عن رجل انتصر عن الجنون والعزلة والفراغ.. قراءة في كتاب 5000 يوم في البرزخ لحسن سلامة

عن رجل انتصر عن الجنون والعزلة والفراغ.. قراءة في كتاب 5000 يوم في البرزخ لحسن سلامة
تحميل المادة

كتابة المذكّرات فعلٌ فرديٌّ في أصله، غيرَ أنّه يمكنُ أن ينسحبَ إلى كونه فعلًا جمعيًّا لاعتباراتٍ عدّة، أهمّها: القضيّة الّتي تحملُها المذكّراتُ، وصاحبُ هذه المذكّرات، وزاوية تناوُل الكاتبِ لأحداث هذه القضية وانفعاله معها، وكثيرةٌ هي المذكّراتُ الّتي كُتِبَتْ، منها ما هي موغِلة في فرديّتها، نستأنس بها محاولين فَهمَ الإنسانِ، نُرضي فضولَنا. ومنها ما يُراوِحُ بين الفرديّة التي تحتويها الجمعيّةُ، وكُتّابُ هذا النوع منغمسون في قضاياهم، نتعرّفُ منهم تلك القضايا وما يُحيطُها من تاريخ وتأريخ. والعادةُ أنّ كتّابَ هذا النوع من المذكّراتِ قد عايشوا تجاربَ فأثّروا وتأثّروا، أو اكتفوا بالمشاهدة فالتأريخ؛ لخطَر تلك القضيّة وأهمّيّتها في زمانها وما يليه.

لا شكّ أنّ القضيّة الفلسطينيّة واحدةٌ من أعقد القضايا وأعدلها، فالفلسطينيُّ وجدَ نفسَه فاقدًا لما يملِك، واستمرّ هذا الفقد ليطالَ تاريخَه. بدأ يهتمُّ بتاريخه، مُحاولًا أن ينقله من حيّز المعرفة المجردة إلى حيز التدوين، ليحفظَ التاريخ ويساهِمَ بذلك في استدامة المقاومةِ وروافدها.

تعدّ المذكّراتُ مصدرًا من مصادرِ المعرفة النضالية، ولذلك كتبَها الفلسطيني، واهتمّ بما كُتب منها. وعلى اتّساعِ ثغورِ التأريخ والدراسة ينبسطُ القلب ويفرحُ حين يرى مصدرًا جديدًا عايشَ صاحبُه التجربة فكتب عنها، فهو بذلك يمَلأ فراغًا كان سيموت إن لم يُكتَبْ عنه، في ظلّ سلطةٍ تهتمُّ باليوميّ، وتنتهج خطًّا متعارضًا مع نهجِ المقاومةِ المسلّحةِ، ولا ترى حاجةً لكتابة تاريخٍ مقاومٍ، والتاريخُ، كتابته والحفاظ عليه، يحتاجُ عملًا مؤسّساتيًا يؤمن به، لا جهودًا معزولةً.

وممّا يزيدُ في انبساطِ النفسِ تزايُدُ توجّه أصحاب التجارب من الإسلاميين لكتابة مذكّراتهم، في تخلُّصٍ من نمطٍ من الزهدِ مانعٍ من رواية التجربة، وتوفيقٍ بين سرّيّة العملِ واستدامته. وقد حُرم الفلسطينيون كثيرًا من تفاصيل التاريخ المقاوِم لأجلِ هذين الأمرين: زهد التوثيق المنجدل حتمًا بالفرديّة، والتخوّف من انكشافِ خيطٍ من خيوطِ العمل المقاوم في بيئة زمانيّة ومكانيّة شديدة التداخل.

لا تشبه الكتابةُ داخلَ السجنِ الكتابةَ خارجَه، بدءًا بالحالةِ النفسيّة، وليس انتهاءً بحدودِ الممكنِ لإنجازِ فعل الكتابةِ، وما يرافقه من تخوُّفاتِ الفَقْدِ، نتيجةَ التفتيشاتِ والمصادراتِ وصعوبة إخراجِ ما يُكتَبُ، فضلًا عن صعوبة التواصل مع البيئة العلميّة من كُتُبٍ وكُتّاب وبحوثٍ وموادّ علميّة مصوّرة أو مسموعةٍ؛ لذا تستحقُّ تجربة الكتابة عند الأسير حسن سلامة الاهتمامَ وتسليط الضوء، لفرادتها في عظمةِ الفعل أوّلًا، ثمّ الكتابة عن هذا الفعل ثانيًا.

