"عرين الأسود".. حكاية في ابتكار المقاومة

"عرين الأسود".. حكاية في ابتكار المقاومة
تحميل المادة

على سبيل التقديم..

بعد أن كُتِبَت هذه المادة، واجهت مجموعات "عرين الأسود"، جملة تحدّيات، تكشف من جهة الظرف السياسي والاجتماعي الذي تعانيه قضية المقاومة داخليًّا في ساحة الضفّة الغربية، ومن جهة أخرى، موقع أي ظاهرة مقاومة جادّة بالنسبة للحساسيات الأمنية والعسكرية، ومجمل الموقف الاستعماري، للاحتلال الإسرائيلي، وكان من ضمن تلك التحديات، اغتيال المقاوم في إطار "عرين الأسود" تامر الكيلاني، يوم 23 تشرين الأول/ أكتوبر، بعبوة ناسفة، قيل إنّها وضعت في دراجة نارية في طريقه، وذلك في حين لم تزل تقديرات أخرى تُطرح حول آلية الاغتيال، بيد أن التحدي الأكبر كان في العملية الكبيرة والمعقّدة التي نفّذها الاحتلال، فجر 25 تشرين الأول/ أكتوبر، بإشراف مباشر من رئيس أركان جيشه ورئيس مخابراته، من مقرّ "الشاباك" في "تل أبيب"، وأفضت إلى استشهاد خمسة فلسطينيين، من بينهم القائد في مجموعات "عرين الأسود"، وديع الحوح، وتلا ذلك تحدّ ثالث تمثل في تسليم أحد مقاومي "عرين الأسود" نفسه لأجهزة السلطة الفلسطينية، وهو ما يعكس سياسات إحياء العفو والاحتواء الناعم التي تمارس على ظواهر المقاومة الجديدة. ولكون هذه الحوادث جاءت بعد كتابة المادة، فقد اقتضى التنويه إليها، وهو ما يعزّز الأطروحات التي تقدّمها هذه المادة.

·      التحرير

 

تنطوي الساحة الفلسطينية على "سِحرٍ" مقيم، يتجلى في انبجاسِ خيارات متناقضة من السياق الاجتماعي والجغرافي ذاته، هذه الخيارات المتزاحمة لا تتعلق بإرادة الفاعلين السياسيين في انتقاء ما يتفق مع رؤيتهم للحاضر والمستقبل، بل تجري عليه أحكام خاصة تتعلق بالمنطقة التي ما زالت تتقلب بين الخيارات الصاخبة، مع سيادة "عدم اليقين" الذي أدّى إلى قلقٍ في سياسات "الضبط" التي اعتادت الوثوقية سابقًا.

"عدم اليقين" هذا هو ما يجعل السياسة في فلسطين أمرًا "مثيرًا"، إن جاز التعبير، فعندما تتجه الكتابة السياسية إلى إثارة التشاؤم -تنبثق من أماكن "غير متوقعة" أحيانًا- حراكات تخلخل المعادلة التي اشتغلت الأطراف المعادية للشعب الفلسطيني على تثبيتها، طوال سنوات.

كُتب الكثير عن السياسات المتداخلة بين الأمني والسياسي والاقتصادي التي وقعت على المجتمع الفلسطيني، في الضفة الغربية، بعد انتفاضة الأقصى، لإبطال أي حراك ثوري آخر، وهنا تحضر المعادلة التي تقول إن انبثاق الثورات يجري أحيانًا من قلب السياسات الاستعمارية ضد البنى الاجتماعية والسياسية والدينية التي تحمل الثورة وتدفعها نحو الحياة. 

مقاومة رهان السلطة الاستعمارية على تذويب المجتمع الفلسطيني في سياساته المعروفة بـــ"السلام الاقتصادي"، لم تكن عمليةً سهلةً، بل دفع مئات المقاومين وعائلاتهم ثمنًا مرًّا من حريتهم ومستقبلهم وحتى لقمة عيشهم، لتثبيت حالة المقاومة، وإدامة الاشتباك.

