غرفة 14: الحبرُ حين يُفضي إلى الدم والإنسان
"إنّ غسّان كنفاني قد نقل الحبر إلى مرتبة الشرف، وأعطاه قيمة الدم"
محمود درويش عن غسّان كنفاني
يتغيّا الفنُّ اهتمامَ الإنسانِ بالجماليّاتِ، عمومًا، ما يخلقُ في النفس البشريّة غايةً من غايات الوجود الإنسانيّ على هذه الأرض: استحسانَ ما هو حسن واستقباح ما هو قبيح، فلا يقبل الدنية على نفسِه أو غيرِه[1]، هنا تُخلقُ هذه الأرضيّة الواسعة المؤسَّسَة على الذوقِ والمؤسِّسة لتوجيه الفنّ ليكون فنًّا يحملُ قيمةً تحرّريّة، وينجذبُ لقضيّةٍ متبنّاةٍ على أساسٍ من القيم، هنا يظهرُ أدبُ السجونِ تجلّيًا من تجليات هذا الفنّ الملتزم، إذ يكون فيه الفنّ حاميًا لنفسيّات المقاتلين المدافعين عن الحقّ والقيمة، ويُشكِّلُ لهم خروجًا من ضيق العدمِ ومن تهتّكات النفس التي يصنعها ضيق الزمان والمكان، هنا يكون الفنّ رافدًا ثوريًّا.
أكتبُ هذا المقالَ، يومَ افتتاح الفنّان الفلسطينيّ محمّد العزيز عاطف، المهجَّر من عراقِ المنشيّة، معرِضَ لوحاتِه (غرفة 14) في مركز خليل السكاكينيّ، في مدينة رام الله، وقد دفعني لكتابة المقال أمران: أوّلًا: أنّ هذا المعرض نتاج الحركةِ الأسيرة، إذ أنتجَ العزيزُ كلّ لوحاته فترةَ وجودِه في سجن عوفر، فقد صارتْ جزءًا من تاريخ هذه الحركة الأسيرة. وثانيًا: جذريّة محمّدٍ العزيز في فنِّه، فهو يدخلُ الفنّ لأجلِ فلسطين، ومَن دخلَ شيئًا لأجل فلسطين كان علينا أن نكون معه.
ولقد سألتُ العزيزَ ما الّذي جعله يُنتِجُ هذا الفنّ داخلَ السجن؟ أجابَ بقوله: الهرب، الهرب من ماكينة الأسر الّتي تعلم ما تريد، وتقدر على تنفيذ ما تريد، وبالنّسبة للعزيز فإنّ شرطَ تحقّق الثوريّة في الفنّ هو أن يحملَ مقولةً ما، ويكون الفنُّ منجَزًا حضاريًّا يصنعُها إذا ساهمَ في تعبيد الطريق أمام الثورة وأدواتها، وإذا كانت البلاد قد حُرّرت وامتلكتْ إرادتها فالفنّ هنا شاهدٌ على هذه الحضارة وصورة تنطق عنها، وأنت تجدُ العزيز يحملُ مقولةً لعلّها هذه: "اليومَ نصنع "الفنّ" من أجل فلسطين والإنسانيّة، غدًا سنحسم بالدم حرّيّات الشعوب".
وأنت تقفُ برهةً متفكّرًا: ما الّذي يجعلُ فنّانًا يُنتِجُ في السجن؟ فعرفنا أنّه الهرب، لكن، أن تُعتقَل لوحاتُه الّتي أنتجها فيستشعرُ الخسران والفَقد في ما يملك ثمّ يعودُ للإنتاجِ، فهنا يبدو أنّ الأمر نال من التفكير ما نال، واللوحات إن لم تُعتَقَل كصاحبِها فإنّ مصيرَ خروجِها لا شيء يؤكّده، وهذا هاجس خطيرٌ آخر.
يقول: إنّ عقله المنشَّأ على الفقد والنكبة مثل عقليّاتٍ كثيرة -وهو ابن عراق المنشيّة المهجّرة- قد عرف كيف يتعاملُ مع الفقدِ على الرغم من جنائزيّته وكارثيّته، إنّه الآن يخطط لسرقة لوحاتك، "هروبَك إلى الحرية". لذلك لا بدّ أن يقف في وجه فقدٍ جديدٍ متربص، ليخلّص نفسِه من هذا المكانِ، لقد وعدها بألّا يعتقلوا اللوحاتِ ثانيةً، فباشر العملَ، ومعَ الرعب المركّبِ خوفَ ضياعِ الجهد واعتقال اللوحات، إلا أنّه لم يركنْ إلى الخوف وفراغ السجن، وبذل في عملهكاملَ جهدِه وماء عينه الليليّ وأوتار يده.
