عن العَسْكر الذي يحتلُّنا.. قراءة في كتاب، هيئة الأركان… كيف تتعلم - تخطط – تنظم، (2/3)

عن العَسْكر الذي يحتلُّنا.. قراءة في كتاب، هيئة الأركان… كيف تتعلم - تخطط – تنظم، (2/3)
تحميل المادة

 على سبيل التقديم..

تأخذ منصّة إطار على عاتقها، تقديم معرفة نظريّة وعلميّة بمجال اهتمامها الفلسطيني، لتوفير مادة مرجعيّة مركّزة، ومداخل موجزة، حول مختلف قضايا هذا المجال، ولأنّ الصراع مع العدوّ الإسرائيلي يحتاج معرفة علميّة أفضل من مجرّد المتابعة الإخبارية السائدة في النشاط الإعلامي الفلسطيني والعربي، يصير من الضروري، تقريب ما يُكتب عن المجتمع الإسرائيلي بمختلف مكوّناته وقواه وأجهزته وتيّاراته، إلى القارئ الفلسطيني والعربي، ولأجل هذه الغاية، بدأت المنصّة بتلخيص وتكثيف بعض أهمّ ما كتبه الصهاينة عن أنفسهم، لجمهورهم همّ، مما يضفي على تلك النصوص موضوعية أكبر، ممّا لو كانت لأغراض دعائية أو تجارية أو استخباراتية.

أوّل ما تقدّمه منصّة إطار لجمهورها، وللقارئ الفلسطيني والعربي، عرضًا مركّزًا من ثلاثة أجزاء، لكتاب "هيئة الأركان العامّة"، بالعبرية: "המטכ"ל" لمئير فنكل، الذي كان رئيس قسم الأبحاث في مركز "دادو" للتفكير العسكري متعدّد التخصصات في قسم العمليات في هيئة الأركان العامة. ومن بين مناصبه السابقة في جيش العدوّ؛ كان عميد مدرع (في حرب لبنان الثانية)، ورئيس دائرة الدفاع والمضبوطات في الذراع البرّية وقائد مركز "دادو"، وهذا الكتاب يأتي توسعة لكتاب سابق له، بعنوان "رئيس الأركان".

يقدّم الكتاب الصادر بالعبرية، عام 2020، والذي ترجمه مركز "الهدهد" إلى العربية عام 2022، عرضًا مفصّلاً عن هيئة الأركان التي تمثّل القيادة العليا للجيش، أو مقرّه الإستراتيجي، بمخلف شعبها وأقسامها، والتطوّرات التي طرأت عليها، في إطار الحروب والمواجهات والتحدّيات التاريخية لدولة العدوّ، والمشكلات التخطيطية والعلميّاته والإدارية التي تواجه جيش العدوّ، وأذرعه وشعبه وأقسامه، بما في ذلك مساهمة هيئة الأركان في صناعة القرار إلى جانب المستوى السياسي في دولة العدوّ.

وهذه هي الحلقة الثانية من عرض أهمّ أفكار هذا الكتاب وموضوعاته.

·      التحرير

 

مرحلة التسعينيات... تحديات جديدة

في المرحلة ما بين نهاية سنوات الثمانينيات حتى سنوات التسعينيات، لم يخض جيش الاحتلال الإسرائيلي حروبًا موسعةً كالسابق، وشنّ عمليات عسكريةً عدوانيةً في لبنان وغيرها مثل: "الحساب - 1993" و"عناقيد الغضب - 1996"، التي اعتمدت على المدفعية والمجهود الجوي، وتزايدت في هذه الفترة وفقًا للباحث "التدريبات الأركانية" و"ألعاب الحرب"، وركزت القيادة العليا في جيش الاحتلال على العيوب التي جرى استخلاصها من حرب لبنان الأولى، والتي أظهرت ضعفًا في تحكّم شعبة هيئة الأركان بالقوات البرية، بالإضافة لعيوب في إدارة المعركة والتخطيط خلالها.

