في مديح الطوفان
يبدو تجاسرًا، تجاسرًا بالغًا أن يقف أيُّ أحدٍ وقفةً تحليليةً مع الحدث الذي هو –كاسمه- "طوفان"، ذلك أنّ الحدث في ذاته بغتةٌ تامّة، لا يكاد يزعم أحدٌ سوى الرّجال الذين صنعوه أنّه توقعه. وتحليل البغتة، التي تبدو خارجةً، أو غالبةً، للمتوقع والتوازنات والمنطق التحليليّ نفسه، ضربٌ من العبث؛ وعليه فإنّ هذه المادّة ستغرق في مديح الحدث، لكنّها ستمدحه مدحًا تحليليًا، إذا صحّ هذا النحت الجديد، لا انطلاقًا من زعم توقّعه، ولا ارتقاءً إلى إمكانية تقييمه، بل هي محاولةٌ للسباحة فيه، في سياقه ولحظته، وفي دهشته العجيبة.
مع لحظات كتابة هذه الكلمات، يرتفع عدد قتلى الاحتلال، حسب اعترافه، إلى 250 قتيلًا، خلال أقل من 18 ساعةً من بداية المعركة، والذي يبدو أكيدًا أنه رقمٌ أوّليّ، ذلكَ أنّ عدد القتلى يرتفع خمسين خمسين، لا خمسةً خمسة، في إشارة إلى اتساعٍ كبيرٍ في خسائر الاحتلال، بحيث لا يجدي معها التعامل الإسرائيلي المعتاد المائل إلى التهوين، وأحيانًا التكتم.
250 قتيلًا وأكثر من ألف جريح، وعشرات، وربما مئات، المفقودين، بينهم عشرات الأسرى الجنود والضباط في قبضة كتائب القسام (سوى الرهائن)، هي حصيلة الحدث حتى العاشرة من مساء 7 تشرين أول /أكتوبر، اليوم الذي أعلن فيه محمد دياب إبراهيم المصري، الذي يعرفه التاريخ باسم "محمد الضيف"، قائد أركان كتائب القسام، انطلاق معركة "طوفان الأقصى". غير أنّ الحصيلة المتصاعدة هذه، على أهميتها ونوعيتها، وهي التي بلغت في يومٍ واحد قرابة ثلاثة أضعاف خسائر الاحتلال في حروبه السالفة مع القطاع كلها، وقرابة ثلث خسائره في انتفاضة الأقصى، الملحمة التي استمرت 5 سنوات كاملة؛ هي (الحصيلة) طرفٌ واحدٌ محدودٌ من الحكاية الباهرة التي سطرتها المعركة. (لم أكد أنهي الفقرة حتى ارتفعت الحصيلة إلى 300 قتيل).
قرابة السادسة والنصف من صبيحة اليوم، السبت السابع من تشرين أول/ أكتوبر 2023م، 22 ربيع الأول 1445هـ، بدأ الحدث. كان الخبرُ الأوّل هو دويّ صفّارات الإنذار في مستوطنات "غلاف غزة"، ثمّ توسّعت الصفارات لتشمل مدنًا أبعد كعسقلان وبئر السبع، ثمّ تل أبيب، وقد كان دويّ الصفارات إشارةً إلى ضرباتٍ صاروخيةٍ ثقيلةٍ استهدفت هذه المناطق، وبينما غرق الناس في التفكير والتحليل في سبب هذه الإطلاقات الواسعة والمتتالية، بدأت الأخبار تتوالى عن اقتحام مقاومي القسام للحدود نحو مواقع الاحتلال العسكرية، ومستوطناته المتاخمة للقطاع، تاليًا قال القسام في بلاغه رقم "1": "في ظلّ غطاءٍ صاروخيٍ مكثّف واستهدافٍ لمنظومات القيادة والسيطرة لدى العدوّ، تمكن مجاهدو كتائب القسام من اجتياز الخطّ الدفاعيّ للعدو، وتنفيذ هجوم منسق متزامن على أكثر من 50 موقعًا في فرقة غزّة والمنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال، ما أدّى إلى إسقاط دفاع الفرقة".
