ظلّ السالك وذهب الجلاد.. تأمل في فيلم Inside Man وذاكرة 1948

على سبيل التقديم..
ليست هذه المقالة مراجعةً لفيلم (Inside Man (2006، بل قراءة تأملية تستثمر بنيته الرمزية وتفكك مفرداته السردية والبصرية، لفهم آليات النظام العالمي، حيث يتواطأ المال والذاكرة والقانون في إنتاج النسيان وترسيخ الهيمنة، منذ اللحظة التأسيسية لعام 1948.
التحرير
عام 1948 هل هو تاريخ خاص بالفلسطينيين، أم هو مفتاح لفهم عالم المال والدم، عالم النسيان المؤسسي والعدالة الغائبة؟!
انتهت الحرب العالمية الثانية في أيلول/ سبتمبر 1945، بيد أن العام 1948 كانت له رمزية خاصة في فيلم Inside Man (الرجل من الداخل) الصادر عام 2006، من إخراج سبايك لي وبطولة دينزل واشنطن، وكلايف أوين، وجودي فوستر. هذه الرمزية تجعل من الصعب القفز عن دلالات هذا التاريخ في هذا الفيلم، تاريخ تأسيس بنك Manhattan Trust Bank، بحسب قصة الفيلم، حيث قلْب النظام العالمي، ومركز السلطة والنفود، وإذ يحمل اسم البنك "الثقة: Trust" وهي الثقة التي يجري تقويضها، وحيث يخفي البنك صندوقًا سرّيًّا غير موثق في سجلاته.
"أنا دالتون راسل. انتبه جيدًا لما سأقوله، لأنني لن أكرره"، بهذه الجملة، وفيما يعرف سينمائيًّا بكسر الجدار الرابع،[1] يبدأ الفيلم، الذي يقدّم اللص، بوصفه راو حكيم يدفعنا للنظر فيما وراء المشهد الظاهر، فالتحذير المتجه إلى المشاهد يحمل وضوحًا فلسفيًّا، فالخطة المتقنة لسرقة بنك، تتحول إلى تأَمّل أخلاقي/ درامي، ومتوالية سردية فلسفية في التاريخ والمال والنسيان والعدالة والسلطة، يميز دالتون راسل في بداية الفيلم، الذي هو عملية استرجاع يحكي فيها القصة، بين الكمون في زنزانة وبين أن تكون هذه الزنزانة في السجن، وذلك لأنّه يحشر نفسه في زنزانة يصنعها بيديه أول الفيلم في عملية اختفاء متقن، فالزنزانة هنا بمعناها الحرفي: مكان ضيق، معزول، أما السجن فله دلالة مؤسسية، قانونية، عقابية، والتمييز بين أن يختار أن يكون في مساحة ضيقة ضمن خطته، وبين أن يُسجن قسرًا بقرار السلطة، هذا التمييز ليس مكانيًا فقط، ولكنه وجودي أيضًا.
حينما يتحدث راسل عن دافعه للسرقة، يقول إنّه "وبالإضافة إلى الدافع المالي الواضح فإنّ الأمر سهل جدًّا، لأنني أستطيع القيام بعملية سطو"، في عبارة تفيد في ظاهرها التعبير عن الثقة بالنفس أو حتى غرور الدهاء الإجرامي، لكنها في جوهرها تذكير بأن القدرة تُلزِم، بكلمة أخرى كأنّه يقصد: "طالما أنني أستطيع فلماذا لا أفعل؟!"، السهولة هنا تشير كذلك إلى كون حصانة النظام ليست مطلقة، دالتون في هذه الحالة ليس ملاكًا، لكنه ليس مجرّد مجرم، بل فاعل درامي داخل بنية الظلم، يحرّك الرواكد.
يتخفى اللصوص في زي عاملي دهان، وبعضهم أصلاً يختلط بعملاء البنك وكأنهم منهم، وحينما يتمكن اللصوص من السيطرة على موظفي البنك وعملائه ويغلقونه، يجبرون الجميع على لبس زيّ موحّد مع أقنعة، بحيث يختفي اللصوص بين الرهائن، وحينما تقتحم الشرطة البنك لا تجد لصوصًا ولا سرقة مالية، فاللصوص اختفوا بين العملاء وخرجوا معهم وكأنهم رهائن، والتحقيق مع الرهائن الخارجين لا يجدي نفعًا في استخراج اللصوص من بينهم. وزعيمهم، دالتون راسل، كان قد اختفى خلف جدار اصطنع في البنك أثناء عملية السرقة، وبعد أسبوع، بعدما هدأت أصداء الحادثة، خرج من مخبئه.