تسمية المعرض: غرفة 14
في قسم (22) من سجن عوفر، تحديدًا غرفة رقم (14) أنتجَ العزيز غالبَ لوحاتِ معرِضِه، والغرفة هذه، تقع في الطابق العلويّ من هذا القسم، فيها ثمانية أسرى، محمّد العزيز أحدهم، أسيرٌ داخلَ مجتمع هذه الغرفة، الّتي تحكمها قوانين تنظّم الحياة داخلَها، اتّفقَ أفراد هذه الغرفة على أن يوفّروا لمحمّد العزيز شيئًا ممّا يُناسِبه لينتِجَ فنّه: السّهر ليلًا، استخدام طاولة الغرفة، التدخين، إبقاء ضوء المصباحِ مُنارًا في الليل حين يخلد الجميع إلى النّوم سوى محمّد، كلّ هذا مكّنَ محمّدًا من إقامة معرِضِه هنا في رام الله، خارجَ زنازينِ عوفر.
بعضُ لوحاتِ المعرض
احتوى المعرِض (41) لوحةً، أربعون منها أُنتِجَتْ داخلَ السّجن، ولوحةُ ما بعد الحرّيّة أنتجَها الفنّان سليمان منصور، وأهداها للعزيز، لكلّ لوحةٍ حكاية، ونصوص اللوحاتِ غاية في العمقِ وحسن الاختيار، منها مثلًا: لوحة: حيفا لنا، الّتي جاءتْ نصًّا مؤطّرًا ومتداخلًا بنصّ آخرَ، مستخدمًا التعبئة والتفريغ بالحبرِ الأسود الجافّ ليميّز النصّ الأوّل عن النّصّ الثاني وليبيّن حدودَ النّصّين، وقد صُودِرَتْ هذه اللوحة، ثمّ استُعيدَتْ بعد ضغطٍ من الأسرى على إدارة السجن.
لوحة "حيفا لنا"، والنص متداخل مع المقولة التالية:
"سيضرب تاريخ هذه البلاد الطويلُ رأسَ الأفعى بحَدِّ الدمِ المشحوذِ ببآبئَ حجّرها الدمعُ على الدمِ يُرطَّبُ بالدّمِ فلا يتخثّر"
ومن ضيق المكان وشحّ إمكانيّاته أخرجَ محمّد لوحاتٍ فيها استخدام الممكن بأقصى درجات نفعيّته، فكان إنتاجُ الورقة المضمّخة بالقهوة يتمّ على أيّام: يوم تُنقَعُ فيه الورقة، ثمّ تُترَك حتّى تجفّ القهوة عنها، فيُزالُ الحِثْل، ثمّ يُؤتَى بقمْع سيجارةٍ ويُرسَمُ به على الورقة بالقهوةِ أيضًا، وتُترَكُ حتّى تجفّ مرّة أخرى، ثمّ يُبدَأ بالرّسمِ والخطّ عليها، وهذه الخطوة الأخيرة كانت في بعض اللوحات لا في كلّها وهي تمثّل لوحةً داخل اللّوحة.
ذات يومٍ، يتحدّثُ العزيز مع الشّيخ محمّد أبو طير، الّذي أمضى أكثر من 38 عامًا داخل سجون الاحتلال! فسأله: أنت مُقِلُّ الكلامِ يا شيخ، لماذا؟ فأجابه: خُلِقَ الحزمُ أبكمًا، فصارتْ لوحةً في خلفيّتها جملة: "يا حريّة" مُضَمّخةً بالقهوةِ المكتوبة بقمع السيجارة. وحقًّا يا حرّيّة، أبو طير ينتظرُ حريّتيْن، راحتِ الأولى فداء الثانية.
كنتُ معه في السّجنِ حينَ بدأتْ فكرةُ الرّسمِ والخَطِّ على ورقِ القهوة، حاول قبلَ ذلك أن يلجَأ للنّصّ المكتوب، وهو ابنٌ بارٌّ بالمجاز يُحسِنُ توظيفَه وتكثيفه، غيرَ أنّه لم يطُلْ في كتاباتِه الّتي انعكسَتْ تأثُّرًا بمطويّاتِ نفسِ أسيرٍ عاشَ تجربة التحقيق الطّويلة نسبيًّا. لعلّ العزيزَ نزلَ عند مُرادِ يدِه، وهو من القلائل -على ما أعلم- الّذين يجْمعون الربطِ بين أعصابِهم وحواسّهم، ربطًا يَظهرُ في سرعة اكتسابِ المهاراتِ والتعلُّم، وفي توظيفِ أكثر من حاسّة في إنجاز العمل.
خرجَتْ نصوص لوحاتِه من بناتِ فكرِه في أحيان كثيرة، وفي أحيان أخرى كنّا نُحِبُّ أن نكون جزءًا ممّا يُنتِج. دون قصد تخرجُ جملنا المحفوظة في بينيّات الذاكرة، أو ممّا خرجَ من الصدر مندفعًا على ألسنتنا. ذات يومٍ ودونما قصدٍ، نجحنا في أن نضيفَ فعلًا رباعيًّا إلى لغتنا العربيّة، هذا الفعل تحوّل فيما بعد إلى لوحة: "لا تصالح: فقد تدنقلَ الصّلح"، تأثُّرًا بقصيدة أمل دنقل، سيكون أمل دنقل سعيدًا حين يعلم أنّها خرجت من سجن عوفر، بعد عشرات السنين من كامب ديفيد، وبعد أكثر من 1500 عام على خيانة جسّاس.