من بين التطويرات التي أدخلها جيش الاحتلال خلال هذه المرحلة، كان العمل وفق "جدول زمني" لإدارة المعركة من أجل "تمكين شعبة العمليات من التنسيق والتزامن بين الأذرع في الميدان والقدرة على اتخاذ قرارات جديدة وفقًا للجدول الزمني للمعركة"، وكانت هذه من أفكار نائب رئيس الأركان حينها إيهود باراك، الذي أراد أن يحقق لمقر القيادة العليا "التحكّم بالقوات خلال المعركة على المدى الزمني الطويل والمتوسط والقصير"، وجاء في الخطة: "على شعبة هيئة الأركان بقيادة رئيس الأركان تقييم عمليات القتال بشكل يومي مساءً، وتجهيز أوامر عسكرية جديدة لليوم التالي لكلّ الأذرع والقوات المشاركة بعمليات القتال".

خلال حرب الخليج، عام 1992، تدرّبت شعبة هيئة الأركان وخطّطت لسيناريو مواجهة هجوم برّي عراقيّ، والقتال شرقيّ الأردن خارج حدود فلسطين المحتلة، وبحثت وضع خطط عملياتية للردّ بهجوم جويّ في عمق بغداد، وهو تحدٍّ صعب في ظلّ أنّ على سلاح الجوّ في جيش الاحتلال التحليق في أجواء الأردن والسعودية للوصول إلى الأهداف، وتحدثت الصحف في تلك الفترة عن صعوبات أمام هيئة الأركان مع هذا الخيار من جهة تنظيم القوات والسيطرة عليها، وتفعيل القوات البرّية في عمق مناطق "العدوّ" أو دول أخرى.

وفي الفترة ما بين نهاية التسعينيات وعام 2019، واجه جيش الاحتلال الانتفاضات الشعبية في فلسطين المحتلة، وقوى مقاومة منظمة في غزة ولبنان تعتمد "حرب العصابات"، وكان الاعتماد الأساسي في المواجهة على تفعيل القوة الجوية، والتركيز على "ساعة الحرب" وهي الساعة الأركانية لإدارة المعركة وفق جدول زمني محدّد، حسب الخطة العملياتية القتالية القائمة، ويشير الكاتب إلى أن هذه المرحلة أكدت على ضرورة "التزامن والتنسيق بين الدفاع والهجوم من خلال التركيز على الجبهة الداخلية، وحرب الوعي والسايبر". واعتمد جيش الاحتلال نظريات قتاليةً جديدةً بعضها يقوم على تحكم هيئة الأركان بالقتال ومستوى النيران بشكل مباشر، دون وساطة الضباط الآخرين في سلم الهرم القيادي في الجيش.

وفي مواجهة انتفاضة الأقصى، طوَّر جيش الاحتلال آلية إدارة المعارك على الساحة الفلسطينية من خلال الدمج ما بين شعبة هيئة الأركان وقيادة المنطقة التي يقع فيها القتال، وكانت التدريبات الأركانية ركّزت على مواجهة جيوش نظامية مثل الجيش السوري، ولكن القيادة العليا في الجيش لم تعدَّ الخطط حينها لمواجهة منظمات "شبه عسكرية"، حسب تعبير الكتاب، كما حدث في الضفة المحتلة وقطاع غزة ولبنان، وانطلاقًا من التدريب الأركاني "حجارة النار 5" في آذار/ مارس 1995، جرى التركيز على سيناريوهات قتالية من هذا النمط.

صورة من صحافة حزب الله أثناء العدوان الصهعيوني على لبنان المسمّى "عملية عناقيد الغضب"

 

صعوبات تخطيطية

في تصريحات خلال قيادته لهيئة الأركان أكد شاؤول موفاز أن أهمّ معضلة تواجه التخطيط، في هذه المعارك، هي "صعوبة توقع الظروف أو المستجدات التي ستؤدّي إلى اندلاع القتال، والتطورات والتداعيات بعد انطلاق المعركة"، وقال: "نحن نعيش في محيط متغيّر ونواجه تحدّيًا كبيرًا في ملاءمة الخطط الموضوعة مسبقًا مع الواقع المتغير، وهذا يتطلب تفكيرًا أركانيًا [أي على مستوى هيئة الأركان]، وقدرةَ شعبة هيئة الأركان على وضع خطط حديثة خلال عمليات القتال، هدفها العمل في المراحل المتقدمة للقتال، والمراحل التي يصعب توقعها".

