فلسطين في دراسات ما بعد الاستعمار: استقراء النظرية وإشكالات التطبيق

ما هي دراسات ما بعد الاستعمار؟
نشأت دراسات مابعد الاستعمار في أواخر القرن العشرين باعتبارها ردة فعل على انتهاء حقبة الاستعمار التقليدي بهدف تحليل آثار الاستعمار الأوربي على الشعوب والثقافات التي رزخت تحته. بدأت هذه الدراسات استكشافاتها بالتركيز على تفكيك الخطاب الاستعماري الذي كرس الهيمنة الغربية وعلاقة الاستعمار بالشعوب المستعمرة وأساليب سيطرته عليها، لا سيما في حقول اللغة والأدب وكتابة التاريخ وتغيير النظم الاجتماعية.
بدأ هذا الحقل المعرفي بكتابات عدة مفكرين أبرزهم إدوارد سعيد الذي نشر كتابه الشهير الاستشراق عام 1978، إذ فضح فيه كيفية تصوير الغرب للشرق باعتباره كيانًا خاضعًا وضعيفًا لتبرير السيطرة عليه (Said, 1978) كما ساهمت غاياتري سبيفاك في توسيع مجال البحث من خلال تحليلها لصمت "الآخر" المهمَّش، في حين قدّم هومي بابا مفاهيم مثل "التهجين" و"المكان الثالث" لفهم ديناميات الهوية في مجتمعات ما بعد الاستعمار (Bhabha, 1994; Spivak, 1988).
تطوّرت هذه الدراسات لاحقًا لتشمل نقد العولمة، والهجرة، والهوية الثقافية في العالم الحديث. كما اتسعت جغرافيًا لتتناول تجارب ما بعد الاستعمار في أميركا اللاتينية، الكاريبي، وجنوب آسيا، وبدأت تدمج نظريات من النسوية، والدراسات العرقية، والتحليل النفسي، مما أكسبها طبيعةً أكثر تنوعًا وتعقيدًا.
حالياً، لا تقتصر دراسات ما بعد الاستعمار على النقد الأكاديمي فحسب، بل تُستخدم أيضًا أداة لفهم الديناميكيات السياسية والثقافية المعاصرة، وتفكيك إرث الاستعمار في المؤسسات، والهويات، وأنظمة المعرفة.
قضية فلسطين في دراسات ما بعد الاستعمار
تُعَدّ قضية فلسطين من أبرز القضايا التي تناولتها دراسات ما بعد الاستعمار، نظرًا لارتباطها الوثيق بالاستعمار الاستيطاني، والتطهير العرقي، ومحو الهوية الثقافية. ورغم أن الحقل نشأ أساسًا لتحليل آثار الاستعمار الأوروبي التقليدي في آسيا وأفريقيا، إلا أن الحالة الفلسطينية قدّمت نموذجًا فريدًا للاستعمار المعاصر، ما جعلها محط اهتمام متزايد في الأوساط النقدية والأكاديمية.
يُعد إدوارد سعيد من أوائل الذين سلطوا الضوء على قضية فلسطين من منظور ما بعد استعماري. في كتابه الاستشراق (1978)، كشف سعيد كيف بَنَت الثقافة الغربية صورة نمطية عن "الشرق" باعتباره آخرَ دونيًا، ما ساعد في تبرير الهيمنة الاستعمارية. وقد وظّف سعيد هذا الإطار لفهم كيفية تصوير الفلسطينيين في الإعلام والخطابات الغربية باعتبارهم إرهابيين أو غير عقلانيين، في مقابل تمثيل "إسرائيل" بصفتها دولة متحضرة وديمقراطية . (Said, 1978)
أما في كتابه مسألة فلسطين (1979)، فقد تناول سعيد النكبة باعتبارها حدثًا تأسيسيًا للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، مؤكدًا أن المشروع الصهيوني لم يكن فقط مشروعًا قوميًّا، بل امتدادًا لخطاب كولونيالي أوروبي قائم على المحو الجغرافي والرمزي للسكان الأصليين (Said, 1979) . وبناءً على ذلك، يُنظر إلى الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين باعتباره استعمارًا استيطانيًا مشابهًا لتجارب جنوب أفريقيا وكندا وأستراليا، إذ يسعى المستعمِر إلى طمس وجود السكان الأصليين وليس فقط استغلالهم.
