كمال عدوان.. الفلسطيني الحي.. الفلسطيني المقاتل

كمال عدوان.. الفلسطيني الحي.. الفلسطيني المقاتل
تحميل المادة

على سبيل التقديم...

يتناول كتاب "كمال عدوان رجل في ثورة.. وثورة في رجل"[1]، قصة حياة كمال عدوان وسيرته النضالية مع جماعة الإخوان المسلمين وحركة فتح ومنظمة التحرير، وهو من تأليف أحمد عزم، وصادر عن المركز العربي في الدوحة عام 2024. والكتاب نتاج دراسة طويلة (455 صفحة)، توزعت على ستة عشر فصلًا، وزُوِّدت بملحق للوثائق والصور، وفهرسٍ عامٍ للإعلام والأماكن والموضوعات.

كمال عدوان والعمل في صفوف الإخوان المسلمين

بدأ كمال عدوان سيرته النضالية مع جماعة الإخوان المسلمين، وهو ابن ستة عشر ربيعًا أي منذ عام 1951، في وقتٍ كانت الجماعة تملك حضورًا لافتًا في قطاع غزة، مبني على سجلٍّ قتاليٍ مشرِّفٍ في حرب عام 1948، وشعارات تَعِدُ باستمرار المقاومة، وكوادر أبقوا على نشاطهم رغم الهزيمة، سيما كامل الشريف، الذي تمكَّن من استئناف المقاومة المسلحة انطلاقًا من القطاع، وقيادات إخوانية مصرية استقرت في غزة مثل الضابط عبد المنعم عبد الرؤوف والقياديان مأمون الهضيبي ومحمد الغزالي.

 ووفق المؤلف، فقد التحق كمال عدوان بـ "أسرة الفداء" مع سعيد المزين وغالب الوزير، ونفَّذ نشاطات دعوية وثقافية ووطنية[2]، ومارس نشاطًا طلابيًا أثناء دراسته الجامعية في مصر ضمن رابطة طلبة فلسطين، ونشاطًا نقابيًا عندما شارك في تأسيس نقابة المعلمين الفلسطينيين (معلمي الأونروا)، وشارك أيضًا في المقاومة الشعبية أثناء احتلال القطاع عام 1956.

كان مسؤوله المباشر في الجماعة القيادي حسن عبد الحميد، وفي الوقت ذاته ربطته علاقة بالقيادي فتحي البلعاوي، إذ تأثَّر كثيرًا بتنظيراته، وكانت تجربته في الإخوان الأولى في العمل العام، والمعمل الأول الذي ولدت فيه أفكاره السياسية ونمت تطلعاته الوطنية، وقد كشفت عن شخصيةٍ حادة الطبع، ومندفعة، ترى أن مكانها المناسب في موقع القيادة.

 وحسب المؤلف، فقد تنبَّه كمال عدوان في هذه المرحلة إلى أهمية التركيز على الهم الفلسطيني[3]، ورَفْض الدخول في معارك جانبية مع المحيط العربي، وضرورة "تجاوز التعصب الأيديولوجي الحزبي، والعمل المشترك مع مختلف التيارات الفكرية والعقائدية"[4]، وقد دفعت هذه الخلاصات كمال عدوان إلى ترك الإخوان، والبحث عن البديل الفلسطيني، وللحقيقة فإن بعض ما ذُكر لا ينسجم مع الواقع الميداني الذي يشير بما لا يدع مجالًا للشك بأن الإخوان، وإن كان تأثروا بالطبيعة الحادة للعلاقات بين الحركات والأحزاب الفاعلة داخل القطاع في تلك المرحلة، فإنَّهم لم يرفضوا العمل معها من ناحية المبدأ، وقد فعلوا ذلك في محطتين هامتين من العمل النضالي وهما الانتفاضة ضد التوطين عام 1955 والمقاومة الشعبية ضد احتلال القطاع عام 1956، ولم يكن خلافهم في العمل مع الشيوعيين على سبيل المثال عام 1956 بسبب أيديولوجيتهم، وإنما بسبب خياراتهم النضالية التي عارضها الإخوان وفي مقدمتهم كمال عدوان، كما عارضها غيرهم، وإذا كان الأمر كذلك، فما هي بالتحديد الأسباب الحقيقية التي أدت إلى انفصاله عن الإخوان؟ هنالك أكثر من نقطة في هذا المضمار، يأتي في مقدمتها الانعكاسات السلبية لهزيمة عام 1948 التي طالت كل الأجسام التنظيمية بما فيها تلك التي تَصَوَّر الناس أنَّها أدت واجبها في القتال، ثم تراجع قوة الإخوان التنظيمية بسبب صعود خلافهم مع عبد الناصر، وشخصية كمال عدوان الشبابية وما تحمله من الحدِّية والانفعالية[5]، ومعارضته الشديدة لبعض القرارات التنظيمية للجماعة[6]، وكثرة خلافاته مع أقرانه.

