قادة السرايا .. الشهادة مسيرةً ومصيرًا

قادة السرايا .. الشهادة مسيرةً ومصيرًا
تحميل المادة

في ضربة إجرامية شاركت فيها عشرات الطائرات الحربية والمسيّرات الانتحارية، اغتال جيش الاحتلال ثلاثة من قادة سرايا القدس في قطاع غزة، مع عدد من أطفالهم ونسائهم، بالإضافة لمدنيين يسكنون في المناطق المستهدفة نفسها، يوم الثلاثاء 9 أيار/ مايو، بعد أسابيع من الضربات التي وجهتها المقاومة على مختلف الجبهات لدولة الاحتلال.

استشهد في  غارات جيش الاحتلال القادة أمين سر المجلس العسكري في سرايا القدس جهاد الغنام مع زوجته السيدة وفاء شديد، ومسؤول المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني مع طفلته هاجر، وليلى مجدي مصطفى البهتيني، وأحد قادة ساحة الضفة في السرايا طارق عز الدين مع طفليه علي وميار، بالإضافة للدكتور جمال خصوان وزوجته مرفت خصوان ونجلهما يوسف خصوان، ودانية علاء عدس وشقيقتها إيمان عدس.

رحل القادة الغنام والبهتيني وعز الدين بعد مشوار جهادي طويل صعدوا فيه على مركب المقاومة منذ كانت تملك أبسط الأدوات وصولًا إلى التطور الحالي في البنى التنظيمية والعسكرية والإدارية.

 

جهاد الغنام.. الجهاد حياةً كاملة

أمينًا لسر المجلس العسكري لسرايا القدس ختم الشهيد القائد جهاد الغنام مسيرته العسكرية مع المقاومة الفلسطينية، الرجل الذي ولد في رفح بداية ستينيات القرن الماضي، بدأ في المقاومة منذ طفولته الباكرة ثمّ توجه إلى لبنان مقاتلًا مع الثورة الفلسطينية، قبل رحيلها إلى بلدان متفرقة عقب العدوان الصهيوني عام 1982.

تعرف الغنام على الشهيد فتحي الشقاقي، في مرحلة لاحقة، وانضم إلى حركة الجهاد الإسلامي كحال قادة آخرين في الحركة انتقلوا من تجربة إلى أخرى، وحافظوا على الانتماء إلى استراتيجية "قتال إسرائيل"، مثل أكرم العجوري مسؤول الدائرة العسكرية في الحركة، ومحمود عبد ربه الحِيلة "أبو هنادي"، والذين شاركوا أيضًا في تدريب كوادر الحركة في الخارج قبل أن ينتقل عدد منهم إلى داخل فلسطين المحتلة، وينخرط في مختلف مراحل تطور الجهاد.

في التسعينيات عاد القائد الغنام إلى قطاع غزة رفقة زوجته اللبنانية وفاء شديد، ومع انطلاقة انتفاضة الأقصى كانت الفرصة الاستراتيجية لإعادة إطلاق مقاومة شاملة ضد الوجود العسكري الصهيوني في قطاع غزة في الدائرة الأولى، وفي كل فلسطين المحتلة في الدائرة الثانية، إذ كان تحرير القطاع من المستوطنات التي كانت تقسمه وتسيطر عليه أمنيًا وجغرافيًا، هدفًا مرحليًا أمام كل قوى المقاومة التي انشغلت حينها بتطوير بنيتها التنظيمية وأدواتها العسكرية (الصواريخ، العمليات الاستشهادية، الهجوم على المستوطنات والقوافل العسكرية وغيرها).

شارك الغنام في القيادة والتخطيط لعدة عمليات عسكرية واستشهادية استهدفت المستوطنات في قطاع غزة ومحطيها، وقد عمل مع الشهيد جمال أبو سمهدانة مؤسس لجان المقاومة الشعبية في فلسطين منذ بداياتها، كما عمل رفقة قادة آخرين شكلوا البنيان التنظيمي لسرايا القدس في قطاع غزة.

النسب بين عائلة الغنام والشيخ خليل انعكس ارتباطًا في المقاومة، حيث كان للشهيد جهاد علاقات متينة مع القائد في سرايا القدس محمد الشيخ خليل، وفي بدايات انتفاضة الأقصى أصيب مع الشيخ خليل والشهيد ياسر أبو العيش في انفجار قاذف الهاون الذي كانوا يطلقون منه القذائف تجاه المستوطنات، وبقيت ذكرى الحادثة على أجسادهم حتى شهادتهم بعد أن بترت أعضاء مختلفة من أجسادهم.

بعد تحرير قطاع غزة اتجهت سرايا القدس، كحال بقية الفصائل، نحو تطوير بنيتها العسكرية، وكان للشهيد الغنام دور بارز في هذا المسار، وكان له دور بارزٌ كذلك في مختلف المواجهات العسكرية التي خاضتها المقاومة، انطلاقًا من عام 2006. وفي عام 2007 استشهد شقيقه القائد في سرايا القدس زياد الغنام، المسؤول عن ملف العمليات الاستشهادية، مع ابن شقيقه رائد غنام والقائد محمد مرعي في عملية اغتيال نفذها طيران الاحتلال.