توسّعت المقاربات ما بعد الاستعمارية لقضية فلسطين لتشمل مفاهيم مثل "التهجير القسري"، "الاستعمار البيئي"، و"محو الذاكرة"، حيث يحلل كيفية استخدام الرواية الصهيونية والمناهج التعليمية وتخطيط المدن لطمس التاريخ الفلسطيني وفرض سردية أحادية للهوية والمكان. وتُستخدم أدوات مثل تحليل الخطاب والنقد الثقافي لدراسة كيف يُعاد إنتاج الهيمنة في الخطابات السياسية، الإعلامية، والأكاديمية الغربية.
وقد ساهم مفكرون مثل رشيد الخالدي، وجوزيف مسعد، ونادرة شلهوب-كيفوركيان، في تعميق التحليل ما بعد الاستعماري للقضية الفلسطينية، من خلال دراسة العلاقة بين العنف الاستعماري والجندر والسياسات الأمنية، في محاولة لفهم الأبعاد المعاصرة للمشروع الكولونيالي الإسرائيلي.
من الجدير بالذكر أن الحركات الفلسطينية الثقافية والفنية أصبحت أيضًا جزءًا من المقاومة ما بعد الاستعمارية، إذ يُستخدم الأدب والمسرح والفن البصري أدوات لاستعادة السردية الوطنية، وإبراز أصوات المهمَّشين من الشعوب المستَعمَرة ومقاومة محاولات المحو الثقافي.
إيجازًا، تُعَدّ دراسات ما بعد الاستعمار أداة تحليلية فعّالة لفهم تعقيدات القضية الفلسطينية، إذ إنها لا تنظر فقط إلى الاحتلال باعتباره حالة سياسية، بل منظومة خطابية ومعرفية تسعى لتكريس التفوق والإقصاء ونزع حق الآخر في الوجود عن طريق رسمه في صورة اللاإنساني. لهذا يعتبر هذا الحقل المعرفي مساهمة في إعادة الاعتبار للعدالة المعرفية، وحق الشعوب في السرد الذاتي ومقاومة الاستعمارفي صوره المختلفة.
إشكاليات تطبيق نظريات ما بعد الاستعمار على القضية الفلسطينية
على الرغم من المساهمات المذكورة سابقًا لنظرية ما بعد الاستعمار وما تقدمه من أُطُر جديدة لفهم الموروث الاستعماري إلا أن تطبيق هذه النظريات على القضية الفلسطينية يواجه عدة إشكاليات في المنهجية والتطبيق. ربما يمكننا القول بأريحية أن الاحتلال الإسرائيلي حالة استعمارية نموذجية، إلا أن خصوصية فلسطين السياسية والتاريخية تجعل من مقاربتها ضمن النظريات العامة لما بعد الاستعمار مسألة معقدة تتطلب مراجعة دقيقة.
1. الاستعمار القائم مقابل "ما بعد" الاستعمار
إحدى أبرز الإشكاليات تكمن في أن غالبية نظريات ما بعد الاستعمار وُضعت لتحليل آثار الاستعمار بعد زواله رسميًا، في حين أن الحالة الفلسطينية تمثّل استعمارًا استيطانيًا مستمرًا، لم ينتهِ بعد. هذا التناقض بين "ما بعد" الاستعمار وواقع الاحتلال المستمر يطرح تساؤلات حول ملاءمة الإطار المفاهيمي(Veracini, 2010 ) فالمصطلح ذاته قد يكون مضلِّلًا عند الحديث عن فلسطين، إذ لم يتحقق بعد شرط "ما بعد" الاستعمار.