من هذه المقاومة المستمرة توالدت محاولات أخرى لإدامة الاشتباك في الضفة الغربية، وهنا يمكن قراءة الحراك الثوري في الزمن الفلسطيني "الجديد"، إن جازت التسمية، أو الذي ما زال يتجدد من أرض الاشتباك الأول مع المشروع الاستعماري، في صيغة ترى في عمليات المقاومة السابقة إرثًا يجري التعامل معه بوصفه دافعًا لــ"الاشتباك المستمر"، وفي الوقت ذاته تبحث عن روافع جديدة ما زالت تحمل في طياتها الجديد الذي ستكشف عنه الأيام المقبلة.

 

انطلاقة من الدم

لا تُعرف على وجه الدقة لحظة انطلاق مجموعات "عرين الأسود"، ولا الحيثيات الواضحة والمحددة لقرار تأسيسها، لكنّ ما نعرفه أن التشكيلات الحالية في المدينة وريفها "كتيبة نابلس، كتيبة مخيم بلاطة" التابعة لسرايا القدس و"عرين الأسود"، بدأت بالتبلور قبل شهور من العام الحالي مع عمليات إطلاق النار التي تزايدت في مواجهة الاقتحامات التي تنفذها قوات الاحتلال، خاصة لقبر يوسف لتأمين اقتحام المستوطنين للمكان.

ولدت مجموعات "عرين الأسود" من الدم حرفيًا، كان استشهاد أدهم مبروكة ومحمد الدخيل وأشرف المبسلط برصاص قوات خاصة "إسرائيلية" داخل مركبتهم، في مدينة نابلس، مرحلةً جديدةً في مسار المقاومة داخل المدينة، التي صعد فيها اسم المطارد إبراهيم النابلسي الذي نجا من عملية الاغتيال التي استهدفت رفاق السلاح.

استشهاد المجموعة لم يعرقل توسع عمليات إطلاق النار في المدينة ومحيطها، وثبّتت المقاومة مسار مواجهة اقتحامات جيش الاحتلال لمدينة نابلس بالرصاص، وأصبح محيط قبر يوسف عند كل اقتحام للمستوطنين ساحة معركة تستقبل فيها المقاومة آليات الاحتلال وجنوده بالرصاص والعبوات المتفجرة ومختلف أدوات المقاومة الشعبية.

ولدت مجموعات "عرين الأسود" من الدم حرفيًا، كان استشهاد أدهم مبروكة ومحمد الدخيل وأشرف المبسلط برصاص قوات خاصة "إسرائيلية" داخل مركبتهم، في مدينة نابلس، مرحلةً جديدةً في مسار المقاومة داخل المدينة، تلاها استشهاد المقاوميْن محمد العزيزي وعبود صبح اللذين يُنسب لهم –مع آخرين- وضع اللبنات الأولى لبناء العرين، ثمّ استشهاد المطارد إبراهيم النابلسي، ورفيقه إسلام صبوح.

تصاعد عمليات المقاومة في نابلس وتوسعها زاد خسائر قوات العدو. في 30 حزيران/ يونيو الماضي أصيب قائد قوات الاحتلال في شماليّ الضفة الغربية، روعي تسويغ، ومستوطنان اثنان برصاص المقاومين الذين كمنوا في محيط قبر يوسف.

امتلاك المقاومة زمام المبادرة بتنفيذ هجمات متنوعة ضد أهداف الاحتلال، منحها بعدًا رمزيًا ومعنويًا أصبح يرتفع مع كل عملية، الأمر الذي حمل الاحتلال على تكثيف عملياته العسكرية في نابلس ومحيطها؛ لاستئصال البؤرة التي وضعت مشروع المقاومة بصيغته الجديدة موضع التنفيذ العملي، ولمنعِ تمددها، لا سيما مع تزامن حالة المقاومة في نابلس مع صعود آخر لمجموعات المقاومة في جنين، والتي كان له دور الدافع المعنوي وربما المادي لتجربة نابلس وغيرها.

