صفقات "كسر القيد": مراكمة عزم المقاومة ووعيها
![صفقات "كسر القيد": مراكمة عزم المقاومة ووعيها](https://etar.info/storage/861/NAeQpIcFhznVv1htaYT0F6KAwdAyQ6-meta2LXZgdmC2Kkg2KrYqNin2K_ZhCDYp9mE2KPYs9ix2YkgMjAyNS5qcGc=-.jpg)
على سبيل التقديم...
مرةً أخرى تثبت المقاومة الفلسطينية أن التراكمية فعلٌ ممتد، تتجاوز حدوده الخبرة العسكرية والقتالية إلى صفقات كسر القيد وتبادل الأسرى، والتي قدمت فيها ليلة الأحد التاسع عشر من كانون الثاني/ يناير الحالي أداءً يتجاوز حدود المتوقع، وقدرة الخيال بعد 471 يومًا من الحرب، وحرب إبادة جماعية وتطهيرٍ عرقيٍ وتهجيرٍ شامل، وجولاتٍ من المفاوضات المتراكمة منذ صفقتها الأولى "وفاء الأحرار" نهاية عام 2011، مرورًا بصفقتها التالية متعددة المراحل في هدنة عام 2023، وامتدادًا لصفقتها الحالية في عام 2025.
وإن كانت كواليس المفاوضات وأسرارها ما زالت بمعظمها طي الكتمان، ومن الصعب إدراك كنهها، خاصةً وأن الحرب ما زالت تتردد مخيالًا ومخططًا في الذهن الإسرائيلي الحكومي والشعبي، إلا أن ما بدر من أداء المقاومة السياسي والميداني خلال عملية التبادل أثبت تطورًا في قدرتها على التعامل مع حدثٍ مثل تسليم الأسرى، ومع مفصلٍ حيوي كصفقة كسر قيد.
في السطور الآتية، نُسلط الضوء على ملامح متمايزة من مراكمة الخبرة والوعي والعزيمة التي اكتسبتها المقاومة الفلسطينية على مدى عمليات التبادل، بدءًا من اتفاقات جولات التفاوض، مرورًا بترتيبات اللحظات الأخيرة والتسليم، وما صاحبها من محددات أكدت صفقات "كسر القيد" باعتبارها ركيزة أساسية في درب التحرير.
شاليط: بروفا مختصرة للطوفان
في عام 2006 استطاعت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة تنفيذ عملية نوعية تجاوزت بها السياج الفاصل بين القطاع والمنطقة العازلة وهاجمت نقطة عسكرية إسرائيلية، مثخنةً قتلًا وجرحًا بجنودها قبل أن تقتاد الرقيب جلعاد شاليط من قلب دبابته إلى داخل القطاع، ليختفي هُناك لسنواتٍ، تجاوزت بها المقاومة حربًا واسعة النطاق وجهدًا استخباريًا اسرائيليًا ودوليًا لمحاولة الوصول إليه، قبل أن تسلمه في نهاية عام 2011 عبر صفقة تبادلٍ مشرفة، حصدت فيها المقاومة سلسلةً من الإنجازات.
أول هذه الإنجازات كانت الإبقاء على شاليط حيًا طوال خمس سنواتٍ في يد المقاومة، برغم عمليات القصف والتتبع والملاحقة الإسرائيلية، والتي كانت تهدف للقضاء عليه بما يسحب أي إنجازٍ من يد المقاومة، وليمثل شاليط أول جندي إسرائيلي أسير يعود إلى الكيان حيًا منذ 26 عامًا، على خلاف أسرى حزب الله والذين اكتشف قادة الكيان لحظة استلامهم أنهم جثامين منذ لحظة أسرهم.
الإنجاز الثاني هو انتزاع المكتسبات مقابل أي دلالة على حياة شاليط، ففي تشرين الأول/ أكتوبر عام 2009 أصدرت كتائب القسام شريط فيديو مصور له لمدة دقيقتين، يظهر فيه مرتديًا الزي العسكري وحاملًا جريدة إخبارية فلسطينية بتاريخ 14 أيلول/ سبتمبر 2009، وفي مقابل الشريط نجح الجناح العسكري بوساطة ألمانية مصرية في تأمين الإفراج عن 19 أسيرة فلسطينية من ذوات المحكوميات العالية.