تعرض الغنام لعدة محاولات اغتيال أبرزها في عام 2014 أدت لاستشهاد عدد من أفراد عائلته، وخلال هذه سنوات ما بعد الانتفاضة تولى مناصب عدة في السرايا بينها قيادة المنطقة الجنوبية، وأشرف على تزويدها بمختلف أنواع الأسلحة، وإنشاء أقسام للإعلام الحربي، وفي الشهور الماضية اتهمه الاحتلال بالإشراف على تطوير وبناء خلايا للمقاومة في الضفة المحتلة.

يلخص القائد جهاد الغنام حياته التي (طالت) في الجهاد: "الحمد لله الذي رزقنا هذا العمر كي نؤدي واجب الجهاد… إذا رُزقنا الشهادة فأهلاً وسهلًا".

الشيهيد جهاد الغنام

 

خليل البهتيني.. مواهب في خدمة القتال

"ما تربينا عليه أن من يسكن هذه الأرض ولا ينال الشهادة فقد خسر".. خالد البهتيني.

 

ينطلق البهتيني من هذه القاعدة في وصف مسار حياته، الذي لم يكن له وجود خارج "قتال إسرائيل".

ولد البهتيني في حي التفاح شرق غزة عام 1978، وبدأ حياته في المقاومة مبكرًا، تعرض للاعتقال في سجون الاحتلال في سن صغيرة، ثم واصل مسيرته في الجناح العسكري للجهاد الإسلامي وصولًا إلى مرحلة انتفاضة الأقصى وتأسيس سرايا القدس، ثم إقامة المجلس العسكري للسرايا، ودخوله في عضويته، ولاحقًا توليه قيادة المنطقة الشمالية في قطاع غزة خلفًا للشهيد القائد تيسير الجعبري، الذي اغتاله جيش الاحتلال في آب/ أغسطس 2022.

"متعدد المواهب" هكذا يمكن وصف شخصية الشهيد البهتيني، اهتم منذ بدايات عمله المقاوم بالعمل الفني بموازاة العمل العسكري. "مرحلة الطناجر".. بهذا يصف الشهيد بدايات انطلاقه في العمل الفني، كنايةً عن ضعف الإمكانيات للفرق الإنشادية الإسلامية، قبل أن يؤسس شركة "رؤى" الفنية التي تولت انتاج أناشيد الجهاد الإسلامي، خاصةً في مرحلة انتفاضة الأقصى.

كانت فكرة الشهيد من إطلاق وصف شركة على "رؤى" هي أن يسهل التواصل مع مختلف الفعاليات الفنية. وتولى وائل البيطار، أحد قيادات سرايا القدس الذي رحل العام الماضي، إدارة الشركة ومسؤولياتها، مع غياب الشهيد خليل في انشغالاته العسكرية والأمنية.

شارك الشهيد خليل أيضًا في جهود فرقة "عشاق الشهادة" التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، وفي إنتاج أفلام وثائقية من إمكانيات توازي "العدم"، ورغم ذلك واصل هذه المجهودات وصولًا إلى إصدار كتب مثل شهادة الأسير ثابت مردواي حول معركة مخيم جنين، الذي حمل اسم "نموت في الوطن ولا نغادر"، ودفع الشهيد أيضًا مع قادة آخرين نحو تأسيس فضائية "القدس اليوم" للتعبير عن خط الحركة وتمثيل خطابها أمام جمهورها، والفلسطينيين والعرب عمومًا.

وفي الأمن كان للشهيد إسهاماته في تأسيس الجهاز الأمني في السرايا، وتميز بالحرص الأمني والتشديد في الإجراءات الوقائية بين عناصر الخط الذي كان مسؤولًا عنه في السرايا مثل: (إخفاء الأسماء الحقيقية، التشديد على اللثام وغيرها)، وقبل تحرير قطاع غزة عام 2005 كان العمل التنظيمي للجهاز العسكري في الجهاد يتميز بنظام "الخطوط" وليس التنظيم المركزي، إذ إن كل قائد له خطه الذي يشرف عليه بكل ما فيه، وبعد سنوات جرى تأسيس المجلس العسكري الأعلى الذي يأتي على رأسه رئيس الدائرة العسكرية في الحركة.

أسهم الشهيد خليل مع آخرين في الحركة بينهم الشهيد حسن شقورة والقائد الشهيد خالد منصور في تأسيس أجهزة الإعلام الحربي في السرايا، والتي قدمت إنتاجًا متنوعًا حول سير الشهداء والأسرى، وإعلانًا عن العمليات والفعاليات العسكرية، بإصدارات مميزة.

كان للشهيد أدوار مهمة في تطوير الجوانب القتالية للسرايا، كإسهاماته في إيصال صواريخ مثل الغراد لأيدي المقاومين، واستدخال نمط "التربيض الأرضي"، وأدوات لوجستية أخرى، بالإضافة لإشرافه على عمليات مختلفة بينها قصف المستوطنات خلال جولات التصعيد بين المقاومة ودولة الاحتلال.