تَخفّي اللصوص بين عملاء البنك، قد لا يقصد مجرّد البحث عن حيلة ذكية ومثيرة للخروج من البنك، ولكنه يعكس الضبابية الأخلاقية التي تكتنف النظام برمته، علاوة على نقد مؤسسات الدولة التي لا تميز بين الرهينة واللص، في رمزية على سؤال من هو اللص الحقيقي، فمن يُتهم بمخالفة القانون قد يكون قادمًا من وسط الضحايا لاستعادة حقوقهم، فاللص هنا يذوب بين الناس وهو مهموم بالحقيقة، في حين أنّ اللص الحقيقي هو سادن القانون، بالإضافة إلى تغييب الناس، الشعب، عن الحقيقة، وانطماسها بينهم، والعدالة هنا لا تصرخ بل تختفي، فالرأسمالي الأبيض يسرق تحت غطاء الاحترام، والعدالة تبحث عن ملثمين لا يختلفون عن الضحايا، والذاكرة مختبئة داخل الجميع، بانتظار من يفتح الخزنة.
ماذا أراد الصوص من هذا البنك تحديدًا؟!
يعود تأسيس بنك Manhattan Trust Bank بحسب قصة الفيلم إلى العام 1948، أسسه رأسمالي يُدعى في الفيلم آرثر كيس، بنى ثروته على التعاون مع النازية، ويخبّئ فيه صندوقًا يحمل رقم 392 يخفي وثائق عن تعاونه مع النازيين ونقله أموال اليهود ضحايا النازية لاستثمارها لحسابه، وخاتم يخصّ امرأة يهودية من ضحايا النازية أخذ منها بالإكراه، وأكياس تحوي قطعًا من الماس.
حينما يُداهم اللصوص البنك، يتصل آرثر كيس بامرأة غامضة تُدعى في الفيلم مادلين وايت، ليست محامية ولا ضابطة شرطة ولا سياسية، ولكنها تبدو وكأنها وسيط نافذ، يُفاوض باسم من لا يُمَسّ، يطلب منها العمل لصالحه لمنع كشف أسراره التي في الصندوق، مادلين وايت هنا، تبدو وكأنّها رمز للقوى الرمادية التي تحمي النظام من وراء الستار، القوى التي تضمن الحفاظ على شبكات المصالح بين قوى النظام المتعددة. حتى لا ينهار النظام، تتعاون وايت مع رئيس البلدية، رمز السلطة المدنية، لطمس أسرار الرأسمالية، وتحاول التأثير على المحقق فرايزر، تتفاوض مع زعيم اللصوص دالتون راسل. النظام في سلطته هنا، تتشابك فيه القوى الظاهرة والخفية لحماية عصبه الرأسمالي.
لم يسرق دالتون صناديق العملاء، ولا الأموال المكدسة في الخزنة العامة، ولكنه يسرق صندوق آرثر كيس فقط، بأسراره وثرواته. اللص هنا ليس متطهرًا تمامًا، فلا مانع من المال تعويضًا عن المغامرة، وبحثًا عن تحقيق العدالة بنحو معكوس، لا يعود البنك والحالة هذه مكانًا لحفظ المال، ولكنه رمز للرأسمالية المؤسسية التي تغطي جرائمها بأقنعة من النفوذ والقانون، وهو وبقدر ما يخفي الثروات، فإنه يخفي الجرائم والأسرار التي تراكمت بها وعليها الثروات، فالبنك البراق من الخارج، ومن الداخل بذهبه اللامع، متعفن جدًّا في جذوره ومساره، لا يخفي الأموال بقدر ما يخفي الذنوب التي قام عليها، واللص والحالة هذه، يجمع بين الدهاء الإجرامي والنقاء الأخلاقي، وإذا كان غير قادر على تحقيق العدالة، لا من خلال القانون الذي يحمي الجريمة، ولا بالمواجهة المباشرة، فهو يفعل ما يستطيعه لأجل إرباك نخبة المال والدم بعمل مسرحي يتوخى إثارة الأسئلة التي يطمسها القانون.
