عن العنف الملجوم الذي اغتال الخليل القديمة
تقول العرب "مَدَنَ المكان" أي أقام به[1]، والمدينة قرية كبيرة آهلة بالسكان[2]، والخليل فيما ثبت من تاريخها واحدة من أقدم المدن التي ظلَّت آهلةً بالسكان باستمرار باعتبارها محجًا للديانات السماوية الثلاث على مر عصورها، إلى جانب ما امتازت به من نشاط اقتصادي وثقافي جامع، وَصَلَ جنوب فلسطين بسيناءَ وشرق الأردن[3].
ولمفارقةٍ تفرضها حركة التاريخ، فإن قلب المدينة ومحورها؛ المسجد الإبراهيمي، الذي كان لُبَّ حياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، شهد الحدث الذي غيَّر ولا يزال وجه المدينة القديمة.
وقعت مجزرة المسجد الإبراهيمي فجر الخامس عشر من رمضان 1415 هـ الموافق للخامس والعشرين من شباط 1994م. ولم يستقرَّ رصاص مجرمها باروخ غولدشتاين في أجساد الشهداء فحسب[4]؛ بل استمر في اختراق كل أنسجة المدينة منذ ثمانيةٍ وعشرين عامًا، دون أن يتوقف.
وأصبح قلب المدينة مبنىً لا يتجلَّى فيه المألوف من مسمّاه (قلب) ومعناه، بقدر ما أصبح ساحةً لإنفاذ صور متجددة للفصل، وما يترتب عليها من إعادة تشكيلٍ دامية ثم ناعمة؛ للمجتمع ومفاهيمه وسلوكه تجاه نفسه؛ وتعريفه لأهم مقدرات وجوده: المكان والزمان، ثم حركته في محوريهما.
عقب المجزرة، أُغلقت الخليل القديمة عسكريًا لما يزيد على أربعين يومًا، مهَّد فيها الاحتلال لفرض واقع جديد، ثم قسَّم المسجد الإبراهيمي مكانيًا وزمانيًا[5]، واكتملت أركان الكارثة في المدينة بتوقيع اتفاق الخليل المبرم بين السلطة الفلسطينية والاحتلال عام 1997.
وقعت مجزرة المسجد الإبراهيمي في شباط 1994م. ولم يستقرَّ رصاص مجرمها غولدشتاين في أجساد الشهداء فحسب؛ بل استمر في اختراق كل أنسجة المدينة منذ ثمانيةٍ وعشرين عامًا. ثمّ وقعت اتفاقية الخليل التي نصت على تقسيم الخليل لـمناطق H1 وH2، ففتَّت الزمان والمكان، ووسعت الفجوة بين شطري المدينة.
هوى الاتفاق على المدينة كساطور، وإن كان على الورق قد نصَّ على تقسيم الخليل[6] لـِ H1 و [7]H2، فإنه على الأرض فتَّت الزمان والمكان، وأصبحت الفجوة بين شطري المدينة مع الوقت تزداد اتساعًا. وبطبيعة سير الحياة تتفاعل الفجوة مع المستجدات كافةً، فيتضح للفاحص هول التحول الذي أصاب قلب المدينة، اجتماعيًا، وعمرانيًا واقتصاديًا.
بين ذاكرتين
كنت قد بلغت العشرين حين سرت وأمي، سيريَ الواعيَ الأول في الخليل القديمة. أدركنا وقت الصلاة في سوق شارع الشلالة فاخترنا المضي نزولاً للصلاة في أيٍّ من مساجدها حتى دخلنا مسجدًا شبه مهجور، نسيت اسمه، لكن، تحضرني صورته خاليًا من المصلين -إلا رجلاً استغرب رؤيتنا- والغبارُ متراكم في ساحته.
