فلنرمِ الفلسطينيين في البحر، ولننتظر تنشيفه.. نقض سردية سلام الضرورة!

يجتهد مثقفون وكتاب عرب غير سوريين، يمكن احتساب بعضهم على الإسلاميين، لا في تسويغ تسوية سورية إسرائيلية، تتجاوز اتفاق فض الاشتباك لعام 1974، وهو ما يكثر الحديث عنه هذه الأيام، ولكن في الدعوة إلى ذلك صراحة، وإن كانت هذه الدعوة لا تخلو من تناقض بنيوي واضح كما سيأتي بيانه، والمشكلة هنا ابتداء لا في إعراض هذه الدعوة عن الالتزام الأخلاقيّ الكافي تجاه فلسطين القضية والشعب، بما هي قضية عربيّة كما يفترض، ولكن في عدم أخذها الإبادة الجماعية القائمة الآن في قطاع غزّة بالاعتبار الكافي الموجب للتحسس من دعوات كهذه احترامًا لضحايا الإبادة، وذلك في حين لا تكفي مفردات التقاصر والتخاذل لوصف حالة الترك العربي للفلسطينيين الواقعة عليهم الإبادة غير المسبوقة في التاريخ، وهي غير مسبوقة بالنظر إلى عناصرها: المساحة الجارية فيها الإبادة، وعدد السكان ونسبة الضحايا منهم (كل السكان ضحايا)، والحصار المطبق، والجوع، والتشريد المستمرّ، والتخلي الكامل عنهم، عربيًّا وإسلاميًّا ودوليًّا، إلى درجة العجز عن إغاثتهم بقطرة ماء أو لقمة طعام أو حبة دواء.
الحقّ أنّه يصعب القول بوجود اعتبار كاف للفلسطينيين، حين التصدّر بدعوة كهذه في غمرة الإبادة، وأيّ تضمين للفلسطينيين في ثنايا مبرراتها، لا يخلو من الإهانة غير المقصودة، كالقول إنّ هذه التسوية التي قد تصل حدود السلام، وبقدر ما هي ضروريّة لاستقرار سوريا، فإنّ استقرارها ضروري للبناء للحظة وحدة عربية مستقبلية يمكن بها تحرير فلسطين. الأمر أشبه بالقول: فلنرم الفلسطينيين في البحر، ثمّ لننتظر الزمن الذي يمكننا فيه تنشيف البحر لاستخراجهم من بطنه! لا يتصل ذلك إلا بكون الفلسطينيين لا يدركهم الوعي العربيّ العام إلا بوصفهم عبئًا، ينبغي التخلّص منه بقناع إرجائه خلف أولوية البناء الداخلي. وإذا كان يمكن فهم هذا من السوريين، بقطع النظر عن قبوله منهم من عدمه، لكونهم أصحاب المعاناة المباشرين، والمضطرين للتعافي بعد مأساة امتدت أربع عشرة سنة، فكيف يمكن فهمه من مثقف عربيّ مسلم؟! إذ لو سلمنا بتناقض الالتزامات الأخلاقية بين التزام السوريين تجاه واقعهم والتزامهم تجاه فلسطين، فأيّ تناقض يدفع مثقفًا عربيًّا غير سوريّ لإعادة ترتيب الالتزام الأخلاقيّ بما يقصي الالتزام تجاه فلسطين عن الأولوية؟! على أيّ أساس يتبرّع مثقف إسلامي غير سوري في التفكير للسوريين بالتأكيد على كون السلام مع إسرائيل شرطًا موضوعيًّا لتوفير الإمكان للفعل السوري؟!