أصبح المطارد إبراهيم النابلسي الهدف الرئيسي في مرمى عمليات الاحتلال، ترافق هذا مع اشتغال دائم لدى المقاومة لتوسيع صفوفها وبناء مجموعات أكبر، وظهر هذا في العروض العسكرية والفعاليات الميدانية التي نفذتها لاحقًا. في تموز/ يوليو الماضي استشهد عبد الرحمن صبح ومحمد العزيزي بعد أن اشتبكا مع وحدات الاحتلال الخاصة المدعومة بقوات كبيرة، داخل منزل في البلدة القديمة بمدينة نابلس.

لاحقًا قالت مصادر إعلامية، إن الهدف من العملية العدوانية "الإسرائيلية" كان اجتماعًا لقيادات ميدانية من المقاومة، استطاعت الانسحاب بسلامٍ بغطاء من الشهيدين العزيزي وصبح اللذين اختارا افتداء رفاقهما.

رمزية المطارد إبراهيم النابلسي تأكدت بالدم، بعد استشهاده مع رفيقه إسلام صبوح مشتبكيْن مع قوات الاحتلال. شارك آلاف الفلسطينيين في تشييع النابلسي وصبوح، وكان للوصية التي بثها عبر تسجيل صوتي لرفاقه، بالتمسك بخيار المقاومة، ثم مشاركة والدته في حمل جثمانه خلال الجنازة، مؤثرات شديدة الحضور في التداول الإعلامي والسياسي داخل المجتمع الفلسطيني، وفي أحاديث الناس في المنتديات الاجتماعية المعتادة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.

هذه الدافعية التي تقدمها دماء الشهداء لتجارب المقاومة، صارت من العلامات المشهودة التي تتكرر في كل مرحلة ثورية، وهكذا دفعت عمليات الاغتيال التي نفذها جيش الاحتلال في نابلس وجنين ومناطق مختلفة من الضفة، لتوسيع أفق انتشار المقاومة، حتى كان الإعلان الأول عن انطلاق مجموعات "عرين الأسود" خلال مهرجان تأبين للشهداء.

الظهور الأول لمجموعات "عرين الأسود" كان " منظمًا للغاية، على نمط العروض التي اعتادت فصائل المقاومة تنظيمها خلال انتفاضة الأقصى، ولاحقًا صار لها حضورها الدائم في سياق العمل الإعلامي والدعائي للتشكيلات العسكرية، في قطاع غزة.

كان الإعلان الأول عن انطلاق مجموعات "عرين الأسود" خلال مهرجان تأبين للشهداء في البلدة القديمة بنابلس، بدا الظهور الأول لمجموعات "عرين الأسود" منظمًا للغاية .. لكن الإعلان عن انطلاق المجموعات، لم يكن سوى فاتحة لسلسلة من عمليات إطلاق النار توسعت باستمرار من المدينة إلى محيطها الذي غزاه العدو بالاستيطان والمواقع العسكرية

العرض العسكري الأول لـــ"عرين الأسود" حمل رسائل مختلفة، قالت الكثير عن المرحلة التي وصلت لها مجموعات المقاومة في نابلس امتدادًا إلى ريفها ومخيماتها، ثم ظهرت وكأنها اقتباسٌ للمجموعات التي قادت العمل العسكري في نابلس خلال انتفاضة الأقصى، وبقيت بعضها فاعلة حتى مراحل متأخرة بعدها.

لم يكن الإعلان عن انطلاق المجموعات، سوى فاتحة لسلسلة من عمليات إطلاق النار توسعت باستمرار من المدينة إلى محيطها الذي غزاه العدو بالاستيطان والمواقع العسكرية، وأصبح من يوميات المشهد الفلسطيني بيانات "عرين الأسود" عن عملياتها العسكرية.

 

بلاغات "عرين الأسود"... كيف اكتسبت الثقة الجماهيرية؟

صوت "عرين الأسود" يأتي محمولاً على بلاغاتها العسكرية التي تبثها باستمرار عبر قناتها في "التلغرام"، التطبيق الذي يبدو من بين باقي منصات مواقع التواصل الاجتماعي الأنسب لبث البيانات العسكرية، نظرًا لتحرره "حتى اللحظة" من الاستجابة لمطالب الاحتلال "الإسرائيلي" بالتضييق على المحتوى الفلسطيني، ثم طبيعة وصول البيانات عبره بشكل مختلف عن بقية التطبيقات المبنية أساسًا على "خوارزميات" معينة.

