فلسطين عند القرضاوي .. المشروع الممتد في الأنفاس والصحائف

فلسطين عند القرضاوي .. المشروع الممتد في الأنفاس والصحائف
تحميل المادة

يتميز إسهام الشيخ يوسف القرضاوي، تجاه القضية الفلسطينية، بالتنوع والشمول، وهو ما يتصل بموقعه؛ بوصفه فقيهًا مسلمًا شهيرًا، ومسارِه؛ بوصفه شخصيةً حركيةً نشطت فترةً طويلةً من عمرها في إطار جماعة تُعنى بقضايا الأمّة ووحدتها، ويتصل كذلك بسماته الشخصية؛ بوصفه متعدد المواهب، نشطًا، صاحب همّة وجلد.

 

في نقد الهزيمة .. مبكرًا

فعلى المستوى الفكري والنظري، ساهم، إلى جانب العديد من المفكرين العرب والمسلمين، من مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية، في تقييم هزيمة العرب والمسلمين الكبرى في فلسطين في نكبتي 1948 و1967، فأصدر في العام 1968 كتابه "درس النكبة الثانية.. لماذا انهزمنا.. وكيف ننتصر"، والذي كان في الأصل مقالة في مجلة "حضارة الإسلام".

يناقش القرضاوي، في كتابه هذا، ما قيل عن أسباب الهزيمة الثانية (حزيران/ يونيو 1967)، فيفنّد كلّ ما قيل عن كونها، خطأً عسكريًّا، أو بسبب خيانة، أو بسبب التخلف الحضاري، أو بسبب تديّن العرب، وهيّ كلّها أسباب قيلت في تحليل الهزيمة، وهو ضرب من التفكير عدّه القرضاوي، أخطر من الهزيمة العسكرية نفسها. وأمّا سبب الهزيمة، في رأي القرضاوي، فهو نسيان الأمّة نفسها، وفقدانها شخصيتها، بما أفضى بها إلى تراجع دافعية التضحية فيها، وانفصال العرب عن بقية المسلمين، وانفصال العرب عن بعضهم، وانفصال الحكام عن شعوبهم، وأخيرًا، فقد دخل العرب المعركة متعقدين أنهم مستغنون عن الله تعالى، وأيًّا كان مضمون السجال وشكلُه، فإنّ تمسك الأمّة بشخصيتها، كان بحسب القرضاوي، سيجعلها أكثر معرفةً بعدوّها، فلن تقع في تلك "الغلطة العسكرية" التي اتُّخذت غطاءً للتملّص من عمق الهزيمة، ويستند في ذلك إلى قوله تعالى: "وَدَّ الَّذينَ كَفَروا لَو تَغفُلونَ عَن أَسلِحَتِكُم وَأَمتِعَتِكُم فَيَميلونَ عَلَيكُم مَيلَةً واحِدَةً".

ولم تكن أطروحة القرضاوي، حينها، محض سجال، مع خصومه الفكريين، الذين أنكروا حقيقة الهزيمة بدعوى أنها لم تُسقط "الأنظمة الثورية" وإن أفضت إلى خسارة ما تبقى من فلسطين، فضلاً عن سيناء والجولان، وإنما يعزّز أطروحته، بمحاولته الإجابة على سؤال: "كيف ننتصر؟".

يبدأ القرضاوي، في شقّ طريق النصر، من وجهة نظره، بتحديد الهدف، وتحديدُ الهدف لم يكن ليتأتّى إلا بنقد الشعار الناصري بعد الهزيمة "إزالة آثار العدوان"، والذي يعني ضمنًا، التخلّي عن أصل القضية، والنكوص إلى حدود الخامس من حزيران/ يونيو.

يرى القرضاوي، أنّ هذا الشعار "إزالة آثار العدوان"، يعني نسيان العدوان القديم بالعدوان الجديد، في تصوّر عميق لموقفين: أولهما الموقف الصهيوني الذي يُسبغ الشرعية على منجزات عدوانه السابق بالاستمرار في العدوان، ودفعه العرب لتحويل جهدهم إلى تصفية العدوان الجديد، وإذا كان القرضاوي قد كتب هذا عام 1968، فيمكننا اليوم ملاحظة السياسات "الإسرائيلية" في مفاوضاتها مع منظمة التحرير، حينما صارت "إسرائيل" تعدّ الوقائع الاستعمارية التي تكرّسها، مرجعيةً للتفاوض على الوقائع الجديدة الآخذة في تكريسها؛ وأمّا الموقف الثاني، فهو موقف النظام الرسمي العربي، وفي القلب منه النظام الناصري، الذي أخذ يتهيأ لاحتمالات التسوية مع "إسرائيل" على أساس حدود الخامس من حزيران/ يونيو.

