كتاب أشرف البعلوجي.. حين عمل السنوار موثقًا للعمل المقاوم
كتاب أشرف البعلوجي من نتاجات القائد الراحل يحيى السنوار - رحمه الله - المتميزة، وهو من بواكير أعماله المنشورة، ومن المنطقي أن يعتريه ما يعتري البدايات من التسمَّر على شاطئ المعاني، والتعثُّر في التعبير عن الفكرة والحدث، ولكن القارئ حتمًا سيتفاجأ بقيمته العالية، ليس فقط من الناحية الأدبية، إذ احتوى صياغات جميلة، وصورًا فنيةً، وتوصيفات لافتة، وتشبيهاتٍ ساحرة، دلَّت على متانة في اللغة، وأوحت بأننا أما مشروع روائيٍ جاد. وإنما بما تضمنه من إشارات مهمة للأسس الفكرية والدوافع السياسية التي قامت عليها الوطنية الإسلامية في فلسطين.
مع الاهتمام الكبير بإظهار المرتكزات الرئيسة لخطاب حركة حماس، وتنظيراتها حول انبعاثها، وحضورها القوي داخل قطاع غزة، ومشاركتها المركزية في قيادة الانتفاضة، وخياراتها الميدانية في مرحلة مبكرة من حياتها، وما عناه من مساهمة جادة في توثيق العمل المقاوم، عبر تقديم توصيفٍ أصيلٍ ودقيقٍ لعملية المجاهدَيْن أشرف البعلوجي[1] ومروان الزايغ[2]، وما تمتع به من قدرة عالية على التعبير عن دوافع البعلوجي الفكرية والسياسية لقيامه بالعملية، وما جال في خاطره، وما أشغل عقله واستولى على وجدانه في فترة الاستعداد لها، وحين انطلق من غزة نحو هدفه في مدينة يافا المحتلة، وأثناء تنفيذه للعملية، وبعد الانتهاء منها.
تدوين السير
الكتاب من الأدبيات الأولى التي اهتمت بتدوين سِيَر كوادر حركة حماس العسكريين ومساهماتهم في المقاومة ضد الاحتلال، والتي أخذت بالانتشار بشكل ملحوظ منذ النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي[3]، وكان باكورة لسلسلة من الإصدارات عزم أبو إبراهيم على إعدادها تحت اسم "فرسان الحماس"، ولا ندري إن كان قلمه تمكَّن من تطريز عناوين أخرى ضمن هذه السلسلة أم أن انشغالاته في العمل التنظيمي والإداري داخل سجون الاحتلال قد حرمه من ذلك.
أنهى أبو إبراهيم إعداد كتابه في التاسع من حزيران/ يونيو عام 1991، وكان وقتها سجينًا في عزل الرملة، ونُشر في حينه، ثم أن الكتاب عاد إلى دائرة الاهتمام مجددًا مع اندلاع معركة طوفان الأقصى في السابع من تشرين أول/ أكتوبر عام 2023، واستشهاد الكاتب في السادس عشر من تشرين أول/ أكتوبر عام 2024، إذ أصبح في متناول جمهور القراء على شكل بي دي أف (PDF).
يتناول الكتاب قصة حياة أشرف البعلوجي أحد نشطاء حركة حماس أثناء الانتفاضة الأولى، ويذكر مكان ولادته وتاريخها، ويعرض مشاهد من طفولته، وذكرياته في مدرسة الهاشمية الابتدائية، ومدرسة الشجاعية الإعدادية، ومدرسة يافا الثانوية، ويصف انخراطه في سوق العمل في الأراضي المحتلة عام 1948، ويسرد بتفصيل تفاعله مع الانتفاضة الأولى، وانخراطه الكلي في فعالياتها الوطنية انطلاقًا من مدرسته الثانوية إلى أن يصل إلى مرحلة تنفيذه لعملية طعن أدت إلى مقتل ثلاثة من المستوطنين، ليكون ممن افتتحوا ثورة السكاكين في قطاع غزة في ذروة الانتفاضة الأولى[4].
