عن العَسْكر الذي يحتلُّنا .. قراءة في كتاب هيئة الأركان… كيف تتعلم - تخطط - تنظم، (1/3)
على سبيل التقديم..
تأخذ منصّة إطار على عاتقها، تقديم معرفة نظريّة وعلميّة بمجال اهتمامها الفلسطيني، لتوفير مادة مرجعيّة مركّزة، ومداخل موجزة، حول مختلف قضايا هذا المجال، ولأنّ الصراع مع العدوّ الإسرائيلي يحتاج معرفة علميّة أفضل من مجرّد المتابعة الإخبارية السائدة في النشاط الإعلامي الفلسطيني والعربي، يصير من الضروري، تقريب ما يُكتب عن المجتمع الإسرائيلي بمختلف مكوّناته وقواه وأجهزته وتيّاراته، إلى القارئ الفلسطيني والعربي، ولأجل هذه الغاية، بدأت المنصّة بتلخيص وتكثيف بعض أهمّ ما كتبه الصهاينة عن أنفسهم، لجمهورهم همّ، مما يضفي على تلك النصوص موضوعية أكبر، ممّا لو كانت لأغراض دعائية أو تجارية أو استخباراتية.
أوّل ما تقدّمه منصّة إطار لجمهورها، وللقارئ الفلسطيني والعربي، عرضًا مركّزًا من ثلاثة أجزاء، لكتاب "هيئة الأركان العامّة"، بالعبرية: "המטכ"ל"، لمئير فنكل، الذي كان رئيس قسم الأبحاث في مركز "دادو" للتفكير العسكري متعدّد التخصصات في قسم العمليات في هيئة الأركان العامة. ومن بين مناصبه السابقة في جيش العدوّ؛ كان عميد مدرع (في حرب لبنان الثانية)، ورئيس دائرة الدفاع والمضبوطات في الذراع البرّية وقائد مركز "دادو"، وهذا الكتاب يأتي توسعة لكتاب سابق له، بعنوان "رئيس الأركان".
يقدّم الكتاب الصادر بالعبرية، عام 2020، والذي ترجمه مركز "الهدهد" إلى العربية عام 2022، عرضًا مفصّلاً عن هيئة الأركان التي تمثّل القيادة العليا للجيش، أو مقرّه الإستراتيجي، بمخلف شعبها وأقسامها، والتطوّرات التي طرأت عليها، في إطار الحروب والمواجهات والتحدّيات التاريخية لدولة العدوّ، والمشكلات التخطيطية والعلميّاته والإدارية التي تواجه جيش العدوّ، وأذرعه وشعبه وأقسامه، بما في ذلك مساهمة هيئة الأركان في صناعة القرار إلى جانب المستوى السياسي في دولة العدوّ.
· التحرير
"لا وجود لإسرائيل دون الجيش"، هكذا لخّص رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في تصريحات صحفية في أوج الأزمة السياسية الداخلية، بعد إعلان وزير القضاء ياريف ليفين عن خطته لإجراء "تعديلات على النظام القضائي"، أو "الانقلاب على القضاء"، وفقًا لتوصيف أحزاب المعارضة الإسرائيلية.
العلاقة الشَّرْطية بين الجيش و"الوجود المادي المباشر لدولة الاحتلال"، قامت على تدمير الوجود المادي لمئات القرى والتجمعات الفلسطينية، عن طريق القوّة العسكرية العدوانية، ومع السنوات أصبح للجيش حاجات أمنية/ عسكرية، ومجتمعية تتعلق بقضية "الصهر"، التي تقوم على أسطورة "جيش الشعب"، الذي يذيب الفوارق الاجتماعية والسياسية بين مكونات مجتمع المستوطنين.
الدور المركزي للجيش في "دولة الاحتلال" يفرض أهمّية مماثلة لمنصب رئيس الأركان، الذي يعدّ رأس قمة الهرم في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، ويشرف على تنفيذ السياسة العسكرية - الأمنية التي تقرها الحكومة وأجهزتها المختلفة، ويقود عمليات تطوير القوات ووضع الاستراتيجيات القتالية. ويمنح المنصبُ صاحبَه فرصة الصعود في الحياة السياسية الإسرائيلية، بعد مغادرته للخدمة العسكرية.
في كتابه "هيئة الأركان… كيف تتعلم - تخطط - تنظم"، يناقش- العميد احتياط في جيش الاحتلال، مائير فينكل، والذي خدم سابقًا في مركز "دادو" للتفكير العسكري متعدد التخصصات، ويحمل درجة الدكتوراه في مجالات الاستراتيجية والتكتيك والتاريخ العسكري- العملياتِ الرئيسية للتخطيط في هيئة الأركان العامة، وأنماط التعلم المختلفة فيها، وأنماط التنظيم في مواجهة تحدٍ متطور، والتعامل مع الخلافات داخل الهيئة.
