غزّيون على سفر.. تسكننا البلاد ولو كنّا في آخر العالم
على سبيل التقديم..
ما الذي يجعل تجربة السفر لإنسان ما داعية للحديث بوصفها فريدة وخاصّة؛ فقط لأجل كونه خارجًا من مكان ما؟! ليس ثمّة فرادة أو خصوصية في مجرّد السفر، لكنّ الأمر قد يكون مختلفًا إن كان السفر من فلسطين، وهو ما يجعله من جهة أخرى مُلتبسًا ومربكًا، لأنّ الخروج من فلسطين لا يخلو من وخز ضمير، ليس فقط لأنّ الصراع يتسم في الجوهر بالتدافع البشري على البلاد، أو لأنّ في البقاء في البلاد معنى دينيًّا ينشأ عليه الفلسطيني ويدعوه الرباط، ولكن أيضًا لأنّ المسافر من فلسطين يترك خلفه من يبقى مكابدًا لكلّ تلك المعاني والمسؤوليات، وهو ما يفتّح في وعيه سؤال المسؤولية عمّا ترك من خلفه.. قد لا يحضر هذا السؤال بالقدر نفسه لدى الجميع، وقد يتفاوت الوعي بحقيقة مشاعر المسافر الفلسطيني، من واحد لآخر، لكن الشعور الغامض المرتبك والملتبس لن ينفكّ عن فلسطينيّ خرج من فلسطين لأوّل مرّة.
تأتي الخصوصية، من كون السفر من فلسطين صعب، وإن صار أسهل ممّا مضى، فإنّ الفلسطيني، من الضفّة الغربية وقطاع غزّة، ما يزال يشعر بالاختلاف عن غيره في العالم، ففي كلا المنطقتين لا يملك اتصالاً مباشرًا مع العالم، وإذا كان الاحتلال قد زال في العام 2005 عن المعبر الذي يربط قطاع غزّة بمصر، فإنّه (أي الاحتلال) لم يزل ممرًّا إجباريًّا للفلسطيني الخارج من الضفّة الغربية، وبالنسبة لقطاع غزّة، تظلّ تقلّبات معبر رفح حاضرة باستمرار.
لماذا يتناول التقرير تجربة السفر من غزّة وكأنّها مختلفة عنها في بقية فلسطين، مع أن التجربة في الضفّة الغربية تملك منغّصاتها هي الأخرى، والتي ليس أقلّها منع الاحتلال للآلاف من السفر، واحتمال الأمر نفسه بعد اجتيازه الجسر إلى الضفّة الشرقية لنهر الأردن؟!
مارس الاحتلال فصلاً كاملاً بين تجمّعات الفلسطينيين، ليس فقط بالعزل المادي، بحيث لا يمكن التواصل بين الضفّة الغربية وقطاع غزّة، ولكن أيضًا بخلق الظروف المتباينة، وإذا أُخذ بعين الاعتبار صغر المساحة لقطاع غزّة، وصعوبة تواصله مع الأراضي المحتلة عام 1948، فإنّ الفلسطيني المسافر من قطاع غزّة ستكون لديه تصوّرات خاصّة حول السفر من القطاع، فالوصول للأراضي المحتلّة عام 1948 بدأ أخيرًا من خلال تصاريخ العمل، وللضفّة في الغالب مرهون ببعض التصاريح للعلاج، وإذا كان الفلسطيني في الضفّة الغربية كذلك ممنوعًا من الوصول للقدس أو الأراضي المحتلة عام 1948 إلا أن فرصته أكبر وأوسع لأسباب متعدّدة.
لكن فلننظر في الأمر من جانب آخر، وهو أنّ الفلسطيني غير قادر على السفر داخل وطنه. لا يمكن للفلسطيني من الضفّة الغربية أن يصل قطاع غزّة والعكس كذلك، الأسهل أن يلتقي الفلسطيني من الضفّة والفلسطيني من القطاع خارج فلسطين على أن يلتقيا في فلسطين، تمامًا كما أنّه أسهل على أيّ عربيّ تطبّع دولته مع الاحتلال أن يزور القدس من الفلسطيني المجاور لها ويحول بينه وبينها تصريح من الاحتلال!
ليس الأمر كذلك فقط. فالذي يدخل الأراضي المحتلّة عام 1948 بتصريح، لن يشعر أنّه حرّ في بلاده، الأكثر غرابة، أنّ الفلسطيني في الضفّة الغربية لا يمكنه أن يتحرّك فيها بحرّية، شوارع ومناطق يُمنع عليه عبورها، أو الوصول إليها، أو المشي فيها.