لم يكن نِتاجُ العزيز من اللوحاتِ ما رآه زوار المعرض فحسب؛ بل أنتج أضعافًا مضاعفة من اللوحات المشابهة، غير أنّها خرجَتْ لتداوي شوقَ حبيبٍ أو قبلة أبٍ أو حضن ابنة، أو عناق زوجة، وقد كانت كذلك بحقّ. وحين خرجْتُ من السجن قبلَه، وجدتُه يُرسِلُ لي لوحةً غاية في الإبداع. لم ينسَ أن يبعثَ سرورًا إلى قلبِ صديقٍ خرجَ من الأسر، كان عدوًّا ذكيًّا لفراغ السجن القاتل، يدخلُه من جَبْر الخواطر، وممّا يُؤثَرُ في ذلك: "مَن عاش جابرًا للخواطر أدركَه الله في جوف المخاطر".
في السجن، كنتُ هناك، تذكّرتُ قولَ أبي فراسٍ الحمْدانيّ حين قال قصيدته: أوصيكَ بالحزنِ لا أوصيكَ بالجلدِ، وفيها بيتُه الّذي يقول:
بي مثلُ ما بكَ من حزنٍ ومن جزعٍ :: وقد لجأتُ إلى صبــرٍ فلم أجـــدِ
وهذا الشّطر الثاني عالٍ جدًّا، قريبٌ إلى قلبي، وأنا والعزيز كثيرًا ما نتشاركُ أبياتَ الشعر العالية، سمعه فكتب لوحةً فيها ما فيها من تشابهات الحالاتِ النفسيّة واختلافِ السياقات، وإن كنّا تقاطعنا مع أبي فراس الحمدانيّ ابتلاءَ السجن.
تعدُّ لوحة: "تحيا فلسطين حرّةً" مركزيّةً بالنسبة لصاحبها، إذ هي موغِلة في الجذريّة، لا تقبل تأويلًا في زمن السيلانِ هذا، وهي كذلك موغلةٌ في رساليّتها الواضحة السامية: تحيا فلسطين، كلّ فلسطين، ولا حياة بلا عزّة المقاوِم، بعيدًا عن ذلّ الارتماء، وهي حرّةٌ باعتبار ما سيكون، لذا يمكن أن نقول إنها خلاصة مقولة العزيز الفنّيّة الأيديولوجيّة، ولمّا جاءتْ من الزاوية العليا اليمنى أفادتْ عندي علويّة هذه القضيّة وأحقيّتها، والحقّ دائمًا عالٍ في فرضِه لا يهادنُ ولا يُسالِم، لذا وجبَ أن تكون عاليةً، وفي الحروف المقتصّةِ المفهومة جلاءُ الحقّ والمقولة، والعربُ تحذفُ إذا تمّ الفهم، فالإيجاز مهمّ بليغ.
هنا باسلُ الأعرجُ داخلَ السجن، بنظّارته الجميلة، الّتي أبصرتِ الحقّ ومشتْ إليه، حولها شيء من اللّون الأحمرِ، وكأنّ الرّأي الحرّ المشتبِك نهايتُه الدم، وهنا تظهر مقولة أخرى للعزيز: "الدم سائل الحسم". جاءت اللوحة نصًّا ورسمًا، النّصّ من قصيدة عبد الله البردونيّ ابن اليمن "فليقصفوا لستَ مقصَف"، الّتي اشتهرت بألحان عبد الفتّاح القباطيّ، الّتي ارتبطتْ ورُبِطَتْ كثيرًا بباسلٍ بعد استشهادِه، جاءت حادّة الزوايا، واضحةً.
وقد هُرِّبَتْ جميعُ لوحاتِ محمد العزيز أثناء زياراتِ أهالي السجناء في سجنِ عوفر، تخرجُ من هناك تتبعُها الأفئدة، ثمّ يبدأ الأصدقاء في الخارج بالاعتناء بها، وهكذا تمّت حتّى خرج جزءٌ منها بعد خروج العزيز من السجن. وانطلاقًا من الجذريّة في الفنّ، فإنّ المعرض أقيمَ بجهدٍ ذاتيّ من الفنّان العزيز وأصدقائه، رافضًا عروضًا متعدّدة من الرعاية، وقد أقيم ما بين 19/9 – 25/9/ 2022م في مركز خليل السكاكينيّ، فهذا إنجاز يُفتَخَرُ بها فنّيًّا ووطنيًّا، وجهدٌ يُضافُ إلى رصيد هذه الحركةِ الأسيرةِ الّتي قدّمتْ دمها وعمرَها وها هي تقدّم فنَّها، وتُصِرُّ أن تكون فلسطين مبتدأ الكلامِ وخبرَه، وأوّلَه وآخرَه.
[1] بتصرّفٍ من مقال: هل يستطيع الفنّ أن يخلق حراكًا ثوريًّا، الجزيرة نت