يروي عارفون بالشهيد أن كان متأثرًا بالتجربة الميدانية والعسكرية لحزب الله، وارتبط بعلاقات وثيقة مع بقية الفصائل، وأكد في مختلف المواقف على أن البوصلة يجب أن تكون نحو الاحتلال وعلى تعزيز الوحدة في الميدان.

في لقاء قديم مع قناة "المنار" ينشد الشهيد خليل البهتيني أنشودة كان يعشقها رفيقه الاستشهادي شادي الكحلوت، الذي ارتقى عام 2001، وكان من المقرر أن يكون البهتيني الاستشهادي الثالث في عملية "بيت ليد" التي ضربت عمق الاحتلال في التسعينيات. وفي مقطع مسجل نشر له من حفل قديم شارك فيه في قاعة الشوا ينشد: "من الجراح النازفة… فأنا دمار أسود… فوق الذئاب الزاحفة… وأنا صواعق محرقة… وأنا سيول جارفة… يا موطني لن أنحني".

خليل البهتيني

الشهيد خليل البهتيني

 

طارق عز الدين.. بدر الشهادة يكتمل في غزة

بالابتسامة الشهيرة يندلق الاطمئنان من وجه الشهيد طارق عز الدين في الصورة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي ويده يسحبها طفله الشهيد الذي استشهد معه بصواريخ الاحتلال، الرجل المبعد عن بلدته عرابة بجنين لم يركن إلى أعذار "التعب" من الطريق الذي طال حتى استطال ليعانق الشهادة.

في بلدة عرابة قضاء جنين ولد الشهيد القائد طارق عز الدين، وخلال انتفاضة الحجارة عام 1987 انضم لحركة الجهاد الإسلامي، التي شارك في مختلف فعالياتها وصولًا إلى الانضمام لجهازها العسكري.

شارك الشهيد عز الدين في الإعداد والتخطيط لعدة عمليات استشهادية، بينها عملية الاستشهاديين علاء الصباح وأسامة درويش، واستهداف مستوطنة "دوتان" بإطلاق نار وقذائف الهاون، وكان له دور في معركة مخيم جنين خلال انتفاضة الأقصى.

وعمل خلال هذه المرحلة مع القادة ثابت مرداوي، ومحمود طوالبة، ووائل عساف، وإياد صوالحة، ومحمد العارضة، وأسعد دقة، وسفيان العارضة، ونبيل المغير، ومجاهد أبو جلبوش، وحمزة أبو الرب، وأنس جرادات، وسعيد الطوباسي.

وخلال فترة مطاردته تعرض مع رفاقه لعدة محاولات اغتيال إلى أن نجح الاحتلال في اعتقاله، خلال كمين نصبه له، وفي مركز تحقيق الجلمة شمال فلسطين المحتلة تعرض لتحقيق قاسٍ، قبل أن يحكم عليه بالسجن المؤبد و10 سنوات إضافية بعد عدة جلسات محاكمة، على خلفية نشاطه المقاوم في سرايا القدس.

خلال فترة الاعتقال، حرص الشهيد طارق عز الدين على تنمية شخصيته بالتعليم وحصل درجة البكالوريوس في العلوم السياسية ثم الماجستير.

"الضابط قالي مش راح تروح في أي صفقة… الحمد لله روحت في صفقة مشرفة"، يصرخ طارق عز الدين أمام الصحفيين الذين كانوا في استقبال الأسرى المحررين الذين أبعدوا إلى قطاع غزة إثر صفقة وفاء الأحرار، التي أنجزتها حركة حماس، عام 2011. مرحلة الحرية كانت عودة إلى ما يتقنه طارق "قتال الاحتلال".

في البداية تولى مسؤولية إذاعة "صوت الأسرى"، منبرًا لنقل معاناة من تَشارك معهم سنوات القهر والحرمان، ثم أصبح مسؤولًا عن المكتب الإعلامي للجهاد في الضفة المحتلة، والناطق باسمها عن ساحة الضفة المحتلة.

الرجل الهادئ الذي لا تخبرك ملامح وجهه عن البركان الذي يغلي فيه حقدًا على الاحتلال، كشفت سرايا القدس بعد استشهاده أنه كان أحد المسؤولين عن العمل العسكري في الضفة المحتلة، وخلال مؤتمر صحافي عقده رئيس "الشاباك"، رونين بار، مع نتنياهو يوم اغتياله زعم أن الشهيد شارك في توجيه خلايا للمقاومة نحو صناعة الصواريخ وتزويد طائرات مسيرة بالمواد المتفجرة.

قبل سنوات أصيب الشهيد عز الدين بسرطان في الدم كاد أن يقضي أجله فيه، لكنه تعافى منه بعزيمته المعتادة، وعاد إلى ميدانه الذي أمضى حياته فيه، ميدان المقاومة، وقد منحته أقداره الشهادة وهو بعيدٌ مبعدٌ .. مقاتل.

طارق عز الدين

الشهيد طارق عز الدين