كيف أصبحت البطريركية اليونانية أكبر ملاك أراضي فلسطين؟ (1) .. القلعة داخل البلاط العثماني ..

كيف أصبحت البطريركية اليونانية أكبر ملاك أراضي فلسطين؟ (1) .. القلعة داخل البلاط العثماني ..
تحميل المادة

كصفائح تكتونيّة عنيفة يتصادم بعضها ببعض فَيُؤَسَّس لمشاهد عمرانية واجتماعية جديدة، كانت الأحداث التي عصفت بالبطريركيّة اليونانية للكنيسة الأرثذوكسيّة في فلسطين، حيث أسفرت أقلّ التفاعلاتِ من جهتها عن واقع اجتماعي اقتصادي مختلف في كل مرّة.

يشير المؤرخون إلى البطريركيّة اليونانيةِ باسمِ "القلعة"، وهو وصف واقعي بقدر ما هو مجازي، بالأخص إن علمنا أنها بحلولِ نهايات القرن التاسع عشر كانت أكبر مالكٍ غير حكومي للأراضي في فلسطين، وقد كانت هذه المعلومة وحدها لافتةً بما يكفي لتحريك الحفر في الديناميّات التي مكّنت البطريركيّة اليونانية اليوم من مراكمة هذا الحجم المهول من الأراضي والعقارات الضروريّة لتأمين وضعها لاعبًا أساسيًا في المشهد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لمدينة القدس طوال القرنين الماضيين.

يبلغ[1] تعداد الأملاك الموقوفة على الكنيسة المقدسية الأرثذوكسيّة، حسب قائمةٍ سلّمتها البطريركية اليونانية لسلطات الانتداب البريطاني عام 1921م ما مقداره 631 وقفًا، ما بين كنائس وأديرة وأراضٍ لا تدركها الأبصار، وتقدّر مساحة ما عُرف منها حتّى الآن بحواليّ 37000 دونم، منها حواليّ 317 دونمًا داخل أسوار البلدة القديمة من أصل 900 دونم هي مساحة البلدة القديمة، فيما يشير سليم تماري، الباحث وعالم الاجتماع المقدسي، إلى أنَّ عدد أوقاف الكنيسة اليونانية الأرثذوكسية مع تلك الروسيّة في القدس، يزيد على الأوقاف الإسلامية والكاثوليكية واليهودية مجتمعةً.

بدأت البطريركيّة مع بدايات القرن العشرين تتصرّف ببيعها أو إِحكارها (إيجار طويل الأمد) للمنظّمات الاستيطانية لقاء أثمانٍ زهيدة.

وفي القرن التّاسع عشر، بلغت ديناميكية شراء الأراضي هذه حدًّا لافتًا دفع جيمس فين القنصل البريطاني في القدس للتعليق بالقول إنَّ البطريركية "إلى جانب أنّها احتفظت بالأملاكِ القديمة دونما تفريط .. قد اتّبعت لعدّة سنواتٍ مخططًا من الاستحواذات على المنازل والمحال التجارية والأراضي أو حتى أجزاءٍ من هذا النوع من الأملاكِ أو ذاك داخل المدينة بلا تمييز، حتى بات يُعتقد أنّ ما يزيدُ على نصيب الرُّبع مما هو داخل أسوار البلدة القديمة قد وقع بين أيديها كملكٍ صرف". يُضاف إلى ذلك الاستحواذات الضخمة من أراضٍ خارج السور القديم، وأوقافٍ من أبناء الرعيّة العرب استولت عليها البطريركيّة لأسباب سنفصّل فيها لاحقًا، وكان الاستحواذ مقرونًا بالعمل المستمرّ على تحسين العقارات ورفع قيمتها، بفضل التخطيط العمراني وعمليات تحديث القطاع الزراعي في القرن التاسع عشر، على نحوٍ غيّر وجه المدينة وطابعها العمراني. 

بطريركية الروم الأورثوذكسية

 

أثينا تأكل قلب القدس

ولكي نفهَم كيف تمكّنت البطريركيّة اليونانية من الاستحواذ على كل هذه الأملاك، علينا أولًا أن نفهم لماذا تَحكُم بطريركيّة يونانيّة كنيسةً عربية.