الكتاب من ترجمة مركز "الهدهد"، وصادر عن دار النشر الإسرائيلية "مودان" ومجلة الجيش "معرخوت" ووزارة جيش الاحتلال، في عام 2020، وقدم له رئيس الأركان السابق أفيف كوخافي، ويقع في 262 صفحة.
تعريف بأذرع جيش الاحتلال[1]
ولد جيش الاحتلال الإسرائيلي من عمق تأثيرات حرب 1948، التي كانت منظمة "الهاغاناة" خلالها، القوة الصهيونية الأكبر في مواجهة العرب والفلسطينيين، قبل أن يقرر ديفيد بن غوريون تأسيس "جيش عصري" قادر على مواجهة التحديات الاستراتيجية لدولة الاحتلال في حينها، وهي الجيوش العربية والمحيط المعادي.
قبل الدخول في كتاب "هيئة الأركان"، يجدر التعريف بالمبنى التنظيمي لجيش الاحتلال الإسرائيلي الذي يتكون من القيادة العامة التي تضم: شعبة الموارد البشرية، وشعبة الاستخبارات العسكرية، وشعبة العمليات، وشعبة الاتصالات المحوْسبة، وشعبةً تختصّ بالقضايا اللوجستية، بالإضافة للأذرع العسكرية "البرّ والبحر والجوّ".
ويتفرع عن المركز القيادي في جيش الاحتلال قادة ألوية الشمال، والمركز، والوسط، والجبهة الداخلية، ويضمّ أيضًا أجهزة إضافية بينها الناطق باسم الجيش، والنيابة العسكرية، والحاخامية العسكرية، والكليات العسكرية، ومنسق عمليات حكومة الاحتلال في المناطق.
وفي ثمانينيات القرن الماضي أعلن جيش الاحتلال عن إقامة "ذراع البرّ" ذراعًا مستقلةً مسؤولةً عن الوحدات البرّية المقاتلة في عموم الجيش، بعدما كان جنود البرّ تابعين لألوية مناطقهم. وقد جاء ذلك على إثر الاستنتاجات التي خرج بها بعد حرب لبنان عام 1982، وهي ضرورة إقامة قيادة موحّدة لكل القوات التي تعمل على اليابسة، ومنذ العام 2006 حصلت قيادة قوات البرّ على صلاحيات إضافية وأصبح تحت إدارتها: وحدة المشاة، والمدرعات، والهندسة الحربية، والمدفعية، والاستخبارات، والاتصالات المحوسبة، والإمدادات، والتسليح، والإدارة العسكرية.
وتأسس ذراع الجوّ بداية مع عصابات "الهاغاناة" تحت اسم "الخدمة الجوية"، وشارك لاحقًا في مختلف الحروب التي شنتها دولة الاحتلال على الشعب الفلسطيني والدول العربية، وفي عام 2005 قررت القيادة العسكرية تبديل اسمه إلى "ذراع الجوّ والفضاء".
وبدأ سلاح البحرية في عهد بن غوريون الذي أوكل إلى غرشون زك شراء معدات بحرية، من إيطاليا، لتأسيس الجهاز الذي بدأ مهماته انطلاقًا من عام 1948، وعقب حرب 1967 بدأ جيش الاحتلال بناء أسطول بحريّ كبير، شارك لاحقًا في مختلف المعارك والحروب مع الدول العربية.
ما هي هيئة الأركان؟
يعرّف الكاتب هيئة الأركان بأنها "القيادة العليا للجيش"، والتي تنهض بمهمتين رئيسيتين: أولهما: بناء القوّة أي "المعركة المؤسساتية" أو معركة تطوير مؤسسات الجيش، وهدفها تحسين "مهارات الجيش" وتطوير القدرة لتحقيق أهداف "المعركة العملياتية"، وثانيهما: تفعيل القوّة من خلال "المعركة العملياتية"، وهدفها تحقيق الأهداف الاستراتيجية والحربية والتكتيكية للجيش، من خلال استخدام القوّة العسكرية.
تضمّ هيئة الأركان العامّة في جيش الاحتلال رئيس الأركان، ونائب رئيس الأركان، والهيئة المنسقة (قائد شعبة العمليات والتخطيط والاستخبارات العسكرية، وقائد سلاح القوى البشرية، وقائد سلاح التنصت والسايبر، وقادة أذرع البرّ والبحر والجوّ)، وعدد من الضباط الآخرين بينهم الناطق باسم الجيش، والمستشار الاقتصادي لرئيس الأركان.