 

الجذريّة مع "إسرائيل" .. الضرورة والطريق

يرى الشيخ، في سياق تحديد الهدف، أنّ "إسرائيل" في ذاتها وأساساها ومجموعها وبنيتها، عدوان خالص، وأنّ العدوان لا يمكن التعامل معه إلا بتفكيكه بالكامل، وفي هذا الهدف، يُدرج القرضاوي عودة اللاجئين بالكامل، عادًّا التوطين خيانةً كبرى للوطن والأمّة والدين، وهذه العودة مقرونة بتفكيك "إسرائيل"، لا بكونها سقفًا للعائدين. وبما أنّ هذه الأهداف كانت تبدو بعد الهزيمة بعيدة المنال، فقد أخذ القرضاوي يعالج مشكلة الهزيمة النفسية، ويفكك خطاب الواقعية الانهزامي.

وبما أنّ تحديد الهدف لا يكفي، فقد بدأ القرضاوي في إزالة العقبات النظرية والسياسية من طريق تحديد الوسائل الصحيحة، ومن ذلك نقض الحلّ عن طريق المحافل الدولية، أو عن طريق الانحياز لأحد المعسكريْنِ في حينه(الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي)، أو الإعداد المادي لدرجة "التعبّد" للقوة المادية، والوحدة العربية بمجرّدها، ومع كوْنِ القرضاوي داعيةً إلى الاستعداد المادي، وداعمًا للوحدة العربية، فإنّه يرى أن الطريق الصحيح إلى النصر، في الجهاد على أساس الإسلام، لكن الجهاد يحتاج إلى تغيير وتعبئة يُتوسّل إليها بمناهج وبرامج شاملة، ثمّ بتأسيسِ قاعدة الانطلاق نحو تحرير فلسطين.

وعلى أية حال، ليست الغاية الآن، عرض أفكار القرضاوي، في وسط ذلك السجال، وإنما التنويه إلى إسهامه الفكري والنظري في وقت مبكّر إلى مجمل الإسهامات العربية والإسلامية الفكرية التي كانت تحاول تحليل الهزيمة، وتلمّس طريق للخروج منها، بيد أنّ تعلّق الراحلِ بفلسطين كان أسبق من ذلك، وهو ما يمكن توقعه بالنسبة لرجل، تعرّف إلى حسن البنا وهو في السنة الأولى الابتدائية، وانضم للإخوان المسلمين وهو في السنة الرابعة الابتدائية، وأخذ يسير في مظاهراتهم لأجل فلسطين، ويقرأ عن قضيتها في مجلتي الجماعة "النذير" و"الإخوان"، وقرأ سنة 1936 العدد الخاص من مجلة "النذير"، والذي خُصّص لثورة فلسطين، وكتب فيه حسن البنا مقالته "صناعة الموت"، حضًّا على الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، وعايش سنة 1946 إرسال الشيخ عبد المعزّ عبد الستار داعيةً إلى فلسطين، وسنة 1947 الاستعداد للقتال في فلسطين، وهو ما حصل بإرسال الجماعة كتائب منها للقتال في حرب العام 1948. والقرضاوي الذي يرى في قيام "الكيان الصهيوني" أخطر أحداث القرن، يعتقد، كما كتب في مذكراته، أن دور الإخوان في حرب العام 1948 هو سبب محنتهم فيما بعد، فقد أصدرت حكومة النقراشي قرارًا بحلّ الجماعة في 8 كانون الأول/ ديسمبر 1948.

 

شاعرًا .. لفلسطين

بدأ القرضاوي، بنظم الشعر لفلسطين مبكرًا، ومن ذلك بعض ما كتبه في العام 1955 في السجن الحربي، في قصيدته "الملحمة النونية" التي اشتهر من أبياتها قوله:

ضع في يديّ القيد، ألهب أضلعي *** بالسوط، ضع عنقي على السكين!

لن تستطيع حصار فكري ساعة  *** أو نزع إيماني ونور يقيني!

فالنور في قلبي.. وقلبي في يدي *** ربي ... وربي ناصري ومعيني!

والتي كان مما قال فيها:

لحساب من بطشوا بأطهر ثلة *** روَّت دماها أرض فلسطينِ؟

لحساب من ضربوا بطولةَ فتيةٍ *** بَعثوا صلاح الدين في حطينِ؟

وقد ظلّت فلسطين حاضرة في شعر الشيخ، بما يضيق المقام عن استعراضه، فمن نماذجه قصيدته "ثورة لاجئ" التي نظمها عام 1962، و"نشيد العودة" الذي نظمه عام 1963، والذي منه أبياته الشهيرة:

أنا عائد أقســــمت اني عائدُ *** والحق يشهد لي ونِعم الشاهدُ

ومعي القذيفة والكتاب الخالدُ *** ويقودني الإيمان ، نِعم القائدُ

أنا قد مللت الشعر يندب نكبتي *** ورفضتُ أسمع غير شعر الثورةِ

فدعوا النحيب فليس يرجع بلدتي *** إلا زئير النار يوم الغارةِ

 

فلسطين .. في فقهه وعلى منبره

وعلى مستوى الفتوى والإسهام من موقعه الديني، ظلّ القرضاوي يرى في فلسطين قضيةً دينيةً، لا ينبغي إخراج الإسلام منها، كما تصدّى لبعض المشايخ الذين أجازوا الصلح الدائم مع "إسرائيل"، وأفتى بحرمة الدخول في انتخابات الكنيست الإسرائيلي، كما أفتى بجواز العمليات الاستشهادية التي قادتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي في تسعينيات القرن الماضي، وأفتى بجواز تهريب الأسرى المتزوجين للنطف بقصد الإنجاب من زوجاتهم.