تتالت بعد ذلك الصور والمقاطع المرئية والأخبار التي رآها العالم، تطهير لمواقع عسكرية إسرائيلية، واقتحامٌ لمدن وبلدات بالجيبات والطائرات الشراعية، وصورٌ لقتلى الاحتلال تملأ الشوارع، ولأسراه يعودون محمّلين تتاليًا إلى القطاع على الدراجات النارية والجيبات، عُرف فيما بعد أن بينهم ضباطًا برتبٍ كبيرة، وصورٌ أخرى للمواقع المحرّرة وهي تسلّم عتادها وقيادها لأبطال المقاومة، ولناس غزة العاديين -غير العاديين-، يتبعون مقاتليهم إلى قلب الحدود حيث ميدان المواجهة. ومع هذه الصور العجيبة كان خبر صواريخ المقاومة التي اقتربت من الـ 5000 آلاف، يصير خبرًا ثانويًا!
الفشل (1): الاستخبارات:
منذ لحظة الحدث وحتى اللحظة الجارية، يبدو واضحًا أن "إسرائيل" لم تكن تعلم عنه شيئًا، لا من قريب ولا من بعيد، بما يعني أن اجتياحًا واسعًا للحدود، استغرق التدريب عليه شهورًا طويلةً بطبيعة الحال، وشملَ قطاعاتٍ واسعةً من المقاومين، بلغ 4000 وفق بعض التقديرات، واتّسع في الجغرافيا حتى شمل 50 موقعًا سوى المدن والبلدات، وفي العمق حتى وصل إلى عمقٍ يقارب 40 كم، وكان كبيرًا جدًا بحيث لا بدّ وأن عرف بتفاصيله وتوقيته عددٌ لا بأس به من قيادات القسام، كان غائبًا، من حيث هو حدث، تمامًا عن الاستخبارات الإسرائيلية المنتفخة غرورًا.
هذا الفشل في معرفة الحدث هي تابعةٌ، من أحد جهاتها، للفشل في تقدير إمكانية إقدام حماس على حدث مشابه -فضلاً عن تقدير توجهاتها الذي سنتحدث عنه تاليًا-. ولمّا استقرّ في الذهنية الاستخباراتية الإسرائيلية صورةٌ نمطية للفعل المقاوم المنطلق من غزة، لم يكن يتضمنّ هذه الصورة ولا شيئًا قريبًا منها، فإنه يبدو أن استخبارات الاحتلال لم تجهد نفسها من حيث الأصل في محاولة مواكبة أفكار المقاومة، ثمّ خططها وما قد يلفّها من أحاديث.
غيرَ أنّ الحديث عن فشل الاحتلال الاستخباراتي، وإن كان حقيقيًا تمامًا، دون الحديث المستفيض عن النجاح الاستخباراتي المقاوم، وقوعٌ في مصيدةِ تهوين قيمة الذات، الذي ضربته المعركة في مقتل اليوم. فالقسّام نجح نجاحًا باهرًا من ناحية الاستخبارات، وهو يخفي نواياه، ويصرف عن نفسه إمكان عملٍ مشابه، ويمتّن جبهته الداخلية، وينقّي صفوفه، ويغلق أيّ ثغراتٍ قد تتسرّب منها المعلومات، ويضيّق –كما يبدو- المعرفة بقدر الحاجة، فيفوز على المنظومة الاستخباراتية المنتفخة تكنولوجيًا وماديًا وقدراتٍ وخبرةً وحضورًا.