ويميزُ جيش الاحتلال بين شعبة هيئة الأركن العامة، ومنتدى شعبة هيئة الأركان التي تضمّ أيضًا قادة المناطق والفيالق، ويرصد الكتاب التغييرات التي جرت على هيكلية شعبة الأركان منذ ما بعد حرب 1948 (النكبة) وحتى اليوم. في بدايات تأسيس جيش الاحتلال كان النموذج مشابهًا لما يعرفه خريجو الجيش البريطاني، أي القائم على ثلاثة أقسام: قسم شعبة هيئة الأركان، وقسم سلاح القوى البشرية، وقسم سلاح الإمداد.
تقلبات في الأشكال التنظيمية
خلال السنوات تغّيرت الأشكال التنظيمية، في هيئة الأركان، بدءًا من فصل شعبة الاستخبارات العسكرية عن شعبة العمليات، وإنشاء سلاح التوجيه على ضوء النموذج "الأمريكي – الفرنسي"، ثم إعداد سلاح التوجيه ليصبحَ وحدةً في شعبة العمليات، وإضافة رتبة عميد إلى سلم درجات شعبة هيئة الأركان، وإنشاء شعبة التخطيط، ثم إنشاء إدارة تطوير الأسلحة والبنية التحتية التكنولوجية، وإنشاء قيادة القوات البرّية عام 1983 وتقليص سلاح التوجيه، وإنشاء قيادة الجبهة الداخلية عام 1992، ثم تحويل سلاح المخازن إلى شعبة التكنولوجيا والإمداد اللوجستي، وفي عام 1999 إنشاء قسم مستقل للعمليات في عهد شاؤول موفاز، وفي 2003 إقامة سلاح التنصت والسايبر، ثم توسيع صلاحيات قادة الأذرع "البرّ، الجوّ، البحر"، وفي 2005 تقليص شعبة التكنولوجيا والإمداد اللوجستي إلى شعبة الإمداد، ثم إلغاء ما تعرف باسم "إصلاحات الطليعة" على يد غابي أشكنازي عام 2007، في ضوء الدروس بعد حرب لبنان عام 2006.
ينقل فينكل عن العقيد احتياط في جيش الاحتلال، جابي سيبوني، انتقاده لــ "تفكيك شعبة التخطيط والعمليات وتحويلها إلى قسمين مستقلين"، حيث قال إن هذا الإجراء "أضرّ بقدرة الجيش على التطوير في المجالات النظرية والآنية" وأن "تفكيك شعبة التخطيط والعمليات كان له أثر سلبي على التخطيط للعمليات والحملات مثلما أثّر على عملية بناء القوة العسكرية في الجيش".
قضية مركزية أخرى في سياق دور هيئة الأركان وهي "الصلاحيات" الممنوحة لها، في عمليات بناء القوة وتفعيلها، خاصةً في ما يتعلق بالقوات البرّية، وهذا النقاش امتدّ في مراحل مختلفة من تاريخ جيش الاحتلال، وكانت هيئة الأركان تواجَهُ بادعاءات مختلفة بينها أنها "لا تقدّم استجابات كافيةً في مجال بناء القوّة العسكرية البرّية"، وفي سياق آخر أنها "تركّز على القوى البرّية وهو ما يلحق الضرر بالقوّة الجوّية". ويطرح الكاتب إشكاليةً أخرى من وجهة نظر المؤسسة العسكرية وهي أن "قائد ذراع البرّ متساوٍ في الرتبة مع قادة الجبهات وهذا يخلق صعوبة في وضع صلاحيات خاصّة به"، ويقدّمُ نموذجًا لهذه القضية وهو تعيين اللواء بيني غانتس في منصب قائد ذراع البرّ بعد انتهاء فترة خدمته في قيادة المنطقة الشمالية، وقد فشلت محاولة أخرى من هذا النوع في عهد غادي آيزنكوت، عندما قرّر تعيين الضابط روني توما قائدًا للقوات البرّية بعد انتهاء فترة مسؤوليته عن المنطقة الوسطى.
معضلة "تداخل الصلاحيات"
تداخل "الصلاحيات" في الأقسام العملياتية في القوّات البرّية بجيش الاحتلال، ظهرت آثاره في مراحل مختلفة (حرب سيناء، حرب 1967، حرب 1973، حرب لبنان 1982) وغيرها، ويشير الكتاب إلى مقال نائب رئيس الأركان، آدم يكوئيل، الذي قُتل خلال حرب لبنان الأولى، وطالب فيه بإلغاء "قيادة قوّات الميدان" وأن تكون الفرق البرّية تحت قيادة قادة المناطق والجبهات فقط.
