قادة السرايا في "ثأر الأحرار" . الشهادة مسيرةً ومصيرًا (2)

قادة السرايا في "ثأر الأحرار" . الشهادة مسيرةً ومصيرًا (2)
تحميل المادة

في أدبيات المعلم الشهيد فتحي الشقاقي تنظير مهم لوجوب العمل على تحقيق "الواجب"، وإن كان الواقع فقيرًا بالإمكانيات لإسناد العاملين، وهو ما عبَّر عنه بالمقولة المشهورة "الوجوب فوق الإمكان"، وأي من البشر أكثر من الشهداء قيامًا بالواجب في الزمان الذي يطبق فيه الظلم على الواقع؟

بعد معركة "ثأر الأحرار" التي أطلقتها الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية، ردًّا على جرائم الاغتيالات التي نفّذتها قوات الاحتلال، في قطاع غزة، زفَّت سرايا القدس 11 من مقاتليها شهداء، بينهم قادة عاصروا كلّ مراحل العمل العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، تناولت إطار عددًا منها في الجزء الأول[1] من هذه المادّة التي واكبت المعركة وشهداءها، وتستكمل سير عددٍ آخر منهم في هذا الجزء الثاني.

 

إياد الحسني.. من "بيت ليد".. لا راحة في الجهاد

في 22 كانون الثاني/ يناير 1995 دوّى انفجار ضخم عدن مفترق "بيت ليد"، في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، استهدفت العملية الاستشهادية تجمّعًا لجنود الاحتلال، وبعد أن استنفر الجنود إلى الموقع دوى انفجار آخر في الموقع، كانت هذه العملية التي تُعدُّ من أكبر العمليات الاستشهادية في تاريخ المقاومة الفلسطينية وحركة الجهاد الإسلامي، من تنفيذ الاستشهاديين صلاح شاكر وأنور سكر.

وقف خلف العملية الجهاز العسكري لحركة الجهاد الإسلامي الذي كان يعرف باسم القوى الإسلامية المجاهدة "قسم". لاحقًا، اغتال الاحتلال محمود الخواجا ومحمود الزطمة، واعتقل عبد الحليم البلبيسي، واتّهمت "الجهاد" الأجهزةَ الأمنية بقتل عمار الأعرج وأيمن الرزاينة، فيما بقي القائد إياد الحسني من بين أفراد الخلية، وأحد المسؤولين عنها، شاهدًا على مراحل أخرى تطوّر فيه العمل العسكري في قطاع غزة.

قبل عام من عملية "بيت ليد"، خطط القائد إياد الحسني لعملية إطلاق نار نفّذها الاستشهادي علي العماوي في مدينة "أسدود" المحتلة، وأدّت لمقتل مستوطنين، وفي وصيته كتب العماوي في مرحلة كانت مشاريع "التسوية" فيها تتقدم، وكان معارضوها معرضين للملاحقة والمطاردة: "لا تنبهروا وتنخدعوا بدعاة الاستسلام والهزيمة فالحق لا يستجدى وحياة العزة لا تأتي إلا بالجهاد".

وفي عام 1996 شارك الحسني في تجهيز الاستشهادي رامز عبيد منفذ عملية "ديزنغوف" التي أدت لمقتل 13 مستوطنًا، وجاءت ردًا على اغتيال الاحتلال للقائد فتحي الشقاقي.

ولد الحسني لعائلة لاجئة من بلدة حمامة قضاء عسقلان المحتلة، وفي أزقة مخيم الشاطئ ولد وتربى وتعرف على معاناة شعبه، ومع بدايات شبابه انضم إلى حركة الجهاد الإسلامي، وكان شقيقه محمد أيضًا، الذي تحرر في صفقة "وفاء الأحرار"، من أوائل نشطائها في القطاع.

خلال الانتفاضة الأولى اعتقل الاحتلال الحسني مراتٍ عدة، كما أصيب برصاص قواته، وفي مرحلة التسعينيات اعتقلته الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، وكانت انتفاضة الأقصى التي اندلعت في أيلول/ سبتمبر 2000 بعد اقتحام أرئيل شارون للمسجد الأقصى، فرصةً استراتيجيةً أمام جيل كامل من أقران الحسني ممّن واكبوا الانتفاضات السابقة وتعرضت فصائلهم لضربات قاسية في فترة الانتفاضة ثمّ ما بعدها، لإعادة ترميم الأجهزة العسكرية والانطلاق في مشروع مقاومة الاحتلال.

