طوفان الأقصى.. العودة في مواجهة الإبادة
بين استحالة الطوفان وإمكان الإبادة!
مثّلت عملية "طوفان الأقصى" ذروة الفعل العسكري العربي، لا الفلسطيني فقط، في مواجهة الحالة الاستعمارية، المدعوّة "إسرائيل"، التي تبدو مستعصية، ومتفوّقة بقدر أريد له أن يُرى مطلقًا ولا نهائيًّا، في الوعي الفلسطيني والعربي، وفي وعي الإسرائيليين أنفسهم أيضًا، وفي وعي الإمبراطورية الراعية. وإذا كانت "إسرائيل" قد صارت كذلك في وعي أعدائها، ومن كانوا أعداءها، وفي وعيها الذاتي، ووعي المركز الإمبراطوري الغربي الذي يمدّها ذراعًا له في المنطقة العربية/ الإسلامية، فإنّها تصير كذلك في وعي العالم كلّه.
هذا الاعتبار المُركّب زاد في المعنى الاستثنائي لعملية "طوفان الأقصى"، فهي كبيرة، وعميقة، وناجحة، ومبادرة، ومقاتلة على "أرض العدوّ"، وأدّت مهمّتها في حدودها المكانية والزمانية بنجاح كامل، أيْ هي ناجحة في يومها من جهاتها العسكرية والأمنية، هذا النجاح اصطنعته أيدٍ فلسطينية داخل فلسطين، من قطاع غزّة المحاصر، المنبسط في شريط ساحليّ ضيق، مكشوف، كما يُفتَرَض، للخبرة الإسرائيلية، ولأدواتها الرقابية عالية التطوّر، وهو أمر، أي اصطناع النجاح بأيد فلسطينية، وهي كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس، ينضمّ إلى المعيار الذي تُقيّم به تلك العملية من حيث استثنائيتها في الفعل العسكري في مواجهة "إسرائيل".
تَبِعَ تلك العملية حرب إبادة إسرائيلية مُدمّرة، أرادت منها "إسرائيل" إنجاز عدد من الأهداف في إطار إستراتيجي جامع، يبدأ من تجاوز المحنة، وتخطي الصدمة، إلى محاولة استثمارها، عبورًا بضرورة استرداد "الكرامة الوطنية" وإثبات القدرة للذات، ولأيّ أحد آخر؛ بأنّها ما تزال قادرة، وقويّة، ولديها استعداد لفعل المستحيل، مقابل المستحيل، فإذا كانت عملية "طوفان الأقصى" ممكنًا قُدّ من المستحيل، فإنّ إبادة الفلسطينيين في قطاع غزّة، وتهجيرهم منه، بعد تدميره بالكامل، كانت تبدو مستحيلة في الزمن الراهن، ولكنّ "إسرائيل" تريد القول لذاتها قبل غيرها، إنّ المستحيل ممكن بالنسبة لها.
هذه الإبادة لم تكن أمرًا مستحيلاً، فالعقيدة الإسرائيلية أصلاً، هي عقيدة محو وإبادة ونفي، و"إسرائيل" نفسها، قامت في أساسها على تشريد الفلسطينيين من أرضهم بالقوّة العسكرية المُخيفة واقتراف المجازر المُرعبة. والكيان الذي جمع في أصل نشأته بين هذه العقيدة والممارسة، ثمّ ظلّ يكشف عن هذه العقيدة بالممارسة طوال عقود وجوده على الأرض التي شرّد سكانها الأصليين، لن يمتنع في لحظة ما، عن رفع مستوى عنفه إلى الإبادة؛ إذا كان التحدي الفلسطيني أعلى، وهو بما يملك من قوّة فاحشة، ومن غطاء أمريكي واسع، وفي لحظة عربية مكتملة الرداءة، انتقل فيها الموقف العربي من التخاذل الذي احتفظ في أحسن أحواله بالمقاطعة العلنية إلى التطبيع التحالفي المُعلن؛ قادر على اقتراف الإبادة والتدمير الشامل.