رئيس أركان جيش الاحتلال السابق، غادي آيزنكوت، حاول فضّ الإشكالية من خلال إصدار تعليمات بأن يكون قائد فيلق الأركان هو نفسه قائد كلية تدريب قوات البرّ، ليكون مسؤولًا في الوقت نفسه عن "تطوير القوّة وتفعيلها"، إذ كانت التعليمات حينها بأن يكون قائد ذراع البرّ مسؤولًا عن الفيلق الشمالي، لكن هذه التعليمات "لم تطبّق"، بسبب "تداخل الصلاحيات بين جنرالات قيادة سلاح البرّ"، وفقًا لفينكل.
متغيّرات أخرى جرت في شعبة هيئة الأركان بجيش الاحتلال، بينها إنشاء لواء التخطيط الاستراتيجي في شعبة العمليات عام 1994، بعد انطلاق محادثات التسوية مع منظمة التحرير ودول عربية، إذ جرى إنشاء دائرة للاتفاقيات السياسية تفرّع عنها ثلاثة طواقم للتفاوض مع الدول العربية. وفي عام 2005 أقيم سلاح التطوير والأبحاث في شعبة العمليات، وفي عام 2015 قرر رئيس أركان جيش الاحتلال إقامة شعبة "الوعي والشرعية والقضاء"، داخل شعبة العمليات أيضًا، على ضوء الدروس والعبر من حرب 2008 على قطاع غزة، بعد الانتقادات الدولية الواسعة التي وجهت لدولة الاحتلال، إثر جرائم الحرب التي ارتكبتها بحق الفلسطينيين.
هيئة الأركان خلال "الحرب"
يشير الكاتب إلى شكل آخر لهيئة الأركان، يظهر خلال مرحلة "تفعيل القوّة" أي الحرب، ويسمى "مقر القيادة العليا" أو "القيادة العامة"، وتعمل عند تفعيله شعبةُ هيئة الأركان بشكل "مقلّص" على إدارة العمليات العسكرية، خلافًا لحالة "الهدوء" التي يكون فيها منتدى هيئة الأركان يعمل بشكل موسع على قضايا "بناء القوة".
ومن القضايا المركزية التي شهدت نقاشًا واهتمامًا خاصًّا في تاريخ شعبة هيئة الأركان بجيش الاحتلال، هي بناء "الخطة متعدّدة السنوات في مجال القوّة والجهوزية"، والتي تهتم بمركّبات "تعاظم القوّة"، وهي: امتلاك الوسائل القتالية وشراؤها، وإقامة وحدات جديدة، والجهوزية والتدريب، وكميات الذخائر والبدائل، وسلاح القوى البشرية وكيفية تنظيمها وإدارتها، وإنشاء القواعد العسكرية.
ينقل الكتاب عن وثيقة صادرة عن "شعبة التخطيط" في جيش الاحتلال، عام 2018، مراحلَ بناء "الخطّة متعدّدة السنوات"، وهي مرحلة "ما قبل التخطيط" وتتعلق بتقدير حالة القوّة العسكرية الموجودة والمطلوبة للاستعداد للبدء بالتخطيط، ثم مرحلة "البلورة" التي يحركها رئيس الأركان، ثم "التخطيط" وتقوم على بناء خطّة لــ "بناء القوة"، وتشمل إطارًا عامًا للميزانية ووضعَ قوائم المهمات المطلوب تنفيذها.
ويوضّح الكتاب أن الخطة السنوية هي "الأداة المركزية" بيد رئيس الأركان للتأثير على "بناء القوّة" في جيش الاحتلال، ويشير إلى مجموعة من الخطط التي وضعها رؤساء أركان على مدار عقود ماضية: "خطة مركام" الخاصة بإيهود باراك، و"خطة مركام 2000" ووضعها آمنون شاحاك، و"خطة عيدان" التي وضعها شاؤول موفاز، و"خطة كيلع" ووضعها موشيه يعلون عام 2003، و"خطة كيشت" في عهد دان حالوتس، و"تيفن" في زمن غابي أشكنازي، و"حلميش وعوز" لبيني غانتس، و"جدعون" التي وضعها غادي آيزنكوت، و"تنوفا" في عهد أفيف كوخافي.