2. مركزية التجربة الأوروبية
نظريات ما بعد الاستعمار، كما طوّرها مفكرون مثل إدوارد سعيد، وغاياتري سبيفاك وهومي بهابها، نشأت في سياقات ثقافية أكاديمية غربية تركّز في كثير منها على التمثيل الثقافي واللغوي على حساب البُعد المادي للمقاومة والاحتلال. هذا التركيز قد يقلل من أهمية النضال الميداني الفلسطيني ويُنتج خطابًا نخبويًا منفصلاً عن الواقع المعيش (Massad, 2006).
3. تهميش الاستعمار الاستيطاني كنوع خاص
غالبية الأدبيات ما بعد الاستعمارية لم تميز بوضوح بين الاستعمار الاستيطاني (settler colonialism) والاستعمار الإمبريالي. في السياق الفلسطيني لا يهدف الاحتلال فقط إلى السيطرة بل إلى الإحلال السكاني ومحو السكان الأصليينز هذه السمة تميز الحالة الفلسطينية عن معظم الحالات الاستعمارية الأخر وتجاهل هذا الفارق يؤدي إلى تقزيم خصوصية التجربة الفلسطينية (Wolfe, 2006).
4. إقصاء الرواية الفلسطينية من داخل الخطاب ما بعد الاستعماري
رغم أن القضية الفلسطينية تُمثّل مثالًا مركزيًا في الفكر النقدي إلا أن الكثير من الأدبيات الغربية تتناولها عبر طرف ثالث أو تُخضِعها لمقاربات تجريدية لا تمنح الفلسطينيين حق تمثيل أنفسهم. وكما أشارت سبيفاك في سؤالها الشهير "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟"، فإن الفلسطيني في كثير من الأحيان يُصوَّر كموضوع للدراسة وليس فاعلًا في إنتاج المعرفة (Spivak, 1988).
5. التطبيع الأكاديمي
من الإشكاليات السياسية التي ترتبط بتطبيق النظريات ما بعد الاستعمارية على فلسطين هو خطر الوقوع في فخ "التطبيع الأكاديمي" حيث يتم التعامل مع "الطرفين" – الفلسطيني والإسرائيلي – كندّين متساويين في دراسات المقارنة الكولونيالية دون الاعتراف باستحالة المساواة الأخلاقية والمادية بين الجلّاد والضحية، وهو ما قد يفرغ التحليل من محتواه الأخلاقي والنقدي.
تهميش القضية الفلسطينية في الأكاديميا الغربية: أسباب الغياب في نقاشات الاستعمار الاستيطاني
لنفصل قليلاً هنا في الأسباب التي مازالت تهمش القضية الفلسطينية في الأنشطة والمخرجات الأكاديمية الغربية على الرغم من كونها نموذجًا مثاليًا لاستعمار قائم يمكن ملاحظته وتحليلة بصورة مباشرة. يَسَعُنا إجمال هذه العوامل في النقاط التالية:
1. البنية السياسية للجامعات الغربية
الجامعات الغربية، وخصوصًا في الولايات المتحدة، تعمل ضمن بنية تمويلية وسياسية محددة مثل وجود جماعات ضغط مؤيدة لإسرائيل تساهم في فرض رقابة غير مباشرة على النقاش الأكاديمي. لهذا نجد الباحثين الذين ينتقدون إسرائيل أو يربطونها بالاستعمار الاستيطاني يواجهون غالبًا حملات تشويه أو فقدان تمويل أو منع من الترقية الأكاديمية (Pappé, 2010) . يظهر هذا جليًا في الحملة الأخيرة التي بدأها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد الجامعات والأساتذة والطلبة الداعمين للقضية الفلسطينية. هذا الخوف من التبعات المهنية يدفع كثيرًا من الأكاديميين إلى تجنّب الخوض في الملف الفلسطيني.
2. سيطرة السردية الليبرالية
النقاشات الأكاديمية الغربية حول الاستعمار تميل إلى تبنّي سردية ليبرالية تنظر إلى الاستعمار باعتباره "حدثًا ماضيًا" انتهى بانتهاء الاحتلال العسكري مع التركيز على العدالة الانتقالية والمصالحة والتنمية. لكن في حالة فلسطين فإن الاستعمار الاستيطاني ما زال قائمًا، وهذا يُربك الإطار النظري للمقاربة مابعد الاستعمارية ويجعل دمج فلسطين يتطلب إعادة نظر شاملة في النموذج الليبرالي السائد (Veracini, 2010) .