ويشير الكتاب إلى أن التوصية الأبرز بعد التدريب الأركاني "حجارة النار 7"، كانت "ضرورة تكوين مجلس أركاني للتفكير والتخطيط خلال الحروب والمعارك بقيادة رئيس الأركان، ليعمل على دفع عمليات التفكير والتخطيط في الحرب، وبلورة نظريات قتالية خلال القتال والمعارك".

يرى الكاتب أن الحملات العسكرية على قطاع غزة التي انطلقت منذ عام 2008، كان التخطيط لها على مستوى شعبة هيئة الأركان، وكانت "محدودةً وليست حروبًا طويلة"، وقال إن التدريبات الأركانية في تلك الفترة ركزت على "الاجتياح البري" بناءً على العبر المستخلصة من حرب لبنان الثانية، لكن عدم تحديد الأهداف بدقة للحملات العسكرية، وعدم توضيحها -والذي هو من مهمات المستوى السياسي-، خلق "فجوةً في الفهم النظري لأهداف الحملات بين المستوى السياسي والعسكري"، وفقًا لفينكل.

ويؤكد فينكل على أن هذه المرحلة كانت السمةُ العامةُ فيها هي "الفجوة الواضحة بين الخطة الموضوعة مسبقًا، والخطط التي يجب تنفيذها خلال القتال"، بعد أن واجه جيش الاحتلال صعوبةً في تحقيق "الأهداف الاستراتيجية للمعركة بواسطة القوات البرية"، و بعد الاعتماد على سلاح الجو عنصرًا مركزيًا في هذه الحملات.

تواجه شعبة هيئة الأركان صعوبات مختلفةً خلال إدارة المعارك والحملات العسكرية، ويشير الكتاب إلى سوء الفهم والتفاهم بين رئيس الأركان وقائد المنطقة الشمالية خلال عملية "عناقيد الغضب" عام 1996 التي شنّ خلالها جيش الاحتلال عدوانًا بالاعتماد على سلاح الجوّ. ويَذكر أنّ رئيس الأركان أراد ضرب القوات السورية في لبنان بالإضافة لقواعد حزب الله ودفع سكان الجنوب نحو الشمال، بينما رأى قائد المنطقة الشمالية أن ضرب قواعد حزب الله وقواته يكفي لتحقيق هدف إيذائه والضغط عليه.

فهمت القيادة الشمالية أن هدف الحملة العسكرية هو ضرب حزب الله ووقف إطلاق الصواريخ تجاه المستوطنات الشمالية، بينما كانت هيئة الأركان تريد ضرب قواعدَ للجيش السوري بهدف تحقيق "تسوية سياسية" تضمن لجم حزب الله عن الاستمرار في العمليات العسكرية في الجنوب المحتل حينها، وضرب المستوطنات الشمالية بصواريخ الكاتيوشا.

ويكشف الكتاب أن هذه الفجوات تكررت خلال حرب لبنان الثانية، عام 2006، إذ كانت سيطرة هيئة الأركان محدودةً على سير المعركة ممّا ترك فجوةً في الفهم وتطبيق الخطة العسكرية.