في مقابله آرثر كيس الرجل الذي يحمل الماضي النازي، وفي الوقت نفسه يبني مجده الرأسمالي في الولايات المتحدة الأمريكية، التي حاربت النازية، وحامية حمى اليهود، فالتاريخ لا يظهر كما هو، والأقوياء يعيدون فيه غسيل أنفسهم، على حساب الضحايا.
أمّا الضابط فرايزر (دينزل واشنطن)، وجه إنفاذ العدالة المباشر، يظهر في الفيلم قلقًا من شبهة فساد ظالمة تدور حوله، وتحول دون ترقّيه، بسبب اختفاء مبلغ من المال في قضية كان يحقق بها، الرجل النزيه هنا غير القادر على الزواج لعوزه المالي لا يثق به النظام، ولكن النظام يُسَخّر موارده كلها لحماية الرأسمالي الذي بنى إمبراطوريته على رفات الضحايا، الإمبراطورية المالية التي بٌنيت على المسكوت عنه. حاجة فرايزر لردّ الاعتبار والترقّي المهني تستغلها وايت في محاولة منها لدفعه عن كشف سر الصندوق 392.
على أية حال لا يُبقي اللص لفرايزر في الصندوق سوى خاتم المرأة اليهودية ضحية النازية، في رمز على عبء التاريخ الذي لا يمكن نسيانه، ذاكرة الضحية التي لا صوت لها، فإذا كانت الوثائق تدين، والماس يغري، فإنّ الخاتم يُذكّر. لن يكون فرايزر حينئذ سوى شاهد مهزوز على التاريخ، ومترنح تحت وطأة أمانة الذاكرة ومسؤولية الحقيقة.
العام 1948 جاء في ذروة ترتيب العالم الجديد والحرب الباردة، تسارعت فيه جهود غسل ماضي المتعاونين مع النازيين في أوروبا الغربية، وحركة اندماجهم في النظام الجديد، خصوصًا في مجالات المال والاستخبارات، عادوا من ماضيهم إلى حاضرهم لا بوصفهم جناة، ولكن بوصفهم بناة، لكن ما لا ينبغي أن يُنسى، أنّ هذا عام تأسيس إسرائيل بعد نكبة الفلسطينيين، حتى لو لم يقل الفيلم ذلك.
البنك بني على أنقاض جريمة كبرى، والنظام الجديد كله بني على جريمة كبرى وعلى أساس نسيان الجريمة، بنيت إسرائيل في العالم الجديد مكان الشعب الفلسطيني، تدار الجرائم الكبرى كهذه، ويبنى العالم الجديد فوقها، خارج سجلات القانون، لأنّ النظام برمته يتأسس على طمس الجريمة، فإذا كان الخطاب الغربي يصوّر العام 1948 رمزًا لولادة "وعد الخلاص" لليهود بعد المحرقة، فإنّ حقيقة هذا النظام هي استغلال المأساة لتأسيس نفوذ سياسي واقتصادي، حتى لو كان عن طريق تبييض جرائم من تعاونوا مع النازية مقابل خدمات لاحقة للنظام الغربي.
على هذا يصير الصندوق 392 رمزًا على الذاكرة التي أسقطت عمدًا، واستعارة لهندسة عالم ما بعد الحرب: كيف تبنى مؤسسات دولية واقتصادية على أنقاض ذاكرة منتقاة ومغسولة. هذه المؤسسات هي معبد المال ومقبرة التاريخ؛ بنية عالمية قائمة على غسل الجرائم ودفن أسرارها والاستثمار الأنيق فيها، فعالم ما بعد الحرب قام على تسويات قذرة لا تكتب في التاريخ الرسمي، وإذا كان من غير المعروف لماذا اختار صناع الفيلم الرقم 392 رقمًا للصندوق المخفي خارج السجلات، فمن اللافت أنّ هناك قرارًا أمميًّا يحمل الرقم 392 صدر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 19 حزيران/ يونيو 1976 يدين سياسات الفصل العنصري (الأبارتايد) التي كانت تمارسها حكومة جنوب إفريقيا آنذاك، وذلك بعد مجزرة سويتو (Soweto Uprising)،[2] إذ قتل نظام الفصل العنصري عددًا كبيرًا من المتظاهرين الشباب.