وذَكَرَ المؤلف أن كمال عدوان استقال من الإخوان عام 1954، ولكن تسلسل الأحداث بعد هذا التاريخ لا يؤيد حدوث الاستقالة في ذلك العام، إذ أعاد نشاطه تحت مظلة الإخوان في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين، لذا تبدو الأمور أقرب إلى الكسل التنظيمي أو النفور المؤقت من العمل العام أو الانشغالات الشخصية، كما أن عملية الانسحاب من صفوف الإخوان والتي أصبحت ظاهرة مقلقة لهم أواخر خمسينيات القرن العشرين وبداية ستينياته، كانت تدريجية وغير منظمة وغالبًا ما كانت هادئة وشخصية، بحسب ظروف وقناعات وعلاقات كل عضو وبيئتة[7]. أمَّا تعبير كمال عدوان عن شدة العداء بين الإخوان وفتح بداية الستينيات، كما نقله المؤلف، فعائد أساسًا إلى مسألة سحب فتح لعدد كبير من عناصر الإخوان، وبروز ظاهرة ازدواجية العضوية التي حسمها في وقت لاحق قرار الإخوان الفلسطينيون بعدم قبول ازدواجية الانتماء.

 كمال عدوان.. المساهمة في تأسيس حركة فتح  

يقدِّم الكتاب شرحًا تفصيليًا لمرحلة تأسيس حركة فتح وصياغة مبادئها الرئيسة، ودور كمال عدوان فيها، ويُظهِر أنَّه كان جزءًا من التفاعلات التي قادت إلى تأسيس الحركة، ويشير إلى أن الأفكار الرئيسة التي تبنتها والخطوط العامة التي حكمت انطلاقتها، كانت في صلب خلاصاته منذ خمسينيات القرن العشرين، بما فيها مقولاتها التأسيسية التي تضمنت "العمل من أجل فلسطين، والسمو فوق الأيديولوجيات، والتخلي عن الأحزاب والحزبية، وعدم التدخل في شؤون الدول العربية، وتأسيس تنظيم مقاتل، وإنشاء الكيان الفلسطيني الممثل للفلسطينيين وتطلعاتهم"، بالإضافة إلى فكرة الكيان المستقل، والجمهورية الفلسطينية " في الأراضي غير المحتلة حينها، أي الضفة الغربية وغزة".

 افتتح المؤلف السيرة العملية لكمال عدوان في مرحلة التأسيس بلقاء جمعه مع سعيد المسحال وعبد الفتاح الحمود عام 1956، إذ صاغ ثلاثتهم بيانًا أكدوا فيه على "ضرورة الوحدة الفلسطينية وتأسيس حركة تجمعهم"، تلا ذلك تعدد الحوارات واللقاءات، منها لقاء القاهرة عام 1957 الذي ضم عشرين شابًا بما فيهم سعيد المسحال وعبد الفتاح الحمود وياسر عرفات وزهير العلمي وإبراهيم النجار وسليم الزعنون وكمال عدوان، وقد ناقش المجتمعون حينها اقتراح إنشاء حركة جديدة، وأوكل للزعنون صوغ الأفكار في نص واضح، ثم أثير الموضوع مجددًا في جلسة في مقهى الليدو في قطاع غزة في صيف عام 1957 ضمت سعيد المسحال وخليل الوزير وكمال عدوان، وقد أقسم الثلاثة على تحرير فلسطين.