تحوّل الموقف بحرب الإبادة، من نجاح فلسطيني وصل الذروة في الفعل العسكري ضدّ "إسرائيل" إلى إبادة جماعية إسرائيلية مُعلنة وصريحة، اندفعت في مطلعها بالاستناد إلى الترهيب الأمريكي المرعب للمنطقة، واستمرت بالدعم الأمريكي المفتوح، ليتحوّل النجاح الفلسطيني إلى سجال قاس، ليس فقط في ساحة المُستثمرين للكارثة الإنسانية الهائلة الواقعة على الغزيين لتصفية الحساب مع حماس بوصفها حركة مقاومة، أو خصمًا أيديولوجيًّا، أو منافسًا سياسيًّا، أو بغرض الانحياز لـ "إسرائيل" علّها بإنجاز مهمّتها في غزّة، تُؤسِّس للتخلّص من القضية الفلسطينية بما يعيد تشكيل المنطقة العربية بلا فلسطين وبلا "إسلام سياسي"، ولكنّها أيضًا تحوّلت إلى سجال في أوساط أقرب إلى دوائر المقاومة نفسها، للثمن الفادح الذي كبّده الإسرائيليون للفلسطينيين في غزّة.
إبادة الوعي لمحو الطوفان!
في قلب ذلك كانت الخطّة الإسرائيلية عُقدة هذا السجال والواصل الضمني بين أطرافه، فالاستعمار، أيّ استعمار، يسعى دائمًا إلى تكبيد الشعب المُستعمَر أثمانًا أعلى بكثير من الفعل المقاوم الذي تتقدّم به القوى الطليعية المعبّرة عن إرادة الكفاح، بيد أنّ "إسرائيل" بطبعها وأصل تكوينها، تزيد على ذلك، بعقيدة خاصة، لها تجلّيات نظرية وخطابية ودعائية، علاوة على الممارسة، فنظريات "تكسير العظام" و"عقيدة الضاحية" و"كيّ الوعي" تتجسّد فيما هو أعلى في العنف الاستعماري المنفلت، من خلال الإبادة.
المقاومة الشعبية العامّة المؤطِّرة لجماهير الشعب، كما في الانتفاضة الأولى، تُواجَه بتكسير العظام، ليس فقط بغرض الردع، ولكن أيضًا في دلالة رمزية على جذرية الموقف إسرائيليًّا، أي هي معركة "تكسير عظام" في الفهم الإسرائيلي. والممارسة الإسرائيلية العملية لتكسير العظام تريد منها "إسرائيل" القول: نحن فقط من يستطيع تكسير عظام الآخر. فتكسير عظام الأطفال والشبان، بحسب ما أرادت "إسرائيل" التصوير للشعب الفلسطيني، يعني تكسير عظام الشعب الفلسطيني نهاية المطاف. ويمكن أن نتخيل كائنًا مُحطّم العظام، لن يكون حينها، إلا وجودًا رخويًّا عاجزًا. تكسير العظام، تعبيرٌ ماديٌّ عن قصدية سَلْبِ الإرادة وسَلْبِ الفاعلية.
والمواجهة الإقليمية، من أيّ طرف غير فلسطيني، مع الكيان الإسرائيلي، والتي تُذكّر بكون "إسرائيل" شذوذًا طارئًا على المنطقة، وأنّ ثمّة ممانعة لمحاولة دمجها وتطبيع وجودوها، وأنّ فلسطين تتجدّد بوصفها قضية عربية وإقليمية، لا مسألة فلسطينية، تَرُدُّ عليها "إسرائيل" بـ "عقيدة الضاحية" كما في حرب تموز في العام 2006 مع حزب الله. هذه العقيدة تبدّت تدميرًا ممنهجًا للبيئة الاجتماعية الحاضنة للمقاومة العربية، وبالقدر الذي يتجاوز في مقاصد رسائله، المحلَّ المستهدف، كالضاحية الجنوبية في بيروت، إلى المنطقة برمّتها، فمحاولة استعادة فلسطين لتكون قضية عربية وإسلامية، وترسيخ جدار يستند إليه الفلسطينيون، وتكريس توازن إقليمي مع قوى التطبيع، يُرَدّ عليه بالتدمير المروّع.