أما الإنجاز الثالث فهو استراتيجية التبادل، والتي أصبحت لاحقًا نمطًا سائدًا في فعل المقاومة التحرري، فمن ناحية اعتمدت المقاومة تقسيم الأسرى إلى فئات؛ إنسانية (كبار السن والمرضى والنساء والأطفال)، وفئات الأحكام العالية، وهو ما مكنها من تحريرٍ أعدادٍ أكبر من الفئات الإنسانية والضغط بصرامة في ما يتعلق بأسرى الأحكام العالية.
ومن ناحية أخرى تجاوزت المقاومة تابو الاحتلال الذي فرضه سابقًا على المقاومة (فلسطينية أو عربية) في عمليات التفاوض، وفرضت شروطها بأن يشمل التبادل الأسرى في السجون مهما كانت جغرافيتهم أو وثيقتهم الشخصية (سُكان القدس، الداخل المحتلة، الضفة، غزة، الأردن، الجولان)، كما تجاوزت معادلات الانقسام الذي كان في أوجه ما بعد عام 2007، بإطلاق سراح أسرى من جميع ألوان الطيف الفلسطيني دون استثناء.
في ما يتمثل الإنجاز الرابع بآلية التسليم، والتي أقدمت فيها المقاومة الفلسطينية على عملية تمويه كبيرة طالت مختلف مواقع قطاع غزة، تسيدت بها جيبات التويوتا البيضاء المشهد، وذلك بانطلاق 20 موكبًا مكونًا من 40 سيارة فورد بيضاء من عدة مناطق في قطاع غزة، للتمويه على عملية النقل أمام محاولات أجهزة الاحتلال الأمنية لمعرفة المكان الذي سيخرج منه شاليط في غزة.
ترافق ذلك مع وجود كتيبة من نخبة القسام ومقاتليه معززة بأحزمة ناسفة أحاطت بالجندي الإسرائيلي، جميعهم بنفس الطول والحجم، وحتى أنهم صبغوا وجوههم باللون الأسود وكان كل واحد منهم يحمل نوع السلاح والعتاد نفسه ويرتدي البزات العسكرية نفسها، بينما قبض القيادي القسامي أحمد الجعبري على يد شاليط، ليُفرج الاحتلال عن نصف الأسرى المحررين، ثم يتحفظ الجانب المصري على شاليط بينما يُفرج الاحتلال على النصف الآخر.
بمثل هذه الإنجازات والحدة الصارمة والتريث عند المنحنيات والتفاصيل، استطاعت المقاومة تنفيذ واحدةٍ من أثمن صفقات كسر القيد، أخرجت فيها إلى رحاب الحرية 1000 أسير فلسطيني إضافةً لـ 27 أسيرة، من بين الألف أسير هناك 450 محكوم بالسجن المؤبد، و45 أسيرًا مقدسيًا، و6 أسرى من فلسطيني الـ 48، وأسرى من الأردن والجولان، منهم المسلم والمسيحي من مختلف الفصائل الفلسطينية (فتح، حماس، الجهاد، الجبهتان الشعبية والديمقراطية)، جمعتهم تهمةٌ واحدة؛ مقاومة الاحتلال ومناهضته.
وفاء الأحرار نسخة 2023
بعد 47 يومًا من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، انطلقت جولة صفقة كسر قيدٍ جديدة بين المقاومة والاحتلال، هذه المرة كانت الصفقة حزمة شاملة من المطالب تتجاوز تحرير الأسرى إلى وقفٍ لإطلاق النار، فيما عُرف بـ "الهدنة الإنسانية"، وتبادلٍ للنساء والمرضى وصغار السن، وزيادة في عدد شاحنات المساعدات الإنسانية التي تدخل القطاع المحاصر.
وبرغم المفاوضات المكوكية التي أوقفت الحرب لثلاثة أيام تلتها أربعةٌ أخرى، إلا أن إصرار الاحتلال على استكمال حربه في مقابل إصرار المقاومة على ضمانات بوقفها بعد التبادل، حال دون استمرار الصفقة وانطلقت دوامة الإبادة من الجديد.