وفي حين أنّ من المجازفة الجزم بقصد المخرج سابيك لي[3] من اختيار هذا الرقم، فإنّ الربط بين الرقم والقرار الأممي المشار إليه قد يفيد في القول إنّ إخفاء الجرائم يعني تكرارها ما دام النظام قادرًا على غسل نفسه من جديد. والعالم يبدأ بغسل نفسه، وطمس آثار الجريمة، وتحريف الحقيقة، مباشرة كما يجري اليوم في جريمة العصر الأكبر، حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزّة. تستطيع أن تسرق، أن تقتل، إذا تمكنت من محو آثار جريمتك، أو تحريف الحقيقة، أو تكفي القوّة العارية أحيانًا لتكون هي الحقيقة، فالضحية يُعاد تعريفها لا على أساس الحقيقة، بل على أساس المصلحة السياسية والمالية، أو بحسب منطق القوّة.
في الفيلم رجل سيخي، هو أحد موظفي البنك، لكن لا يبدو أنّ هذا هو السبب لتحميل شارة الفيلم؛ الأغنية الهندية (تشيا تشيا/ Chaiyya Chaiyya) المأخوذة من فيلم (Dil Se) الصادر عام 1998 من بطولة شاروخان، ومن غناء سوشويندر سينغ وسويتا شاندرا. صحيح أنّ هذا المدخل ربما يسعى إلى تفكيك التوقعات، حينما يبدأ بأغنية هندية إيقاعية ومبهجة على خلفية لقطات لمدينة نيويورك، بما يُحدِث نوعًا من الانفصال الشعوري عن التوقعات المألوفة، للقول إنّ هذا ليس فيلم سرقة ومطاردة أمريكي نمطي، ولكنّه تجربة هجينة، متداخلة ثقافيًا، تشكك في "المعتاد"، كما تنسجم الأغنية مع اهتمام المخرج سبايك لي بقضايا التنوع والهوية، ومع مدينة نيويورك بوصفها بوتقة لصهر الثقافات العالمية، وصحيح أنّ الأغنية تفيد في خلق توازن بين الثقل المعنوي والطاقة الإبداعية، بلمسة موسيقية قد تبدو عابثة أو مرحة للقول إنّ هذا الفيلم ليس محاضرة أخلاقية، ولكنّها، أي الأغنية التي كتبها غولزار، تحمل رمزية متأثرة بالشعر الصوفي للشاعر البنجابي بابا بله شاه[4]، الذي له قصيده تتكرر فيها كلمة (ثيا ثيا/ Thaiya Thaiya)[5].
كلمة "Chaiyya" في أغنية فيلم شاروخان تعني "الظل" أو "الغطاء"، وتكررها الأغنية للإشارة إلى الحماية والسكينة التي يجدها العاشق في ظل حبيبه، وكأنّها في فيلم Inside Man فاتحة للسير في خطرٍ تحت ظلّ قضية لا تُقال علنًا، أو أنّ السكينة في الانحياز للعدالة والضحايا مهما كان الخطر، وعلى أية حال تتردد هذه الجمل في الأغنية: "الذين تستظل رؤوسهم بالحب، ستكون الجنة تحت أقدامهم/ هيا نسير تحت الظل..."، سيصير دالتون راسل، حينئذ، سالكًا، اختار أن يخترق "قلب المؤسسة" لا لينهب، بل ليكشف، وإذا كان سير السالك الصوفي في ظلّ الحب تجرّدًا من الأنا، وانغماسًا في البحث عن المعنى، حتى لو كان في الخطر، ففي البحث عن الحقيقة، حتى لو اختلطت النوايا، قدر من التجرّد من الأنا.
دالتون راسل، الذي يختبئ في جدار البنك، يشبه العارف الصوفي. ينسحب من العالم الظاهري الذي فيه الرهائن، والشرطة، والفوضى، ويعتكف في باطن النظام داخل الجدار، حيث الخلوة والمعرفة، منتظرًا اللحظة التي يخرج فيها حاملاً رسالته، يترك الخاتم في الصندوق للشرطي رمزًا على رسالته، وفي حين أنه لم يُرَ، ولم يَعرفه أحد، فأثره باق كالولي المجهول، لأن خلوته لم تكن انسحابًا، ولكنها كانت بحسب المفهوم الصوفي "فتوّة".