وفي سنوات الانتفاضة الثانية أشرف القائد الحسني في المنطقة التي كان يتولى مسؤوليتها على عدة عمليات إطلاق نار ضدّ المستوطنات والمعسكرات التي كان الاحتلال يقيمها في القطاع قبل التحرير عام 2005، بينها عملية الشهيد منير مصطفى، وعملية "نيتساريم"، تزامنًا مع مساعيه لتطوير الجهاز العسكري في الحركة رفقة قادة آخرين.

تحرير قطاع غزة منح فصائل المقاومة فرصةً استراتيجيةً أخرى لتطوير بنيتها التنظيمية والعسكرية، وكان للشهيد الحسني دوره في الانتقال بالجهاز العسكري للحركة من نظام الخطوط، إلى نظام المجلس العسكري الأعلى الذي يشرف على كل المناطق، ويضم في عضويته قادتها ومسؤولين عن ملفات أخرى.

واكب الحسني مع رفاقه في قيادة السرايا مراحل تطورها رفقة فصائل المقاومة، وتعرض خلال مراحل ما بعد الانتفاضة لمحاولات اغتيال، وفي عام 2011 استشهد ابن شقيقه رماح الحسني أحد قادة سرايا القدس.

الحسني صاحب الشخصية القوية، كما يقول عارفون به، والمبتسم المتواضع كما يصفه آخرون، أقام علاقات قوية مع فصائل المقاومة على رأسها كتائب القسام التي قالت في بيان نعيه إنه كان مسؤولًا عن التنسيق معها خلال معركة "ثأر الأحرار" التي ارتقى فيها شهيدًا، بالإضافة لعلاقاته القوية مع أطراف "محور المقاومة" في إيران وحزب الله.

في 12 أيار/ مايو 2023 استشهد الحسني مع مساعده محمد وليد عبد العال بعد استهداف شقة، في حي النصر بمدينة غزة، بعد مشوار طويل في الجهاد، ختمه بالمسؤولية عن ركن العمليات في سرايا القدس، وإدارة معركة "ثأر الأحرار".

الشهيد إياد الحسني

 

علي غالي.. من أول صاروخ إلى قصف "تل أبيب"

رحلة الفلسطيني في البحث عن السلاح لمواجهة عدوه هي حكاية أخرى عن الصبر والعزم والإرادة، وفي التاريخ الشفوي المتناقل بين الأجيال حكايات عن قادة شهداء أو أسرى باعوا ما يملكون من أجل شراء قطعة سلاح، كان الشهيد علي غالي من بين هؤلاء.

يروى أن القائد علي غالي المولود في خانيونس، عام 1975، باع ذهب زوجته في مرحلة انتفاضة الأقصى لشراء السلاح لصالح المقاومة، وفي الانتفاضة ذاتها اعتقل شقيقه محمد القائد في الجبهة الشعبية بمنطقته، والذي يرزح حتى الآن تحت حكم بالسجن لمدة 25 سنة.

في بداية التسعينيات انضم غالي إلى حركة الجهاد الإسلامي، وتدرج في العمل العسكري فيها من مجموعات الاستشهاديين، إلى مسؤولية نائب قائد الوحدة الصاروخية في سرايا القدس، ثم عضوًا في المجلس العسكري فيها.

رافق الشهيد علي مراحل تطور القوة الصاروخية في المقاومة، منذ بدايات الانتفاضة الثانية والجهود المضنية التي بذلتها في تهريب المواد اللازمة لصناعة المقذوفات وتطويرها وزيادة مدياتها، وشارك خلال هذه المراحل في عمليات قصف متعددةٍ استهدفت المستوطنات والمدن المحتلة.

شهد الرجل مع رفاق آخرين بينهم القائد الشهيد خالد منصور، الذي استشهد في معركة "وحدة الساحات" عام 2022، على كسر المقاومة للحاجز النفسي الذي أراد الاحتلال تكريسه حول "تل أبيب"، ومنذ عام 2012 وحتى شهادته أصبحت المدينة المستعمرة التي صادرت أراضي يافا واتسعت عليها، وصارت نموذجًا للفضاء الإسرائيلي في وسط فلسطين المحتلة، الذي يسكنه المستوطنون أصحاب المناصب العليا في الجيش والسياسة ومختلف أجهزة الاحتلال؛ هدفًا دائمًا في كل جولة لصواريخ المقاومة.