صورة رمزية لأسر جنود

صورة رمزية من موقع كتائب القسام لخمس محاولات أسر جنود إسرائيليين في معركة الفرقان في العام 2008 التي سمّاها الاحتلال "الرصاص المصبوب"

 

هيئة الأركان "تتعلم"

يؤكّد الكتاب على أحد أهمّ مهمات هيئة الأركان وهي "التعلم" لمواجهة التحديات المتغيرة، في مختلف مراحل الصراع بين الاحتلال والشعب الفلسطيني والدول العربية المجاورة، ويوضح أن نظام التعليم الجديد على مستوى هيئة الأركان الخاص بالأفكار القتالية، شمل وظائف جديدةً مثل: تشخيص التصورات المستقبلية، وتحديد الفجوات بين الفهم والواقع، وإنتاج الوسائل القتالية، والتوازن والمزامنة في القوات، والتطبيق لصالح التخطيط العملياتي.

ويَذكر أنّ الجهة المسؤولة عن التعلم في شعبة هيئة الأركان هي "إدارة الفكر والتعلم والعسكري"، التي تغيرت وظائفها عدة مرات منذ بداية تأسيسها، وتعمل على توجيه عملية التعلم، وتكييف إجراءات العمل العسكري في جيش الاحتلال، مع التركيز على المستويين الاستراتيجي والعملياتي، واستخلاص الدروس بما "يعود بالنفع على شعبة هيئة الأركان"، حسب وصف الكاتب، وتعزيز التعاون بين الأذرع العسكرية، وتجسيد كل هذا في النظريات الأساسية للجيش.

عمل هذا القسم على نقل تجارب الجيش الأمريكي خلال احتلال العراق، ونقل العِلم العسكري وتطويره والمشاركة في الأبحاث العلمية الخاصة بجيش الاحتلال، وتأهيل الضباط الكبار. لكن، جرى إغلاقه بعد حرب لبنان عام 2006 جراء الفشل الذريع والفجوة بين الخطط والقوات في الميدان، وأَعلن جيش الاحتلال عن إقامة مركز "دودو" للتفكير العسكري داخل شعبة هيئة الأركان.

يرى اللواء تامير هايمان الذي شغل منصب قائد الكلية العسكرية في جيش الاحتلال، في مقال حول التعلم في سنوات 1947 - 1967، أن مراحل التعلم في الجيش أربع وهي: "مرحلة التعلم من الجيوش الأجنبية، والتعلم من خبرات القتال والعبر المستخلصة من المعارك، والتعلم من الأبحاث والدراسات القائمة على التطور العلمي، والعودة لمرحلة التعلم من تحدّيات المعارك والحروب والحملات العسكرية".

 

الاحتكاك العملياتي... خير معلم؟

يطرح الكاتب نماذج تجسيديةً لأسلوب "التعلم من خلال الاحتكاك العملياتي"، ويقول إنه وفي بعض الحالات فقدت فيها شعبة هيئة الأركان "ثقتها بنفسها" في الميدان، بعد الاخفاقات على مستوى القوات التي تشارك في العمليات القتالية في ميدان المعركة، كما حصل في سنوات الخمسينيات، عندما فشل جيش الاحتلال في مواجهة العمليات الفدائية التي ضربت التجمعات الاستيطانية في الأرض المحتلة عام 1948، قبل مبادرة أرئيل شارون لإنشاء الوحدة "101" التي نفذت عمليات عدوانيةً وإرهابيةً، وراء الحدود.

انطلاقًا من عام 1965 دخلت دولة الاحتلال في اشتباك مع الدول العربية بقيادة مصر، بسبب مشروع إنشاء خطٍّ ناقلٍ للمياه عبر نهر الأردن. عقب قرار سوريا تحويل المياه، ترجمةً لقرارات المؤتمر العربي الذي عقد في هذه السنوات، تصاعد الاشتباك بين جيش الاحتلال والجيش السوري.

فشل جيش الاحتلال حينها في تحقيق أهداف ميدانية من خلال عمليات إطلاق القذائف على المواقع السورية، ثم تدخل سلاح الجوّ، الذي بات رئيس الأركان حينها إسحاق رابين، فاقدًا للسيطرة عليه، بعد أن توسعت نشاطاته، وكان التفكير وقتها لدى رئيس الحكومة ليفي أشكول هو تجنّب الحرب. وفي السياق ذاته أراد رابين وقف مشروع المياه العربي دون تفعيل وسائل قتالية قد تؤدّي لاندلاع الحرب الشاملة، ممّا يهدّد إتمام صفقة دبابات "الباتون" وطائرات "اسكاي هوك" التي كانت تنتظر دولة الاحتلال وصولها من الولايات المتحدة الأمريكية.