أشرف البعلوجي: توثيق سير المقاومين
يفتتح أبو إبراهيم كتابه بقول الله سبحانه وتعالى "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.." ثمَّ يتبعها بثلاثة أحاديث نبوية في فضل الرباط، ثم يخط مقدمته التي أطلق عليها مقدمة الفرسان، إذ يؤكد فيها أهمية توثيق سير المقاومين من أبناء حركة حماس، ويظهر فرحًا غامرًا بكونه اضطلع بهذه المهمة، ثم يشرع على مدى ثماني صفحاتٍ بنحت صورة لمدينة غزة، نسجها اعتمادًا على خفقان قلبه وسمو روحه وحرارة شوقه. يمر بسلاسة على تاريخ غزة العريق، ويشير إلى معنى اسمها، وشكل شوارعها وامتداداتها، وأحيائها وما تحويه من معالم، مع التركيز على المساجد، إلى أن يصل إلى وصف شجاعة أهلها في مواجهة الاحتلال، وكيف أنَّها فاجأت العدو حين اشعلت الانتفاضة الأولى.
يتحدث في الفصل الأول عن طفولة أشرف البعلوجي، ويكشف عن جانبٍ من تاريخ أسرته في مدينة بئر السبع المحتلة، وكيف عانت من مأساة اللجوء أثناء النكبة، وما مرَّ بها من المآسي بفعل إجرام الاحتلال، وقساوة الحياة التي أرغمت البعلوجي على العمل صغيرًا في مطبعة، وينهي الفصل بحادثة مقتل أحد التجار الصهاينة في سوق الخضار في غزة، على بعد أمتار من بيت البعلوجي، بعد أن طعنه أحد الفدائيين، في إشارة إلى التحولات التي بدأت تشهدها غزة باتجاه التصعيد ضد الاحتلال.
الانتفاضة في وعي البعلوجي
يرسم الفصل الثاني صورة للانتفاضة الأولى وفعالياتها، وتطور وعي البعلوجي بها، ويصف بشكل واضح دور طلاب المدارس في إشعال المظاهرات، خصوصًا طلاب مدرسة يافا الثانوية، ولا يغفل الإشارة إلى وحشية الاحتلال في التعامل مع المتظاهرين، ويصوِّر بمهارة عالية الأثر النفسي للمواجهة مع قوات الاحتلال على البعلوجي وأقرانه، ثم يشرع في الحديث عن تجربة البعلوجي في العمل داخل الأرض المحتلة عام 1948، مع التركيز على المعاناة التي يكابدها آلاف العمال من غزة الذين كانوا يخرجون كل صباح باتجاه مصانع وورش البناء في مدن وبلدات الداخل المحتل، والتي لم تكن تقتصر على المعاناة الجسدية، بل تخطتها إلى مظاهر من الاستعباد والتعامل الدوني، وقضم الحقوق المادية، وصولًا إلى الاستهتار بأرواح العمال، الأمر الذي زاد في تعبئة البعلوجي ضد الاحتلال.
الإطار التنظيمي
ينتقل أبو إبراهيم إلى مرحلة جديدة من حياة البعلوجي، حين انتظم في إطار تنظيمي فاعل في الانتفاضة، اختار الكاتب أن لا يسميه، وكيف أن البعلوجي لم يجد داخله ما يروي ظمأه، إلى أن انضم إلى حركة حماس، بُعيد اعتقال الشيخ أحمد ياسين ورفاقه في الضربة الكبيرة التي تعرضوا لها عام 1989، حيث عرض نفسه على أحد كوادر الحركة، وبقي ينتظر الجواب، إلى أن أتاه "أبو سليم" ليطلب منه الانضمام رسميًا إلى حماس، ويبدأ بعدها مشوارًا جديدًا من النضال اليومي ضد الاحتلال، إلى أن يصاب برصاصة في خاصرته، تضطره إلى الذهاب إلى المستشفى الأهلي لانتزاعها.