عاش دالتون في الظلّ بالرغم من كونه الفاعل الأهمّ، والجنة هنا هي المعنى لا الفردوس الحقيقي، المعنى بالسعي إلى كشف الحقيقة، ومحاولة الانتصار على المؤسسة. دالتون وليّ معاصر يدخل إلى نظام دنيوي فاسد، ليأخذ من قلبه شيئًا لا ينبغي تركه هناك، فالسرقة حينئذ ليست ضد القانون؛ بل أعمق من القانون، والخروج من الجدار ليس هروبًا، بل تجلٍ بعد خلوة، والأغنية ليست للرقص، بل لمن فهم طريق السالكين الذين لا يرون طريقهم إلا إذا مشوا تحت ظل الحب، وأمّا المحقق فرايزر الذي لم يكن جزءًا من الخطة، فقد تلقّى الإشارة، أو العهد: (الخاتم)، ليقف في النهاية مثل السامع الذي ترددت في داخله نغمة لم يعرف كيف يعزفها، لكنه لن ينساها.
ومع ذلك كان ثمة رمزية للموظف السيخي، فحينما يخرج مع الرهائن بالزي الموحد الذي فرضه عليهم اللصوص ليذوبوا بينهم، ولأنّ الشرطة تعامل كلّ رهينة على أنّها لص محتمل، يسمع ذو العمامة السيخية المميزة، شرطيًّا يقول له: "ارفع يديك أيها العربي"، في دلالة على العنصرية المتجذرة في المخيال الأمني الأمريكي، وعلى أن العدالة ليست فقط ضائعة، بل ملوّثة بالتحامل العِرقي.
ثمة ما يبدو نقدًا عابرًا لثقافة الاستثناء الأمريكية، خاتم يهودية تخفيه خزنة بنك مؤسس على معاناة اليهود، ومسنة بيضاء تقول للصوص حينما يطلبون منها ارتداء الزيّ الموحد بعبارة هجينة من الإنجليزية واليديشية: " What's with you mishegoyim? " (ما بكم أيها الأغيار المجانين؟)[6]، ومحققان أسودان داخل المؤسسة ولكنهما خارج امتيازاتها، محل شكّ أو رفض، المحقق الذكي المحاصر بين القيم التي يؤمن بها، والبنية الفاسدة التي يخدمها، هل يستطيع أن يكون فاعلًا في نظام لم يُصمَّم لأمثاله؟ الصراع هنا ليس مهنيًّا فحسب، ولكنه هوياتيّ أيضًا.
إذا أخذنا هذه الملاحظة من سياقها الأمريكي بدلالاتها العالمية، هل يمكن إصلاح النظام العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة بالعمل من داخله؟! هل الاستجابة لشرط الانضمام إلى النادي، أو لنيل الاعتراف من سدنته، يمكن أن تنتهي إلى إصلاح النظام؟! وإذا كانت العدالة والامتياز في أمريكا تُوزَّع على أساس الهوية، لا القيم بحيث يمكن غسل الجريمة وتبييضها إذا كان الجاني نافعًا للنظام ومندمجًا فيه، فهل يمكن بالاندماج في النظام الأمريكي العالمي نيل العدالة؟!
التعددية الثقافية كما تبدو من هذه الرموز، (وغيرها: حاخام يهودي في البنك يقول له اللصوص إنه سيعامل كبقية الرهائن، وجه شرق آسيوي...)، ليست مجرد زينة حضارية لمدينة نيويورك، بل كشف عن كون هذا التنوع يفتقد التساوي في الحضور أو الحق أو التمثيل. هو تنوع موجود، لكنه مُراقَب، مُتّهم، ومُحاصر، وغالبًا منهوب رمزيًا وماديًا، الرأسمالية والحالة هذه، لا تصوغ فقط الثروة، بل الرواية السياسية والتاريخية، ثم تصفّي من خلالها ضحاياها.