دفع جيش الاحتلال بقوات مدرعة لضرب أدوات الحفر السورية، لكنه فشل في تحقيق أهدافه، ووجهت مستويات سياسية وعسكرية مختلفة انتقادات لقائد القوة، اللواء يسرائيل طال، واتهمه رفاقه في شعبة هيئة الأركان بأنه حدد هدفًا "غير قابل للتحقيق"، بينما زعم "طال" أن الإشكالية في الجنود وليست في المعدات.

بعد أيام، عاد طال الذي كان يشغل حينها منصب قائد القوات المدرعة في الفرقة الشمالية بجيش الاحتلال، لقصف الأهداف على الجبهة السورية، ووجهت قواته ضربات للقوات السورية، وعدّ ما جرى "انتصارًا"، وكان رابين يراقب المعركة من برج ماء قريب، وهو ما عدّه الكاتب "استعادةً للثقة بين المستويات المختلفة في جيش الاحتلال مع هيئة الأركان".

في 8 آذار/ مارس 1965، اقترح رئيس شعبة العمليات في جيش الاحتلال حينها، حاييم بارليف، عدة طرق لمواصلة العمل ضد المشروع السوري لتحويل مياه النهر، وهي: نشاط عسكري محدود وهجوم محلّي، أو ضرب المعدات الهندسية السورية بنيران دقيقة، أو هجوم موسع على الموارد المائية بما فيها السفن والجسور والسدود وغيرها، أو السيطرة على المواقع السورية في تلة بانياس وتل عزيزات، أو السيطرة على المنطقة المنزوعة السلاح وعلى المناطق التي تقع تحت السيادة السورية القريبة من منطقة تحويل المياه.

كان رأي أغلبية أعضاء شعبية هيئة الأركان هو الخيار الأول (نشاط عسكري محدود وهجوم محلي)، بسبب الموقف الأمريكي الذي ربط بيع طائرات "الفانتوم" و"السكاي هوك" لدولة الاحتلال بـ "كبح نشاطاتها العسكرية"، لكن رابين بعد العملية السابقة التي نفذها يسرائيل طال رأى أن على "إسرائيل" ضرب المعدات السورية بنيران دقيقة، وبعد تدريبات في معسكرات جنوبيّ فلسطين المحتلة، نفّذت قوة المدرعات بقيادة طال ضربةً أخرى للقوات السورية وأصابت الهدف، وفقًا للكتاب.

يقول الكاتب إن "نجاح" القوات في تخريب المشروع السوري منح المستويات السياسية العليا في دولة الاحتلال، الثقة بأن الوسائل العسكرية التكتيكية لديها القدرة على تحقيق "الأهداف الاستراتيجية السياسية". وفي مرحلة لاحقة أبلغ رابين القيادة السياسية أن السوريين يعملون على تحويل المياه قرب منطقة "جسر بنات يعقوب"، وقرر تكليف يسرائيل طال بضرب المعدات السورية مرةً أخرى، وبعد أيام خرجت قوة لاستطلاع الميدان وأطلقت القوات السورية النار نحوها، وردت الدبابات الإسرائيلية بإطلاق قذائف من مسافة 6000 متر وأصابت اثنين من الحفارات السورية، لكن المسافة الطويلة والإجراءات السورية لإخفاء الحفارات من خلال إقامة سواتر ترابية، صعّبَت المهمة على جيش الاحتلال، وقال رابين في جلسة نقاش مع شعبة هيئة الأركان: "العملية انتهت بمعجزة لأنه لم يكن من السهل رؤية المعدات الهندسية وقت إطلاق النار ويجب الاستفادة من العبر المستخلصة من هذه الحادثة في المستقبل عند تنفيذ حملات مشابهة".