3. "الاستثناء الإسرائيلي"
يُعامل المشروع الصهيوني في الغرب باعتباره "استثناءً" ناتجًا عن اضطهاد اليهود في أوروبا لا سيما بعد الهولوكوست. هذا السياق التاريخييُستخدم أحيانًا لتبرير تجاهل الطابع الاستيطاني للإستعمار الإسرائيلي خشية الاتهام بمعاداة السامية. ومن ثم يُمنَح الكيان الإسرائيلي حصانة رمزية في الخطاب الغربي ما يُضعف من إمكانية إدراجه ضمن منظومة نقد الاستعمار الاستيطاني (Butler, 2012).
4. الفصل بين "الشرق الأوسط" و"ما بعد الاستعمار"
يُفصل مؤسسيًا بين دراسات الشرق الأوسط ودراسات ما بعد الاستعمار في كثير من المناهج الأكاديمية الغربية. ينتج عن ذلك عدم ربط القضية الفلسطينية تحليليًا بتجارب مماثلة في جنوب أفريقيا أو أستراليا أو كندا. هذا التجزؤ المعرفي يحدّ من قدرة الأكاديميا على دمج فلسطين ضمن الإطار العام للاستعمار الاستيطاني( (Massad, 2006
5. إهمال أصوات الباحثين الفلسطينيين
على الرغم من وجود باحثين فلسطينيين بارزين قدّموا مساهمات مهمة في تفكيك بنية الاستعمار الصهيوني إلا أن هذه الأصوات غالبًا ما تُهمَّش أو تُعتبر خارج إطار "الموضوعية الأكاديمية" في دوائر البحث الغربية. ونجد أنه عادةً ما تستقبل مساهمة نقدية من باحث إسرائيلي بالترحيب بينما يُنظر إلى الفلسطيني بصفته "ناشطًا" لا باحثًا أكاديمًا (Salaita, 2016) .
دراسات تفكيك الاستعمار كخطوة للأمام
دراسات تفكيك الاستعمار (Decolonial Studies) هي حقل نقدي نشأ مع انخراط حركات شعوب الجنوب العالمي أو ما يسمى بال Global South كرد فعل على التمركز حول المعرفة الأوربية في سياق الدراسات الاستعمارية وما بعدها. تختلف هذه الدراسات عن دراسات ما بعد الاستعمار في أنها لا تركز فقط على آثار الاستعمار الأوروبي، بل تسعى لتفكيك النظام المعرفي بأكمله الذي أسّسه الاستعمار واستمر تأثيره عبر الحداثة الغربية.
يرى مفكرو هذا التيار مثل والتر منيولو (Mignolo, 2007) وأنيبال كويخانو (Aníbal Quijano ) أن الاستعمار لم يكن مجرد احتلال عسكري بل مشروعًا معرفيًا وثقافيًا رسّخ "الاستعمار المعرفي" من خلال فرض اللغة الأوروبية ومفاهيمها ونظامها القيمي على الشعوب الأصلية. وهنا يُطرح مفهوم "الاستعمارية/الحداثة" متلازمين؛ فالرؤية الغربية للعالم قُدّمت على أنها "عالمية"، بينما تهمش معارف الشعوب خارج هذا النطاق الغربي وتوصم بالتخلّف.
تهدف دراسات تفكيك الاستعمار إلى استعادة طرق بديلة في التفكير والمعرفة من خارج مركزية أوروبا من خلال إعادة الاعتبار للسرديات المهمّشة واللغات الأصلية والروابط بين الأرض والهوية. كما تركز على "فك الارتباط" (delinking) بالبنية المعرفية الغربية، والبحث عن طرق تفكير أكثر تعددية بمرجعيات نابعة عن تجارب الشعوب المستعمَرة.