الفريد في تجربة "عرين الأسود"، هو الاستجابة الجماهيرية السريعة والواسعة لبياناتها، الاستجابة المنطلقة من ثقة لم تحجبها حداثة "العرين" في السياق المقاوم والسياسي الفلسطيني، أو غيابها المادي الدائم على الأرض، مع ما يترتب على ذلك غياب المؤسسات التنظيمية التي نعرفها من تجربة التنظيمات الفلسطينية.

هذه الفرادة تأتي من اعتبارات مختلفة، بعضها يتعلق بالواقع الفلسطيني الذي كثرت فيه الشكوى منذ سنوات من "ضعف" التفاعل الجماهيري مع القضايا الرئيسية في الصراع مع الاحتلال "الأسرى، الاستيطان، المسجد الأقصى" وغيرها، في ظل الحديث الدائم في الفضاء الإعلامي والسياسي عن دخول فئات واسعة من المجتمع الفلسطيني، في الضفة الغربية خاصة، في سلسلة عمليات "التدجين الإسرائيلية".

الفريد في تجربة "عرين الأسود"، هو الاستجابة الجماهيرية السريعة والواسعة لبياناتها المبثوثة عبر "تيلجرام"، وهو ما يثبت أن ما تحتاجه الجماهير الشعبية للعودة عن "عزوفها" أو "اليأس"، من البنى السياسية والقوى المتصدرة لعمليات التوجيه والنداء، هو الثقة المكتسبة من ميدان المقاومة والمواجهة

انطلاقًا من التفاعل الشعبي الواسع مع بيانات "عرين الأسود"، يمكن الحكم بعبثية الفكرة القائلة دائماً بـــ"موت" السياسة في المجتمع الفلسطيني. في كل مرحلة اشتباك مع الاحتلال، كانت الجماهير الفلسطينية تقدم مؤشرات واضحةً، على أن الأمل قريب من الساعين إلى إحيائه، ولم تكن الاستجابة لبيانات "عرين الأسود" ورفاقها في مجموعات المقاومة في نابلس وجنين، الذين تزداد أعداد كوادرهم يوميًا -وهي أحد علامات استعداد المجتمع للتضحية- الاستجابةَ الأولى خلال هذه السنوات التي تعرضت فيها الضفة الغربية لأحد أقسى وأعنف الحملات الأمنية والسياسية لكسرها، وإن كان لها مميزاتها التي تجعل لكل مرحلة تاريخًا بدايةً وامتدادًا يميزها عن بقية المراحل.

وهذه التجربة تثبت أن ما تحتاجه الجماهير الشعبية للعودة عن "عزوفها" أو "اليأس"، من البنى السياسية والقوى المتصدرة لعمليات التوجيه والنداء، هو الثقة المكتسبة من ميدان المقاومة والمواجهة، وهي الثقة ذاتها التي اكتسبتها التشكيلات العسكرية لفصائل المقاومة في غزة، عبر مسار البناء والإعداد والمواجهات مع جيش العدو.

إذاً تعود هنا الدلالات الواقعية والعملانية لتؤكد على الحاجة إلى الطليعة المقاتلة أو المناضلة، التي يصبح حضورها رافعةً لعودة الجماهير إلى الميدان، ويتحول كل فعل لها مدماكًا هامًّا في بناء "الزمن الفلسطيني الجديد" الذي تنحت فيه المقاومة مسار دخول المجتمع كاملاً في المواجهة، وهذا يظهر واضحًا في بيانات مجموعات المقاومة وبينها "عرين الأسود" مؤخرًا، بتوجيه الجماهير الشعبية إلى اجتراح وسائل نضالية متوفرة شعبيًا في غالب الأحيان، لمواجهة الاستيطان والحركة العسكرية لقوات الاحتلال.