مشينا طويلاً وأمي تستعيد ذكرياتها مع الشوارع الخالية، والمحالّ التجارية المغلقة، تارةً تتحدث عن كيف كانت الأماكن، وأخرى تأخذها الحسرة على ما آلت إليه حال المدينة. هنا كان بائع الخيوط الملونة ولوزام الخياطة الذي لا يكاد يخلو دكانه من الزبائن من كل أنحاء المدينة وقضائها، وهناك كانت تجتمع نسوة قضاء الخليل لبيع اللبن، وهذا طريق لم يكن يخلو من المارة، كلٌّ جاء إلى المدينة الآهلة في شأن، بيع وشراء، وصداقات ومصاهرات، ومآرب كثيرة.
توقفنا أمام دكان يبيع الفخار، وبدا لأمي أن صاحب الدكان ممن عاصروا المدينة لما كانت مدينةً، وبدأ هو الآخر يسرد ذكرياته أمامي، أنا التي كنت جنينًا في رحم أمي حين اغتيلت المدينة.
فجأةً تتلاشى المعالم الساحرة لمدينة من أقدم مدن العالم، ضجيجُ الباصات في الكراج، صوت باعة الحسبة، رائحة السولار، وجوه الأشخاص الذين يشكلون معالم المدينة، بائع القهوة وسائقو الحافلات، طلبة المدارس وصانع الأحذية[8]. لا ملامح لأصالة المدينة، إلا ما تسرده شفاه من عاصروا انقلاب حالها من الأُهولِ إلى خواء عارٍ يجثم بكل ثقله على قلوب من تبقى من الفلسطينيين في شارع الشهداء، وشارع السهلة وتل الرميدة ومحيط المسجد الإبراهيمي معزولين في منطقة H2.
في تلك المرة، وكل المرات التي تلتها، لم يكن في الطريق إلى المسجد الإبراهيمي، وما حوله إلا قلة من الفلسطينيين الذي يسكنون غالبًا هناك، وفي المعظم تستطيع الإحساس باستغرابهم من أي وجه غريب يزور المنطقة التي كانت يومًا ما محجًّا لآلاف البشر يوميًا لغايات تربو على الحصر، قبل أن يُقفل السوق، إما بأوامر عسكرية أو نتيجة للتضييقات اليومية التي تمس أدق تفاصيل الحياة.
ومع هذه القلّة الفلسطينية، أو لضمان بقائها قلةً والمساهمة في تقلّصّها، تجد ما يزيد على مئة نقطة تعيق الحركة، منها ما يزيد على عشرين حاجزًا عسكريًا مأهولاً بالجنود الذين لا يتورعون عن إطلاق النار، الجنود الذين قد يقابلونك بتحية ترحيب -لا تلمح فيها سوى السخرية والقهر- وأنت تدخل للصلاة، بعد تدقيق هويتك، وإخضاعك لتفتيش مهين، وبالتأكيد يحمون من يستفزك من المستوطنين برشق الخمر عليك أو إلقاء الشتائم في وجهك، أو قتلك! وقد يعتقلونك أو يردونك قتيلاً لو فكرت في الدفاع عن نفسك.
ومرَّة أخرى لا تتوقف رصاصة القتل عند جسد الشهيد. يتجدد اختراقها لكل أنسجة المدينة مخلفةً تهتكًا صادمًا.
ففي العبور بين ذاكرة جيليْن، تجد الخليلَ القديمة في روايات الناس محاطةً بهالة من الشعور الدائم بالخطر والتهديد، وبالتالي ضرورة الابتعاد وتجنب الاحتكاك، وهي تصورات كلما بدا أنها صارت بعيدة، عزّزتها عمليات القتل الدامية التي ينفذها الاحتلال حسب مزاج جنوده ضمن إطار منطقة H2، فيجدد حولها هالة الرعب في أذهان مئات آلاف السكان في H1.
حينما كانت تلتف المدن الحديثة في نشوئها حول القديمة، نشأت الخليل الحديثة مبتورةً عن القديمة، وأصبح الحاجز بوابة عبور بين خليلٍ حديثةٍ تنمو بتسارع مذهل يتصل ويتفاعل مع مظاهر الحداثة والانفتاح، وخليلٍ قديمة جُمّدت عند عام 1994 حتى أدق تفصيلة فيها.