من مواجهة الجيوش العربية إلى قوى المقاومة... تحديات عملياتية جديدة
التغييرات في شكل المواجهة تبعًا لطبيعة الأعداء الذين يجابهون جيش الاحتلال، انتقالًا من مرحلة القتال ضد الجيوش العربية مرورًا بمرحلة الانتفاضات المحلية، وصولًا إلى مواجهة قوى المقاومة، فرضت تغييرات أخرى على شكل "الخطة السنوية"، ففي مرحلة ما بعد حرب لبنان الثانية 2006 تنازل الجيش عن خيار "الصراعات المحدودة" الذي صيغ لمواجهة وضع تجابه فيه "دولة الاحتلال" انتفاضاتٍ شعبيةً وأعداء سياسيين يملكون قوىً عسكريةً تعمل وفقًا لنمط "حرب العصابات"، وتوجّه نحو التخطيط "للحرب الشاملة" لمواجهة قوى المقاومة في غزة ولبنان، لحماية المناطق المحتلة في الشمال والجنوب من الاختراق والعمليات الخاصة. وهذا قاد إلى تغييرات في التفكير بالخطة السنوية من خلال الموازنة بين "التركيز على قدرة الاجتياح البرّي مقابل التركيز على القوة النارية الجوّية"، أي "الهجوم مقابل الدفاع"، وينقل الكتاب عن استراتيجية جيش الاحتلال عام 2015: "سيبقى سلم أولويات الجيش الإسرائيلي تفضيل البدء بالهجوم المفاجئ بالقوة النارية المكثفة جوًّا قبل التفكير في الدفاع الفعال رغم مركزية الدفاع بوصفه عاملًا لحماية الجبهة الداخلية"، والأهم في هذا السياق هو أن "المركب الدفاعي" جديد في تفكير واستراتيجية جيش الاحتلال.
الانتقالات من الهجوم إلى الدفاع لم تقتصر على نمط التفكير والتخطيط، داخل المؤسسة العسكرية في "دولة الاحتلال"، بل انتقلت إلى أنماط الأدوات التي تخدم "النظرية القتالية"، وتمحورت حول إيجاد "حلول دفاعية خاصة" من خلال الاعتماد على الطائرة، لا بوصفها سلاح هجوم فقط بل سلاح دفاع، وشراء صواريخ "الهوك" لحماية مفاعل "ديمونا"، بالإضافة لاستخدام الدبابات في صيغ دفاعية وهجومية معًا، وفي مرحلة الانتفاضات الشعبية التي خاضها الفلسطينيون، فقدت هذه الأدوات قدراتها الفعالة في القمع. ثم حلّت مرحلة الصواريخ الموجهة من جبهات مختلفة، على رأسها قطاع غزة وجنوب لبنان، الأمر الذي فرض تطوير منظومات "القبّة الحديدية، وصواريخ العصا السحرية، ومنظومة الإنذار المبكر". ثم كان تحدي منظومات الأنفاق التي طوّرتها المقاومة، وهو ما فرض على دولة الاحتلال بناء جدران أمنية على مختلف الجبهات.
ضرورات حماية الجبهة الداخلية لمجتمع المستوطنين لم ترتق إلى مستوى "استراتيجي"، في نظر القيادة السياسية في دولة الاحتلال، لكن لها آثارًا على تقليص الاهتمام بالجانب الهجومي في القوات البرّية، وهو الجانب الذي دخل في مأزق مستمر منذ سنوات، وظهرت آثار ذلك في المواجهات التي خاضها الاحتلال ضد المقاومة في غزة ولبنان، خاصةً في مرحلة ما بعد 2006، حيث وجّه قادةٌ سابقون في جيش الاحتلال انتقادات حادةً لهيئة الأركان نظرًا للأداء المتدني لهذه القوات.
المستوى السياسي... أين يقف؟
وعن علاقة المستوى السياسي في "إسرائيل" بعمليات "بناء القوّة"، من خلال الخطط السنوية، يشير الكتاب إلى نماذج كانت الحكومة فيها فاعلًا رئيسيًا في هذا السياق، أولها: إسهام ديفيد بن غوريون الذي أقام المدماك الأول في النظرية الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وعدّ الجيوش العربية التحدي الاستراتيجي "لدولة الاحتلال" في فترة حرب 1948 وما بعدها، ثانيها كان في عام 2006 حينما طلب وزير الجيش زيادة حجم الدفاعات الجوّية والتسليح، فيما كان قرار بناء الجدار بين الأراضي المحتلة عام 1948 والضفة نموذجًا ثالثًا، وكان النموذج الرابع متعلقًا برصد ميزانية بلغت أكثر من 12 مليار شيقل في الفترة ما بين 2009 - 2013 لأغراض مواجهة التهديدات المنعكسة من إيران.