إذن كيف سيكون شعور الفلسطيني عندما يتجاوز الحدود، حدود فلسطين، وحدود بلد عربيّ مجاور كذلك، ويدخل بلدًا يُسمح لها فيها بالحركة كما يشاء؟! حين أخذ ذلك كلّه بعين الاعتبار، وأشياء أخرى يضيق المقام عن ذكرها، يمكن فهم السبب الذي يجعل الفلسطيني مختلفًا في إحساسه تجاه تجربته في السفر، وكذا يمكن تفّهم مشاعره المرتبكة والملتبسة إزاء ما يحفّ هذه التجربة، بقطع النظر عن وعيه بها وقدرته على التعبير عنها.
التحرير
صورة أخذت لمطار القدس الدولي (قلنديا) عام 1965.. التقطها في حينه الفلسطيني نواف حامد
"جنة جنة جنة.. جنة يا وطنا حتى نارك جنة".. وقتما يحزم الفلسطينيون أمتعتهم للسفر خارج الوطن في رحلة طويلة المدى، يستمعون للأناشيد الوطنية بأُذن الحنين، تداهمهم الأسئلة ويغمرهم الاشتياق قبل الإقلاع نحو وجهتهم، فيبدأ القلب بالارتجاف وتبدأ التساؤلات كلما اقترب موعد الرحيل: "هل سنستطيع فعليًا المغادرة وترك الوطن الذي نحب؟ هل سنتخلى عن سماع صوت بائع الكعك الصباحي وهو يدندن السيمفونية الصباحية في الحارات؟ هل سنترك بحر البلاد ولن نراه؟"
لم يكن خيار المغادرة من الوطن سهلًا على ضيوف التقرير، ولكنهم أقسموا قسم اليقين بأنهم سيكونون وجه الوطن الجميل في اغترابهم، يحكون عن القضية الفلسطينية، والأهل المرابطين في البلاد، غادروا؟ نعم، ولكن القلب بقي حاضرًا في الوطن، عصفت بهم نوبات الحنين مرات ومرات، فمنهم من عاد ومنهم من سيعود يومًا ما.
نتناول هنا مشاعر تجربة السفر ولحظات الانبهار الأولى للفلسطيني الغزي تحديدًا، ونتحدث عن البلاد في قلوبهم.
علاقة الغزّي بغزة.. الفرادة قربًا وبعدًا
توجهت نجلاء السكافي نحو تركيا في العام 2020، لدراسة الماجستير في تخصّص دراسات الإعلام والاتصال بجامعة أنقرة، وتركت نصف قلب في الوطن، تحدِّثُنا عن أول لحظة انبهار لها: "تمنيتُ وأنا بالطائرة أن لا نهبط أبدًا، ساعتان ونصف وأنا معلقة في الهواء لا أتوقف عن التقاط الصور في كل ثانية من نافذة الطائرة، صورتُ الصعود والهبوط، والأرضَ وهي تصغر وتصغر حتى تتلاشى، والغيومَ وهي تقترب وتدنو وتمتزج مع الطائرة، رأيت بديع صنع الله من فوق، وكنت سعيدة بحق".
النظرة الأولى لأي شيء لا تُنسى أبدًا، فها هي نجلاء تذكر جيدًا مطار إسطنبول وكأنها رأته البارحة، تضيف: "عندما دخلت مطار إسطنبول الدولي، لا زلت أذكر كيف كنت منبهرةً بالناس والمكان، ولم أستوعب كيف أصبحت في بلد ثانية هكذا فجأةً. كانت صديقتي مرشدتي في الرحلة تُوجّهني أين أذهب وماذا أفعل، كنت كالطفلة تمامًا أرى العالم الآخر لأول مرة، افترقنا عن بعضنا لمدة ساعة ونصف، وضِعتُ في أحد أكبر مطارات العالم وأنا التي بقيت في غزة 28 عامًا، كانت مشاعري غريبةً حينها، اسأل نفسي: هل أنا طفلة عشرينية ضائعة حقًا؟ وبعد مرور مدة على الحدث استشعرت جماله، وخصوصية التجربة الأولى بكل ما فيها، ولكن شعور الحنين والاغتراب داهمني من أول يوم لي حتى عدت".