أُعلنت الكنيسة الأورشليميّة بطريركيّةً في المجمع المسكوني الرابع "مجمع خلقيدونية" عام (451 م)، بإيعازٍ من الإمبراطور الروماني مارقيان. حينما تتحول كنيسة إلى بطريركيّة فهذا يعني أنّها باتت جسمًا إداريا يُشرف على عدد ضخم من الرعايا والكنائس والأديرةِ في إقليم جغرافي معيّن، والذين تتطلب خدمتهم جسمًا مركزيًّا يمثّلهم ضمن إقليمهم الجغرافي. ومع إعلان بطريركيّة القدس، صارت هناك أربع بطريركيّاتٍ للكنيسةِ الأرثذوكسيّة الأقدمِ في العالم. كانت بطريركية القسطنطينية العاصمةَ الدينية للإمبراطورية البيزنطية، فيما تبعت بطريركيّةَ الإسكندرية كلُّ كنائس إفريقيا، أمّا أنطاكية التي انتقل كرسيّها إلى دمشق فتبعتها كل كنائس الشرق. لم تكن القدس تندرج تحت أي من مواصفات النفوذ الديموغرافي هذه، لكن تحويلها إلى بطريركيّة تتبع القسطنطينية كان لفتة رمزية هدفت إلى تثبيت سلطان الإمبراطوريّة الرومانيّة على المدينة المقدّسة خلال فترة من الصراع المحتدم بين الكنائس على مسائل تقع في صلب العقيدة المسيحية.

تأسست بطريركيّة القدس على الرهبانية الديريّة، حيث شكّلت الأديرة فيها مراكز قوة سياسية واقتصادية وضعت نصب أعينها استصلاح الأراضي والاستحواذ عليها، مع إعادة استثمار العائدات والضرائب في اكتساب مزيدٍ من النفوذ السياسي داخل البلاط الحاكم، وتحسين شؤون الرعيّة وخدمتهم. وقد لعب البطاركة والأساقفةُ والرهبان ضمنها أدوارًا تتجاوز الديني إلى السياسي والديبلوماسي، مثلما حدث في استقبال البطريرك صفرونيوس الدمشقي الخليفة عمر بن الخطاب عقب فتح المدينة المقدّسة في نهايات نيسان/ إبريل لعامِ 637م. وقد ظلّت البطريركية المقدسية عربيةً خالصةً بأعضائها من البطاركة والأساقفة والرهبان حتى استيلاء الفرنجة على فلسطين ومن ثمّ استعادتها في أعقاب هزيمتهِم على يد الناصر صلاح الدين الأيوبي عام 1099م، وظلّ الحال على ما هو عليه خلال فترة الحكم المملوكي وسنوات الحكم المصري إلى بدايات العهد العثماني.

وفي 29 أيّار/ مايو لعامِ 1453م، دانت القسطنطينية للجيوش العثمانية وفُتحت على يد السلطان "محمد الفاتح"؛ ورغبةً منه في إحكام سيطرته على الرعايا المسيحيين الأرثذوكس الذين شكّلوا أغلبيةً ساحقةً في بقاع الإمبراطوريّة الرومانية السابقة، لا سيما في مناطق البلقان، أُعيد[2] دورُ بطريركيّة القسطنطينية ممثَلةً بأعضائها من رهبانِ الفنار اليونانيين بحيث لعبت دور السلطة الدينية المركزية على الرعايا المسيحيين الأرثذوكس، والبطريركيات الثلاث الأخرى التي خضعت لعمليات يوننةٍ متفاوتة المستوى، وذلك عبر نوعٍ من المطابقة المختلقة بين المذهب الأرثذوكسي وبين متخيّل قوميّ هيليني يوناني، يَنظر إلى كل ما هو أرثذوكسيّ بوصفه إرثًا يونانيًا تنبغي استعادته وتطويبُه باسم الأمة الإغريقية.

وأُطلق على الرعايا الأرثذوكس في ربوع السلطنة عربًا وبلقانًا لقبَ[3] "الروم" إيذانًا بانتسابهم الديني والاجتماعي إلى كنيسة "روما الجديدة" أي القسطنطينية، بوصفهم كتلةً اجتماعيةً وسياسيةً واحدةً يحكمهم بطريرك القسطنطينية ويديرُ شؤون دينهم ودنياهُم. وقد انسحبت آثار عمليّة المركزة هذه على بطريركية القدس، وتُرجمت إلى تدخلّ مباشر من القسطنطينية في ترسيم بطاركتها وتعيينهم لتضع في النهاية حدًّا لسلالة امتدّت لأكثر من 1000 سنةٍ من البطاركة العرب. وفي العام 1534م، توفّي بطريرك الكنيسة المقدسية العربي عطا الله القاني، وعُيّن خلفًا لهُ، بأوامر من القسطنطينية وتبريكاتٍ من الأستانة، الشمّاس جرمانوس.