نموذج خامس لإسهام السياسي في عمليات تطوير الجيش كان "شراء الغوّاصات" بقرار من الحكومة، حيث ينقل الكتاب ما ورد في مذكرات رئيس حكومة الاحتلال السابق إيهود أولمرت حول أنه قرّر رفع عدد الغوّاصات لدى الجيش إلى ست رغم معارضة هيئة الأركان والمستويات العليا في المؤسسة العسكرية. هذه النماذج تشير إلى "العملية المعقّدة" من فعاليات "بناء القوّة"، بين المستويات السياسية والعسكرية، وتداخل الصلاحيات، في ظل تفسيرات كل طرف للحاجة الأمنية والاستراتيجية التي يجب الاهتمام بها ووضعها في أعلى الاعتبارات عند بناء الخطة أو شراء السلاح، وهنا يبرز أيضًا عامل "الميزانيات" التي تخصّصها الحكومة لقادة الجيش لتحقيق الأهداف المرحلية وبعيدة المدى.
يتدخل العامل الشخصي المتعلق بـ "قوة شخصية" صاحب المنصب، في مسائل فرض قرار شراء معدات أو تكنولوجيا عسكرية معينة، وهنا يشير الكتاب إلى قدرة شمعون بيريز خلال توليه منصب مدير عام وزارة الجيش على فرض شراء غواصتين، عام 1958، على رئيس الأركان وقائد سلاح البحرية.
يظهر في هذا السياق مستوى آخر من التداخل في الصلاحيات، بين الهيئات السياسية والعسكرية، وهو صلاحيات وزير الجيش في مقابل قادة الأركان، وينقل الكاتب عن إسحاق رابين خلال توليه قيادة الأركان في فترة الستينات قوله: "دور وزارة الجيش يجب أن يتقلّص بالتوجيه والإدارة المالية فقط"، وفي عام 1982 حاول وزير جيش الاحتلال حينها، أرئيل شارون، فرض رؤيته الأمنية والسياسية على الخطّة السنوية، مما دفع الضباط لعرض خطّة أخرى عليه.
الذراع الأكثر تأثيرًا في مسار التخطيط، داخل شعبة الأركان، هو "سلاح الجوّ" بما له من مركزية في الفكر العسكري داخل دولة الاحتلال ومنظومة الهجوم والدفاع. يشير فينكل إلى أن العقود الماضية منذ تأسيس الجيش لم تشر إلى حادثة واحدة نجح فيها رئيس الأركان في فرض رأيه على قائد سلاح الجوّ أو التعديل في مخططاته لعمل الجهاز.
طولُ فترة بقاء قادة الأذرع العسكرية، في جيش الاحتلال، مقارنة بفترة تولي رئيس الأركان للمنصب تمنحهم قدرة على تثبيت رؤاهم في مسألة "بناء القوّة"، لذلك تسعى هيئة الأركان لتطوير "آلية تنسيق مشترك بين الأذرع" لتقديم أفكار جديدة، في مجال التطوير والتخطيط، كما يعبِّر عنها الكتاب.
"ميدان المعركة"... حضور هيئة الأركان في الزمن الجديد
التحدي الآخر الذي تقابله هيئة الأركان خلال عملها مع أذرع الجيش المختلفة، هو التباعد مع القوّات التنفيذية، بعد إقامة قيادة "قوات الميدان"، في عام 1983، ثم تولّي قادة الأذرع المسؤولية المباشرة عن القوات، بينما كانت في السابق علاقة رئيس الأركان مع هذه الأذرع مباشرة، وينوّه الباحث مثلًا إلى علاقة رئيس الأركان السابق موشيه دايان المباشرة مع أرئيل شارون، خلال فترة تولّي الأخير قيادة القوة "101"، وهي العلاقة التي امتدت حتى حرب 1967.
خلال سنوات، تغيَّر التفكير المنهجي داخل المؤسسة العسكرية في دولة الاحتلال، نحو التركيز على التحديات الأمنية الأبرز على الساحة، من أجل وضع منهاج "بناء قوّة" قادر على مواجهة هذه التحديات، وفي الفترة الأولى ما بعد حرب 1948 حتى الثمانينيات كان المنهج العلمي لبناء القوة العسكرية "بسيطًا"، وفقًا لتعبير الكتاب، واعتمد على تحليل ميزان القوى والسيناريوهات المختلفة لاندلاع الحرب.
في سنوات الثمانينيات التي شهدت تطورًا تكنولوجيًا واستخباراتيًا ظهر مصطلح "ميدان المعركة المستقبلي"، الذي حاول قادة جيش الاحتلال من خلاله بناء توقعات حول كيفية استغلال هذه القدرات، وفي عام 1986 أمر رئيس شعبة التخطيط بتشكيل خمسة طواقم عمل للتخطيط للحرب على الأصعدة كافة، إذ كان جيش الاحتلال ما زال يركز على الحرب مع الجيوش النظامية للدول العربية، ولاحقًا حضر مفهوم "مواجهة الإرهاب"، بالتعبير الإسرائيلي، بشكل مهم في الخطط، بعد صعود قوى مقاومة تعتمد على تكتيكات حرب العصابات والهجمات المتنوعة.