لماذا نحن الغزيين علاقتنا بغزة لا تشبه أي علاقة بالعالم؟ تجيب: "منذ أن تهبط طائرة الغزاوي الأولى في أي مطارات العالم ستطارده لعنة الاغتراب، ولن ينفك من عقدة الحنين أبدًا، وهو شعور جميل لكنه مرهق بالفعل، وهناك أمر غريب أيضًا أنني طوال عمري الذي قضيته في فلسطين كنت أحمل البلاد في قلبي فقط، لكني في السفر تحولت لا شعوريًا إلى فتاة وطنية للغاية أحمل رسالة بلادي في كل مكان وأعرّف عنها، وقد لاقيت ترحيبًا كبيرًا من العرب والأتراك على حدٍ سواء، وشعرتُ بثقل الأمانة وبحبهم الأصيل لفلسطين".
"واحمل بلادك أينما كنت" هذا ما طبّقته نجلاء في سفرها فأرادت أن يكون محور رسالتها لدرجة الماجستير عن فلسطين، فكان موضوعها حول القضية الفلسطينية وحضورها رقميًا، ومحاولات الاحتلال استهدافها على هذا الصعيد، ومسارات مقاطعة الاحتلال رقميًا.
أعجبت نجلاء بالحياة خارج غزة، رأت جزءًا من العالم بوجهه الآخر، اختلطت بجنسيات متعددة، وقعت في غرام مدن تركية عدة، ولكن المدينة التي أخذت قلبها كانت مدينة أماصرة التي تعدّ مزيجًا من الغابات والبحار والجبال. ومع ذلك، بقيت غزة صاحبة الصدارة في قلبها.
تمنت نجلاء وهي تجوب بحرّيةٍ هذا الفضاء الجغرافيّ الواسع في تركيا، أن تمتلك مثل هذه الحرية في بلادها المحتلة، أن تطوف شوارع فلسطين، أن تعاينَ حيَّ الياسمينة، وأحياء القدس القديمة، وأن تجلس في باحات الأقصى تشاهد القبة الذهبية عن قرب وتتناول الكعك المقدسي.
كان واجبها الوطني لأجل قضيتها الفلسطينية يحتّم عليها أن لا تكون مجرد سائحة وطالبة تستمع بما تراه فقط، بل فلسطينيةً بحق، تسير في كل مكان مفتخرةً بفلسطينيتها، تقول: "شاركت في مؤتمر (فلسطينيو الخارج في إسطنبول) في شباط/ فبراير 2021، وهناك التقيت بفلسطينيين من كل بقاع الأرض، ومن قارات العالم الخمس، وتعرّفت على أحوالهم ومحاولاتهم إعلاء اسم فلسطين بكافة السبل، وشاركت في حملات داعمة للقضية الفلسطينية خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في أيار/ مايو 2021، ولم أتوانَ لحظةً عن الدفاع عن قضيتي في كل مجلس وأمام جميع الجنسيات".
إلى جانب رسالتها الوطنية، كانت تستكشف حياتها الجديدة بعين طفل صغير مبهور بما يعاينه بِكرًا جديدًا: "أذكر أنني عندما ركبت المترو لأول مرة دهشت فعلًا من تجربة المواصلات العجيبة هذه بالنسبة لي، فجأةً تصبح تحت الأرض وفجأةُ تصبح فوقها بين البيوت والناس، فكان الأمر مضحكًا وجميلًا في المرة الأولى".
لم تبق نجلاء طويلًا خارج غزة، فالشوق والحنين أتى بها لتعود وتستقرّ في مسقط رأسها، تختم حديثها بالقول: "أُحبّ هذه البلاد رغم تناقضاتها ومأساتها الأزلية. أُحبّها بحزنها وفرحها وانتصاراتها على نفسها وأتمنى دومًا أن تظلّ بسلام، في آخر فترة من غربتي كنت أكتب كثيرًا للوطن، وحينما عدتُ والتقيت البحر لأول مرة بعد غياب كان لقاءً أشبه بالعناق، ووددت حينها لو أخبرته أن كل بلاد العالم لا تساوي شيئًا إذا قورنت بما يمنحنا إياه من أمان وحرية، وأنّ هذا المدى الأزرق ملكنا نحن، وأننا أبناء هذه الجغرافيا التي نُحبّ على الرغم من كل الحروب والدمار والصراعات .. تبقى فلسطين تحفّنا دومًا بأمان وحرية غريبين لن يُصدّقهما إلا من عاشهما".