 

"التعلم خلال اجتياح المدن الفلسطينية"

تحت عنوان "التعلم وخلق الثقة خلال اجتياح المدن الفلسطينية في الانتفاضة الثانية"، أشار الكاتب إلى التحديات التي واجهت جيش الاحتلال بعد انطلاق انتفاضة الأقصى عام 2000، وقال إنه بعد تصاعد العمليات الاستشهادية تعرض المستوى السياسي والعسكري في دولة الاحتلال لمعضلة مزدوجة وهي "الخشية من اجتياح المدن التي سلمتها سابقًا للسلطة"، و"الخوف من حجم الخسائر في حال اجتياحها". المحللان العسكريان الإسرائيليان عاموس هرئيل وآفي يسخاروف كتبا في حينها أن جيش الاحتلال يتذكّر الفشل الذي رافقه خلال العمليات العسكرية، في المخيمات الفلسطينية بلبنان، خلال حرب 1982، بينما كان المستوى السياسي يدرس الهجوم جوًا بدلًا من الدخول في عمليات برية.

لاحقًا قرّر جيش الاحتلال الدفع بلواء جولاني إلى مخيم جنين، ولواء المظليين إلى مخيم بلاطة شرقيّ نابلس، وقامت الخطّة التي قدّمها أفيف كوخافي على محاصرة المخيمات من جميع الجهات، وواجه الجيش مقاومة عنيفةً، خاصة في جنين، واختار التقدّم عبر البيوت لتجنّب الكمائن التي نصبتها المقاومة في أزقة المخيمات، وعن هذه الحملة التي سبقت الاجتياح الكبير في نيسان/ أبريل 2002 كتب غيورا آيلاند قائد شعبة التخطيط في جيش الاحتلال حينها: "المعضلة لدى شعبة هيئة الأركان خلال الحملة العسكرية على الضفة، كانت الاستعداد لهجوم مكثف أو البقاء في حالة الدفاع، وكان عليهم الاعتماد على الاستخبارات الدقيقة من أجل اجتياح مخيمات اللاجئين للوصل بسرعة إلى أماكن المطلوبين ومخازن الأسلحة، لكنّ التخوف كان من الاحتكاك بالسكان داخل هذه الأماكن المزدحمة. والانجازات في هذه الحملة برأيي كانت محدودة".

ورأى فينكل أن "النجاح في الحملة على المخيمات"، حسب وصفه، أعطى هيئة الأركان "الثقة" في عملية "السور الواقي" التي شنها جيش الاحتلال، في نيسان/ إبريل 2002، وأعاد فيها احتلال كامل الضفة الغربية، ودخل إلى المناطق المصنفة "أ" وفقًا للاتفاقيات مع السلطة الفلسطينية.

لكن الكتاب لا يتطرق إلى أن وصول جيش الاحتلال إلى البنية التحتية لفصائل المقاومة، في بعض المواقع، واغتيال قادة ومطلوبين واعتقال آخرين، لم يمنع خلايا المقاومة من مواصلة العمليات الاستشهادية لاحقًا، حتى نهاية الانتفاضة، التي يقدر بعض المحللين والباحثين أنها انتهت مع ختام عام 2005، رغم استمرار نشاطات عدد من الخلايا إلى مرحلة لاحقة.

ولم يعبَّر بدقة عن الهدف الاستراتيجي الذي وضعته المؤسسة العسكرية والسياسية، في دولة الاحتلال من العملية، وهو استباحة مناطق الضفة المحتلة كافةً، لمنع الوصول إلى الحالة التي كانت عليها هذه المناطق قبل انتفاضة الأقصى وخلالها، والعمل المستمر من جانب جيش الاحتلال على تفكيك أي محاولة لإعادة بناء البنية التنظيمية والعسكرية لفصائل المقاومة.