وفي "سيف القدس" تعرّض الشهيد غالي لمحاولة اغتيال أصيب فيها بجروح بليغة، قبل أن يكمل المسيرة ويتولى مسؤولية الوحدة الصاروخية في السرايا خلفًا للقائد خالد منصور، وفي معركة "ثأر الأحرار" تابع عمليات القصف ردًا على جرائم الاحتلال، حتى استشهد بعد استهداف طيران الاحتلال له رفقة شقيقه محمود أبو غالي وابن شقيقته محمود عبد الجواد منصور.

الشهيد علي غالي

الشهيد علي غالي

 

أحمد أبو دقة.. عِلم ومقاومة

"العدو أراد من اغتيال قادتنا الكبار قتل الروح المعنوية لمقاتلي الجهاد الإسلامي.. لكن العدو لم ينجح في تحقيق أهدافه"، يلخص القائد أحمد أبو دقة في مقطع مصور من اجتماع مع مقاتلين وقادة في السرايا، فلسفة الاحتلال في عمليات الاغتيال وكيف تسعى المقاومة لإفشالها "العدو والمنافقين ما بهمونا.. بهمنا حاضنتنا.. لما طلعت صلية الصواريخ من خانيونس الناس طلعت تكبر.. يعني حاضنتنا معنا".

في بني سهيلا شرق خانيونس شرق غزة ولد القائد أحمد أبو دقة، ومنذ طفولته عانى اليتم وتربى في أحضان والدته التي حرصت على تعليمه مع أشقائه وصولًا إلى الشهادات العليا، ويقول العارفون بالعائلة إن أفرادها حصلوا على شهادات في مختلف التخصصات من الطب، والمحاسبة، والكيمياء، والرياضيات، والصيدلة.

في بدايات انتفاضة الأقصى كان الشهيد أحمد أبو دقة يدرس تخصص الحاسوب في جامعات القطاع، قبل أن ينضم إلى سرايا القدس، ويبتعد عن الدراسة بفعل انشغاله في العمل العسكري، إلا أن شغفه بالعلم دفعه إلى التسجيل في جامعة القدس المفتوحة. ويعرف عنه اطلاعه الكبير على علم الحاسوب والاتصالات والقضايا التقنية الأخرى.

في أوج انتفاضة الأقصى، كان للشهيد دور مع رفاقه في التصدي للاجتياحات التي نفذها جيش الاحتلال للمناطق الشرقية في قطاع غزة، وشوهد أكثر من مرة وهو يلقي العبوات الناسفة تجاه آليات الاحتلال خلال اجتياحها لمنطقة الفراحين، وفي مرحلة لاحقة شارك في التخطيط والتنفيذ لعدة عمليات في مستوطنات الاحتلال، حتى تحرير غزة.

في إحدى العمليات التي خطط لها الشهيد القائد جمال أبو سمهدانة، مؤسس لجان المقاومة الشعبية في الانتفاضة، لضرب معبر رفح خلال وجود قوات الاحتلال فيه، اقترح أن ينقل أبو دقة داخل المعبر عن طريق إدخاله في حقيبة سفر نظرًا لقصر قامته وجسده النحيف حينها، لتحقيق ضرب الاحتلال في عمق إجراءاته الأمنية، لكن العملية لم تنفّذ بسبب ظروف لوجستية، وظلّ أحمد يتعلم من أبو سمهدانة، كما يروي نجله عماد، الذي أشار إلى أن أبو دقة عمل مع خالد منصور في سنوات الانتفاضة تحت اسم مستعار هو "الحاج هاني".

رافق أبو دقة، كحال بقية رفاقه الذين استشهدوا في هذه المعركة، مرحلة تطور سلاح الصواريخ، ولعب دورًا في عمليات تأمين المواد اللازمة لإنتاجها، وأشرف على تدريب المقاتلين على عمليات التصنيع والتربيض وغيرها، وشارك تحت إشراف القائد خالد منصور في عمليات قصف المستوطنات والمدن المحتلة.

 

الانشغال في الجهاد وقتال الاحتلال لم يمنعه من أعمال خير أخرى، من قبيل رعاية مراكز لتحفيظ القرآن الكريم، والتشجيع على أعمال خيرية لرعاية الفقراء والعائلات المحتاجة.

في 11 أيار/ مايو اغتال طيران الاحتلال القائد أحمد أبو دقة، نائب مسؤول الوحدة الصاروخية في السرايا، والذي لعب دورًا محوريًا في عمليات إطلاق الصواريخ، بعد قصف منزله في خانيونس.

الشهيد أحمد أبو دقة

الشهيد أحمد أبو دقة

 



[1]  https://bit.ly/3pKxFU8