ذاكرتان متوازيتان لجيلين أحدهما تلقى صدمة الدم، والآخر نشأ على ما يحيط هذه البقعة من قصص معجونة بالخوف والقلق واجتناب الرصاصة المحتملة في أي وقت.
في العبور بين ذاكرة جيليْن، تجد الخليلَ القديمة في روايات الناس محاطةً بهالة من الشعور الدائم بالخطر والتهديد، وبالتالي ضرورة الابتعاد وتجنب الاحتكاك، وهي تصورات كلما بدا أنها صارت بعيدة، عزّزتها عمليات القتل الدامية التي ينفذها الاحتلال حسب مزاج جنوده ضمن إطار منطقة H2، فيجدد حولها هالة الرعب في أذهان مئات آلاف السكان في H1
الخامسة مساء
في منزله ذي الطوابق الأربعة في تل الرميدة، يعيش الطبيب تيسير زاهدة رفقة زوجته وابنته، بعد أن حال الاحتلال دون إتمامه لافتتاح المشفى الذي كان يحضّر له في تسعينيّات القرن الماضي. ولدى جلوسك بين يديه، تجد أن الرجل يعيش زمانين متوازيين، زمان في ذهنه وآخر يُمارس عليه.
لا ماضيه انتهى ولا حاضره أتى، فالرجل بعدُ لم يتخطَّ منعه من افتتاح المستشفى في المنطقة التي يسكنها، ولا تحوُّلَها في نظر المجتمع المحيط به لمنطقةٍ دونٍ، يتجنب الناس زيارتها ويصعب قَبولهم بمصاهرة ساكنيها وقد يستحيل ذلك أيضًا، ويضطر شبابها لبناء أسرهم خارج حدودها اجتنابًا للقهر اليومي على الحواجز وصعوبة الحياة فيها، بعد أن كانت تصنّف على أنها من أكثر الأحياء رقيًّا في المدينة.
حينما كانت تلتف المدن الحديثة في نشوئها حول القديمة، نشأت الخليل الحديثة مبتورةً عن القديمة، وأصبح الحاجز بوابة عبور بين خليلٍ حديثةٍ تنمو بتسارع مذهل يتصل ويتفاعل مع مظاهر الحداثة والانفتاح، وخليلٍ قديمة محاصرةٍ ومنبوذةٍ ومهمّشة، جُمّدت عند عام 1994 حتى أدق تفصيلة فيها
إن مشيت في تل الرميدة حوالي الثانية ظهرًا فلن ترى في معظم الأوقات إلا قطط الشوارع، ومستوطنين يقودون سياراتهم بجنون في شارع الشهداء الذي كان عصب الحياة التجارية في الخليل، قبل أن يُمنع الفلسطينيون بالمطلق من قيادة سياراتهم فيه.
ينهي الطبيب عمله في وسط الخليل الحديثة، ويجتهد أن يعود قبل الخامسة إلى منزله حتى لا يتعسر عبوره للحواجز فالنهار صيفًا وشتاءً ينتهي في هذا الحيّ عند الخامسة مساءً.
لا يصل الفلسطيني الساكن في تل الرميدة بيته قبل أن يعبر عدة حواجز، مشيًا على قدميه بطبيعة الحال كونه يمنع من قيادة السيارة داخل غالبية مناطق H2 ويحتاج لتنسيق مع إدارة المنطقة لإدخال أسطوانة الغاز، أو جهاز كهربائي أو قطع للأثاث، عدا عن تفتيش يومي لكل ما يحمله من احتياجات لمنزله.
الخامسة مساءً على الطرف الآخر من الحاجز هي توقيت لبدء نهارٍ اجتماعي جديدٍ بالنسبة لسكان H1، نهار للراحة بعد العمل والتسوق والترفيه في المطاعم أو الحدائق كما هو للمناسبات الاجتماعية وسواها. وفي حين أن الخليل الحديثة مدينة لا تنام باكرًا، فإن الخليل القديمة ترزح تحت سطوة الوقت، ولا يتمكن ساكنوها من الانخراط في نشاط الشقِّ الآخر من مدينتهم الأمر الذي أدى مع طول الزمن لفرض حالةٍ من العزلة الاجتماعية، دفعت الناس إلى مغادرة بيوتهم في الخليل القديمة أو في أحسن الأحوال العيش بالتناوب بين منزلين واحد في H1 وآخر في H2.