في أحد مشاهد الفيلم يتحدث لص مع طفل يلعب إحدى ألعاب الفيديو، يذكر هذا الطفل "بن لادن"، في دلالة على أنّ الهوية العربية أو المسلمة أصبحت مرادفًا ضمنيًا للخطر في المخيال الغربي. من يزرع في طفل بريء هذه النظرة؟ الرأسمالية الإعلامية والتعليمية والتقنية، التي شكلت وعيه، حتى من خلال ألعاب الفيديو. الضحية في النظام الرأسمالي تُدفع دفعًا لتصبح خصمًا أو خطرًا، ثم تُدان بهذا الخطر الذي صُنع لها، والأطفال، حينئذ، يُلقّنون الخوف من "الآخر"، والأقليات تُراقَب، والدين يُسلّع أو يُشوَّه، والعدالة تُفرّق حسب من يدفع أكثر، العرب والمسلمون أدوات خوف، والسود موظفون داخل النظام دون سلطة حقيقية، واليهود يُستدعى ماضيهم ليُستخدم باسمهم في سحق الآخرين ونهبهم، الرأسمالي الأبيض يخرج دائمًا بلا خدش، حتى من يُتهم بالإرهاب هو في نهاية المطاف نتاج للرأسمالية التي نهبته وأقصته.
هل تنتقد هوليود النظام؛ وهي واحدة من أدواته؟
هوليود سوق ضخمة تحكمها قاعدة واحدة: الربح زائد السيطرة على الرواية، لكن السيطرة لا تعني دائمًا القمع، بل أحيانًا السماح بنقد محدود لإفراغ الغضب أو التنفيس، أو حتى لإظهار "الليبرالية الشكلية"، فهي إذن تنتج أفلامًا تنتقد الشرطة، والطبقية، والعنصرية، حتى الحروب، لكن نادرًا ما تسمح بطرح نقد راديكالي يتهم النظام كله بالفساد البنيوي، فأفلام مثل Fight Club، The Big Short، Don’t Look Up، وحتى Inside Man، تقدم نقدًا، لكن بشرط أن يكون منضبطًا ضمن اللعبة، لا يكسر اللعبة ذاتها.
الأفلام الأكثر حدة في النقد تصدر عن مخرجين "Auteurs"، ذوي نزعة شخصية وأجندة فكرية واضحة، مثل: سبايك لي، وأوليفر ستون، وآدم مكاي، ومارتن سكورسيزي في بعض أعماله، لكنّ أعمالهم عادة ما تُمرَّر لأنها تُحقّق أرباحًا (فيلم Inside Man بلغت تكلفة إنتاجه 45 مليون دولار وإيراداته في جميع أنحاء العالم أكثر من 186 مليون دولار)، وتُبقي النظام في موقع السيطرة بحيث يسمح بالنقد، لكنه لا يتصدّع، لا تدعو للثورة، بل تكتفي بالفضح أو التلميح، وهو ما يدعو للانتباه إلى أنّه حتى الأفلام النقدية الهولويودية لا تتضمن الحديث المباشر عن الصهيونية، وتخلو من النقد الجوهري للرأسمالية بوصفها فلسفة شاملة (وليس مجرد سلوك طماع)، ولا تبلغ رسالتها درجة تصوير ثورات ناجحة تقلب ميزان السلطة فعليًا، ونادرًا ما تتحدث عن طبقة رأسمالية متعمدة إنتاج الحروب أو الإرهاب، ولكنها تظهر فاسدين داخل النظام، مع ظهور النظام (غالبًا) قابلاً للإصلاح، وتلمح إلى أن الأقليات ضحايا، دون اقتراح أداة حقيقية للتحرر.
سبايك لي هنا في Inside Man استغل قصة سرقة جذابة ليُمرّر، نقدًا للسردية الغربية عن الخير والشر، وتلميحًا لتواطؤ المؤسسات مع الفساد التاريخي، وتفكيكًا لتناقضات العدالة في مجتمع تعددي، لكنه لم يُسمِّ الصهيونية، ولم يتهم النظام الأمريكي مباشرة، ولم يُطالب بتغيير جذري، فهو، إذن، نقد داخل اللعبة، لا خارجه.