 إن مشاركة عدوان في هذه الحوارات وتبنيه المبكر للأفكار الرئيسة التي برَّرت فيها الحركة انطلاقتها، سمحت له بالادعاء بأنَّه كان مشاركًا رئيسًا في التأسيس، ويعضد هذا الادعاء قول المسحال بأنَّه والحمود وعدوان كانوا الآباء المؤسسين، والأقرب للحقيقة – كمال خَلُص المؤلف- هو أن الحراك الكبير الذي شهدته التجمعات الفلسطينية في فلسطين وخارجها في تلك المرحلة، ومن ضمنها حراك المجموعات التي أسست الحركة خصوصًا تلك المتواجدة في الكويت وبغداد وقطر وغيرها، سمح لكثيرين بالقول بأنَّهم المؤسسين أو على الأقل من جيل التأسيس.

ورغم الدور الظاهر الذي لعبه كمال عدوان في هذه المرحلة، كما تبيَّن أعلاه، إلا أن بعض المعطيات تشير إلى أن بعض رموز الحركة كانوا سبقوه خطوة أو خطوات. فعلى سبيل المثال كان كمال عدوان مقيمًا في قطر وكانت علاقته مع خليتها[8] باردة، على الرغم من أن هذه الخلية نشطت بشكل لافت في مرحلة التأسيس، ويبدو أن ابتعاده عن الخلية كان جزءًا من الأسباب التي دفعت البعض للاعتقاد بأنَّه ليس ضمن قائمة المؤسسين الرئيسيين، وهذا يُفسر جزئيًا عدم انضمامه للجنة المركزية الأولى، مع عدم اغفال وجود صراع على المواقع القيادية أدى إلى تنحيته، خصوصًا مع شهرة خلافاته مع الأعضاء المؤسسين، أمَّا ما أورده المؤلف من تبريرات خليل الوزير لاستبعاد كمال عدوان عن المركزية، فلا تعدوا كونها مجرد تبريرات.

إن تتبع نشاطات كمال عدوان في مرحلة التأسيس يدفعنا إلى الاعتقاد بأنَّه كان شخصية مبادرة، ومتجاوزة للوائح التنظيمية، ولعل ذلك عائد إلى طبيعة فتح التي كانت تسمح بالمبادرات الفردية، وفي حال نجاحها تتبناها، ومنها مشاركته في المؤتمر الوطني الأول الذي شهد تأسيس منظمة التحرير عام 1964، وقد حصل على عضوية المؤتمر "باتصالاته الشخصية وعلاقاته ورغبته في العمل" ولم تكن الحركة قد اختارته، لكنها عادت وباركت مشاركته، كما أنَّه استقال من عمله في قطر، وغادر إلى الأردن ليتفرغ في الحركة دون استشارة أحد، ودون انتظار قرار من القيادة[9].

كمال عدوان... مرحلة الأردن وصعود دوره في النضال الوطني

بدأ عدوان نشاطه داخل حركة فتح بتكليف رسمي بنشر التنظيم في مصر، كما شارك في تشكيل أول لجنة تنظيمية في منطقة الخُبر في السعودية وكان مسؤولها الإعلامي عام 1961، ولاحقًا عُيِّن ضمن لجنة "مراقبة الانطلاقة" لمراقبة أداء أبو عمار في تحضيره للانطلاقة عام 1965، ثمَّ بدأت مرحلة الأردن، وقرَّر الانتقال إلى عمان والتفرغ في الحركة، جاء ذلك بعد وفاة صديقه عبد الفتاح الحمود مسؤول التنظيم في الأردن. وصل كمال عدوان إلى الأردن في أيلول/ سبتمبر عام 1968، ويبدو أنَّه كان يسعى لتولي مسؤولية التنظيم، مدفوعًا بحيوية الساحة الأردنية ومستقبلها الواعد، لكنَّ صخر حبش تمكَّن من كبح جماح طموحه، وربما لصالح آخرين، وأقنعه بأن يعمل في الإعلام، ومنحه اسمه الذي اشتهر به لاحقًا "كمال عدوان"[10].

 أصبح كمال عدوان في مرحلة الأردن نائبًا لمفوض الإعلام والعلاقات الخارجية، وتمكَّن من قيادة إعلام فتح. عمل وقتها مع مجموعة من كوارد فتح اليساريين مثل ناجي علوش، وماجد أبو شرار، ومنير شفيق، وأحمد الأزهري، ومحجوب عمر، ونزيه أبو نضال، وحنا مقبل، وحنا مخائيل، وحسب المؤلف، فإنَّه كان حاضنة لليساريين القادمين لفتح، كما كان أبو جهاد حاضنة للإسلاميين القادمين إلى فتح.