لقد ساهمت هذه الخصائص التحليلة في جعل هذه الدراسات أداة تحليلية مهمة في فهم قضايا مثل فلسطين، السكان الأصليين، التعليم، الجندر، والبيئة، من خلال نقد النظام العالمي الذي يستمر في فرض علاقات القوة حتى بعد نهاية الاستعمار التقليدي.
الفرق بين دراسات ما بعد الاستعمار وتفكيك الاستعمار
رغم التشابه بين دراسات ما بعد الاستعمار (Postcolonial Studies) ودراسات تفكيك الاستعمار (Decolonial Studies) في نقدهما للهيمنة الاستعمارية، فإنهما يختلفان من حيث السياق التاريخي المرجعيات المعرفية والأهداف النظرية.
1. السياق الجغرافي والتاريخي
نشأت دراسات ما بعد الاستعمار في نهاية القرن العشرين ضمن الأوساط الأكاديمية الغربية، خاصة في بريطانيا والهند، وكان من أبرز منظّريها كما سلف الذكر إدوارد سعيد، غاياتري سبيفاك، وهومي بهابها وهي شخصيات أكاديمية ذات أصول خارج إطار العولمة الغربية لكنها نشأت وتبنت نظم المعرفة الغربية في أنشطتها الأكاديمية. ركّزت هذه الدراسات على تحليل الخطاب الاستعماري وكيف يُمثّل المستعمَرين في الأدب والفكر الغربي (Said, 1978).
في المقابل، ظهرت دراسات تفكيك الاستعمار من أمريكا اللاتينية كرد فعل على استمرار الهيمنة المعرفية الغربية رغم الاستقلال السياسي. وركّزت هذه البحوث على ضرورة "فك الارتباط" المعرفي مع الحداثة الغربية (Quijano, 2000; Mignolo, 2007).
2. موقع المعرفة
رغم نقد نظرية مابعد الاستعمار للموروث الاستعماري وتحليل آثاره إلا أنه بقي في الغالب مرتبطًا بمؤسسات الأكاديمية الغربية ويصدُر عن المنتمين إليها. أما تفكيك الاستعمار فيدعو إلى إنتاج معرفة "من الجنوب" أو من خارج مركزية أوروبا ويُعطي أولوية للمعارف الأصلانية للشعوب المهمشة والهويات المحلية(Tuck & Yang, 2012).
3. مقاربة الحداثة
تتعامل دراسات ما بعد الاستعمار مع الحداثة غالبًا بوصفها مشروعًا قابلًا للنقد والتعديل. أما تفكيك الاستعمار فيرى أن الحداثة مرتبطة جوهريًا بالاستعمار ولا يمكن "إصلاحها" بل يجب تجاوزها بمفاهيم جديدة خارج ثنائيات الغرب/الآخر والحضارة/الهمجية.
4. الهدف السياسي والمعرفي
بينما تميل دراسات ما بعد الاستعمار إلى التركيز على تحليل التمثيل والخطاب، تركز دراسات تفكيك الاستعمار على التحرّر المعرفي واستعادة السيادة الفكرية للشعوب المستعمَرة، وتفكيك المنظومة الكولونيالية بكاملها لا مجرد نقدها.
استخدام دراسات تفكيك الاستعمار في بحث القضية الفلسطينية
لأن القضية الفلسطينية تمثل نموذجًا حيًّا لاستعمار استيطاني قائم فإن هذا يجعل من دراسات تفكيك الاستعمار (Decolonial Studies) أداة تحليلية مهمّة لفهم الواقع الفلسطيني ومقاومته. بخلاف دراسات ما بعد الاستعمار التي غالبًا ما تبدأ من حيث انتهى الاستعمار، تركّز دراسات تفكيك الاستعمار على نقد المنظومات المعرفية والاستعمارية التي ما تزال قائمة وتستهدف تفكيك البنى الفكرية التي أنتجها الاستعمار الأوروبي، بما في ذلك التصورات عن الهوية والسيادة والمكان.