 

عن السِّفْر المُقاتِل

أمّا الأسير حسن عبد الرحمن سلامة ومذكّراته "خمسة آلافِ يومٍ في عالم البرزخ" فقد وجدتُني مُطالَبًا بالكتابةِ عنه وعنها لِما ذكرتُ، ولشيء في عالمِ النفسِ عجيب، إذ تداخلتْ فيها حاجةُ التأريخ، والانجذابُ لقضايا الإنسان، والانتصارُ للقضايا العادلة بأضعفِ الإيمانِ والعمل، إذ الحقيقة أنّ تقصيرًا عامًّا يشوب الاهتمام بمجتمعُ الأسرى ومَن حولَهم.

إنّها مذكّراتٌ كُتِبَتْ في العزل الانفراديّ داخلَ السجون الإسرائيليّة، قدّمَ لها خالد مشعل رئيس المكتب السياسيّ السابق لحركة حماس، وراجعَها الدكتور أسامة الأشقر، وقد صدرتْ عن مركز الزيتونة للدراساتِ والاستشاراتِ في بيروت، بطبعتها الأولى عام 2022.

جاء الكتابُ في ثلاثة فصول: تجربة العزل الأولى، وتجربة العزل الثانية، والعزل بطعم الحبّ، مع ملاحقَ فيها رسائل من حسن سلامة إلى والدته وإلى أحلام التميميّ وإلى إذاعة صوت الأسرى، وعن زيارته لأخيه أكرم حين كان مريضًا في سجن مستشفى الرملة، ورسالة عن حسن سلامة كتبَها إبراهيم حامد. وفي الملاحق كذلك صورٌ متنوّعة منها صورتُه حين صدر الحكم عليه بالسجن 48 مؤبّدًا و35 عامًا، فيما هو يبتسم!

قدَّم سلامة للفصل الأوّل بمقدّمةٍ عن طبيعة العزلِ وأنواعه وأقسام العزل، ليُعطيَ المصطلحاتِ قيمتَها الفعليّة من الألمِ والحِرمانِ، فإنّ كثرة ترداد هذه المصطلحاتِ قد تُبْهِتُ ساديّة الفعلِ نفسِه، فإنّ العزلَ عند حسن سلامة إنّما يقوم على الحرمانِ والانتقامِ وتحطيم نفسيّة الأسيرِ ما أمكن ذلك. وقد جاءت المقدمة كذلك ليظلّ القارئ متّصلًا بالخيطِ الرئيس لهذه المذكّراتِ وتسلسلها، فحسن سلامة كتبَ المذكّراتِ في كثيرٍ منها مستعيدًا تلك الأحداثَ بما أبقاه في عقله وقلبه لا على الورق، الذي كثرت مصادراته.

يتجلّى الحرمانُ في العزل في أمور كثيرة، منها: الحرمانُ من النومِ من خلال فوضى نظام العزلِ، إذ لا وقتَ للتفتيشاتِ المفاجئة المباغتة، وكذلك المناوبة الليليّة الّتي يقصد بها السجّانون إحداثَ الجلبةِ وفَتْح "طاقة" البابِ الّتي تكون ثقيلةً مزعجةً عند فتحها وإغلاقها، بل إنّك تُحْرَم من الحديثِ مع الأسرى الّذين يُجاوِرونك، وإذا تحدّثتَ فإنّك محرومٌ من رؤية وجهِ مخاطبِك، ثمّ زِد على ذلك وَضع الأسير مع السجناء الجنائيّين، إذ لا هدوءَ، بل فوضى دائمة، وسباب دائم، وكثيرًا ما تستخدم إدارة السجون الجنائيين في أذيّة الأسيرِ، وإن اعتُرِضَ على ذلك فالجوابُ جاهز: إنّه مجنون! ثم يتجلّى الحرمانُ في المنع من الزيارة والتواصلِ مع الأهلِ، بل والمنع من زيارة الأخِ المريضِ أكرم سلامة الّذي كان أسيرًا في السجن ذاته الّذي يعزل فيه حسن! ولا ينتهي الحرمانُ بمنعك من رؤية الشمسِ والقمرِ والنجومِ وحركة الناس والأشياء، وحرمانك من مشاهدةِ وقراءةِ ما تختار! إن نظرة في تصميم هذه الزنازين والساحاتِ يؤكد أن كلّ هذا منع مقصود يُرجِعُه حسن سلامة إلى حقد هذا العدوَّ الّذي تجاوزَ كلّ حدٍّ!

