلب الحاخام للجيش بأنّ لا يتنازلوا عن ميليمتر واحد من "أراضي إسرائيل"، وأن القسوة مع العدو هي أحيانًا خصلةٌ حسنة[32]، كما ساهم الحاخام في الحرب هذه على غزة بتوزيع قصاصات ورقية، فيها فتاوى تدعو لقتل الفلسطينيين جميعًا نساءً ورجالًا وأطفالًا، وحتى البهائم[33]،[34].
تبدل في ميدان القتال:
خلال حرب 2014 على غزة، نُشرت ورقة "لعوفر فينتر"[35] أظهرت أبعاد التوغل الديني ضمن بُنية الجيش الإسرائيلي، ففي جولة قام بها فينتر مع مجموعة من الصحفيين، داخل قطاع غزة، أشار فينتر بإصبعه على مسجد تم تدميره إبّان الحرب، قائلًا: كان يوجد هُنا مسجد، بنبرة ساخرة ومليئة بنشوة النصر والفخر، دون أي إحساس بالأسف. وبعد وصول خبر يحمل في طياته نبأ خطف جندي صهيوني في رفح، استخدم فينتر بروتوكول هنيبال[36]، واستشهد خلال تنفيذ العملية العسكرية هذه أكثر من 100 فلسطيني، رغم عدم عودة الجندي المخطوف، إلا أنّه تم تنفيذ الأمر وارتكاب مجزرة بحق المدنيين الفلسطينيين[37].
وفقًا للمصطلحات اليهودية الإسرائيلية، فإن محاربة أعداء "إسرائيل" فريضة، وذلك ليس بسبب معارضتهم إقامة دولة قومية يهودية؛ وإنما لمُخالفتهم شرائع الرب الذي منح هذه البلاد إلى اليهود، عبر صك إلهي وليس من خلال نشاط حزب مُعين أو حركة قومية[38]. أخذت التأويلات للحرب مكانًا لتحليل النتائج باعتبار الانتصار في الحرب لم يخلُ من المعجزة الربانية التي رافقت الجنود أثناء القتال، هذا شبيه تمامًا عندما جرى تحليل نتائج حرب 1967، فكان من ضمن النتائج العسكرية بأنّها معجزة إلهية أيضًا.
في خضم حملة "الجرف الصامد" (العصف المأكول)، حرّض الحاخامات المُتدينون الجنودَ على ضرورة إضفاء صبغة دينية على الحرب، مثل: تدمير المآذن والمساجد، وإطلاق النار بكثافة دون أي اعتبار، ومن ثم التفاخر بذلك علنًا، كما وزّع حاخام فتاوى على جنود جيش الاحتلال تدعو لقتل الفلسطينيين جميعًا نساءً ورجالًا وأطفالًا، وحتى البهائم
خُلاصة:
خلال الحرب سعت المؤسسات الدينية إلى تديين الحرب من خلال المحافظة على القيام بالطقوس الدينية في الحيز العام قبل البدء في القتال، والتنقل بين الجنود وتحليل الحرب ضمن تأويلات دينية، كذلك الخطاب السياسي العام كان يتخلله مفردات دينية أيضًا.
هذا ما يؤكد على حضور البُعد الديني للحرب عند الجنود اليهود في هذه المرحلة سواءً المتدينون أو غير المتدينين، إذ إنّ تحفيز الجنود لا يتم فقط عبر خطاب يُنادي بضرورة الدفاع عن الأرض؛ وإنما يُزاحمه خطاب ديني يُركّز على فكرة الدفاع عن الربّ ضد الذين يخالفونه أو يشتمونه. نستنتج هُنا أنّ التفسير الديني والتفسير القومي يتربعان على عرش المؤسسة العسكرية الصهيونية، تارةً في حالة من الانسجام والتفاهم وتارةً أخرى في حالة من الفوضى والنزاع[39].
لا يوجد شك بأنّ هناك استراتيجيةً راسخةً، ومنهج تديين رسمي للجيش الإسرائيلي، ينضم إليه أتباع التيار الديني القومي، والذين يحتلون رتبًا عُليا في هيئة أركان الجيش، وهي مرحلة لا تتراجع في عقلية المستوى السياسي في "إسرائيل"، وإنما يجري تعزيزها وتطويرها من قبل القيادة العسكرية ما دامت تخدم أجندتها، والتي تتمثل في أهمية الحفاظ على المكتسبات من آثار الحرب، وهذا لن يتحقق إلا عَبر جيش ديني يُحارب وفق فريضة وعقيدة يؤمن بأنها ربانية.