لكن المقاومة بالرغم من ذلك استطاعت تحرير 240 فلسطينيًا من النساء والأطفال مقابل 150 أسير إسرائيلي، وتميزت عملية التبادل حينها بتدقيقٍ عالٍ من قبل المفاوضين الفلسطينيين في الأسماء والأعمار والفئات للأسرى، كما حملت بصماتها أنماط تمويه متقدمة وتنوعًا في مناطق التسليم، وتأثيرًا نفسيًا قويًا للفيديوهات اليومية لجهاز إعلام المقاومة، وإبرازًا للمفارقة بين أسر المحتل وأسر المقاومة، وتأكيدًا على الترابط بين المقاومة وحاضنتها الشعبية التي احتفت بظهور رجالات المقاومة في ساحات القطاع ومحاوره، وإشارات متكررة لعمق التنسيق بين أجنحة المقاومة العسكرية والإعلامية وخاصة حركتي حماس والجهاد الإسلامي، إذ تبادل مقاوموها التحيات الحارة خلال عملية التبادل، ناهيك عن الزخم التراكبي الذي أفرزته في الضفة الغربية باحتفاء مواطنيها بإنجازات المقاومة، وهو ما تُرجم سريعًا بأعمال مقاومة فعلية على الأرض.
ومع انتهاء أيام الصفقة بدت الفوارق بينها وبين صفقة وفاء الأحرار واضحة وكبيرة، فصفقة عام 2023 ركزت على الجانب الإنساني على حساب الجانب الكمي في عمليات التحرير، إذ اشترطت المقاومة وقف إطلاق النار ووقف كل الأعمال العسكرية لجيش الاحتلال في مختلف مناطق قطاع غزة، ووقف حركة آلياته العسكرية المتوغلة، إضافةً إلى إدخال 200 شاحنة من المواد الإغاثية والطبية يوميًا، و 4 شاحنات وقود مع 4 أخرى لغاز الطبخ، إلى كل مناطق قطاع غزة، بلا استثناء شمالًا وجنوبًا.
وهو ما أضاف عبئًا جديدًا على المفاوض المقاوم الذي توزعت جهوده بين التأكد من الإفراج عن أبنائه وضمان التزام الاحتلال بالشروط الإنسانية للصفقة، ففي اليوم الثاني أعلنت المقاومة تأخير إطلاق سراح الدفعة الثانية من الأسرى الإسرائيليين حتى تلتزم إسرائيل بالسماح لشاحنات المساعدات بدخول شمال قطاع غزة، وهو ما تم.
من بين الفوارق أيضًا هو أن عمليات التسليم كانت تتم في معظمها بإحاطة من المواطنين على العكس من صفقة شاليط التي اتخذت صبغة رسمية بروتوكولية عالية، وهُنا أيضًا حافظت المقاومة على خطوطها الحُمر، بتحرير الأسيرات والأشبال أولًا، بغض النظر عن المرجعية الفصائلية أو الجغرافية أو الدينية.
صفقة عام 2024: آخر تحديث
في اليوم 471 من الحرب وبعد أشهر من جولات المفاوضات انطلقت صفقة كسر قيدٍ جديدة، هذه المرة مثلت الصفقة تتويجًا لخبرة المقاومة في التفاوض والالتفاف على مكائد المحتل وكمائنه، ومراكمة لخبراتها السابقة وانفتاحًا أكبر على المزيد من التغييرات التي فاجأت المراقبين.
فخلال إعداد قوائم التبادل وضعت المقاومة شرطًا بوقف العمل الاستخباراتي والعسكري للاحتلال خلال الـ48 ساعة الأخيرة قبيل بدء سريان وقف إطلاق النار، لتمكين المسؤولين الميدانيين من حصر أسماء الأسرى الإسرائيليين والتأكد من مواقعهم وحالاتهم ورفعها إلى المفاوضين، ورغم أن الالتفاف الإسرائيلي على الشرط تزامن مع استمرار خرقٍ لموعد سريان الاتفاق، إلا أنه أكد يد المقاومة العليا وقدرتها على التأثير في العمق الإسرائيلي والتلاعب فيه.
كما انفتحت المقاومة على خبراتٍ فلسطينية من خارج تيارها للمساهمة في متابعة قوائم الأسرى الفلسطينيين وتدقيقها في سجون الاحتلال، وذلك بإشراكها كلًا من قدورة فارس رئيس هيئة الأسرى والمحررين وخضر شقيرات محامي الهيئة التابعة للسلطة الفلسطينية، في عملية التأكد من معايير إنجاز صفقة تبادل الأسرى.
الصفقة أيضًا شملت بنودًا تؤسس لما بعده وتُرسخ ما قبلها، ومنها إجبار المحتل على عدم إعادة اعتقال الأسرى الفلسطينيين الذين أطلق سراحهم من سجون الاحتلال بالتهم نفسها التي اعتلقوا بسببها سابقًا، وألا يعاد اعتقالهم من أجل قضاء ما تبقى من محكوميتهم، وألا يطلب منهم التوقيع على أي وثيقة شرطا لإطلاق سراحهم.