تعلمتِ الفتاة المحبةُ للوطن في رحلتها القصيرة الصبرَ أكثر، وأحبت الحياة بكل ما فيها، وفي كل لحظة كان يزيد امتنانها للخالق على عطاياه وعظيم بديعه في الأرض.
فلسطينيون عالقون على معبر رفح في وقت سابق
في البحث عن الدنيا
أما خالد محمد فشاب فلسطيني من مدينة غزة يقيم في بلجيكا منذ عام 2015، اضطر للسفر لاستلام جائزة دولية وبقي عالقًا خارج غزة، وظلّ مرغمًا على البقاء في رحلة لجوء طال أمدها أكثر مما يتوقع. يرى خالد أن تجربة السفر لأول مرة لها رهبتها الخاصة؛ لأن المرات الأولى من كل شيء لها خصوصيتها. أما تجربة السفر في بداياتها الأولى فمثيرة للدهشة، وفي كل مرة يسافر بها نحو دولة مختلفة يسأل نفسه مرارًا وتكرارًا: "ليش ما أهلنا بالبلاد يقدروا يشوفوا هالجمال برا وجوا في بلادنا الأصلية".
في قانونه الخاص يجزم أن كل شيء في الوطن أجمل وسط العائلة والأحبة، ويؤمن تمام الإيمان بالشطر الشعري: "بلادي وإن جارت عليّ عزيزة"، يقول: "إن من تسمح له ظروفه بأن يبقى في الوطن فلا يجوز أن يفرّط أبدًا بهذه الفرصة، ويتخذَ قرار الخروج بلا عودة، فالحياة في البلاد تظلّ أفضل، ومهما كانت فكرة الهجرة مغريةً إلا أنها صعبة للغاية، فالحنين سيظل يداهمك، وستشعر أن الحياة ناقصة دون الوطن والأهل، وإن سافرت وشعرت بأنك لا تستطيع التحمل فعد للوطن".
لم يكن خالد يعلم أن الأقدار ستُحوّله من شابّ غزي مقيم في بقعة جغرافية معزولةٍ عن العالم بفعل الاحتلال وحصاره، إلى مسافرٍ يُحلّق بين بلدان العالم لاكتشاف الطبيعة الرحبة على مهل. فقد سافر إلى ما يزيد عن 60 دولة حول العالم، ويضيف: "أعتقد أني أكثر فلسطيني غزي سافر لهذا العدد من الدول، زرت معظم معالم العالم، لكن، لم يجذبني أبدًا أي شيء من صنع البشر، لا الأبراج العاتية ولا القطارات، لربما يبدو هذا لقارئ الحديث مثيرًا للغرابة، فكل الغزيين ينبهرون بما يشاهدونه من معالم وآثار ومبان، أما أنا فهوايتي التأمل في الطبيعة، والبحث عن الطيور والحيوانات التي لم أرها في غزة، ومصادقة صخور البحر وسط رحلة صيد طويلة، ومتابعة جريان المياه في الشلالات والأنهار، والخشوع لهيبة الجبال بضخامتها.. كل شيء من صنيع الله في الأرض يجذب انتباهي وفضولي للاستكشاف".
خالد وسط مغامراته الكثيرة يضع الدنيا خلف ظهره ويخوض الرحلة نحو الوجهة المرجوة صافي الذهن، متحمّسًا للكون الفسيح، يصادق الطبيعة صداقةً من نوع آخر، أبديةً لا فكاك منها، وقع في غرامها في جزيرة جاكورتا الإسبانية وقال عنها إنها الأجمل على الإطلاق.
ما الذي يخطر في ذهنك فور خوض تجربة فريدة؟ بصوت هادئ وبابتسامة يجيب: "لا أفكر في أيّ شيء أبدًا، أستمتع باللحظة كما هي، يكفيني أني سعيد في تلك اللحظة، فالسعادة بالنسبة لي أولًا وأخيرًا هي الأساس في أيّ رحلة".
لقد تعلم خالد في رحلته التي امتدت لسنوات وما زالت ممتدةً، أنّ عليه في السفر أن يخوض التجارب على مهل، فالدنيا ليست سباقًا بالنسبة له، بل رحلة، أيقن معها أنّ المرء في سفره رفيق نفسه فقط سراءً وضراءً.