ترزح المناطق المحاصرة من الخليل القديمة بشكل يومي لعنف ملجوم، لقوةٍ عنيفة غير ظاهرة على وشك الانفجار دائمًا[9]، تجعل الوجود الإنساني في محيطها متأهبًا دائمًا بقلق لانفجارها وتؤثر بالتالي على شكل هذا الوجود.
اتجهت عائلات فلسطينية لمغادرة مناطق H2 بحثًا عن حياة أسهل في الشق الآخر من المدينة، كما ترك تجار كثر محالَّهم الملاصقة لهذه المناطق، والأكثر إيلامًا أن عائلات تمزقت بسبب هذا الوضع؛ منها على سبيل المثال عائلة عماد أبو شمسية الذي يسكن وزوجته في تل الرميدة، بينما اضطر أبناؤه الذكور لترك العيش معهما بعد تعرضهم لسلسة لا منتهية من الاعتقالات والضرب والتهديدات بالقتل، خصوصًا بعدما وثّق أبو شمسية إعدام الشهيد عبدالفتاح الشريف أمام منزله آذار/ مارس2016[10].
قادت هذه الحالة من العزل والدموية إلى خلق نظرة طبقية اتجاه سكان المناطق المغلقة؛ أدت إلى إعادة إنتاج العنف داخل مكونات المجتمع الفلسطيني نفسه في الخليل، خصوصًا مع ما تراكم من صور ذهنية حول أن هذه المناطق هي بؤر للسلاح والمخدرات والتخلف، نتيجةً لتقصير السلطة الفلسطينية في عملها المؤسساتي والمجتمعي في حماية هذه المناطق وتحفيز تدفق الناس إليها.
اتجهت عائلات فلسطينية لمغادرة مناطق H2 بحثًا عن حياة أسهل في الشق الآخر من المدينة، كما ترك تجار كثر محالَّهم الملاصقة لهذه المناطق، والأكثر إيلاماً أن عائلات تمزقت بسبب هذا الوضع
هذا العنف الإسرائيلي الذي يتخفّى عن الواجهة أحيانًا مُبقيًا على شواهد تمثله، كالجندي مدججًا بأسلحته غير مكترث بعبورك، أو الحاجز الخالي من الجنود، أو الروايات المتداولة بين الناس عن كل مرة قتل فيها الجيش إنسانًا أو اعتقله، ينزل ثقيلاً على مخيال الناس مع كل هذه الشواهد، فتؤثر على أفعالهم وقراراتهم في الحياة حتى دون ممارسة قوة مادية بحق شخوصهم، لكنهم في الحقيقة مُجبرون تحت وطأة تهديد العنف الاستعماري على تغيير مسارات حياتهم بحثًا عن هامش آمن. خصوصًا أن العنف في الخليل يتحرك دائمًا باتجاه ترسيخ القتل في الشارع، وهو أقصى مقدار للعنف، ودائمًا ما كان شائعًا ومتوقعًا وفادحًا بالنسبة للسكان، وطالما شهدت المدينة ترك أبنائها ينزفون في الطرقات دون السماح للإسعاف بالوصول إليهم خصوصًا إبان أحداث هبة القدس عام 2015[11].