كما راعى المفاوضون المقاومون ألا يحاول الاحتلال فرض معاييره الحالية على المراحل التالية من الصفقة، وذلك باشتراط عدم استخدام المعايير الموضوعة بشأن تبادل المحتجزين والأسرى في المرحلة الأولى أساسًا للتبادل في المرحلة الثانية من الاتفاق.
أما تطبيقات الخبرة في الميدان، فكانت في يومها الأول (19 يناير) عندما حشدت المقاومة مركباتها البيضاء (تويوتا وفورد وغيرها)، وأطلقت عناصرها بزيّ عسكري وعتادٍ كامل وبشارات النخبة القسامية، محددة ساحة السرايا موقعًا للتبادل، ووضَح النهار زمنًا له، فنصبت مكتبًا وكرسيين للتوقيع على تسلّم الأسيرات بين مسؤول المقاومة وموظف الصليب الأحمر، ورغم أن الحشود الجماهيرية حالت دون توقيعٍ رسمي (مفعمٍ بالبرستيج والأتيكيت) للتسليم إلا أن توثيق المقاومة وإعلامها كان حاضرًا ومعززًا لمشاهد السيطرة المتواصلة للمقاومة ومظاهر الإسناد الشعبي العارم لها بعد عامٍ وثلاثة أشهرٍ على الحرب وأكثر من 45 ألف شهيد تحت وطأة الإبادة.
في تطبيقات الخبرة وتراكماتها هُناك أثر المقاومة الذي يُرى ولا يزول، والذي تركته من خلال تسليمها الأسيرات الإسرائيليات الثلاث "شهادات إطلاق سراح" مع تذكارات وصور توثق أسرهن في يد المقاومة (خوفًا من النسيان والنسيان من الشيطان)، وهو الذي تسبب في حالةٍ من الهستيريا الإسرائيلية التي توقعت تبادلًا ليليًا سريعًا وعاجلًا.
أما في شق الوطن الثاني، فقد أعاد المفاوضون المقاومون تأكيد سيطرتهم بإصرارهم على ألا يتم تبادل اليوم الأول إلا بقوائم كاملة لا ينقص منها شبلٌ ولا أسيرة، بينما سارعت أذرعها الإعلامية للدعوة لحشد شعبي يستقبل المحررين بما يليق، وهو ما كان.
ورغم أن اليوم الأول من التبادل انتهى، إلا أن جعبة الاتفاق لم تفرغ بعد، فالخبرة تفرض نفسها مقارنةً بصفقة 2023 في وجود ضمانات لوقف الحرب، وفي اشتراطٍ مقيدٍ بالوقت لإعادة جغرافيا غزة إلى أصحابها وتأكيد انسحابٍ كاملٍ من عمقه وزواياه، وفتح معبر رفحٍ وسفر الجرحى والمرضى، ودخول ضعف شاحنات المساعدات والوقود، وتقييد العمل العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي إلى ضعف الوقت، وإعادة سكان الشمال بلا حاجزٍ إسرائيلي ولا تفتيشٍ دولي.
يتزامن ذلك مع يقظة دائمة تجعل استمرار عمليات التبادل حتى نهاية اليوم 42 مرتبطة باستكمال المفاوضات على المرحلة الثانية الخاصة بالمجندين والمقاومين والقادة، فلا يُتاح للجمهور الإسرائيلي استقبال رهينة اليوم الـ 42 إلا بعد اتفاقٍ يؤسس لما بعده.
مع هذا الكم من التفاصيل يظل من المبكر حصر الخبرة ووعيها بما بدا من مظاهر أو تقييمها بما يظهر من نتائج، فالأيام القادمة حُبلى بعمليات التبادل والشد والجذب، ولا ريب أن المقاومة لم تفشل حتى الآن في إدهاش جمهورها وزعزعة أعدائها، لكن اتفاقًا مع عدوٍ يترقب الغدر يجعل الحاجة لسيناريوهاتٍ بديلة فرضًا لا تردد فيه.
بالمحصلة، أثبتت المقاومة أن الانتصار على العدو لا يقتصر على ميدان المعركة ونزالها، وإنما يتجاوزه لانتزاع الإنجازات من منظومته، والأبناء من سجونه، وأن الميدان السياسي يتطلب شراسةً ووعيًا وعزمًا لا يقل أهمية عن وعي المقاتل وعزمه، لا سيما وأن السياسة وجهٌ من وجوه الحرب ينال منها أصحابها ما لم ينالوه بسيوفهم ورصاصهم.