لا شكّ أن الحياة خارج غزة تختلف عن الحياة فيها اختلافًا تامًا، وهذا ما رآه خالد خلال تطوافه في 60 دولة، وفي كل مرة يراوده السؤال نفسه: "لماذا لا يعيش أهل غزة شعورنا نفسه من خلال الاستكشاف؟ لماذا كتب على غزة أن تعيش حياةً كهذه؟ لماذا تعيش الشعوب في الحرية ونرزح نحن تحت الاحتلال؟ لماذا لا نملك القدرة على زيارة بلادنا في الداخل المحتل واستكشافها؟".. ويبقى الشعور والتساؤل يملأ خلاياه في كل رحلة.
وكما يقال: "الطير مصيره لعشّه"، سيعود خالد -الذي لم يشجع على الاغتراب أبدًا- للوطن يومًا ما، ويأمل أن يزور الأرض المحتلة ليستكشف حواري البلدة القديمة، وبحر عكا ويافا، وجبال القدس.
معاناة السفر من جسر الملك حسين (اللنبي)
الفلسطيني المسافر حالة خاصة
"كان عندي دفتر مرسوم عليه مشهد خلّاب، كان حلم طفولتي أن أراه، لكني لم أتخيل أن هذا سيصير واقعًا وسأرى المكان بكل تفاصيله".. لم تدرك منة أحمد حين حققت حلم طفولتها أنها ستندهش لدرجة كبيرة، هل حقًا رأت المشهد الذي تمنته منذ سنوات طوال؟ تقول: "في أول مرة خرجت من غزة كنت إنسانةً محرومةً من رؤية الفضاء الرحب بحُرّية، ورؤية الطائرات العادية التي يركبها الناس لا الطائرات الحربية، حين ركبت الطائرة للمرة الأولى لم أجد شعورًا يصف دهشتي حينها، خائفةٌ وسعيدةٌ في آن واحد، إقلاعها سيصيبني بالدوار لا محالة ولكني لأجل التحليق وسط الغيوم بقيت، لم أنم ليلتها أبدًا، أراقب السماء، وأسرح في المشهد من الأعلى كاملًا، خفت أن يفوتني شيء ما".
كانت وجهة منة تركيا التي أدهشتها منذ أن وطئت أقدامها الأرض. تمكث هناك منذ ثلاث سنوات، وما تزال في كل رحلة توثق الأماكن التي تزورها بعينيها المدهشة، تلتقط الكثير من الصور بغية أن يمتلئ ألبوم ذكرياتها بالجمال. استهوتها المناطق الأثرية والمباني الضخمة، والمناظر الطبيعية، تقول: "كنت أتمنى، وأنا أعاين جمال السفر وعظمته، أن يَحظى كلّ غزيٍّ بهذه الفرصة".
في كل تجربة جديدة تعصف الأسئلة في رأس منة، كانت تنظر للفراغ وتسأل نفسها: "هل حقًا هذا العالم كان موجودًا وأنا في غزة؟ هل رأيت حقًا العالم المختلف عن دائرة غزة؟"، وعلى الرغم من الانبهار بكل ما رأت إلا أنها تجزم أن رائحة ميناء غزة وبحر البلاد لهما في القلب بصمة لا شبيه لها، صادقت البحر في تركيا ولكن بحر الوطن ظلّ صديقها الوحيد الحقيقي، وغزة هي الحقيقة الوحيدة في حياتها.
تؤكد أن غربتها لم تبعدها عن الوطن إلا جسديًا فقط، لكن الروح ظلت باقيةً هناك حيث ترعرعت، في كل عدوان إسرائيلي تنقطع عن العالم المحيط من حولها وتظل برفقة هاتفها تتابع أخبار البلاد وما فيها، وتدعو بالسلامة للأهل، لربما يظن البعض أن علاقة الفلسطيني تنقطع بالوطن بمجرد الخروج منه، لكنها على العكس تتجذر أكثر ويصبح شعور المسؤولية أكبر بأن تعرّف من تعرفهم في غربتك على قضيتك.
تختم منة حديثها بأملها في العودة للوطن، وتشدد على أننا نحن الفلسطينيين حالة خاصة، حتى في اغترابنا نتعلق بالبلاد أكثر ونود أن نعود له وقتما تسنح أول فرصة، نحب الوطن أكثر فأكثر ونأخذ أثوابنا الفلسطينية معنا لنرتديها في المناسبات المختلفة ليشار لنا بالبنان: "هذه البنت فلسطينية"، ونعرّف العالم كله على الشعب المرابط على أرض الوطن، والعذابات التي يواجهها الفلسطيني في الداخل والخارج.