بيد أنّ حكاية تناقض الالتزامات الأخلاقية مما يستدعي الأسف ونحن بصدد هذا الموضوع، فقد سُلِّط سيف الالتزامات الأخلاقية أربع عشرة سنة من عمر المعناة السورية، على رقاب الفلسطينيين، في صورة شعارات كثيرة ينبغي أن تثير الحزن والاستغراب، كالقول "المبادئ لا تتجزأ"، "والدم الفلسطيني ليس أغلى من الدم السوري"، وكان يبدو انشغال الفلسطيني بثغره، لدى حملة ذلك السيف، في واقع من التجزأة العربية، تفضيلاً لقضيته على غيرها، وهو تصوّر في ظرف غير هذا حري بأن يجلب على أصحابه السخرية، بيد أنّ هذا التصوّر تمدّد إلى درجة اتهام الفلسطينيين بعبادة قضيتهم، وتأليه أنفسهم، في حين أنّه كان مطلوبًا منهم بلسان الحال أن لا يعيروا قضيتهم أولوية في حال لو تناقضت مع القضية السورية، مما يعني أنّ من يتهم الفلسطينيين بذلك، هو واقع في ما ينسبه لهم ويعيّرهم بهم، إذ مقتضى اتهامه لهم هو مطالبتهم بالتخلّى عن قضيتهم لأجل القضية السورية، وهو أمر ناجم من سوء تصوّر، يفضي إلى غفلة عن التناقض، وهذا لا يمكن تفسيره إلا بالتمركز الكامل حول الذات، والالتحام بالجرح، في نمط من الهولوكست، حينما يَضمُر في الضحية الإحساس بالضحايا الآخرين، وتتحوّل بذلك إلى جلاد لهؤلاء الضحايا، لأنّه يصعب عليها الاعتراف بمعاناة ضحية أخرى، وإلا من أين جاءت المقارنة السخيفة بين معناة الفلسطينيين والسوريين، ومن يعاني أكثر من الآخر، ومن عدوّه أكثر إجرامًا من عدوّ الآخر؟! (الإشارة هنا لحملة ذلك السيف لا للسوريين جميعًا، ولا يخفى على متابع أنّ هذا الخطاب انتشر في أوساط عربية لا بين السوريين فحسب، بل وشارك فيه فلسطينيون أيضًا).
قد يبدو الوقوف مع تاريخ رفض ترتيب الالتزامات الأخلاقية وفق المسؤوليات والمواقع والثغور، أمرًا جدليًّا، ولكنه ليس كذلك، لأنّ الإلحاح، على أخذ القضية الفلسطينية في وضع المقارنة مع القضية السورية طوال الأربع عشرة سنة الماضية، خلق تحوّرات كثيرة في موقع القضية الفلسطينية في الوعي العربيّ العام، وآل ذلك إلى عدم تفّهم التزامات الفلسطينيين وحاجاتهم وضروراتهم، وتقزيم قضيتهم وتصغير معاناتهم، وبنحو بدت فيه القضية السورية قضية الأمة، بينما لم تعد فيه فلسطين كذلك، ولا أدلّ على ذلك من تلك الخطابات التي كانت تصف خطابات المقاومين الفلسطينيين تجاه حلفائهم في إيران وحزب الله بأنّها تستفزّ الأمّة (هل يستفز الأمّة الآن الحديث عن التطبيع المُتَفَهَّم؟!)، وتُبعِد الأمّة عن فلسطين (الأمة التي تبتعد عن فلسطين بذريعة كهذه هل تستحق الاحترام؟! على فرض وجود هذه الأمة أصلا!)، وتورَّط في ذلك إسلاميون كثر أفرادًا وجماعات ومؤسسات. والآن، لا ينبغي لفلسطيني تورّط في الخضوع لتلك الخطابات إلا أن يراجع نفسه باحثًا عن هذه الأمّة في غمرة الإبادة، إلا أنّ ما هو مهم، بالنسبة لتناقض الالتزامات الأخلاقية، هو ما سوف يأتي في هذه المناقشة عن حقيقة هذا التناقض المزعوم بين الحاجة السورية ومبدأ الالتزام تجاه الفلسطينيين من حيث الأصل، أو بأخذ الإبادة الواقعة بعين الاعتبار، ودرجة هذا التناقض إن كان واقعًا بالفعل.
مناقشة في السياق والداعي
إنّ أوّل ما يجب الوقوف عنده هو السياق، أو الباعث على هذه الدعوة، وهو الموضوع السوري، بعد سلسلة الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية، بالقصف، والتدمير، واحتلال أراض جديدة، وما يتصل بذلك من قتل واعتقال. كان تنبيهنا إلى أهداف إسرائيل من هذه المبادرة العدوانية النشطة، يقابل بضيق من مهتمين بالموضوع السوري، من سوريين وغيرهم، ويستقبلونه وكأنه مزايدة، أو تشف، أو رغبة في توريطهم، مع تغافل من كثيرين منهم عن هذه الواقعة، وتركيز على ثارات يفترض أن تتراجع إلى الخلف بعد انتهاء النفوذ الإيراني من سوريا وسقوط نظام بشار الأسد، بل إنّ أركان الحكم الجديد، في بعض تعبيراتهم، على الأقل في البداية، أبدوا تفهمًا للعدوان الإسرائيلي، وأحجموا لبعض الوقت عن وصفه بالاحتلال أو العدوان، بيد أنّ هذه الواقعة باتت حاضرة الآن وبكثافة لتسويغ السلام الضرورة، إذ لا يمكن بسببها لسوريا الاستقرار والتقاط الأنفاس اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا إلا باتقاء الشرّ الإسرائيلي بحلّ وحيد وهو السلام (سبحان الله!).