وأمّا خطبه على منبر الجمعة، فيكفي أن نلقي نظرةً على بعض عناوينها، كـ "المسلمون في مواجهة القوى المعادية"، و"توحيد العرب تحت راية الإسلام"، و"الذكرى السنوية للانتفاضة" والتي ألقاها في العام الثاني من الانتفاضة الأولى، وقال فيها عن "إسرائيل": "ولهذا نرى وجودها في أرضنا وفي منطقتنا خطرًا، خطرًا علينا، خطرًا على عقائدنا، خطرًا على قيمنا، خطرًا على تقاليدنا، خطرًا على وحدتنا، خطرًا على اقتصادنا، إنها الشوكة في جنوبنا، إنها الخنجر في ظهورنا، إنها الداء الوبيل الذي غرس فينا".

وفي خطبته المعنونة بـ "اتفاقية غزة أريحا.. من مأساة البوسنة إلى مأساة فلسطين"، قال: "وظلّ هذا الوهم إلى أن هيأ الله الفرصة لجهادٍ فلسطينيٍّ يقوم على أكتاف أبناء فلسطين أنفسهم، وقامت «فتح» وقامت فصائل مختلفة، تجاهد وتنادي: ثورة حتى النصر. إلى أن قامت حركة المقاومة الإسلامية، الجهاد باسم الإسلام، ثورة المساجد، الثورة التي انطلقت من بيوت الله، وكانت صيحاتها من فوق المآذن".

ومن خطبه خطبة "القمر الصناعي الإسرائيلي"، والتي رثا فيها حال العرب، وتخلفهم العلمي والعسكري عن عدوهم، وخطبة "أمتنا لن تموت" التي هاجم فيها مؤتمر شرم الشيخ الذي عقد لإدانة عمليات المقاومة في العام 1996، في مقابل عجزهم إزاء الغارات الصهيونية على لبنان في السنة نفسها، وكذلك خطبة "النفق الإسرائيلي" وهو النفق الذي حفره الصهاينة أسفل المسجد الأقصى، وأدى إلى هبة "النفق" عام 1996.

وخطبة "واقدسها.. المؤامرة الكبرى لتهويد القدس"، وخطبة "القدس عربية إسلامية"، و"لماذا نقاتل اليهود" والتي قال فيها: "نحن لا نقاتل اليهود من أجل أنهم يهود، هذا خطأ، اليهود عاشوا بيننا قرونًا متطاولةً في ديار الإسلام.. لكن الذي حدث أن هؤلاء القوم قلبوا لنا ظهر المجنّ، وغدروا بنا، وأصبحوا معتدين علينا.. وأخذوا الأرض أمام أعيننا.. المعركة إذن بيننا وبين هؤلاء أنهم مغتصبون معتدون.."، وخطبة "دروس من انتفاضة الأقصى"، وخطبة "القدس قضيتنا جميعًا"، وخطبة "خمسون عامًا على ضياع فلسطين"، وخطبة "فلسطين عبر التاريخ"..

ويصعب في هذه العجالة، التي تلي خبر وفاة الشيخ، الإتيان على خطبه، ولكن هذه الإشارة تكفي، لبيان التصاقه بفلسطين، وبأدق مجريات الصراع فيها، وتخصيصه خطبًا متتالية في سلاسل ممتدة تواكب تطوراتها وأحداثها.

وقد جعل الشيخ فلسطين، من مشاريعه في ترشيد الصحوة، فأصدر رسالته "القدس قضية كلّ مسلم"، كما مركز جهده ونشاطه حولها، فأسس الجمعيات، والمشاريع الخيرية، والمؤسسات الدولية، التي تصبّ لفلسطين وأهلها ومقاومتها، وبعض أهم تلك المشاريع: مشروع "ائتلاف الخير" الذي كان أثناء انتفاضة الأقصى، ومؤسسة القدس الدولية التي كان رئيس مجلس أمنائها، وحملة 101 يوم لدعم فلسطين ردًا على تعهد شارون باجهاض انتفاضة الأقصى في 100 يوم، وذلك فضلاً عن عشرات المؤتمرات والمبادرات الإعلامية والجهود السياسية التي قادها في هذا السبيل، حتى يسّر الله تعالى له ودخل غزة في العام 2013، وكان، رحمه الله، في واحد من خطاباته، قد تمنى لو يستشهد وهو ممسك ببندقية على ثغر فلسطين.