يتجلّى الحرمانُ في العزل، كما يروي حسن سلامة، في أمور كثيرة، منها: الحرمانُ من النومِ من خلال فوضى نظام العزلِ، ومنع المعزول من الحديثِ مع الأسرى الّذين يُجاوِرونه، ووَضع الأسير مع السجناء الجنائيّين، ثم يتجلّى الحرمانُ في المنع من الزيارة والتواصلِ مع الأهلِ

عدّد حسن سلامة أقسام العزل في السجون الإسرائيليّة، وقد دخلَها كلّها، وتلك سياسة قمعيّة تُتيح لإدارة السجن نقل الأسير المعزول كلّ ستة أشهر، ما يمنع استقرار الأسير واعتياده، والأسرى يسمُّون هذا النقلَ الفجائيّ: قَمْعًا، وأقسام العزل هي: عزل "إيشيل" في بئر السبع، وعزل "أوهليكدار" في بئر السبع، وعزل "عسقلان"، وعزل "أيالون القديم" الّذي أُغلِقَ، وعزلُ "أيالون الجديد"، وعزل "جلبوع"، وعزل "شطّة"، وعزل "ريمونيم"، وعزل "رامون"، وعزل "نفحة" الّذي افتُتِحَ مؤقّتًا.

دخل حسن سلامة العزلَ مرّاتٍ ثلاثة، وطاف كل أقسام العزل في سجون الاحتلال، واستمر عزله، بأشكال العزل المتنوعة، ما يزيد عن 13 سنةً!! وكان سلامة يظلّ مقيَّد اليدين والرجلين كلّما أراد السجانون تفتيش الزنزانة وهو ما يجري مرات عديدة في اليوم، وكما لم تكن القيود الحديدية تفارق يديه ورجليه وهو يمارس الرياضة.

أمّا أنواع العزل فثلاثة: عزلٌ عقابيّ للأسير لمخالفته قوانين حياتيّة داخل السجن، كأن يرفض الوقوف للعدد، أو لمحاولته إدخال شيء محظور، أو لدفاعه عن نفسه ضدّ شرطيّ؛ والعزلُ بدافع أمنيّ كالخطر على أمن الدولة، ويحدث فجأة من جهاتٍ أمنيّة عليا، هي "الشاباك" هنا، بحجج كثيرة، كأن يحاول مواصلة نشاطه من داخل السجن، ويكون هذا العزل مفتوح المدة، يُجدّد لشهرين ثمّ لستّة أشهرٍ غيابيًّا ثمّ من خلال المحكمة بعد ذلك إذا كان المعزول وحدَه، أمّا إن كان معه آخر فإنّ التجديد يكون كلّ عام؛ وثالث الأنواع هو العزل الّذي يطلبه السجين، لمشاكل إدارية أو أمنية مع الأسرى داخل الأقسام.

دخل حسن سلامة العزلَ مرّاتٍ ثلاثة: منذ بداية اعتقاله في 17/5/1996 إذ استمرّت فترة التحقيق حتّى شهر كانون الأوّل/ ديسمبر، ثمّ أُخرِجَ إلى أقسام الأسرى لأقلّ من شهرٍ ثمّ أُعيدَ إلى التحقيق شهرًا آخرَ، ثمّ قضى الفترة التالية في سجن عسقلان داخل أقسام المعتقلين الأمنيّين يخرجُ إلى المحاكمِ ويتعرّض للضربِ عند خروجه على يد وحدة "النحشون" حتّى تاريخ 3/7/1997 إذ بدأت حياة العزل الأولى في عزل الرملة (أيالون/ القسم القديم)، يذكر حسن سلامة تفاصيل هذا العزل جيّدًا، عدد غرفه، وتهالك جدرانه، وشكل أبوابه، والساحة الخارجيّة الّتي لا تمتّ للخارج بصلة، يراها حسن سلامة مدخلًا للألمِ والحرمانِ، يُسمَح للأسير بأن يخرج إليها ساعة واحدةً يوميًّا.

كان هو وحدَه الأسير الأمنيّ، واستطاع أن يُديرَ العلاقةَ مع الأسرى الجنائيين من خلال تعرُّفه إليهم أثناء اختلاطه معهم فترةَ نزولهم للمحاكم واحتكاكه معهم، فكان يفهم ضرورة حضور المصالحيّة في هذه العلاقة، وقد خفّف عنه سجين جنائيّ يدعى "عصام" كثيرًا من آلام العزل بداية الأمر، وجرى ذلك عبر مقايضة المعلوماتِ وبعض الحاجات الأساسية بالسجائر، إذ كان عصام ينظّفُ زنازين الأسرى المعزولين ويوزّع عليهم الطعام، وكان ممنوعًا من الحديث مع حسن سلامة، لكنّه لم يلتزمُ بذلك، فكان يُعرِّفُ سلامة بمَن في الزنازينِ الأخرى ويوفّر له بعض احتياجاته الأساسيّة، مقابل أن يأخذ من حسن سلامة حصّته من السجائر.