وبما أنّ المناقشة متجهة إلى مثقفين، بعضهم يمكن احتسابهم على الإسلاميين، (وهم من غير السوريين وهو تنويه متجدد مهم لقطع الكثير على الاستدراكات التي لا معنى لها)، فإنّ السؤال لهؤلاء عن الدافع مهم، إذ إنّهم يجعلون الأمر بين المواجهة والسلام، وبما أنّه لا يمكن لسوريا قتال إسرائيل، فلا حلّ إلا السلام (أو ربما حتى التطبيع إن كان الخيار الوحيد الممكن)، ولأنّ بيان خطأ هذه المثنوية يأتي لاحقًا، فإنّ السؤال الأوّلي ضروري عن وجاهة أطروحة تحذّر من القتال والمواجهة؛ والسوريون على مستوى الإدارة وما يظهر من المزاج العام، لا يفكرون في هذه المواجهة، (وهذا معقول وليس فيه ما يُستنكر)، علاوة على أنّ من استعجل الإعلان بأنه لا مشكلة له مع إسرائيل، وتأخّر في توصيف العدوان الإسرائيلي على أرضه بما يستحقّ، وانخرط في مفاوضات غير مباشرة (أو مباشرة كما تفيد التقارير الأخيرة)، هو في غير حاجة إلى مثل هذا التحذير، لاسيما مع ما قد يكون رأيًا عامًّا سوريًّا يوجّهه التعب من أيام القتال والتدمير والتشريد ومن الواقع الاقتصادي الصعب والحاجة إلى إعادة الإعمار.
إنّ أكثر المتعاطفين مع التجربة السورية، لا أحد منهم يدعو السوريين للقتال الآن، وإذا كان بعض الإسلاميين في استرسالهم مع أوهامهم المعهودة قد توقّعوا أن تستمرّ الثورة السورية وصولاً إلى قتال إسرائيل، فإنّهم وقد تبيّن لهم أنّ المسار المختار من السوريين، لم يكن ما توهّموه، فإنّهم يعيدون تكييف أوهامهم للاعتذار للتجربة السورية، وتأويل كلّ خياراتها، على طريقتهم البهلوانية في ما يحسبونه تأصيلاً شرعيًّا بسلخ النصوص والحوادث التاريخية عن سياقاتها لتلفيقها لصالح من يحبّون، فإنّ صلح الحديبية وصلح الرملة حاضران بالضرورة، في خدمة من يتصوّرونه لأسباب مجهولة صلاح الدين الجديد؛ والذي عليه أن يستعيد سيرة سلفه في الصلح والمعاهدات كي تطابق حقيقته تاريخ سلفه!
القصد أنّه لا دعوات جدّية من أحد للسوريين لقتال إسرائيل، فما معنى التنظير المبكر والتأسيسي من مثقفين غير سوريين، للسلام مع إسرائيل؟! إنّ هذا ليس إلا وضعًَا للعربة أمام الحصان، أي افتراض مشكلة غير موجودة لتبرير حلّ هو المشكلة الحقيقية!
في حجة السلام الضرورة
بنحو متعمد، يصوغ دعاة السلام الضرورة هذا فكرتهم بما يبقي مروحة الخيارات واسعة، فإنّ أمكن العودة إلى اتفاقية فض الاشتباك للعام 1974، بأقلّ قدر ممكن من الالتزامات تجاه إسرائيل فليكن هذا، وإلا فليكن ما زاد على ذلك؛ من التنسيق الأمني المباشر والساخن (تتحدث بعض التقارير الأخيرة عن مقترحات لتبادل مكاتب التنسيق في خطوة أولى)، إلى السلام، وربما وصولاً إلى التطبيع، بحسب ما تقبل به إسرائيل، فهل تُقدّر إسرائيل الصعوبات السورية الراهنة وتقبل ما دون ما تعنيه كلمة (السلام)، في سياق تسوية متدرجة؟ أم تشترط تسوية شاملة في الوقت الراهن؟! ولذلك يُعبّر بعضهم عن دعوته بهذا الشكل (الهدنة/ السلام)، وهذا مجال واسع للخيارات، ولكنها ليست خيارات على الحقيقة، وإنما التزام بالشرط الإسرائيلي، لأنه لا شيء يدفع للذهاب نحو سلام أشمل وأعمق من مجرد الهدنة؛ إلا الرفض الإسرائيلي للهدنة، ومن ثمّ فالداعي إلى هذا المقترح بهذه الصيغة (هدنة/ سلام)، يعي هذه المشكلة.