وأخيرًا من هو Inside Man، هل هو دالتون الذي اختبأ داخل الجدار، أم من يعيش داخل النظام ويعرف كيف يعمل وكيف تغيب العدالة فيه، أم آرثر كيس الذي عاش داخل النظام وبنى فيه مجده الرأسمالي رغم ماضيه النازي، أم مادلين الأكثر غموضًا داخل النظام، أم فرايزر، الذي رأى كل شيء لكنه لم يستطع تغييره، أم نحن، الناس، المشاهدين، الذين يعرفون الآن، لكنهم يختارون النسيان ويعودون إلى يومهم العادي.
[1]. كسر الجدار الرابع سينمائيًا (Breaking the Fourth Wall in Cinema) هو تقنية سردية يُخاطِب فيها أحد شخصيات الفيلم الجمهور مباشرة، كأن ينظر إلى الكاميرا ويتحدث إلى المشاهد. وسبب التسمية ترجع إلى المسرح التقليدي، حيث يقف الممثلون بين ثلاثة جدران (اليمين، اليسار، الخلفية)، بينما الجدار الرابع وهمي، وهو واجهة المسرح التي يُشاهد منها الجمهور العرض، تبنت السينما هذا المفهوم، فأصبح “الجدار الرابع” هو الكاميرا، وأي تفاعل مباشر مع الكاميرا هو كسر لهذا الجدار.
[2]. انظر نص القرار:
https://docs-un-org.translate.goog/en/S/RES/392(1976)?_x_tr_sl=en&_x_tr_tl=ar&_x_tr_hl=ar&_x_tr_pto=wa
[3]. سبايك لي مخرج أمريكي من أصول إفريقية، أخرج عام 1992 فيلمًا عن مالكوم إكس (Malcolm X 1992)، مقتبس عن السيرة الذاتية “The Autobiography of Malcolm X” التي كتبها أليكس هالي بالتعاون مع مالكوم نفسه، أسس شركة إنتاج تحمل اسم 40 Acres and a Mule Filmworks، والاسم يرمز إلى الوعد الذي قُدم للأمريكيين الأفارقة بعد التحرر من العبودية بمنحهم "أربعين فدانًا وبغلًا"، وهو وعد لم يُنفذ، ويُعدّ رمزًا لخيانة أمريكا للسود بعد العبودية.
[4]. السيد عبد الله شاه القادري (1680–1757)، معروف باسم "بابا بُلّي شاه"، كان فيلسوفًا ثوريًا، ومصلحًا، وشاعرًا صوفيًا من طريقة "چشتي"، ويُعدّ "أب التنوير البنجابي" وأحد أعظم شعراء اللغة البنجابية. والطريقة الجشتية طريقة صوفية سُميت نسبة إلى بلدة "چشت" في أفغانستان، وانتقلت إلى هرات، ثم انتشرت لاحقًا في جنوب آسيا.
[5]. تقول القصيدة: "تيري عشق نچایا كركے تھیا تھیا" (حبك جعلني أرقص بجنون) / "تيري عشق نے ڈیرہ میرے اندر كیتا" (حبك استقر في داخلي) / "بھر كے زہر پیالا میں تے آپے پیتا" (ملأت كأس السم وشربته بنفسي) / "جلبے واہدی طبیبا نہیں تے میں مر گئیان" (إذا لم تأتِ يا طبيبي، فسأموت).
[6]. كلمة mishegoyim، نادرة الاستخدام، ويبدو أنها كلمة يديشية، واليديشية بدأت لهجة ليهود ألمانيا، ثمّ تطورت لتكون لغة لليهود الإشكناز، والكملة مكونة من شقين: "mishigas" (יידיש/Yiddish): الجنون أو الهراء، و"goyim" (עברית/Hebrew): جمع "goy"، وتعني غير اليهود، تستخدم بتمييز عنصري، ولن يخلو استخدام الكلمة في هذا السياق من رمزية، تتعلق بالجذور الإشكنازية لصاحبة العبارة. العبارة دالة على افتراض طبقي وعرقي وديني، فالعنصرية والتراتبية لا تنكسر حتى في مثل هذه الظروف، وبقدر ما تظهر الكلمة بنية الجلاد على لسان الضحية، فهي تطوي على مفارقات متعددة، فهي منسدلة من الضحايا ولكنها تدافع عمن بنى مجده على آلام الضحايا دون أن تدري، علاوة على كون المؤسسة والحالة هذه ليست فقط بيضاء، بل يهودية/ بروتستانتية؛ متشابكة مع رموز عرقية دينية.