الفشل (2): فخّ التمويه
طوال سنتين تلتا "سيف القدس" التي نهشت من "الردع" الإسرائيلي، حاول الاحتلال أن يستعيد صورة الانتصار، فكان في السنة الأولى أن أقام مسيرة الأعلام في القدس وعربد في المدينة وفي المسجد الأقصى بشكل واسع، وفي السنة التالية شنّ "عمليةً عسكريةً" في قطاع غزة تركّزت ضدّ الجهاد الإسلامي. ومع الحدثين اللذين لم تبدِ كتائب القسام ردًّا واسعًا عليهما، بدا أن الاحتلال كوّن صورةً ذهنيةً مفادها أنّ حماس مردوعةٌ عن القتال، وأنّ سياسة تحييدها عبر استهداف الجهاد ودقّ الأسافين بين الحركتين يمكن أن تجديَ نفعًا، ويمكن أن يجديَ نفعًا كذلك شراء صمتها عبر توسيع "التسهيلات" لقطاع غزة، كالمنحة القطرية، وتصاريح العمال في الداخل المحتل.
وافقت حماس، بشكل غريب –بالنسبة لنا على الأقل- على منح آلاف الغزيين تصاريح للعمل في الداخل المحتل، رغم خطورة هذه الخطوة من ناحية أمنية، ومن ناحية إمكانية استغلالها لخلق بيئة اقتصادية طاردةٍ للمقاومة ومتعلقةٍ بالتصريح الإسرائيلي. غيرَ أن هذه الموافقة، وذلك الامتناع عن الانخراط في القتال بشكل مباشر، أو الامتناع عنه من جغرافيا القطاع من حيث الأصل، يبدو اليوم، مع معركة "طوفان الأقصى"، لا بوصفهِ صبرًا استراتيجيًا ضروريًا فحسب، بل جزءًا من عملية خداعٍ استراتيجيٍّ عملت عليه الحركة، وأرادت من خلاله إقناع الاحتلال بأنّها مردوعةٌ وغير معنيةٍ بخوض مواجهةٍ في قطاع غزة، ولعلّ هذا ما كان، حيث ينقل المعلق العسكري لصحيفة "هآرتس" عاموس هارئيل عن "معظم" قادة الأجهزة الاستخبارية تقديرهم بأن حركة حماس معنية بشكل أساسي بتعزيز حكمها في القطاع وأنها غير مهتمة بمواجهة مع "إسرائيل"، واعتقادهم أن العمل على تعزيز التسهيلات للقطاع، بما في ذلك زيادة عدد عمال القطاع في الداخل سيقلل من احتمالية وقوع مواجهات. وبالفعل، انطلت عملية الخداع الاستراتيجي هذه على الاحتلال، وبوغت بـ "طوفان الأقصى" من حيث لا يحتسب.
العدو المستنزف
لا تبدو "إسرائيل" في أحسن حالاتها، على المستوى اللوجستي، لخوض غمار حرب واسعة مع قطاع غزة، وهي التي تستنزف جيشها النظامي بنشر فرقةٍ إثر أخرى في الضفة الغربية التي تتصاعد مقاومتها حاليًا، حتى بلغت نسبة ما نشر من جيش الاحتلال في الضفة ما يقارب من ثلثيه، هذا، رغم كون حقيقة التهديد الجاري في الضفة تهديدًا محدودًا غير واسع، بما يشير، إلى فشل الاحتلال في تفكيك هذا التحدّي، رغم الزجّ بكل هذا القدر من جيشه النظامي، وهو ما يشير إلى عطب على مستوى القدرة، ولكنّه يشير في المقابل إلى استعصاء ومجابهة فلسطينية.
وإلى ذلك، تدخل "إسرائيل" حربها مع إشكاليات داخلية عميقة انفجرت في سؤال التعديلات القضائية، ووصلت جيشها، حتى امتنع طيارون احتياطيون عن الخدمة، وانتشرت دعواتٌ للمزيد من الامتناع عنها.