هذه الوقفة، مفيدة لنقض الحجة برمتها، والتي تقوم على هذه التراتبية: لا يمكن لدولة عربية منفردة قتال إسرائيل والانتصار عليها، ولأنّ المعضلة الإسرائيلية بالنسبة للسوريين لا يمكن تجاوزها إلا بالحلّ المباشر مع إسرائيل في إطار مروحة (الهدنة/ السلام) فإنّ هذا يصير حلّ الضرورة، إذ لا يمكن فعل شيء بالنسبة للداخل السوري دون إزاحة العقبة الإسرائيلية، وإلا فإنّ إسرائيل ستقصف قصر الشعب وتقتل الرئيس بما يدفع نحو الفوضى والتقسيم والحرب الأهلية، فلا استفاد السوريون شيئًا ولا الفلسطينيون بطبيعة الحال، وهنا لا بدّ من وضع القيود لتخفيف آثار دعوة كهذه على الوعي الرافض؛ وذلك بالقول إنّه لا بد من تشييد حكم رشيد، والحكم لن يكون رشيدًا إلا بتعزيز جبهة الداخل في إطار المجتمع الحيوي والحرّ من حيث التشاركية السياسية وضمان حرية التعبير والعدالة الاجتماعية، فشروط كهذه تحول دون انزلاق المجتمع في وحل التطبيع، وبما يقطع الطريق على أيّ إدارة سياسية أن تقمعه باسم الحاجة إلى التطبيع والرخاء والتنمية، أو أن تتعمق في خيارات التطبيع الرسمي دون حاجة، وبذلك تزاح العقبة الإسرائيلية، وتتوفر ضمانات بناء المجتمع السوري واقتصاده، وهذا في حدّ ذاته، بحسب أصحاب هذه الأطروحة، لن يفيد في تحرير فلسطين شيئًا (قد يحسن التذكير بأنّه لا أحد ذا شأن يطالب السوريين بتحرير فلسطين)، إذ حتى ولو تفوّق أيّ بلد عربيّ على إسرائيل تقنيًّا واقتصاديًّا (والكلام ما يزال لأصحاب الأطروحة) فلن يتمكن من هزيمتها، ومهما بلغ أيّ جيش عربيّ من الاقتدار والتفوق فلن يهزمها ما دامت أمريكا هي التي تحمي إسرائيل في النهاية، (وكأنّ إسرائيل بعلاقة تعاقدية معها مشروطة بتفوقها سوف تسمح ببناء جيش سوري يزيد على كونه قوّة فوق شرطيّة داخلية)، والحلّ هو انتظار وحدة شامية مصرية. وإذن مرّة أخرى، فلنرم الفلسطينيين في البحر على أمل أن نتمكن يومًا من تنشيفه واستخراجهم منه!
المهم بعد سوق هذه الحجة، هل ثمّة ضمانات لأيّ شيء بعد التوجه لعلاقة سلام تعاقدي مع إسرائيل، تستجيب في جوهرها للابتزاز الإسرائيلي؟! لا. وهو ما يقرّ به أصحاب الأطروحة، مما يوجب السؤال لماذا تطرحونها إذن؟! إنّ السلام التعاقدي مع إسرائيل الذي يلاحظ هيمنتها وتفوقها ويسعى لاتقاء شرّها بعد توغلها في سوريا وتدخلها عميقًا فيها هو استجابة للإرادة الإسرائيلية، لأنّ المبادرة العدوانية الإسرائيلية النشطة داخل سوريا لم تكن تهدف فقط إلى تكريس مصالحها الأمنية في البيئة الجغرافية مباشرة فحسب، ولكن أيضًا إلى امتلاك أوراق قوّة سياسية لابتزاز الإدارة الجديدة ومقايضتها بها، علاوة على أهداف أخرى ليس هذا مقام ذكرها (منها التحكم في التوازنات الداخلية السورية؛ ولذلك دمّرت القدرات التسليحية للدولة السورية التي خلّفها النظام السابق حتى لا تستفيد منها الإدارة الجديدة، وحين كتابة هذه المقالة كانت تتدخّل مباشرة بقصف قوات الأمن العام السوري ظهر يوم 14 تموز/ يوليو بدعوى الدفاع عن دروز السويداء، في عدوان ليس الأول، ولكنّه الأوّل من بعد جلسات المفاوضات بينها وبين الإدارة الجديدة)، فالاستجابة للابتزاز الإسرائيلي ابتداء هو خضوع للإرادة الإسرائيلية، فأيّ شيء يمكنه أن ينجّي سوريا تاليًا من قواعد مفروضة إسرائيليًّا وأمريكيًّا بحيث يأتي السلام على الضدّ من أهدافه المرجوّة؟! النقاش هنا بالتأكيد ليس مع من لا مشكلة لديه مع إسرائيل، أو من كان داعيًا أصليًّا للتطبيع، ولكن مع هؤلاء الذين يرون السلام السوري/ الإسرائيلي ضرورة بحكم الحجة السابقة، ويحتفظون في الوقت نفسه بالعداء لإسرائيل والتضامن مع فلسطين ورفض التطبيع، وهو ما يدعونا لمناقشتهم بهذا التفصيل لاحترامنا لأشخاصهم ونواياهم وإجلالنا لهم عن طرح كهذا، مهما كانت ملاحظاتنا على أطروحتهم ولوازمها.