اجتياح ٢٠٠٢

صور من اشتباك مقاومين مع الاحتلال ففي البلدة القديمة بنابلس خلال الاجتياح في العام 2002 أثناء انتفاضة الأقصى

 

مواجهة "التهديد السوفياتي"... "عدم الثقة"

في حالة أخرى، يشير الكاتب إلى نموذج أسماه "دمج عدم الثقة بالقدرات، وخلق الثقة خلال مواجهة الدفاعات الجوية الروسية خلال حرب الاستنزاف"، وهو يشير إلى نموذج الحرب التي خاضتها قوات الاحتلال مع الجيش المصري وفصائل الثورة الفلسطينية، في الفترة ما بين 1969 - 1970، على مختلف الجبهات، ويقول إن دولة الاحتلال كانت دائمًا في حالة "خوف" من مواجهة عسكرية ضد دولة عظمى.

ورأى أن التهديد الروسي كان هو "التهديد المركزي"، خلال هذه الحرب، جراء منح الاتحاد السوفياتي صواريخ مضادة للطيران للجيش المصري، ومشاركة خبراء منه في عمليات التدريب خلال فترة التحضير للحرب عقب هزيمة 1967. رئيسة حكومة الاحتلال في تلك الفترة، غولدا مائير، ووزير الجيش موشيه دايان وضعا خطوطًا "تحذيرية" في التعامل مع الاتحاد السوفياتي، وتخوَّفَا بشدة من حجم الفجوة العسكرية بين الطرفين، وينقل الكتاب عن دايان قوله خلال جلسة في "الكنيست": "لو تدخل الجيش الأحمر بكامل قوته في الحرب ضدّ إسرائيل على جبهة قناة السويس دون تدخل طرف آخر لصالح إسرائيل فلن تكون نتائج هذه الحرب في مصلحة إسرائيل ولن يكون بمقدورنا مواجهة الجيش الروسي"، وهو ما كرّرته غولدا مائير في تصريحات أمام رئيس الأركان عام 1970.

واجهت المستويات العليا سياسيًا وعسكريًا في دولة الاحتلال معضلة "عدم الثقة بالنفس"، جراء إخفاق سلاح الجو في عدد من المواجهات مع الطيران المصري وأنظمة الدفاع الجوية الروسية على جبهة سيناء، وقررت قيادة جيش الاحتلال تنفيذ عملية عسكرية أطلقت عليها "ريمون 20"، نفذتها في 30 أيار/ مايو 1970، وكانت الخطة تقوم على نصب كمين للطائرات الروسية التي كانت بحوزة الجيش المصري على الجبهة وإسقاط 5 منها.

ويرى فينكل أن هذه العملية أعادت "الثقة بالنفس للمستوى السياسي والعسكري"، في القدرة على المواجهة الجوية مع أنظمة الطيران الروسية، وشكّلت ركنًا أساسيًا في تعزيز مسار التعلم عبر الاحتكاك الميداني والعملياتي.

 

استخلاص العبر

وفي مسار متصل، يشير الكتاب إلى عملية استخلاص العبر والدروس من الحروب، ويقول إن هذه العملية ضرورية لـ "التخطيط للمعركة القادمة في المستقبل"، وقال إن إجراءات التعلم في جيش الاحتلال تختلف عن الجيوش الأخرى"، حيث يجري استخلاص العبر، وفق الكاتب، خلال "جلسات خاصة لمناقشة نتائج المعارك والحملات، تكون مشحونةً بالخلافات الشخصية بين كبار الضباط"، وأكّد أنّ "الواقع المتغير يعقّد عملية التعلّم إذ إن هذه العبر قد تفقد فعاليتها بعد وقت قصير".

يذكر الكتاب بعض العبر التي استخلصها جيش الاحتلال من الحروب التي خاضها مع العرب والفلسطينيين، ويقول إنه قرر بعد حرب 1973 التخلي عن طريقة القتال بالمدرعات على نطاق مساحات جغرافية واسعة، وتبني الطريقة الأمريكية في التعلم من الحروب والمعارك، وتطوير طرق قتالية إسرائيلية بشأن القتال البرّي، تتعلق بعمق ساحة المعركة داخل مناطق العدوّ.