في السياق الفلسطيني توفّر هذه الدراسات منظورًا لفهم كيفية عمل الاحتلال الإسرائيلي على إعادة إنتاج استعمار معرفي وثقافي من خلال فرض سردية استعمارية عن الأرض والشعب والتاريخ. على سبيل المثال، يمكن استخدام نظريات مثل “الحداثة/الاستعمار” (Mignolo, 2007) لفهم كيف يُصوَّر المشروع الصهيوني كمشروع تحضّري في الخطاب الغربي، مقابل تصوير الفلسطيني "مجموع بشري متخلف" يجب التخلص منه أو إخضاعه لتحقيق النمو الحقيقي.
يضاف إلى ذلك تقديم دراسات تفكيك الاستعمار إطارًا لفهم المقاومة الفلسطينية دون حصرها فقط في مقاومة عسكرية أو سياسية بل أيضًا معرفية وثقافية. فالفن الفلسطيني والأدب والرواية الشفوية تُعدّ وسائل "تفكيك" تُقاوم من خلالها الهيمنة الخطابية الصهيونية وتسعى لاستعادة السردية الفلسطينية.
كما تشجّع هذه الدراسات على بناء تحالفات عابرة للحدود مع شعوب أصلانية أخرى مثل سكان أمريكا الأصليين أو شعوب أميركا اللاتينية، مما يعزز المقارنة والتضامن من منظور نقدي عابر للاستعمار ويتجاوز التقسيمات التي رسختها السيطرة الغربية وهيمنتها على مجالات التواصل والتعاون بين الشعوب الأصلانية (Tuck & Yang, 2012).
يمكننا الاستنتاج إذاً أن هذا الاتجاه النقدي الجديد يوفر أدوات فعّالة لإعادة التفكير في فلسطين ليس كـ"نزاع"، بل كحالة استعمارية تتطلب تفكيكًا شاملاً للبنى المعرفية والسلطوية التي تساهم في استدامة الاحتلال وبقائه. ويتيح لنا هذا التصور التعامل مع مقاومة هذا الاستعمار الإحلالي بالأدوات والوسائل المتاحة ضمن منظومات القانون الدولي ولوائح الحقوق الإنسانية متحررين من قيود التصور المغلوط الذي يحاصر الفلسطيني ومناصريه داخل منظومة "النزاع" المتكافئ.
المراجع (APA):
.Bhabha, H. K. (1994). The location of culture. Routledge
Butler, J. (2012). Parting ways: Jewishness and the critique of Zionism. Columbia University Press
Khalidi, R. (2020). The hundred years' war on Palestine. Metropolitan Books
Massad, J. (2001). Colonial effects: The making of national identity in Jordan. Columbia University Press
Massad, J. (2006). The persistence of the Palestinian question: Essays on Zionism and the Palestinians. Routledge
Mignolo, W. D. (2007). Delinking: The rhetoric of modernity, the logic of coloniality and the grammar of de-coloniality. Cultural Studies, 21(2–3), 449–514. https://doi.org/10.1080/09502380601162647
Pappé, I. (2010). Out of the frame: The struggle for academic freedom in Israel. Pluto Press
Quijano, A. (2000). Coloniality of power, Eurocentrism, and Latin America. Nepantla: Views from South, 1(3), 533–580
Said, E. W. (1978). Orientalism. Pantheon Books
Said, E. W. (1979). The question of Palestine. Vintage Books
Salaita, S. (2016). Inter/Nationalism: Decolonizing Native America and Palestine. University of Minnesota Press
Shalhoub-Kevorkian, N. (2015). Security theology, surveillance and the politics of fear. Cambridge University Press
Spivak, G. C. (1988). Can the subaltern speak? In C. Nelson & L. Grossberg (Eds.), Marxism and the interpretation of culture (pp. 271– 313). University of Illinois Press
Tuck, E., & Yang, K. W. (2012). Decolonization is not a metaphor. Decolonization: Indigeneity, Education & Society, 1(1), 1–40.
Veracini, L. (2010). Settler colonialism: A theoretical overview. Palgrave Macmillan.ينية
Wolfe, P. (2006). Settler colonialism and the elimination of the native. Journal of Genocide Research, 8(4), 387–409. https://doi.org/10.1080/14623520601056240