إذا كانت تجربة عبد الناصر مثلاً تعلمنا أنّه لا يمكن لدولة عربية منفردة قتال إسرائيل وهزيمتها، فإنّ التجربة القريبة جدًّا أيضًا تعلمنا أنه لا يمكن التحرر من القواعد الإسرائيلية/ الأمريكية المفروضة سلفًا طالما تأسس كلّ شيء على الالتزام بها، وبمرور الوقت تتحوّل الخيارات الناجمة عن الضرورة أو الحاجة إلى اشتغال دائم لا فكاك منه ولا خلاص، ثمّ يتطبّع المشتغلون باشتغالهم هذا، وتتحول خيارات الضرورة والحاجة؛ إلى مبادئ حاكمة، يعتنقها أصحابها، ويدافعون هنا. لسنا في حاجة للتدليل على ذلك بمسار موقع القضية الفلسطينية في السياسات العربية الرسمية من الذروة إلى ما دون القاع بما لا يرى، ولنكتف فقط بالإشارة إلى منتج اتفاقية أوسلو وما فرضه من تحولات على العمود الفقري التاريخي للحركة الوطنية، فهل يعتقد من لديه حدّ أدنى من البصيرة بإمكان أعتى الثوار وأشدهم جذرية من داخل القواعد نفسها اليوم أن يستعيد السلطة الوطنية الفلسطينية إلى مسارات الكفاح والنضال خارج القواعد المفروضة؟!
وبما أنّ مروحة (الهدنة/ السلام) لم تُثمِر حكمًا رشيدًا ولا في أيّ بلد عربيّ اختار هذا المسار، فإنّه بالضرورة لن تكون ضمانًا لحكم رشيد في سوريا، ويبقى، وبقطع النظر عن ذلك، وعن نوع الحكم المستقبلي المتبلور في رحم (الهدنة/ السلام) الضرورة، هل هو رشيد أم لا، فإنه لا ضمان لمنع التبعية الاقتصادية، ولاسيما وأنّ المسألة الاقتصادية هي رافعة النشاط الاجتماعي والسياسي، والقول إنّ اجتناب التبعية الاقتصادية ممكن بقرار سياسيّ، فهذا يتناقض أولاً مع الإقرار بكون الحكم الرشيد مجرّد احتمال، ويتناقض مع جملة شروط مادية هي أهمّ من القرار السياسي على فرض أنه ناجم عن حكم رشيد، وذلك ابتداء من كون (الهدنة/ السلام) استجابة ضرورة للابتزاز الإسرائيلي، فما الذي يجعل إسرائيل عاجزة تاليًّا عن فرض التبعية الاقتصادية في إطار شبكة هيمنتها الإقليمية، وعلاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية؟ فالمنطلق أساسًا هو استجابة للشرط الإسرائيلي، والمسار محاط بإسرائيل وحلفائها أو حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية، والبداية دفع أمريكي، لا يمكن إحسان الظنّ به، فالشرط التاريخي إذن واضح، وهو يعمل في ظرف مناسب له تمامًا، من الاضطرار السوري إلى تجاوز محنة الأربعة عشر عامًا، وإعادة الإعمار، مع دعم يبدو مطلقًَا من المجتمع السنّي الأغلبي للإدارة الجديدة.