يرى الكاتب أن التطور الأبرز في هذا المسار كان الخطة السنوية "عيدان"، عام 1998، التي حددت لأول مرة دوائر الصراع الثلاثة (سوريا ولبنان - العراق - غزة والضفة)، وفي السنوات اللاحقة صاغت هيئة الأركان على أساسها تصورات لمواجهة هذه الدوائر الثلاثة.
معضلة "عدم الوضوح"
يواجه المخططون في جيش الاحتلال معضلة "عدم الوضوح"، أو عدم امتلاك القدرة الكافية لتوقع أحداث مستقبلية، في منطقة قد يشعل حدث واحد فيها سلسلة أحداث غير متوقعة، ويشير الكاتب إلى أن الخطط عادة ما تصاغ على أساس تصورات خطط سابقة، ويذكر أحداثًا وقعت دون أن ينجح واضعو الخطط في توقعها، مثل: الانتفاضة الأولى، حرب الخليج الأولى، حرب لبنان الثانية، صعود الإخوان المسلمين للحكم في مصر، الحرب في سوريا، دخول إيران للساحة السورية، حسب رؤيته.
ويحذر الكاتب من ظاهرة "التخطيط لبناء القوّة بسبب الصدمة"، أي التخطيط لبناء القوة بعد انتهاء حرب أو حملة عسكرية، وهو الأمر الذي يركّز على "البعد الكمّي لبناء القوّات"، كما حدث عقب حرب 1973، على جبهتي سيناء والجولان السوري المحتل، التي تكبد فيها جيش الاحتلال خسائر فادحة، في القوّات والآليات، خاصة في الساعات الأولى للحرب.
"الطريقة الإسرائيلية في التخطيط لبناء القوّة جيدة في المدى القصير نسبيًا وفاشلة في المدى الطويل نسبيًا"، يصف فينكل طريقة جيش الاحتلال في التخطيط المتعدد السنوات بأنها تعتمد على بناء منهجية لمواجهة التحديات الراهنة، دون الأخذ بعين الاعتبار التحديات طويلة الأمد، في المنظور المستقبلي، ورغم أنه جرى "تحسين على هذا الأمر في السنوات الماضية بعد تبني تدريبات لعبة الحرب"، حسب وصفه، إلا أن هذه المعضلة ما زالت متواصلة.
ويشير إلى عدة نماذج تؤكّد على هذه النظرية، في فترة القتال البري ضدّ الجيوش العربية حتى فترة حرب 1973 لم يغير جيش الاحتلال طريقته في القتال، وفي فترة التسعينيات اكتفى جيش الاحتلال بطرق دفاعية دون "تطوير قدرات هجومية عصرية لتدمير قدرات العدوّ المتجددة"، ويرى الكتاب أن الجيش لم يستخلص العبر من الحملات العسكرية التي شنّها على قطاع غزة.
ويزعم الكاتب أن أحد أسباب غياب التخطيط "طويل المدى" هو قناعة قادة الجيش أن "الحرب ستندلع في الصيف المقبل"، أي أن ديمومة الحروب والمعارك التي تخوضها دولة الاحتلال، تجعل الحاجة لتخطيط يلبي حاجة المرحلة أمرًا ملحًا.
الخطة العملياتية وفرضيات "إسرائيل" قبل الحرب
مهمّة مركزية أخرى تتولاها هيئة الأركان في جيش الاحتلال وهي "التخطيط العملياتي" للحرب. في عام 1951 خلال توليه مسؤولية شعبة التخطيط قال إسحاق رابين إن "أيّ خطة عسكرية تكون واضحة فقط بـ: الاختبار، وخلال اللقاء الأول مع قوّات العدوّ، ومع أول نشاطات عسكرية ينفّذها العدوّ"، كان هذا اقتباسًا من طريقة المفكر العسكري الألماني "هلموت فون مولتكه".
في المقابل، حاول رئيس شعبة العمليات خلال حرب 1967 يسحاق حوفي الدفاع عن "الكمّ في التخطيط"، خلال العمليات العسكرية، واعتمد على كثافة النيران من الجوّ بالتنسيق مع الاستخبارات، التي توفر الإحداثيات والمواقع المركزية التي يجب ضربها خلال القتال، ويرى الكتاب أن هذه الطريقة نجحت في حرب "الأيام الستة" بينما فشلت خلال حرب 1973.
ويرى الجنرال جيورا آيلاند القائد السابق، في شعبة العمليات، أن الخطة الفعالة هي التي "توجّه وتحدّد الاتجاه والوسائل القتالية وهيكلية القوات وتعدادها، وسلم أولويات التدريب، تحضيرًا لتفعيل القوة العسكرية خلال المعارك".