قادت هذه الحالة من العزل والدموية إلى خلق نظرة طبقية اتجاه سكان المناطق المغلقة؛ أدت إلى إعادة إنتاج العنف داخل مكونات المجتمع الفلسطيني نفسه في الخليل، خصوصًا مع ما تراكم من صور ذهنية حول أن هذه المناطق هي بؤر للسلاح والمخدرات والتخلف، نتيجةً لتقصير السلطة الفلسطينية في عملها المؤسساتي والمجتمعي في حماية هذه المناطق
حداثة المدينة الجديدة؛ سيولة الوجود ومثالية السجن
نَمَتِ الخليل الجديدة بتسارع ملحوظ في العقديْن الأخيرين، واتصل تجارها ببقاع مختلفة من العالم، وشأنها شأن أي تجمع اجتماعي-اقتصادي، تأثرت بموجة الحداثة في أسواقها وواجهات محالها التجارية ونمط معيشة سكانها، لكنها في الحقيقة تبدو تجسيدًا قريبًا من المثالية لفكرة جيرمي بنثام في تصوره للسجن المثالي الكبير "البانوبتيكون" الذي يشكل النموذج العام للهيمنة والسلطة[12].
وإن كان هذا السجن في العالم منعكسًا بأشكال مؤسساتية تحت إطار الدولة الحديثة، فإنه في الخليل يتخذ صورةً أكثر تداخلاً وتعقيدًا، تتشابك فيها مكونات الاقتصاد الرأسمالي مع منظومة الاستعمار وسطوة السلطة الفلسطينية أمنيًا وفشلها مؤسساتيًا. وإن ظهر لإنسان الخليل الجديدة أنه حُر وآمن -نسبيًا- فإن هذه الحرية في الحقيقة أداة السيطرة عليه وإغفاله عن شق مدينته الآخر الذي لا يبعد عن مقهاه المفضل أكثر من 3 كم[13] على أبعد تقدير.
وإنسان الخليل الجديدة، المنخرطُ في نشاطها الرأسمالي؛ بشكل واعٍ أو لا واعٍ، يتحرك ضمن إطار شعوره الدائم بالرقابة الذاتية التي تتجلّى في ذهنه سياسةَ عصا وجزرة، فهو حاصل على فتات من امتيازات اقتصادية وحياتية ما لم يصطدم بالأمن، وهنا يتجلى ما فعله العنف المتخفي، بكونه يجعل محاولة التفاعل الحي والتواصل مع المكان[14]خيارًا غير وارد أصلاً في أيٍّ من ممارسات الحياة، الدينية أو الاجتماعية أو الاقتصادية. وهذا ما كان أشار إليه ميشل فوكو في أن المراقبة مفتاح يتحكم في الروح ليغير السلوك والدافع[15]؛ لكن هذا التفسير لا يمكن أن يلغي الاحتمالية الدائمة لانعتاق الروح من التحكم وتغييرِها للمسار كله في لحظة ثورة حرة.
وفي حين يزداد عدد المراكز التجارية الضخمة في المدينة، فإن أجيالاً كاملةً كبرت دون أن ترى "سوق الخضار المركزي-الحسبة" أو تعرفه أو تمتلك حتى صورةً ذهنيةً له، قبل أن تشرع "إسرائيل" في هدمه لصالح بناء حي استيطاني جديد[16]، وهذا يعني تغييبًا كاملاً لمساحة تاريخية - جغرافية تتكثف فيها روح المدينة الأصلية.
وبدأت تظهر ساحات وشوارع وميادين يمارس فيها الناس حياتهم الاجتماعية، حول دوار ابن رشد وشارع الثقافة، دون أن يتفاعلوا مع ساحة قهوة بدران، المقهى الأقدم في الخليل[17]، أو يختبروا المساحات العمرانية للحارات التي كانت مصممة منذ العهد المملوكي للمواءمة بين السكن والنشاط الاجتماعي للعائلات والتفاعل الثقافي بين المكونات المختلفة للمدينة[18].
فإذن يمكننا هنا أن نسأل، ماذا تعني الخليل القديمة في أذهان هذه الأجيال التي لم تعاصر حيويتها؟ ما هو شارع الشهداء؟ أو ما هي تل الرميدة؟
والماهية هنا ليست جغرافيةً فحسب، بل هي اجتماع لكل أشكال النشاط الإنساني الذي يمكن ممارسته فوق بقعة جغرافية باتصالٍ بين ماضيه ومستقبله، لكن ما حصل في الخليل هو بتر لاستمرارية الزمن، خلَّف فجوةً مشوبةً بالفراغ والخوف والمجهول حول هذا المكان في وعي الأجيال بين 1994 وحتى تاريخ كتابة هذا المقال.