كان سلامة يظلّ مقيَّد اليدين والرجلين كلّما أراد السجانون تفتيش الزنزانة أو إخراجه منها إلى الساحة الخارجيّة، والتفتيش الرسميّ يجري صباحًا ومساءً، فضلاً عن التفتيش المباغت، أما هو فكان يستثمرُ خروجَه إلى الساحة لممارسة الرياضة وهو مقيّد اليدين والرجلين، بعد أن يتجهّز ببنطال طويل وجواربَ ثقيلة وحذاء رياضيّ ليقي ساقَيه ألم احتكاك السلسلة بجلده، مع أن ساقه كانت تنزفُ أحيانًا من هذا الاحتكاك، حتّى صار يُتقِنُ الجريَ دون أن يسقطَ ويتأذى بعد فترة تكيّف.

خاض حسن سلامة إضرابه الأوّل عن الطعام بعدما خالفتِ الإدارة اتّفاقها مع ممثّلي أسرى سجن عسقلان بخصوص إدخال بعض الحاجيّات من كتبٍ ومروحةٍ هوائيّة وأغراضٍ من "الكانتينا" له، إذ نجح بإيصال خبرٍ عن سوء وضعه خلالَ ذهابه للمحاكم من خلال تواصله مع أسرى آخرين، وبعد نكث الإدارة أوصَل خبرَ إضرابه عن الطعام إلى أهله من خلال السجين الجنائيّ عصام، كان هذا الإضرابَ الفرديّ الأوّل لأسيرٍ معزولٍ، نجح بعد 16 يومًا من الإضراب بأن حصّلَ إنجازاتٍ حسّنت ظروفَه المعيشيّة، فأدخل المروحة والبلاطة الكهربائيّة (أداة لطهي الطعام وغلي الماء) والتلفاز وأغراضًا من الكانتينا، أحسّ بشعورٍ رفيع، لقد انتصرَ، وصنع "الشوربة" الّتي شربها كلّها، كانت ساخنةً، وكان هذا كافيًا بالنسبة له.

كان يتواصلُ من خلال الهاتف العموميّ المخصّص للأسرى الجنائيّين مع أهله من خلال السجين عصام، إذ كان يزوّده بالرقم فيرفع صوته كثيرًا فيسمعه أهلُه ولا يسمعهم، فيبلّغه عصامُ بفحوى الحديث وردّهم عليه، في فترة العزل الأولى كانتْ زيارة أمّه الأولى له، فامتلأ بالسعادة والغبطة، وصار يطّلع، مع الزيارات التالية، على أخبار العائلة، ويجهّز أحاديثه ويسردها خلال نصف ساعة فقط! خلال تلك الزيارات نجح حسن سلامة في إخراج مادّة كتاب عمليّات الثأر المقدّس في "كبسولاتٍ" بوساطة أمّه، وخاض إضرابًا آخر عن الطعام لأجلِ فكّ القيودِ أثناء ممارسة الرياضة وإدخال بعض الكتب، وقد نجح في ذلك، وزار أخاه أكرم الّذي اعتُقِلَ قبلَه، وحُكِمَ ثلاثين سنةً انتقامًا من أخيه.

كان سلامة أول أسير معزول يخوض معركة الإضراب عن الطعام، وقد خاضها ثلاث مرات، ونجح في المرات الثلاثة أن يفرض على إدارة العزل أن تحسّن ظروف عزله، كأن تفكّ القيود عن رجليه أثناء الرياضة، وأن يدخل بعض الأدوات الضرورية لاستمرار الحياة.

من أصعبِ ما مرّ على حسن سلامة في تجربة العزل الأولى: وضعه في زنزانةٍ مع أسيرٍ أمنيّ كان قد جُنّ في السجن اسمُه عصام كذلك، وإذ كانت الإدارة تمنّي نفسَها أن يعتدي على حسن سلامة، تفاجأت حين غيّر حسن سلامة كثيرًا من تصرّفات الأسير ونجح في ضبطِه، ومع ذلك فلم يكن حسن ينامُ ليلَه، تحسُّبًا لأيّ اعتداءٍ من هذا الأسير عليه، ثم لم يتحمّل عصام وضعَه، وبعد أسبوعٍ خرجَ وقت "الفورة" ولم يعد.