يشير الكتاب إلى أن أساس كل خطة فعالة هي "الفرضيات"، وفي حالة جيش الاحتلال فإن الفرضية الأكثر شهرة وخطورة، في المجال التخطيطي العملياتي للحرب، هي توفر "الإنذار الاستخباري".
عقب حرب 1973 ثار الجدال في المؤسسة العسكرية والسياسية في دولة الاحتلال، مع الفرضية السائدة بضرورة أن يكون تفعيل أوامر القوّة العسكرية الذي تصدره المستويات السياسية قائمًا على الإنذار المبكر، ومع غياب هذا الإنذار الاستخباراتي في هذه الحالة حول نية الجيشين المصري والسوري والقوّات الداعمة لهما شنّ هجوم على الأراضي المحتلة، في سيناء والجولان، حُمّلت الاستخبارات العسكرية مسؤولية الإخفاق في أيام الحرب الأولى.
يعتقد الجنرال آيلاند أن حل معضلة الفرضيات يتعلق بإجراء نقاش جماعي موثّق للفرضيات، قبل إجراء تقدير الموقف"، ويرى أن "الفرضيات التي تصلح قبل شهور قد تكون تغيرت في مرحلة لاحقة". ويذكر الكتاب مجموعة من الفرضيات التي احتكم لها المخططون في جيش الاحتلال، في عقود ماضية، وهي فرضية حرب 1967: "الهجوم يعتمد على عنصر المفاجأة عندما يتم تفعيل سلاح الجوّ لتدمير قوات سلاح الجوّ المصري"، وفرضية خطة "كسر الثلج" عام 2003 التي تتناول الأوضاع على جبهة لبنان: "الأحداث في الساحة الفلسطينية ستكون محدودة وسوف تسمح بنقل القوات إلى الشمال بشكل سريع".
يكشف الكتاب أن جيش الاحتلال آمَن انطلاقًا من عام 2016 بضرورة كتابة "الفرضيات الأساسية للخطة"، في وثائق خاصة مستقلة، من خلال رسمها على شكل "أداة حوار" بين كبار الضباط، خلال مرحلة وضع الخطة، ويقول فينكل إنه حتى اليوم "لم يحدد الجيش تعليمات ملزمة لكتابة الفرضيات" بسبب "اختلاف الفرضيات بين الهيئات المختلفة في الجيش"، ويشير إلى أن هيئة الأركان تهتمّ بالفرضيات الاستراتيجية، بينما يهتمّ قادة الأذرع والمناطق بالفرضيات القتالية.
تنقسم أنماط التخطيط في هيئة الأركان، وفقًا للكتاب، إلى: نمط "وضع عدة خطط لساحة واحدة"، ونمط وضع خطط عمل وفق "منطق النشاطات المختلفة لساحة المعركة نفسها التي قد تلائم أوضاعًا استراتيجية مختلفة مثل ساحة المعركة في الشمال"، ونمط وضع "خطط بديلة تأتي لتنفيذ المهام نفسها في المدى الاستراتيجي".
معهد "بحوث النظرية القتالية": الفشل
الكتاب يشير إلى دور معهد "بحوث النظرية القتالية" في عملية تطور تفكير هيئة الأركان، في سنوات انتفاضة الأقصى وما بعدها، وهو المركز الذي قرّر الجيش إغلاقه، بعد حرب 2006، والفشل العملياتي الذي تحمّل جانبًا من المسؤولية عنه، وفقًا لوثائق ولجان تحقيق إسرائيلية، لكن الكاتب لا يشير إلى هذه المسؤولية في معرض الحديث عنه، إذ حمّل القادة المسؤولين عنه في الجيش مسؤولية الخلل في وضع الخطط التي صيغت بلغة فلسفية، لم يفهمها أغلب الضباط وقادة القوات، وهي القوات التي فقدت قدرتها خلال سنوات الانتفاضة على القتال في ميدان معركة مفتوح أو إجراء مناورة برّية، وهو ما تجلت آثاره في حرب لبنان والمعارك البرّية في غزة لاحقًا.
يقول فينكل إن الدروس المستفادة من العدوان على غزة، عام 2014، دفعت الجيش إلى تفعيل التفكير في إعداد خطط متغيرة خلال مراحل القتال، وعقد دورات لمن يحملون رتبة عميد منذ العام 2014، وتغيير تعليمات التخطيط في تطوير بلورة الخطط العسكرية عام 2015.
[1] المؤسسة العسكرية في إسرائيل، جوني منصور وفادي نحاس، مركز مدار