والمقاومة الوطنية الملحمية في فعلها واتساعها، وبما يهدّد الأمن الإسرائيلي في عمقه، ويستثير القلق الوجودي الإسرائيلي، ويستنزف "إسرائيل" دولة ومجتمعًا، كما في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، تتصدّى لها "إسرائيل" بسياسة "كيّ الوعي"، أي رفع مستويات العنف الاستعماري إلى درجات غير مسبوقة، وتحويل يوميات الفلسطينيين إلى جحيم متصل يتخلل ثواني أوقاتهم، كي لا يتذكر الفلسطينيون بعد ذلك إلا قصف مقاتلات الـ F16 ومروحيات الأباتشي، وتمزيق المناطق عن بعضها، وتحويل جغرافيا الضفّة الغربية إلى سلاسل دائمة التمدد والالتواء من الحواجز والأبراج العسكرية والبوابات الحديدية والمكعبات الإسمنتية والجدران العازلة والأسلاك الشائكة والطرق الالتفافية وكاميرات المراقبة عالية التقنية، وقد أبقت "إسرائيل" على هذه البنية الاستعمارية الأمنية إلى اليوم، حتى باتت قادرة على تفعيل 900 حاجز في الضفة الغربية مرّة واحدة، كما فعلت بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وبعد توقيع صفقة تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار المؤقت بينها وبين حركة حماس في 16 كانون الثاني/ يناير 2025.
يتبيّن أنّ العنف الاستعماري الإسرائيلي متصاعد باستمرار، ليأخذ سمات جديدة في النوع والدرجة، لمجرّد تجدّد المقاومة وحالات الرفض والنضال والتمرد. تَعُدّ "إسرائيل" تَجدُّدَ الفاعلية الكفاحية للفلسطينيين، أو إسنادهم من العرب، قضية خطيرة ينبغي أن تُدفن من فورها، بالعنف الصادم والمروع، والمتفوق في مستوياته على أيّ عنف خبره الكفاح ضدّها، ومن ثمّ، تؤكّد "إسرائيل" من حيث المبدأ على استحالة كبح جماح عنفها، حتى ولو كان الفعل المقاوم في حدود دنيا من العنف، أو كان مدنيًّا بالكامل ولكنه واسع وشامل ومؤثّر، كما فعلت في حصد المظاهرات السلمية في بداية الانتفاضة الثانية، وفي مسيرات العودة في قطاع غزّة.
وهنا تَحْضُرُ ثلاثة أسباب جوهريّة، تقابلها "إسرائيل" بالعنف الذي قد يتجاوز حدود الإبادة: الأوّل تجدّد إرادة مواجهتها، والثاني كون هذه المواجهة تأتي من بيئة اجتماعية محكومة بقوى محلّية، ومن ثمّ تَعُدّ "إسرائيل" البيئة الاجتماعية للمقاومة كلّها مدانة، كما فعلت مع مناطق السلطة الفلسطينية في الانتفاضة الثانية، ومع بيئة حزب الله في لبنان، ومع قطاع غزّة باستمرار، والثالث إذا بلغ الفعل المقاوم حدودًا تنمّ عن إرادة وقدرة صادمتين للإسرائيليين.
الاحتماء بالإبادة من القوّة الممكنة
كشف السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، عن مستويات من القوّة لا يمكن لـ "إسرائيل" احتمالها، وفوق ذلك ضَرَبَ نظريات الأمن ودعايات التفوق الإسرائيلية بنحو موجع للإسرائيليين، يتمدّد في الوعي نفسه، في العالم كله، ابتداء من الإسرائيلي، عبورًا بمن حوله، من أعدائه المباشر وحلفائه اللصيقين حتى آخر أطراف العالم، وبما يمسّ توتّر التفوق العنصري الإسرائيلي، فالفلسطيني في قطاع غزّة، وبموارد شحيحة للغاية، وفي ظرف مستحيل، تمكّن من إدارة عملية خداع إستراتيجي للمؤسسة الإسرائيلية، الأمنية والعسكرية والسياسية، ثم تَمّمَ ذلك في عملية عسكرية معقدة داست على كلّ التحصينات الإسرائيلية في محيط قطاع غزّة.