في فترة العزل الأولى كانتْ زيارة أمّه الأولى له، فامتلأ بالسعادة والغبطة، وصار يطّلع، مع الزيارات التالية، على أخبار العائلة، ويجهّز أحاديثه ويسردها خلال نصف ساعة فقط! خلال تلك الزيارات نجح حسن سلامة في إخراج مادّة كتاب عمليّات الثأر المقدّس في "كبسولاتٍ" بوساطة أمّه

خاضَ سلامة مرَةً أخرى إضرابًا مفتوحًا عن الطعام غايته إنهاء العزل، استمرَّ 24 يومًا ولم يُنهِهِ إلّا بعد تواصل الأسرى معه، واتّفاقهم مع الإدارة على خروجه، وقد نجحَ ذلك بعد أربعة أشهر من فكّ إضرابه، ونُقِلَ إلى عزل عسقلان والتقى هناك محمود عيسى وكانت بدايةَ صداقتِهما، وأحمد شكري، وعبد الرحمن غنيمات، وبعض الأسرى الأمنيّين الآخرين من المعزولين الّذين دخلوا في حالاتٍ نفسيّة صعبة وصلت حدّ الجنونِ.

 وقد انتهت تجربة العزل الأولى في شهر حزيران/ يونيو عام 2000 بعد إضرابٍ جماعيٍّ مفتوح عن الطعام خاضه الأسرى مطالبين بخروج المعزولين كلّهم، واستمرَّ قرابة 20 يومًا، وهُدِّدَ حسن سلامة من ضابط الاستخباراتِ بأنّه سيعود إلى العزل.

وأمّا تجربة العزل الثانية فبدأت في 1/1/2003 وهي الفترة الأطولُ والأقسى، وقد طبعَ هذه التجربة كثرةُ التنقّلاتِ بين أقسام العزل المختلفة، وهذا أقسى ما يُلاقي الأسيرَ في سجنه، فالإنسانُ ابن المكان، يصنع علاقاته معه. ونَقلُ الأسيرِ هو أذى ذهنيّ فوق الأذى الجسديّ الناتج عن كره الأسير للتنقّل والبوسطة والمبيت في المعابرِ.

في فترة عزله الثانية التقى كثيرًا من رفاقِ الدربِ من أهل العمل العسكرّيّ في حركة المقاومة الإسلاميّة "حماس"، منهم: إبراهيم حامد، وعبد الله البرغوثيّ، وزاهر جبارين، وصالح دار موسى، ووليد خالد، وجهاد يغمور، ومحمود عيسى الّذي سمّاه شيخَ المعزولين لمكوثه في العزل أكثر من 14 عامًا، وأحمد المغربيّ، وهشام الشرباتيّ، وعاش مع أحمد سعدات في غرفة العزل الانفراديّ ذاتها، في عزل ريمون، وقد ذكرَ سلامة تلك الفترةَ مثنيًا على أبي غسّان، الّذي لم يعرفه أوّلَ دخوله الغرفةَ، مع أنّهما كانا يتحدّثانِ كثيرًا دون أن يرى أحدهما الآخر، في علاقة ودودةٍ تكوّنتْ بينهما، إذ كانت أمّ غسّان كثيرًا ما تشكرُ حسن سلامة لدورِه غير المباشرِ في أن يقلّل أبو غسّان من تدخينه مراعاةً لصحّة حسن سلامة ولتضرّره من التدخين.

قد يكون أسعدُ ما في تجربة العزل الثانية: اختطاف كتائب القسّام الجنديَّ الإسرائيليّ "جلعاد شاليط"، حينها كان سلامة في عزل بئر السبع الذي مكث فيه ما يقرب من السنوات الخمس حتى نهاية 2008، قبل أن ينقل إلى عزل أيالون، بعد قرار من المحكمة بإغلاق عزل بئر السبع؛ لشكاوى من المحامين على رجال المافيا اليهود.