[1] تلحمي، أسعد. اتساع نفوذ المتدينين والمحافظين أمنًا في الجيش الإسرائيلي.
[2] جاء حضور التيار الديني القومي تدريجيًا في جميع مجالات العمل، فقد برز في المجالي الأمني والعسكري بصورة لافتة.
[3] (القدس، نابلس والخليل).
[4] باعتبار أن الجيش هو أحد أدوات ترسيخ السيطرة والهيمنة على "أرض إسرائيل".
[5] مصطفى، مهند. حضور الدين في الحرب على غزة.ص8.
[6] عوض، أحمد رفيق. دعامة عرش الرب.
[7] بن سمحون، كوبي، متى وكيف صار الجيش الاسرائيلي متدينا إلى هذه الدرجة.
[8] حيث كان عددهم قليلاً في الجيش خلال سنوات السبعينيات.
[9] عوض، أحمد رفيق. دعامة عرش الرب.
[10] مصطفى، مهند. حضور الدين في الحرب على غزة. ص8.
[11] من ملخص كتاب: الأصولية الدينية في الجيش الإسرائيلي لقتيبة غانم، المنشور في مركز الزيتونة https://bit.ly/3DrkwSZ
[12] حيث أصبح الجيش يعتمد على التكنولوجيا بشكل عالي وكبير .
[13] توثيق ص 68 الاول.
[14] النعامي، صالح. تغلغل المتدينيين في الجيش الإسرائيلي: تبعات وتداعيات.
[15] بسبب الحالة الأمنية التي نشأت فيها الدولة الصهيونية، ووجودها في حالة حرب متواصلة مع المحيط حولها.
[16] إذ لم يعد بوسعهم تحمل ثقل التضحية من أجل الدولة، وتكبد نتائج القيم.
[17] النعامي، صالح. تغلغل المتدينيين في الجيش الإسرائيلي: تبعات وتداعيات.
[18] ذلك بعد التوقيع على اتفاقيات التسوية والتي عملت على تقليص دافعية ورغبة العلمانيين في الخدمة للجيش.
[19]فقد حثت المرجعيات الدينية مؤيديها، بضرورة الانخراط داخل الوحدات القتالية، لإدراكها أنّ السيطرة على الرُتب العليا القيادية داخل الجيش، سيمنح التيار حيوية مُطلقة في التأثير على المجتمع.
[20] مرتضى، إحسان، ظاهرة التدين في الجيش ومخاطرها.
[21] النعامي، صالح. تغلغل المتدينيين في الجيش الإسرائيلي: تبعات وتداعيات.
[22] تلحمي، أسعد. اتساع نفوذ المتدينين والمحافظين أمنًا في الجيش الإسرائيلي.
[23] النعامي، صالح. تغلغل المتدينين في الجيش الإسرائيلي: تبعات وتداعيات.
[24] النعامي، صالح. تغلغل المتدينين في الجيش الإسرائيلي: تبعات وتداعيات.
[25] بن سمحون، كوبي، متى وكيف صار الجيش الاسرائيلي متدينا إلى هذه الدرجة.
[26] "تسمية صهيونية".
[27] ذلك ما يوضح التغيرات داخل المجتمع الإسرائيلي سواء كانت سياسية أم فكرية.
[28] باعتبارها شكلًا جديدًا لليمين الديني المتصاعد.
[29] هي عبارة عن تغيرات داخل المجتمع الصهيوني، ما كانت لتظهر إلا بصورة دينية.
[30] مصطفى، مهند. حضور الدين في الحرب على غزة.
[31] اندراوس، زهير. قلق في إسرائيل من وقوع أجهزتها الأمنية بقبضة المتدينين.
[32] تلحمي، أسعد. اتساع نفوذ المتدينين والمحافظين أمنًا في الجيش الإسرائيلي.
[33] النعامي، صالح. تغلغل المتدينيين في الجيش الإسرائيلي: تبعات وتداعيات.
[34] أصبحت الحملات العسكرية تحمل مُسميات ذات دلالات توراتيةً، إذ تضفي على العمليات العسكرية صبغةً دينيةً ووحشيةً في الوقت ذاته، من بين هذه العمليات: السور الواقي، عمود السحاب، مقلاع داوود، وغيرها.
[35] وهو قائد لواء جفعاتي آنذاك.
[36] أي أنّ يقوم الجيش بتنفيذ عملية عسكرية، فورًا بعد خطف جندي، من قِبل قوات مُعادية، مٌحاولين منع اختطافه حتى لو كلّف ذلك موت الجندي في نهاية الأمر.
[37] مصطفى، مهند. حضور الدين في الحرب على غزة.
[38] المرجع السابق.
[39] المرجع السابق.