عملية مصنع الألمنيوم 1990
يتناول الفصل الأخير تطور الخيارات النضالية لدى البعلوجي، وصولًا إلى تنفيذه، رفقة زميله مروان الزايغ، عمليتهم في مصنع للألمنيوم في مدينة يافا المحتلة في الرابع عشر من كانون الأول/ ديسمبر عام 1990، إذ تمكن أبو إبراهيم بأسلوب أدبي جذاب، وتحليل دقيق، من الربط بين إجرام الاحتلال بحق الفلسطينيين واختيار البعلوجي لحظةً ختاميةً لسجله النضالي في تلك المرحلة المبكرة من حياته، اتسمت بالتكثيف العالي لمعنى النضال الوطني، وكشفت عن انغماس كلي في المقاومة حد بذل الروح بكل رضا وقناعة.
يبدأ المشهد الأخير من سيرة البعلوجي، كما رواها أبو إبراهيم، حين هاجم أحد المستوطنين بسلاحه الأتوماتيكي عمالًا فلسطينيين في العشرين من أيار/ مايو عام 1990، كانوا متوقفين في إحدى المحطات في منطقة عيون قارة في الداخل المحتل، ثمَّ تبعتها مجزرة الأقصى في الثامن من أكتوبر عام 1990، الأمر الذي أحدث تحولًا في تفكير البعلوجي لطبيعة الصراع مع الاحتلال، باتجاهات أكثر عمقًا وتجذرًا. لقد اتسعت الرؤية لدى البعلوجي، فصاح في داخله: "إنها معركة حضارة، ومعركة عقيدة، ومعركة مصير". ويظهر أبو إبراهيم ببراعة الحوار الداخلي الساخن الذي اجتاح البعلوجي بكليته، وكان في الثامنة عشرة من عمره، ففكَّر في الرد على مجازر الاحتلال، وبدأ في البحث في كل مكان عن هدفه، كما أنَّه اهتم بالبحث عن شريك. كان استهداف "المدنيين" الصهاينة أحد خياراته، ويَظهرُ من تعبيرات أبو إبراهيم أن حوارًا داخليًا كان جاريًا حول مشروعية ضرب "المدنيين" الصهاينة لا ندري مداه، لكنَّه بكل تأكيد اتصف بالجدية عند البعلوجي وأقرانه، ويكشف هذا الأمر عن وعي عميق لدى جيل الانتفاضة، وحسًا عاليًا من المسؤولية الوطنية، وأن مسألة استهداف "المدنيين" لم تكن فعلًا طائشًا وعملًا متهورًا.
لقد قرأ البعلوجي المعادلة بطريقة مختلفة. كان واضحًا لديه، خصوصًا بعد المجازر الوحشية التي كان يرتكبها المستوطنون "المدنيين"، أن الفلسطينيين يواجهون مجتمعًا مسلحًا، لا فرق فيه بين المدني والعسكري، وخلص إلى أن ادعاء التفريق بين الطرفين هدفه "تأمين جبهتهم الداخلية التي أشد ما يؤلمهم الضرب فيها".
يكتب أبو إبراهيم عن اختيار البعلوجي لمروان الزايغ ليكون شريكه في العملية، ويتحدث عن دوافع العملية، ويوثق لمراحل التخطيط، وأسباب اختيار الهدف والتوقيت، وآليات التنفيذ، ويظهر بشكل بديع مشاعر البعلوجي الداخلية، خصوصًا في الساعات الأخيرة قبيل تنفيذه العملية وأثناء التنفيذ، ويرسم للقراء الصور التي جالت بخاطره في هذه الأوقات، ويظهر بكل وضوح تفاصيل مشهد التنفيذ وتداعياته.
خاتمة
جرت حملة اعتقالات واسعة في أعقاب عملية البعلوجي والزايغ طالت قرابة الـ 2000 من قيادات وكوادر وعناصر حركة حماس في الضفة وغزة والقدس، وهي الموجة الكبرى الثالثة من الاعتقالات في صفوف حماس منذ الموجة الأولى في أيار/ مايو عام 1989، وأبعد الاحتلال في وقت لاحق أربعة من قياداتها، في حين أصبح كل من البعلوجي والزايغ مطاردَيْن، وينتهي الكتاب عند لحظة اعتقال البعلوجي في قرية دير غسانة في الضفة الغربية، وايداعه السجن في بدايات شباط عام 1991.