وخلال سنوات ما بعد اختطاف شاليط كان سلامة يقتات على الأملِ الّذي نما، حتّى تسامعتِ الآذانُ أخبارَ صفقةٍ تلوح، انتظر حسن سلامة -ولتطميناتٍ كثيرةٍ له بأنّه على رأس قائمة الأسرى الّذين سيُفرَج عنهم- أن يعانق الحرية، وصار الأمر عنده كأنّه تحصيلُ حاصلٍ، لكنه لم يكنْ في قائمة المفرج عنهم في صفقة وفاء الأحرار، عرف ذلك مساءً من المذياع: رئيس الشاباك يُطَمئنُ المواطنين "الإرهابي حسن سلامة لن يخرج في الصفقة". وصبيحة اليوم التالي: خرجَ حسن سلامة يلعبُ الرياضة مثقلًا بالمرض اتّقاءً لشماتة العدوّ، وممّا يُروى أنّ أيوب عليه السلام سُئل: "أيّ شيء كان أشدّ عليك في بلائك؟ قال: شماتة الأعداء". إنّك ترى في هذا الفعل شخصيّةً فريدة، تضيء لنا خفوتَ طُرِقِ القدوةِ في هذا الزمنِ، معاركُ في كلّ مكانٍ وزمانٍ مع أعداء كثر، وينجحُ في كلّ هذا، كلّ معركةٍ يخوضُها وينتصر تكون زادَه في خوض مزيد من المعارك.

وخلال سنوات ما بعد اختطاف شاليط كان سلامة يقتات على الأملِ الّذي نما، لكنه لم يكنْ في قائمة المفرج عنهم في صفقة وفاء الأحرار، عرف ذلك مساءً من المذياع: رئيس الشاباك يُطَمئنُ المواطنين "الإرهابي حسن سلامة لن يخرج في الصفقة". وصبيحة اليوم التالي: خرجَ حسن سلامة يلعبُ الرياضة مثقلًا بالمرض اتّقاءً لشماتة العدوّ

في 17/4/2012 بدأ إضراب الكرامة، وبعد 28 يومًا خرج حسن من العزل ومعه المعزولون، تكلّم مع أهله ولأوّل مرّةٍ مع خطيبته غفران، الّتي خطبها داخل السجن!

والبرزخ هو ما يحجزُ بين الشيئين، وهو هنا بين حياةٍ وموت، خمسة آلافِ يومٍ فيه، أدارَها حسن سلامة بذكاء واقتدار، كان يمكنُ أن يخرجَ مجروحًا في نفسِه، في قصديّة معروفة تستهدفُ تهشيمَ صورةِ البطلِ عندنا بمعاقبته على عقلانيّته، حسن سلامة صاحبُ عمليّاتِ الثأر المقدّس.

لقد نظرتُ يسيرًا في سيرة الرجل: عاش بين الشهداء في عسكريّة مبكّرة، تربّى بين يدي الشهداء: ياسر النمروطيّ القائد العامّ الأوّل في كتائب القسّام، ماجد الصليبيّ، صبحي أبو ناموس، صادقَ المهندس العيّاش، وكذلك الضّيف رجلَ القسّامِ الأوّلِ حتّى يومنا هذا، احتضنه مسجد الشافعيّ بخان يونس، عاش نضارة البداياتِ وصدق المثال، أحسن الوفاءَ في عمليّاتِ الثأر للعيّاش. يصفه إبراهيم حامد بالحياءِ بل الخفَر[1]، جاعلًا هذه الصفة دليلًا على حدّة طبعٍ تعكس روحًا متحرّرًا من الشوائب، وكلامُ إبراهيم حامد إنّما هو من واقع تجربته النضاليّة مع مناضلين عرفهم.

يذكرُ حسن سلامة أهمّ ما يُعينُ على الصمودِ في معركة العزل الانفراديّ: الإرادة، وقوّة الشخصيّة، وقوّة الشكيمة، والجرأة، وقوّة الإيمان، والمخزون الثقافيّ، وما عنده من مبادئ يحملُها

هذه الأحداث الّتي عايشها حسن سلامة تجبل عقل المرء وقلبه على التحدّي، تجعلُ الزمان والمكان والفراغَ ساحاتِ معارك، تستنهض فيه حرّيّته الرّوحيّة في أعلى تجلّياتها، وعسكريّته الفذّة في فنّ المواجهة، على سبيل المثال: أن يُضرِبَ عن الطعامِ داخل العزل لتحقيق قَدْرٍ أكبرَ من بيئةٍ تُعينُ على الصمود. إنّ معاركَه هناك إنّما يخوضها لئلّا يخسر المعركة الأمّ: معركة الوجود والمراغمة، كان حسن سلامة أوّلَ مَن أضرب عن الطعامِ في عزلٍ انفراديّ، يذكرُ حسن سلامة أهمّ ما يُعينُ على الصمودِ في معركة العزل الانفراديّ: الإرادة، وقوّة الشخصيّة، وقوّة الشكيمة، والجرأة، وقوّة الإيمان، والمخزون الثقافيّ، وما عنده من مبادئ يحملُها، ولقد وجدتُها كلَّها قد تلخّصتْ فيه، وتلك الأخيرة مهمّة، وقد تمكّنك من التعامل مع الأحداثِ ببعدٍ آخرَ يضبطُ ردّة الفعلِ من خلال وعيه من أين صدرَ هذا الفعلُ وما غاية عدوّه؟ إذ يشحذُ همّة المواجهة والتحدّي، خاصّة إذا كانت الشخصيّة فيها من الإرادة والجرأة وقوّة الشكيمة ما فيها.