ولا تكتفي "عرين الأسود" بدور الموجه أو التنظيم القائد، بل إنّ بياناتها تطبيق لمفهوم أن الثورة تعيش في بحر الجماهير وتستمد منها الحياة، لذلك توجه لها لغة "أخوية" مبناها الأساسي على مفاهيم "المناشدة" و"الدعوة" وإشراك المجتمع الفلسطيني في أمر المقاومة وضرورات حمايتها من المتربصين بها.

التواصل الجماهيري الدائم له ضروراته أيضًا في سياق مواجهة مفاعيل الحصار الذي فرضته قوات العدو على المدينة وريفها، لتدفيع الحاضنة الجماهيرية ثمن المقاومة، وهو ما ظهر فشله بعد المسيرات الحاشدة التي خرجت في شوارع نابلس وجنين ورام الله ومناطق أخرى، بعد نداء وجهته "عرين الأسود" للجماهير.

ولا تكتفي "عرين الأسود" بدور الموجه أو التنظيم القائد، بل إنّ بياناتها تطبيق لمفهوم أن الثورة تعيش في بحر الجماهير وتستمد منها الحياة، لذلك توجه لها لغة "أخوية" مبناها الأساسي على مفاهيم "المناشدة" و"الدعوة" وإشراك المجتمع الفلسطيني في أمر المقاومة وضرورات حمايتها من المتربصين بها

 

بين التنظيم والحراك الحر

طوال السنوات كان سؤال "التنظيم" حاضرًا بقوة في النقاشات السياسية الفلسطينية، في مرحلة ما بعد انتفاضة الأقصى. شكلت التنظيمات القوة الأساسية في مختلف مراحل الصراع مع الاحتلال، بما يتعلق بعمليات التنظيم وبث الوعي السياسي وإدارة الحياة اليومية خلال الأحداث الكبرى وتأطير الناس وغيرها، وحافظت حتى اللحظة على وجود رئيسي في المجال السياسي والنضال الفلسطيني، إلا أن الضربات الأمنية والعسكرية التي تعرضت لها في السنوات الماضية، جعلت من وجودها على الأرض ملاحقًا باستمرار، الأمر الذي حرمها من حركة التواصل الطبيعية أو المعتادة مع الجماهير، ثم انقلب الأداء السيء في عدد من الملفات السياسية والاجتماعية إلى شعور عام بـــ"النفور" أو "اليأس" من الحالة السياسية، لدى طبقات مختلفة في المجتمع الفلسطيني.

ومن هنا تتكاثر القراءات لتجربة "عرين الأسود"، التي لم تقل كل حكايتها بعد، بين من يراها تعبيرًا عن تراجع التنظيمات الأساسية لصالح مجموعات خارجة عنها، وآخرين يرونها نتيجة لإرادة بعض الفصائل في دعم المقاومة، ولكنها تبدو أقرب إلى صيغة التنظيم المركب من عناصر قد تختلف في الرؤى والأيديلوجيات، لكنها تتفق على المقاومة، وهي مزيجٌ بين التنظيم الهرمي والحراك الذي يضم النشطاء الذين تجمعهم قضية واحدة.

رغم أن "التقديرات" تشير إلى أن تركيبة "عرين الأسود" ولدت من إرادة كوادر يحملون أيدلوجيات فصائلية مختلفة ويجمعون على ضرورة رفع السلاح في وجه الاحتلال، لكن المجموعات تؤكد في مختلف بياناتها التي تشكل أدبياتها أو نظرتها عن نفسها، حتى اللحظة، على أنها ليست محسوبةً على أي من الفصائل.

وربما ليس من الدقة الحديث عن أن "عرين الأسود"، نتاج توجه استراتيجي لدى فصائل المقاومة لبناء تشكيلات عسكرية موحدة، بل إنها قد تعبر عن إرادة جيل جديد من المقاومين تجاوز "العُقَد" التي حكمت عقلية الجيل القديم، خاصةً الذي عايش انتفاضة الأقصى؟ ورغم أن للمقاومة تاريخًا طويلاً في العمل العسكري المشترك، لكن تجربة "عرين الأسود" قد تشكل فاتحةً لمرحلة جديدة في العمل العسكري الفلسطيني.