ونحن نختم هذا العرض بملاحظتين: أن الكتاب عن البعلوجي من أوله إلى نهايته، ولكنه أيضًا يشكل شهادة على مرحلة البدايات لجيل كاملٍ من أبناء حركة حماس الذين افتتحوا عصرهم المقاوم بالمشاركة في الانتفاضة الأولى، وبقوا أوفياء لهذه اللحظة التاريخية الفاصلة، وعملوا طوال السنوات السابقة بعزم منقطع النظير على تطوير مقاومتهم حتى وصلوا إلى مرحلة طوفان الأقصى، في تعبير جلي عن استمرارية الانتفاضة حتى يومنا هذا[5].
أمَّا الملاحظة الثانية فتتعلق بالنص؛ إذ أن القارئ لا يحتاج لكبير عناء ليعرف أن النص الأصلي المطبوع لم يخضع للمعالجة أو التحرير المطلوبين، كما أن صفَّه لم يخضع لأي مراجعة أو تعديل، على عكس ما درجت عليه العادة منذ سنوات، حيث تنشغل العديد من المؤسسات الثقافية ودور النشر في تحرير نصوص الأسرى، لتخرج في أبهى حُلَّة من ناحتي المضمون والشكل العام، ونظرًا لأهمية النص، كما هي كل نصوص أبو إبراهيم رحمه الله، فلابد من العمل على إعادة طباعتها بما يليق بها.
[1] أشرف حسن البعلوجي: ولد في حي التفاح في مدينة غزة في السابع عشر من شباط/ فبراير عام 1972. من كوادر حركة حماس في الانتفاضة الأولى. نفَّذ بصحبة مروان الزايغ عملية طعن في مدينة يافا المحتلة أدت إلى مقتل ثلاثة صهاينة. وقد جُرح أثناء العملية، وأصبح مطاردًا لعدة أشهر، إلى أن اعتقله الاحتلال في الخامس والعشرين من شباط عام 1991، وحكم عليه بثلاثة مؤبدات وسبعة أعوام، وقام بهدم بيته. أصبح البعلوجي من كوادر حركة حماس في سجون الاحتلال. أفرج عنه في صفقة وفاء الأحرار عام 2011.
[2] مروان فرج الزايغ: ولد في حي الدرج في مدينة غزة عام 1973، من نشاط حماس في الانتفاضة الأولى، ومن مؤسسي جناحها العسكري في قطاع غزة، ومن أوائل المطاردين. نفَّذ بصحبة أشرف البعلوجي عملية طعن في مدينة يافا المحتلة أدت إلى مقتل ثلاثة صهاينة. ونفَّذ بعدها عددًا من العمليات استهدفت الصهاينة والعملاء. ارتقى شهيدًا مشتبكًا في الرابع والعشرين من أيار/ مايو عام 1992، أثناء تحصُّنه في منزل بحي الصبرة في مدينة غزة برفقة ياسر حماد الحسنات ومحمد قنديل.
[3] اطلعت منشورات فلسطين المسلمة بمهمة نشر عدد من هذه السير والتراجم، كما أن مجلة فلسطين المسلمة تحوي نصوصًا عديدة مشابهة، للتعرف على نماذج من هذه النتاجات، يمكن الرجوع إلى كتابات غسان دوعر.
[4] دشَّن هذا النوع من العمليات أثناء الانتفاضة الأولى الفدائيان نضال زلوم (مدينة البيرة) وعامر أبو سرحان (بلدة العبيدية)، حيث أقدم الأول على تنفيذ عملية طعن في مدينة القدس المحتلة في الثالث من أيار/ مايو عام 1989، ونفَّذ الثاني عملية أخرى في المدينة ذاتها في الحادي والعشرين من تشرين أول/ أكتوبر عام 1990، ثم توالى سيل من العمليات المشابهة.
[5] صك إبراهيم حامد مصطلح "الانتفاضة مستمرة" للتعبير عن استمرارية الفعل الحمساوي المقاوم منذ الانطلاقة في كانون أول عام 1987 حتى يومنا هذا.