 

إنسانيّة الإنسان: حين يكون الحبّ رداءً يحفظُ أهل النضال

يلحظُ إبراهيم حامد في رسالته عن حسن سلامة تغيُّرًا وامتلاءً في حياته بعد خِطبته من الأسيرة المحرّرة غفران زامل، الّتي ارتضَتْ بفعلها الإنسانيّ الناظِر للبعيد أن تقترنَ بحسن سلامة، في سموٍّ إنسانيّ عجيب، وترفُّعٍ عن الدنيا مع قدرةٍ على التعالي عليها، وكأنّها تحيا فيها بنَفَس الآخرةِ. سمّى حسن سلامة الفصل الثالث من كتابه: "العزل بطعم الحبّ" ولعلّ هذا الحبّ هو الّذي أخرج هذه المذكّرات من حيّز العدم إلى الوجود، مرّاتٍ ومرّات، وأبقى لنا نفسيّة حسن سلامة متعاليةً على عدوّها، كانت "غفران" نداءَه للحياة كما يصفُ إبراهيم حامد، وصار هو ذلك الشخص الرومانسيّ الّذي يصنع أحلامه البسيطة ويعيش عليها.

قبل أيّام، تحديدًا يوم الأحد 13/11/2022 لحَظْتُ خطيبتَه غفران زامل خلال حفل إشهارِ هذه المذكّراتِ بتنظيمٍ منبلدية البيرة ومركز بيت المقدس للأدب الّذي يديره كذلك أسيرٌ محرّر وصاحبُ أدبٍ مكتوبٍ في السجن وعن السجن: الأستاذ وليد الهودلي، لمحتُ في عينيها وقوفَ الدمعِ، لم يكنْ موقفها هذا عاديًّا، كلّ قوّتها في إخراج الكتاب إلى عالمِ النور لا تحجبُ خوفَها عليه، تودُّ أن تصِلَ معاناتُه إلى كلّ مَن يمكنُ أن يؤثّر، دعَتْ إلى ترجمة مذكّراته إلى الإنجليزيّة. فِعْلُ غفران هذا جعل عيسى قراقع يُشبّهها بـ"بياتريس" شخصيّة الكوميديا الإلهيّة الّتي أخرجَتْ دانتي من الجحيم، وهنا كأنّ غفران أخرجَتْ حسن سلامة من البرزخ، هنا حين تكون إنسانيّة الإنسان حبلًا من نجاة، وعونًا في مواجهةٍ.

لقد وكّلَ حسن سلامة الشيخَ حامد البيتاويّ -رحمه الله- نيابةً عنه ليقوم بإجراءاتِ عقْدِ القران في المحكمة الشرعيّة، وحين مجيء الصليب الأحمر وقَّع الوكالةَ، وكان شهودُ زواجِه: عبّاس السيّد (أبو عبد الله) وأحمد سعدات (أبو غسّان)

إنّني هنا حين أقرأ هذه المذكّرات، وحين أشاهد حقد هذا المحتلّ وفعلَه اليوميّ بنا، أتذكّر قولَ صديقي: "نحن -الفلسطينيّين- أعطينا إسرائيل شيئًا عظيمًا غاليًا، أعطيناها شرفَ مواجهتنا"، وهم الّذين في خبايا نفوسِهم أحقرُ وأذلّ وأصغر من أن يكونوا عدوًّا لأحد، انظرْ لبواعثِ الأفعالِ الانتقاميّة عندهم لن تجد إلّا تشوّهاتٍ نفسيّة، محاولات انتصارٍ وهميّة، وتقزّزًا من الشرفِ العسكريّ! وهربًا من كلّ مكرمة! وبعد هذا نواجه أمثالَ هؤلاءِ! واللهِ إنّ هذا من بلاء الدنيا وكدرِها، ولكنّها سنّة الله الغالبة: أن يجعلَ العبرةِ في أيّ خَلْقٍ شاءَه.