الشيء الوحيد المؤكد إذن هو الخيار الذي سيُذهب إليه في طيف مروحة (الهدنة/ السلام)، ولا شيء بعد ذلك يمكن تأكيده، لا الحكم الرشيد، ولا اجتناب التبعية الاقتصادية، ولا التحرر من الابتزاز الإسرائيلي. فأيّ معنى لدعوة كهذه؟!
يبقى، والحالة هذه، أنه سيُسأل عن الحلّ، والأمر سهل، ليس الحلّ، لأنّه لا حلاً سهلاً، ولكن السهولة بمحاكمة الأمر إلى منطق الأطروحة ذاته، فطالما أنّه لا ضمانة لشيء في إطار (الهدنة/ السلام)، فلماذا لا يُدفع نحو خيارات دون الحرب والمواجهة، حتى لو لم توفّر بدورها الضمانة الكافية؟! لأنّ أصل الفرضية خطأ، فالمسألة ليست انحصارًا مثنويًّا بين الحرب والسلام أو التطبيع، إذ يمكن العمل على خيارات كثيرة، ابتداء من السعي نحو العودة إلى اتفاقية العام 1974، فإن لم تكن ممكنة فبالهدوء مقبال الهدوء، فإن لم يكن ممكنًا فبخيارات واسعة من النضال الشعبي، والتعبوي، والقانوني، والدبلوماسي، وسوى ذلك، مما ليس من الحرب ولا من القتال، وهذا فيما يتعلّق بالحقّ السوري ومواجهة العدوان الإسرائيلي على السوريين، لا فيما يتعلق بفلسطين، لأنّه لا أحد يقول للسوريين تعالوا حرروا فلسطين الآن!
هذا التبرّع بالتنظير لسلام الضرورة؛ لا يفعل شيئًا جديدًا من حيث الحجة والمضمون سوى استنساخ ما قاله كل الذاهبين السابقين إليه، وجديده الوحيد أنّ أصحابه هذه المرّة هم من البيئة الفكرية نفسها التي حملت على هؤلاء السابقين وردت حججهم وشككت بها. هذا التنظير يأتي لصالح حكم يفترض أنّه انبثق عن ثورة ينبغي حسب خطاباتها أن تقطع بعد انتصارها؛ مع السياسات الرسمية التي ثارت عليها، وأن تُقدّم ممارسة تصدّق بها دعواها المناهضة للنظام السابق، والمتعلقة باتهامه بالتفريط، والبيع، والتبعية، والتخاذل.
التعاطف مع السوريين في هذه اللحظة الحرجة والحساسة التي تضيق خياراتهم فيها وتحدّق بهم فيها المخاطر المرعبة، والتفكير لهم ومعهم، ليس مفهومًا فحسب، ولكنه مقدر ومطلوب من جميع العرب، ومنهم الفلسطينيون، بل إنّ هذه المقالة الرافضة لفكرة السلام الضرورة، هي انحياز للسورين وتفكير معهم بقدر ما هي منحازة لفلسطين، ولكنّ التفكير في هذه اللحظة لا ينبغي أن يتحول إلى انحراف سياسيّ وأيديولوجيّ بتبرير ما يمكن أن يفضي إلى التطبيع والتنظير له؛ لاسيما في غمرة الإبادة القائمة، حيث يُناقض هذا التنظير الحساسية المطلوبة تجاه الفلسطينيين الغزيين ضحايا المحرقة الإسرائيلية، كما أنّ العودة لهذه الدائرة الجهنمية من التنظير للتسليم لإسرائيل حلاً وحيدًا لنجاة دولنا وشعوبنا، لا تدلّ على تناقض الالتزامات الأخلاقية، بقدر ما تدلّ على أنّ فلسطين وأهلها ليسوا مأحذوين أصلاً في اعتبار الالتزام الأخلاقي العربي لا لدى الأنظمة السياسية ولا الشعوب العربية، وهذا ربما علاوة على ما يمكن أن يكون إحساسًا بالهزيمة المرّة بعد الإبادة الجماعية، والقدرة الفائقة التي ظهرت لإسرائيل بدعم الولايات المتحدة، على التعامل مع خصومها في المنطقة وتفكيك جبهاتهم، ومبادرتها العدوانية الناجعة في سوريا دون أن يردّها شيء، إلا أنّ هذا يتطلّب منّا مقاومة نفسية، لتحصيل قدر من التوازن الفكري حين التعامل مع هذا الواقع المخيف.