 

التحديات الداخلية… التركيز على الصراع الرئيسي

فجَر اعتقال الأجهزة الأمنية الفلسطينية لمصعب اشتية أحد الكوادر الرئيسية في مجموعات "عرين الأسود"، والمعتقل في سجون الاحتلال عدة مرات سابقًا على خلفية نشاطه في الجهاز العسكري لحركة حماس، احتجاجاتٍ شعبيةً واسعةً في مدينة نابلس امتدت لاحقًا إلى مناطق أخرى.

حملت هذه الأحداث مؤشرات مختلفةً عن طبيعة الاحتقان الذي يعيشه المجتمع الفلسطيني، الذي تراكم عبر سنوات ماضية، وطبيعة التأثير الذي أصبحت تخلقه مجموعات المقاومة في الوعي الجماهيري. 

فجَر اعتقال الأجهزة الأمنية الفلسطينية لمصعب اشتية أحد الكوادر الرئيسية في مجموعات "عرين الأسود"، احتجاجاتٍ شعبيةً واسعةً في مدينة نابلس، وهو ما يؤشّر إلى واحدٍ من أهمّ التحديات التي تواجهها المجموعات، وهي محاولات احتوائها عبر المحاصرة، أو استنساخ تجربة العفو وإلقاء السلاح التي سادت عام 2007 و 2008.

في بياناتها المختلفة خلال الأزمة، وجهت "عرين الأسود" الجماهير الفلسطينية إلى فعاليات "عصيان مدني" للضغط على السلطة للإفراج عن مصعب، قبل أن تتوصل لجنة التنسيق الفصائلي في المحافظة إلى اتفاقية تهدئة بين الطرفين.

تؤكد "عرين الأسود" في بياناتها على مركزية الصراع ضد الاحتلال وتهميش باقي "الخلافات الداخلية" لصالح هذه المواجهة، في محاولة ربما لتجاوز التحديات الداخلية الفلسطينية ومنعها من التأثير على تمدد نشاطها في مواجهة الاحتلال، في ظل تهديدات الاحتلال بشن عملية عسكرية واسعة في المدينة لاستئصال مجموعات المقاومة، هذه التهديدات التي تأتي في الاعتبار الأول أداةَ "ضغط" على السلطة من أجل أن تحتوي حالة "عرين الأسود" وتمنع تمددها.

محاولة "عرين الأسود" للخروج بــ"أقل الأضرار" من هذه الظروف المعقدة داخليًا، نحو تثمير عملياتها ضد الاحتلال، بمزيد من توسع المقاومة يأتي في ظل تصريحات فلسطينية وتسريبات عن محاولات لاحتواء المجموعات على الطريقة التي جرى فيها التعامل مع بعض المطاردين، بعد انتفاضة الأقصى.

يبدو هذا التحدي واحدًا من أصعب التحديات التي تواجه حالة عرين الأسود، التي يشكّل وجودها من حيث هو، كما وجود كل حالة مقاومة عسكرية في الضفة الغربية، تحديًّا وأزمةً للسلطة الفلسطينية التي حسمت خياراتها في رفض العمل المسلّح الذي تعتقد أن استمراره وتوسّعه قد يشكّل خطرًا على ديمومتها وسيطرتها. يظهر ذلك في محاولات السلطة محاصرة الحالة، باعتقال مصعب اشتية تارةً، وبمحاولة استنساخ تجربة العفو وإلقاء السلاح التي سادت عام 2007 و 2008 تارةً أخرى.

هذا الجهد الذي تبذله السلطة في الخفاء، ظهَر بعضهُ في تصريحات أدلى بها محافظ نابلس قال فيها إنّه عرض على المقاومين في "عرين الأسود" وما زال يعرض عليهم أن يوفر لهم الحماية مقابل أن يصل إلى تفاهمات تخصهم مع "الطرف الآخر"، وهي كلمةٌ تستخدمها السلطة وتعني: "الاحتلال"، متهمًا جهاتٍ لم يسمّها بركوب حالتهم الثورية. 