 امتازت فتح بمرونتها، فلم يكن المنصب الرسمي حاجزًا أمام المبادرين في العمل في قطاعات أخرى، وهذا جزء من حيويتها، لكنَّه جزء من فوضاها أيضًا، من هنا أدار كمال عدوان معسكرات فتح في الأردن تطبيقًا لفكرته حول "بناء الكادر من نقطة الصفر" وإعداده ثقافيًا وسياسيًا وعسكريًا. أنشأ معسكر 99، ومعسكر 199، والمعسكر الأوروبي "معسكر التضامن الدولي"، وشارك في وفود دولية تابعة للحركة زارت أكثر من دولة عام 1969 منها الصين وفيتنام. لقد كان متفائلًا لدرجة أنَّه قال يومًا: "نحن حركة تحرير العالم وليس فلسطين فقط"ـ

كان كمال عدوان في ذلك الوقت يُنظِّر للحل الجزائري، وما يعنيه من منع وجود فصائل أصغر وتوحيدها قسرًا، ومنعها من العمل مستقبلًا، وأن "فتح هي الثورة الفلسطينية"، لكن الرياح لم تجر وفق أشرعته، فعملت الحركة على تولي قيادة التعددية الفصائلية وتوجيهها، وأسست "المكتب الدائم لمؤتمر المنظمات الفدائية" بداية عام 1968، وسعت من خلاله ليكون مركزًا لقيادة منظمة التحرير.   

نما الإعلام الفتحاوي في مرحلة الأردن، وازدادت نشرات فتح حتى بلغت 26 إصدارًا بلغات أجنبية، وأصدرت الحركة صحيفة فتح عام 1970، ويلفت النظر أن قرار الإصدار- كما يصف المؤلف- كان سريعًا واتخذ في يوم واحد، على خلفية تغطية وقائع المسيرة الضخمة ضد مشروع روجرز، ورغم ما يُظهره ذلك من حيوية، إلا أنَّه ينم عن ارتجالية في العمل، صبغت الكثير من مبادرات الحركة. لقد أصبحت الصحيفة واسعة الانتشار وصارت تصل سوريا ولبنان، حتى أنَّها غدت ناطقة باسم اللجنة المركزية لفصائل منظمة التحرير، رغم أنَّها من إصدارات فتح، وقد تحولت عام 1971 إلى مجلة أسبوعية، إلى أن أوقفت في أيار 1972. وفي نفس المرحلة أُنشئت محطة زمزم 105 في جبل الأشرفية، وتأسيس وكالة وفا عام 1971.

لقد كان كمال عدوان جزءًا من القيادة التي أدارت المواجهة مع النظام الأردني عام 1970، وشارك في المفاوضات بين المقاومة والنظام لترتيب العلاقة بين الجيش الأردني والمقاومة في بداية عام 1971 بوساطة عربية في السفارة التونسية، ونظَّر في حينه لصالح خطة نقل سلاح المقاومة إلى أحراج جرش، وذهب إلى عمان وبدأ بجمعه، ثم أصبح جزءًا من قيادة الأحراج.

ويبقى أن نقول إنَّ كمال عدوان بقي في مرحلة الأردن على طبعه الحدِّي والمباشر الذي ميَّز شبابه المبكر، ظهر ذلك جليًا في أكثر من موقف، كما في معالجته الإعلامية لقبول مصر مشروع روجرز، ونقده اللاذع لدور الجبهة الشعبية في أحداث الأردن[11]، واتهامه لها بارتباطها بالسلطة الأردنية.

كمال عدوان في لبنان.. التبشير بالفلسطيني المقاتل في الأرض المحتلة

أصبح كمال عدوان في مرحلة لبنان واحدًا من الصف القيادي الأول في حركة فتح، خصوصًا بعد انتخابه عضوًا في اللجنة المركزية للحركة في المؤتمر الثالث عام 1971، وتسلَّمه مسؤولية القطاع الغربي، كما بقي يدير جزءًا أساسيًا من إعلام الحركة والمنظمة.