 

عملية استخلاص عبر فاشلة

ويرى فينكل أن عملية التعلم واستخلاص العبر قد تكون فاشلةً، وتحتاج إلى بحث متجدّد، وقال إنّ التحقيق الذي أطلقته شعبة العمليات والتخطيط في 30 حزيران/ يونيو 1982 ركّز على: الوقت، والوحدات، والأذرع، والمواضيع القتالية. فقد حددت الأوامر طبيعة الطرق الخاصة لجمع المعلومات وبحثها، وكيفية استخلاص الدروس منها، وعرض النتائج على قسم التعلم والتطوير والتدريب ونظريات القتال بشعبة هيئة الأركان.

في آب/ أغسطس من العام ذاته قدمت اللجنة تقريرها للجهة المختصة، وأظهرت الوثائق النتائج التالية: لم تعمل شعبة هيئة الأركان في حرب لبنان الأولى بوصفها مقرَّ قيادةٍ عليا للقوات، ولم تقم بدورها في إدارة المعركة، أما شعبة التخطيط الاستراتيجي التابعة لشعبة هيئة الأركان فلم تعمل كما هو مطلوب منها بوصفها جهةً أركانيةً مسؤولةً عن التخطيط للمعارك.

وفي وقت لاحق، أصدر سلاح التعليم والفكر العسكري وتطوير التدريب والنظريات القتالية وثيقةً حملت عنوان: "حرب سلامة الجليل والعبر المستخلصة التي على الجيش تنفيذها"، ولخصت كل العبر المستخلصة في كل المجالات ونتائجَها، وطالبت بتطبيقها في التدريبات، ومجالات بناء القوة وتشغيلها، وتفعيل الوسائل القتالية العسكرية في الميدان، ومجالات مشاكل الاتصالات والهندسة والسيطرة، وفي المجال الاستخباراتي، ولخص بيني ميكلسون المسؤول السابق عن الوحدة التاريخية في قسم التعلم في سنوات 1987 - 1993 عملية استخلاص العبر من حرب لبنان الأولى بالقول: "مع دخول موشي ليفي لمنصب رئاسة الأركان، وعلى خلفية التقليصات في الميزانية الأمنية، كان يجب أن يجري اتخاذ القرارات بشأن ثقل الحرب، والعبر المستخلصة من حرب لبنان الأولى في الخطة متعددة السنوات للجيش الإسرائيلي".

في الواقع ركّز ليفي على ما عدّها "نجاحات" لجيش الاحتلال، خلال الحرب، وقرّر تقليص التعامل مع تطبيق العبر المستخلصة من هذه الحرب، وقدّم رئيس قسم التعلم في شعبة هيئة الأركان اللواء يوسي بيلد اقتراحات لإدخال مواضيع أكاديمية جديدة، في الدورات المخصصة لكبار الضباط، وزياد مدتها، بناءً على العبر المستخلصة من حربي 1973 و1982، لكن رئيس الأركان ليفي رفض تنفيذها.

لاحقًا طالب اللواء درون روبين الذي قاد اللواء "500" خلال معركة زحلة، في حرب لبنان الأولى، بإعادة قراءة دروس الحرب، وقال في تقرير أصدره في عام 1991 من موقعه رئيسًا للواء التعلم والفكر العسكري، إن التقارير السابقة تضمنت "دروسًا خاطئةً من الحرب" بسبب "السرعة"، وطالب بإعادة التحقيق واستنتاج العبر من الحرب.

وأكّد أن كثيرًا من الأدلة تشير إلى أن جيش الاحتلال "لم يتعلم بشكل جيد من الإخفاقات التي حدثت خلال الحرب"، وقال: "كثرة الأدلة والشواهد الخاطئة في هذه الحرب أدّت إلى فهم داخلي خاطئ لما حدث في جبهاتها المختلفة، وبالتالي إلى استخلاص دروس خاطئة".