 

نابلس القديمة… بؤرة الثورة

التركيبة الاجتماعية في البلدة القديمة لنابلس المعروفة بانحيازها تاريخيًا للمقاومة بكل تشكيلاتها، والبناء والموقع الجغرافي الذي يجعلها بؤرة إسناد وتمركز للمقاومين، يجعلها باستمرار مكانًا له دلالة مرادفة لـ "الثورة" و"التمرد"، حتى إن أزقتها تزدحم بصور الشهداء الذين خرجوا منها أو رسموا طرقاتها بالدم، وهكذا، أصبح اسم البلدة القديمة محفزًا للوعي على استذكار أسماء مئات المقاومين.

اتخذ الكوادر الأساسيون في تشكيل مجموعات "عرين الأسود" من البلدة القديمة، مركزًا أساسيًا في حركتهم التي اندفعت من رَحمِ البلدة إلى الحياة، ثمّ أثمرت الواقع الذي نعيشه حاليًا.

عودةً إلى الروايات الشعبية عن شهداء مجموعات المقاومة الذين ارتقوا مؤخرًا، يَظهر حجم الاندماج الاجتماعي والعلاقات الواسعة مع المجتمع، وهو ما عزز من حضورهم الرمزي لاحقًا خاصةً في عقل الجيل الجديد، الذي تُروى قصص كثيرة عن تأثره بهم من خلال تفاصيل يومية عاشوها معهم.

الدلالات الرمزية والمعنوية للحضور الطاغي لهذا الجيل من الشهداء في وعي الفتية والشبان، الذين ولد معظمهم بعد انتفاضة الأقصى، يظهر في الشعارات التي تحملها ملابسهم وصور الشهداء التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من التفاصيل الاجتماعية التي تؤكد على "الترميز" الواسع الذي مارسه المجتمع لأيقونات المقاومة.

 

خاتمة لا بد منها

كي لا ننشغل بتحليل مجموعات المقاومة أو الدخول في الجدال الذي لا ينتهي حول دور الفصائل فيها؛ عن الدور الأساسي في التنظير لفكرة المقاومة نفسها، وحشد أسباب بقائها في المجالات السياسية والاجتماعية، فإن هذه المرحلة من تاريخ المقاومة في الضفة الغربية التي تمحورت في مجموعات مختلفة "كتيبة جنين، عرين الأسود، كتيبة نابلس" وغيرها، بالإضافة للعمليات الفدائية في مناطق مختلفة من الضفة والداخل، تحتاج إلى متطلبات للديمومة والتوسع والاستمرار، تقع على عاتق النشطاء السياسيين وأبناء الفصائل وقيادات المقاومة.

الدلالات الرمزية والمعنوية للحضور الطاغي لهذا الجيل من الشهداء في وعي الفتية والشبان، الذين ولد معظمهم بعد انتفاضة الأقصى، يظهر في الشعارات التي تحملها ملابسهم وصور الشهداء التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من التفاصيل الاجتماعية

"وحدة الساحات" كان الشعار الرئيسي الذي رفعته المقاومة في مختلف مساراتها، خلال الفترة الماضية، الشعار الكبير الذي تحقق واقعًا خلال معركة "سيف القدس"، وعاد في المواجهة التي خاضتها المقاومة في شهر آب/ أغسطس الماضي، أصبح هدفًا أساسيًا تسعى مجموعات وفصائل المقاومة لإدامته في الوعي والممارسة الفلسطينية، وهي مسؤولية جماعية تجتمع فيها الفصائل مع عموم المجتمع.

تسير مجموعات المقاومة في الضفة الغربية في واقع شديد التعقيد، وهي محاولة جديدة للإجابة على سؤال "ما العمل"، الذي حضر بقوة في النقاشات الفلسطينية، ردًّا على التحدي الاستعماري الذي ازدادت شراسته في الضفة الغربية والقدس وبقية فلسطين، هذه الإجابة التي ما زالت تحتاج إلى مزيد من الانخراط والحماية الاجتماعية والأداء السياسي الفاعل لاشتداد عودها.