كان القطاع الغربي جهازًا فتحاويًا أوكلت له مسؤولية الأرض المحتلة، وقد استلمه كمال عدوان وهو يعاني خللًا في البنية وفي الاستراتيجيات، خصوصًا بعد فشل تجربة تثوير الداخل التي قادها أبو عمار بعيد هزيمة عام 1967، ما سرَّع في اعتبار الخارج مركز المقاومة. كان الغربي فقيرًا بالموارد والكوادر والعناصر، وحكم عمله "عقلية المقاولة"، فلما تولى مسؤوليته عام 1971 أخضعه لفلسفة عمل جديدة تقوم على "إدخال الثورة في البناء الاجتماعي وشخصية الإنسان قبل انطلاق العمليات النضالية"، وبدأ بإعادة بنائه تمهيدًا لعمل مقاوم صلب ومؤثر، فأوجد له "مجلس إدارة بمهمات سياسية وفكرية وثقافية، بالتوازي مع لجان المناطق المسؤولة عن العمل الفدائي الميداني"، وأعد خطة للإعداد الفردي "لتدريب الشباب من الطلاب الفلسطينيين الذين غادروا للدراسة"، ووسَّع لجانه، بإضافة لجنة التنظيم، واللجنة العسكرية، ولجنة التنظيم الطلابي، واختار طاقمًا للعمل ضم نائبه صخر حبش، وأبو نائل القليلي مسؤول التدريب، ومنير شفيق مسؤول الدراسات والشؤون السياسية، وصبحي أبو كرش مسؤول الشؤون المالية، وحنا ميخائيل مسؤول شؤون التنظيم والإعداد والتثقيف.

 وكان في جوهر اهتمام كمال عدوان المجتمع الفلسطيني في الداخل المحتل، وسُبل تطوير قدراته ليكون مجتمعًا ثوريًا، فدعا إلى بناء مؤسسات ثقافية واجتماعية وتعليمية ذات طابع ثوري، ونتج عن ذلك تأسيس جريدة الفجر، والإشراف على افتتاح مدارس وكليات، ودعم مشاريع اقتصادية، ووفق المؤلف، فقد تحول الغربي في عهد كمال عدوان إلى مرجعية سياسية وثقافية واقتصادية للأرض المحتلة، ومع ذلك فقد بقي هذا الغربي بعيدًا عن مركز اهتمام قيادة م.ت.ف حتى ثمانينيات القرن العشرين، وتأثر كثيرًا بالصراع على المراكز والموارد داخل حركة فتح ومنظمة التحرير، الأمر الذي يفسِّر تواضع العمل الثوري في الأرض المحتلة حتى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى أواخر عام 1987.  