 

حسن سلامة: السّلامةُ بعيدًا عن الفراغِ

فراغُ السجن مخيف: وهو أهمّ معاركِ الأسير، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يتعاطى معه، أو يخطَو خطوةً على طرقِه، إنّه يُسْلِمُكَ لطرقٍ كلّها مخيفة: الانتحار، القلق النفسيّ، الجنون. وبالنسبة إلى الأسير فإنّه يتعرَّض إلى موجات تفكيرٍ كثيرة، تعظمُ خطورتُها حين لا تصلُ إلى يقين! إنّ الأسير يصلُ إلى جواباتٍ كثيرة؛ لكنّها غير محسومة، فيظلّ يراكم وهمًا على وهم دون الاستناد إلى أرضيّة تقول للعقل: توقّف عن التفكير، والعقلُ بطبيعته يعملُ ليصل إلى جوابٍ يقينيّ، والأسيرُ يُحْرَمُ من هذا، وما أكثرَ الّذين التقى بهم حسن سلامة في فترات عزله الانفراديّ ممّن فقدوا عقولَهم أو دخلوا في حالاتٍ نفسيّة حادّة، أما هو فظلّ محافظًا على نفَسِ المعركة فيه، لقد استندَ على أساسٍ من العقيدةِ واللجوء الروحانيّ يُسلّيه عن همومه، ويصنعُ له عالمَه الخاصّ يأوي إليه كلما ادلهمَّتْ عليه الخطوب.

وفي واقعٍ كهذا، لعلّ فكرة الكتابة داخل السّجن عن أحداثه هي محاولة تكتيكيّة من الأسير للتغلّب على فراغِه/ عدوّه، إذ ينظرُ للأمرِ من خارج، فهو يخرجُ من زمانه ومكانه إلى زمن متخيّلٍ، تجودُ عليه اللغة بإمكاناتها، فتحفظُ لنا بهاء المقاتل وعقلَه! وعدوّنا يفهم مركزيّة الفراغ في هزّ كيان المقاتل فتراه يمنع كلّ ما من شأنه أن يقلّل هامش الفراغ في يوم الأسير.

والكتابة حيلةٌ من حيلٍ أخرى، فالرياضةُ، والرياضة مع القَيْد، والقراءة، والحياة الروحيّة، والاستئناس بمَن يشاركك همومَك وقضاياك، والاستماع للمذياع، والحفاظ على نظافة الغرفةِ وترتيبها، كلّ ذلك في لحظاتٍ مستلّةٍ من أزمنةِ القهر، كلّ ذلك جيش الأسير يواجه به جيوش الفراغ.

 

خَتْمُ الكلام

إنّ غاية كتابة هذا السِّفْر: النحتُ في صخرِ تاريخنا، والإضاءة على حالةٍ معتمةٍ في السّجون الإسرائيليّة تستهدف إحياءَ قضيّة العزل في ضمير الشعبِ والتنظيماتِ، ولئلّا يعيشَ هذه الحالةَ أسيرٌ آخرُ، إنّنا يجبُ أن نشعرَ بالأسى حين نعلمُ أنّ أسيرًا من أسرانا قضى 5000 يومٍ في العزل الانفراديّ، قاتل عن أمّةٍ، كان يمكنُ أن يكون مجنونًا الآنَ، غيرَ أنّ المقاتل بقلبِه، ولم يفتُرْ قلبُ حسنٍ يومًا، ظلّ يوقِدُه بالثأرِ وإرغام العدوّ، يشحنُه عند عتبة الخالقِ سبحانه، يتذلّل لإخوانه، يُتْقِنُ فن التكيّف مع الممكنِ المتاح، يُذكِّرُنا بتقصيرِنا، ونذكرُه بعلوِّه.

كتبَ بعضٌ من الأسرى عن حياةِ العزلِ وعن التحقيق وعن يوميّاتهم في أقسامِ الأسرِ بين الأسرى، ويظلُّ عملُ حسن سلامة الأوسعَ في معالجة قضيّة العزل الانفراديّ، مُبينًا لنا كيف تعامل معها وكيف أثّرتْ عليه، وكيف واجهها، أحمد سعدات كذلك كتب عن العزل الانفراديّ في كتابه صدى القيد، وكذلك مروان البرغوثيّ في كتابه: ألف يوم في زنزانة العزل الانفراديّ، فيمكن الاستزادة عن هذه القضيّة في الكتابين، وهما متوفّرانِ على الشبكة العنكبوتيّة.  



[1]  شدة الحياء