ولعل المقاومة رأت في اللحظة الراهنة ظرفًا ملائمًا، لا سيّما مع حديثها عن معلومات امتلكتها عن توجّه الاحتلال نحو توجيه ضربة لها عقب "عيد العرش"، وتوسّع قمع الاحتلال من خلال محاولات تكريسه واقعًا تهويديًا إضافيًا في الأقصى، وانتفاش المستوطنين، والتضييق على الأسرى؛ لعلّها رأت مع ذلك كله اللحظة الجارية توقيتًا ملائمًا لخطّتها العجيبة.
الخوف من جبهة أخرى
يظلّ سؤال "وحدة الساحات"، وتعدّد الجبهات، مما يخيف الاحتلال، إذ إنه لا بدّ وأنّه يقدّر الآن أن هجومًا واسعًا كالذي جرى ترتفع احتمالات كونه منسقًا مع قوى أخرى في "محور المقاومة"، بحيث يمكن أن تدخل جغرافيا أخرى على خطّ المواجهة، دخولًا غير محدود، إذا توسّعت المواجهة، لا سيّما مع تصريحات لقادة المحور أكّدوا فيها أنّهم لن يسمحوا بالاستفراد بأحد مكوناته.
شمالًا، هناك احتمالان للاشتراك في القتال، أولهما: دخول بنية حماس العسكرية في جنوبيّ لبنان في القتال، وثانيهما: دخول حزب الله فيه، ومع عدم إمكانية الجزم بأصل إمكانية دخول جبهة جديدة على خط المواجهة، قد تكون فعالية هذه الفكرة في التلويح بها، أي في منع الاحتلال من التوسّع في حربِهِ فوق التصور ضدّ القطاع بسبب خوفه من دخول جبهة لبنان، وقد تكون احتمالًا حقيقيًا يمكن أن يدخل إلى المواجهة –كليًا أو جزئيًا- استنادًا إلى ظرفية المعركة.
تظلّ "جبهتا" الضفة والداخل المحتل، رهانًا مهمًا للمقاومة، وخاصرة صعبةً للاحتلال، بحيث يمكن أن يصنع توسّع العمل المقاوم في الضفة، أو أحداثٌ كأحداث هبة الكرامة في الداخل، والتي تزامنت مع معركة سيف القدس؛ ضغطًا قويًا على جيش الاحتلال وحكومته يمنعه من الاستفراد بغزة وتوسيع حربه ضدّها.
في الدلالة
تخوض غزة إذن حربًا جديدةً منطلقةً من جغرافيّتها، بأجندة غير محلية، أي غير متعلقة بغزة نفسها، وهو ما بدأ مع "سيف القدس"، ليكون إجابةً على سؤال معنى مراكمة القوّة وتوسيع البنية العسكرية، ودورها في القضية الوطنية عامةً، وتأكيدًا على أن استراتيجية "حماس" في استخدام بنيتها العسكرية في القطاع لتحقيق إنجازات على المستوى الوطني، استراتيجيةٌ راسخةٌ يثبتها الدليل إثر الدليل، ما يجعل محاولة احتواء سلاح المقاومة، أو تحييده عن القضية الوطنية العامة، فشلًا ذريعًا للاحتلال، وانتصارًا لمنطق المقاومة والرهان عليها.
أما أصعب الأسئلة وأعظمها، سؤال: كيف استطاع مقاتلو القسام، ومن خلفهم مقاتلو فصائل المقاومة، أن يغلبوا منظومات أمن الاحتلال التقنية والمادية ويخترقوا حدود فلسطين المحتلة، ويحيّدوا الطيران، ويصلوا إلى هذا العمق، ويسيطروا طويلًا على مدنٍ وبلداتٍ ومواقع عسكرية، ويعودوا بعشرات الأسرى، كأنهم واقفون "في جفن الردى وهو نائم"؟ فلعلّه لا يجيب عليه إلا أنه "كان وعدًا مفعولًا"، لعباد أولي بأس شديد قدرهم أن يجوسوا خلال الديار، مرةً إثر مرة، حتى "وعد الآخرة".