كمال عدوان.. العقل السياسي المقاوم 

بدأ كمال عدوان مسيرته النضالية وتحرير فلسطين التاريخية هو الهدف والمبتغى، وهذا يعكس موقفه المبكر الرافض للتعاون مع الشيوعيين وأنصار السلام من "الإسرائيليين"، وقد كان يتساءل "هل يعني هذا أنهم يعتبرونك مولودًا غير شرعي لأن أمك وضعتك في الرملة العربية؟ والرملة في نظرهم يهودية من قبل أن يسكنها أي يهودي"، ورغم انفتاحه على اليسار الأوروبي والحوارات التي أجراها مع العديد من الشخصيات حول العالم، إلا أنَّه بقي أصيلًا في موقفه، ويبدو أن قناعة أبو نائل القليلي المبكرة (1972) حول إيمان كمال عدوان بالتسوية لم تكن صحيحة[12]، وربما تسرَّع في تصور موقفه، متأثرًا بموقف آخرين في اللجنة المركزية بدأوا حقًا في التنظير للتسوية، على إثر الخروج المحزن من الأردن، فهنالك الكثير من الإشارات التي تؤكد أنَّ كمال عدوان كان ضد التسوية بكل أشكالها، ومنها موقفه الجذري من مشروع روجرز الذي عبَّر عنه في إصدارات فتح والمنظمة، وقد قال قبل وقت قصير من استشهاده "الثورة الفلسطينية تضع معادلة: استمرار الثورة يعني لا تسوية، تمرير التسوية يعني تصفية الثورة الفلسطينية"[13]، وكتب عن ضرورة أن لا ترتبط الدولة الفلسطينية المحررة بأية تسوية. لقد كان عدوان، كما أكَّد منير شفيق، ضد كل التسويات، وركَّز على ضرورة نسف عقلية التسوية، لأنها أساس العلة في العقل السياسي الفلسطيني والعربي، وقد كتب في كانون الثاني عام 1973، "إن الجهد الرئيسي للثورة يجب أن يتركز في العمل الآن لإسقاط العقل العربي الذي يقول بتصفية الاحتلال بالتفاهم أو الاتفاق معه، والعودة بالعقل العربي من إطار التسوية إلى أجواء القتال. لابد من خلق سلسلة الحقائق القتالية التي تقود إلى هذا، وتجعله واقعًا لا خيار منه... إن الذين يقفون في الصف المعادي يدركون أن تصفية الوجود الفلسطيني مرهون بخنق إرادة القتال عند الإنسان الفلسطيني"،  وكتب قبيل استشهاده بأيام أن "إسرائيل" قاعدة للاستعمار في منطقتنا وعلينا " تصفية وجود هذه القاعدة من منطقتنا نهائيًا" وأن "الكفاح المسلح من خلال حرب الشعب طويلة الأمد هو أسلوب المواجهة الوحيد"، وانتقد الموقف الرسمي العربي الذي يبحث عن وهم الأمن الإقليمي، فقال هازئًا (كأنَّه اليوم): "نريد أن نسوي الخلاف بالتفاهم لنؤمِّن حدودًا مصرية وأردنية وسورية ولبنانية على الحساب الفلسطيني.. "خذوا الي بدكم إياه" المهم الأمن الإقليمي المصري، الأمن الإقليمي الأردني، الأمن الإقليمي السوري، الأمن الإقليمي اللبناني، أمَّا ثمن هذا الأمن الإقليمي في المنطقة العربية، فيدفع من الرصيد الفلسطيني".

لقد وقف كمال عدوان ضد الحلول المنبثقة عن عقلية التسوية، وبما فيها فكرة السلطة تحت الاحتلال، ومشروع "المملكة العربية المتحدة"، وربما كان تأكيده على ضرورة مجابهة هذه العقلية واسقاطها ومنعها من تنفيذ مشاريعها التصفوية عاملًا رئيسًا في الدفع لاغتياله.

كمال عدوان شهيدًا.. خاتمة تليق بقائد

ارتقى كمال عدوان مع أبو يوسف النجار وكمال ناصر في عملية اغتيال نفذتها "إسرائيل" في شارع فردان في بيروت في ليلة التاسع - العاشر من نيسان/ إبريل عام 1973. بات كمال عدوان ليلته في منزله في انتظار يحيى عاشور وهايل عبد الحميد أبو الهول وهاني الحسن، لكنَّ الاحتلال كان أسرع في الوصول إليه. شارك في عملية اغتيال القادة الثلاثة سبعون فردًا من جيش الاحتلال وجهاز الموساد، يقودهم أيهود باراك. حاول كمال عدوان التصدي للمهاجمين، لكنَّ أمتاي نحماني، أحد أعضاء فريق الاغتيال، نال منه بيديه الآثمتين، فصعدت روحه إلى السماء، بينما كان احتضانه لكلاشنكوفه الصورة الأخيرة التي ختم بها حياته.  

لقد استغرق الإعداد والتجهيز لعملية "ربيع الشباب" المجرمة أشهرًا. دُرب المنفذين في بناية مماثلة للتي سيهاجمونها في بيروت، واختيرت مناطق في شمال الضفة الغربية وفي "تل أبيب" للتدريب، شارك في العملية عملاء لبنانيون في مقدمتهم كلوفيس فرنسيس، والجاسوسة اليهودية يائيل مان التي تنكرت بزي صحافية ودخلت لبنان قبل ثلاثة أشهر من العملية، وسكنت بالقرب من شقق القادة الثلاثة. ووفق التفاصيل الغزيرة التي أوردها المؤلف، فقد ظهرت إشارات إلى أن هنالك ما يُدبَّر لكمال عدوان، فقد لاحظت عائلته أن شقتهم مراقبة، ووصلت قبل الاغتيال رسالة من أسرى سجن عسقلان، تشير إلى استجواب مخابرات الاحتلال لبعض السجناء حول مكان سكن عدوان وشكله وتحركاته اليومية، ولكنَّ أيًا من الاحتياطات لم تُتخذ، فكان أن تمت عملية الاغتيال كما خطط لها العدو.