يتخذ "السجن الكبير" للخليل الجديدةِ صورةً أكثر تداخلاً وتعقيدًا، تتشابك فيها مكونات الاقتصاد الرأسمالي مع منظومة الاستعمار وسطوة السلطة الفلسطينية أمنيًا وفشلها مؤسساتيًا. وإن ظهر لإنسان الخليل الجديدة أنه حُر وآمن -نسبيًا- فإن هذه الحرية في الحقيقة أداة السيطرة عليه وإغفاله عن شق مدينته الآخر
وإن صحَّ أن الناس يغادرون المدن بالهجرة أو الموت؛ فإن الخليل القديمة غادرت الناس مُغتالةً، لكن، لا جثمان يدفن في هذه الحالة، إنه اغتيال ماثل للعيان، بكل شواهده وآثاره وفواجعه، وهذا أشد إيلامًا لمن يعرف كيف تُرى المدن، وتُلمس هويتها.
[3] الخليل، مدينة مهددة بثقافتها المتعددة، جاد ثابت، المدينة الفلسطينية: قضايا في التحولات الحضرية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
[4] للمزيد انظر الرابط: https://bit.ly/3eD9Zvq
[5] بعد مجزرة الls[v الإبراهيمي شكّل الاحتلال لجنة إسرائيلية للتحقيق في الحادثة أسماها لجنة "شمغار"، وبعد إغلاق البلدة القديمة في الخليل والمسجد الإبراهيمي خرجت اللجنة بنتائج وتوصيات أبرزها تقسيم "الإبراهيمي" إلى كنيس ومسجد زمانيًا ومكانيًا، وحرمان المسلمين من دخوله بشكل كامل خلال "المناسبات والأعياد اليهودية". (التحرير)
[7] قسّم بروتوكول الخليل المدينة إلى مناطق H1 وتبلغ 80% من المدينة تسيطر عليها القوات الأمنية الفلسطينية، ومناطق H2 وتبلغ 20% من المدينة و"تحتفظ إسرائيل بجميع المسؤوليات والصلاحيات للنظام العام والأمن الداخلي" فيها، وتقع البلدة القديمة والمسجد الإبراهيمي ضمن مناطق H2. (التحرير) (https://bit.ly/3TbWMJk في الرابط خارطة جيدة تبين تقسيم المدينة).
[8] للمزيد حول الحياة في الخليل القديمة قبل المجزرة، انظر مقال ضحى ادكيدك: حياة في شارع الشهداء: https://bit.ly/3yMr3Gk
[9] انظر أرايئيلا أزولاي وعدي أوفير، "نظام العنف،" في سلطة الاقصاء الشامل: تشريح الحكم الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة (لبنان: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012): 123- 190.
[10] للمزيد حول حياة عائلة أبوشمسية: https://bit.ly/3Tux2au
[11] للمزيد حول أحداث الخليل 2015: https://bit.ly/3T8vWlf
[12] المراقبة السائلة، زيجمونت باومن وديفيد ليون، ترجمة حجاج أبوجبر: مقدمة المترجم (بيروت:الشبكة العربية للأبحاث والنشر)
[13] المسافة بين المدخل الشمالي لمدينة الخليل المعروف باسم رأس الجورة والمسجد الإبراهيمي تقارب 3 كم، وتعتبر منطقة رأس الجورة من أكثر مناطق الخليل اكتظاظًا بالمقاهي والمطاعم والمصالح التجارية المختلفة.
[14] الخليل القديمة المعزولة.
[15] المراقبة السائلة، الفصل الثاني: مرحلة ما بعد البانوبتيكون.
[16] للمزيد: https://bit.ly/3VCbaw6
[17] للمزيد https://bit.ly/3ghvPVG
[18] انظر مرجع رقم 3.