إنّ الوصول إلى مستويات من القوّة، تعكس بدورها الإرادة والتصميم والصدقية والجَدِّية، وعدم فاعلية الردع الإسرائيلي على النفسية المقاوِمة للشعب الفلسطيني، يعني خطرًا يتطلّب من "إسرائيل" المعالجة العنيفة، بما يتفق ونظريات "كيّ الوعي" ويفضي إلى تآكل هذه القوّة، فالارتفاع في مستويات العنف إلى درجات الإبادة؛ ليس ردّ فعل على استثنائية عملية "طوفان الأقصى" بقدر ما هو معالجة إسرائيلية وجودية للخطر الذي مثّلته العملية بدلالاتها على الإرادة المرتفعة من الجهة الفلسطينية بالقدرات الكفاحية.
إنّ الخلل إسرائيليًّا، كان في الفشل الاستخباراتي في تقدير قوّة حركة حماس، ونواياها القتالية، وإلا فإنّ السياسة الإسرائيلية تقضي بضرورة طحن هذه القوّة بالاستنزاف المستمرّ، أو بحرب قاصمة، فالسياسة الإسرائيلية القائمة أصلاً تجاه قطاع غزّة، هي "المعركة بين الحروب" و"جزّ العشب"، والحصار، أي الاستنزاف المستمرّ، الذي من شأنه أن يصعد إلى ما هو أعلى بحسب التحدي والمعلومات الاستخباراتية والمشاريع السياسية التي قد تُطرح في سياقات إقليمية ودولية.
إنّ فهم العقيدة والسياسة الإسرائيليتين تجاه الشعب الفلسطيني وتجاه أيّ حالة رفض وتمرّد في المنطقة، من حيث إنّها (أي العقيدة الإسرائيلية) قابلة للتعبير عن نفسها في إبادة مادية، لمجرّد تجدد إرادة الكفاح، وبحسب ما تكشفه هذه الإرادة من فعل نضاليّ ماديّ، لا يقتضي (أي فهم العقيدة الإسرائيلية) التغافل عن الثمن الفادح الذي دفعه الفلسطينيون في قطاع غزّة، ولا عن كون هذا الثمن انحصر في مستوياته هذه في قطاع غزّة، وهو ما يفتح النقاش المشروع حول التقديرات السياسية لحركة حماس وكتائب القسام من خلف قرار تنفيذ عملية "طوفان الأقصى"، إلا أنّ هذا النقاش، ينبغي أن يهدف إلى تحسين شروط الكفاح الفلسطيني، وإلى حماية الفلسطينيين أنفسهم من الردّ الإباديّ الإسرائيلي المحتمل، ويجب ألا يُغْفِل بدوره فهم الطبيعة الاستعمارية الصهيونية التي تحمي نفسها بالإبادة لكي تصبح مواجهتها مستحيلة، ولكي تتغير المفاهيم الفلسطينية والعربية بجعل الخضوع الكامل للإرادة الاستعمارية هو الإنجاز الممكن. بكلمة أخرى، لا تنحصر مشكلة "إسرائيل" في "طوفان الأقصى" في العملية نفسها، وإنّما أيضًا؛ في كون الفلسطينيين وصلوا هذه الدرجة من القوّة والإرادة والتصميم، حتّى لو لم يتمظهر ذلك في فعل ماديّ.