خاتمة

جسَّدت سيرة كمال عدوان، ابن قرية بربرة المهجَّرة، تجربة جيل من المناضلين الفلسطينيين الذين خرجوا من ركام النكبة، ورفعوا صوتهم عاليًا ضد محو فلسطين، وإبادة شعبها، وسيرته كما الكثير من أقرانه من فدائيي ما بعد النكبة، مليئة بالتحولات، والصراعات، وأشكال الصعود المبشِّر والهبوط المقلق. إنَّها سيرة من لحم ودم، جُبلت بالحسرات والدموع، وخطتها روح حادة الطبع ومندفعة نحو هدفها دون اكتراث بالأثمان الشخصية حتى لو كانت الاستشهاد في ساحة المواجهة. 

اغتال الاحتلال كمال عدوان فقطع الطريق عليه، وحرمه من المشاركة في رسم معالم المراحل اللاحقة، ومن يدري، لو أطال الله في عمره، وإخوانه الشهداء، لساهموا في إنضاج تجربة الحركة الوطنية، وربما حققوا بعض الإنجازات الاستراتيجية لشعبهم ولقضيتهم العادلة، ومنعوا تحول خيارات منظمة التحرير إلى الانحياز للتسوية والغرق في مستنقعها والعجز عن توليد البدائل النضالية المناسبة التي تحفظ للفلسطينيين حقوقهم وتطلعاتهم، وربما أن استشهاده منع انزلاقه نحو هذه المتاهات، كما انزلق بعض رفاق دربه، فبقي سجلَّه طاهرًا وسيرته نظيفة. رحم الله أبا رامي وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة.   


[1] يشبه عنوان الكتاب عنوان مقالة رثائية نشرها فاروق القدومي في مجلة شؤون فلسطينية العدد 21، أيار 1973، تحت عنوان "كمال عدوان رجل في ثورة وثورة في إنسان".

[2] يورد محسن محمد صالح في نصه الأثير "الإخوان المسلمون الفلسطينيون التنظيم الفلسطيني – قطاع غزة (1949-1976)" أن كمال عدوان كان عنصرًا في شعبة رفح، وهي من أنشط شعب الإخوان في القطاع وكان فيها أبو يوسف النجار. ويعطي تفاصيل عن نشاطه في تلك المرحلة.

[3] استلهم هذه الفكرة من القيادي الإخواني فتحي البلعاوي.

[4] الجمل التي تقع بين هلالين في هذه المراجعة هي اقتباس مباشر من الكتاب.

[5] تأثرت نفسية كمال عدوان سلبًا بطبيعة الواقعين الاقتصادي والاجتماعي اللذين عاشهما في مرحلة الخمسينيات من القرن العشرين، وقد كرَّر المؤلف الإشارة لذلك في الكتاب. 

[6] انظر مثلًا موقفه من إبعاده عن متابعة قضية أموال التبرعات ومصيرها، وتكليف شخص آخر بدلًا منه، بالإضافة إلى قرار آخر يتعلق بتجميده لمدة شهرين.  

[7] هذا الرأي مقتبس من خلاصات المؤرخ محسن محمد صالح.

[8] ضمت الخلية أبو يوسف النجار، وعبد الله الدنان، وغالب الوزير، ومحمود المغربي، ومحمود عباس وآخرين.    

[9]  ظلت هذه الصفة ملازمة لفتح حتى بعد أوسلو، فعلى سبيل المثال. كان لافتًا أن قيادات فتحاوية ترشَّحت للتشريعي دون رضى الحركة، ولما فازت تبنتها وأصبحت جزءًا من كتلتها النيابية.  

[10] اسمه الحقيقي أحمد كمال عبد الحفيظ علي عدوان.  

[11] لا نقصد هنا جملة الملاحظات النقدية وإنما في التعبير عنها إعلاميًا، وفي تطرف بعض خلاصاته.

[12] أورد المؤلف هذه القناعة في معرض كلامه عن أخلاق كمال عدوان الثورية، وكيفية تعامله مع ادعاءات بعض الكوادر.

[13] هذا الاقتباس حول موقفه من التسوية والاقتباسات التي تليه من مجلة شؤون فلسطينية.