من هنا يأتي خطأ حشر تقييم مجمل الحرب في زاوية النصر والهزيمة، التي لا يمكن أن تكون مفاهيمها مُنجَزة ومحلّ اتفاق في الحلقات المتتابعة من سلسلة مشروع تحرّريّ طويل الأمد مع حالة استعمارية مُعقّدة، تستمدّ استمرارها من الإبادة والتردّي العربي والدعم الأمريكي المفتوح، وذلك لأنّ "إسرائيل" قادرة دائمًا على تكليف الفلسطينيين أثمان مقاومتهم بما يفوق الفعل المقاوم نفسه، لإجبارهم على مراجعة قاصرة للمنجر النضالي تحتجب خلف الفعل الإباديّ والتدميري الإسرائيلي، إذ لن يقول فلسطيني واحد إنّ الإبادة والدمار منجز فلسطيني علاوة على أن يكون انتصارًا فلسطينيًّا.
هذه المراجعة ستختلف حين توسيع مدى النظر، وعند رفض الاستجابة للإرادة الإسرائيلية التي تصرّ على أن لا يرى الفلسطيني إلا الإبادة، والفرق بين من يستسلم لهذه الإرادة الإسرائيلية، ومن يقاومها بالنظر الواسع للموقف، هو أنّ الإبادة في حالة الاستسلام هي المعطى الوحيد للموقف، وحين رفض الاستجابة للإرادة الإسرائيلية تكون الإبادة معطى ضخمًا من بين عدد من المعطيات، وبما يقضي بألا تُتَّهم المقاومة، ولا تُدان، ولكن يُتَّهم مقترف الإبادة، وتُفهم دوافعه التأسيسية الناجمة عن طبيعته الاستعمارية، بينما تُناقَش المقاومة بغرض التفكير في التصدي للنوايا الإسرائيلية الإبادية، وتحسين الظرف المقاوم، وتحصين التقدير السياسي المقاوم من الخطأ في فهم قوّة العدوّ والعوامل الأخرى الذاتية والإقليمية والدولية.
ملحمة العودة..
بدأت مشهدية "طوفان الأقصى" في ملحمة عودة الشبان من المقاتلين الفلسطينيين إلى ديارهم التي ظلّ الاحتلال الإسرائيلي يُهجِّر أجدادَهم وآباءَهم منها منذ أواخر الأربعينيات وحتى مطالع الخمسينيات من القرن الماضي. هذه المشهدية، بهذا المعنى، ساعتها، توارت قليلاً خلف الإنجاز العسكري الفلسطيني، ولم تأخذ العودة في بعديها الماديّ والرمزي حقّها من التكثيف في الوعي، وموقعها في السردية الفلسطينية تأكيدًا على كون القضية بدأت مع آباء هؤلاء المقاتلين وأجدادهم عند ترحيلهم من أراضيهم إلى قطاع غزّة.
اليوم تتجدد رمزية العودة وواقعيتها، كما تتكثّف قضيةً في قطاع غزّة، بوصفة معسكر اللاجئين الفلسطينيين الأكبر، ومنبع الوطنية الفلسطينية، ومأرز مقاومة الفلسطينيين المتجدد.
بدأت الحرب، بمشهدية عودة المقاتلين المُؤقّتة، على طريق العودة الدائمة، والرجاء أن تكون انتهت هذه الحرب بمشهدية عودة النازحين الفلسطينيين من جنوبيّ قطاع غزّة إلى مساكنهم المدمّرة في شماليّه. وإذا كانت عودة المقاتلين فعلًا للمستحيل حينما بدت "إسرائيل" قلعة لا تُختَرَق ولا يُقتَرَب منها من عالم آخر لا يُدرَك، فإنّ عودة النازحين، استظهار للممكن من خلف زيف المستحيل، فالمقاومة يمكن ألا تَنكسر، و"نتساريم" يمكن أن تتفكك، وكما أن جيش "إسرائيل" يمكن أن يُهزَم ومخابرتها يمكن أن تُستَغفل، فإنّ العودة إلى فلسطين كلّها ممكنة أيضًا، كما كانت يومًا ممكنة من مرج الزهور في جنوبيّ لبنان إلى فلسطين، في الإبعاد الممتد من كانون الأول/ ديسمبر 1992 حتى كانون الأول/ ديسمبر 1993، بصمود الحركتين نفسهما، حماس والجهاد الإسلامي، بعد عملية أسر جنديّ إسرائيلي نفّذتها مجموعة من كتائب القسّام في القدس.