كان جرمانوس راهبًا يونانيًا ترعرع في مصر واكتسب العربية أثناء إقامته فيها حتّى أجادها إجادةً بدّدت كل شك بيونانيّته. إلى جانب هذه الميزة، توافرت لديه القدرة على إدارة تحالفاته وصراعاته بشكل يضمن له أكبر استفادةٍ ممكنة من الظروف المتغيّرة. وعلى حدّ تعبير الباحث أليف صبّاغ، فقد "كان جرمانوس كالبدويّ يعرف كل صغيرةٍ وكبيرةٍ في أروقة صنع القرار". وتمكّن بذلك من التأثير في الدوائر العليا في القسطنطينية وتقديم نفسه بوصفه أحد أكثر الورثة إقناعًا لعرش البطريرك عطا الله القاني، وخلال أكثر من 45 عامًا جثم فيها على سدّة البطريركيّة، كما يشير صبّاغ، فقد أصدر جرمانوس سلسلة من القوانين التي أفضت في النهاية إلى تحقيق اليوننةِ التامة للبطريركية العربية في القدس؛ فأُزيلت الصلوات العربية ومُنع الرهبان العرب من الوصول إلى المراتب العليا في الإكليروس وأُمرَ بألا يُنتخب البطريرك القادم إلا من خلال الأساقفة اليونانيين حصرًا داخل "أخويّة القبر المقدّس".

تأسست[4] هذه الأخويّة حوالي القرن الخامس للميلاد، وتألفت في البداية من عشرات الرهبان والأساقفة الذين يتدارسون الكتاب المقدّس ويقومون على خدمة كنيسة القيامة والمزارات المسيحية والأديرةِ الأخرى التي تتبع الكنيسة الأرثذوكسيّة في فلسطين. ولم تكن نظريًا تميز بين لسانٍ وآخر حتى تطهيرها من الأساقفة والرهبان العرب واشتراط يونانية اللسان والمولد للانضمام إليها من بين قوانين أخرى وُضعت[5] في القرن السابع عشر، ومع أن كرسيّ البطريرك نقل إلى القسطنطينيّة، حيث كان ينتخب من قبل رهبان الفنار اليونانيين، إلا أن الأخويّة بقيت في القدس. وقد ترافقت هذه التّغييرات عند قاعدة الهرم، مع تغييراتِ من أعلى الهرم عبر رزمةٍ من الفتاوى والتشريعات العثمانية التي سُنّت في عهدِ السلطانين سليمان القانوني وسليم الثاني لتنظيم أحوال أهل الذمّة، ووضع حد لفوضى قوانين الأراضي الموروثة عن الإمبراطوريّة البيزنطية. لكنّها في فلسطين ولّدت ميكانيزميّة مكّنت البطريركيّة اليونانيّة من مراكمة مساحاتٍ شاسعة من العقارات لاسيّما في مدينة القدس. 

 

الضلع الأوّل: تأسيس الوقف المسيحي

شكّل الوقف المسيحي أحدَ الأدواتِ التي تمكّنت من خلالها البطريركيّة اليونانية الأرذوكسية في القدس من مراكمة مساحاتٍ مهولة من الأراضي في ربوع السلطنة العثمانية، والاستحواذ على حق التصرف في 80 عقارًا داخل البلدة القديمة، إلى جانب عشرات العقارات الموقوفة عليها من أبناء الرعية باستخدام الوقف. وقد تأسس هذا النوعُ من الأوقاف عبر مداولاتٍ بين القضاة والولاة وشيخ الإسلام، صاحب أعلى منصب دينيّ في السلطنة العثمانية، يستفتونه عمّا يُفعل في أمر الأديرةِ التي استولت على مساحاتٍ شاسعة من الأراضي الأميريّة على شكلِ وقف مسيحي، وقد دارت شبهاتٌ حول مخالفة هذا السلوك لقوانين المذهب الحنفي الذي شكّل حجر الزاوية في تشريعات فقهاء الدولة العثمانية.

سادت في بدايات العهد العثماني ثلاثة أنواعٍ رئيسية من ملكيّات الأراضي هي: الميري والملك والوقف. في حالةالميري، تمتلك الدولة رقبة الأرض التي غالبًا ما تألّفت من مساحاتٍ شاسعة من الأرياف والأراضي القابلة للزراعة (Arable) مُنح فيها الفلاحون والمستأجرون حقّ التصرّف بالمنافع التي عليها مع بقاء قطعة الأرض نفسها بيد الدولة لقاءَ دفعة مقدّمةٍ لبيت المال (الطابو). أما الملك، فيحقّ للمتملك فيه التصرف برقبة الأرض ومنافعها بالبيع أو الإيجار. والوقف هبة دينية يُتبرّع بها (مُلك) أو بالمنافع التي عليها (ميري) لوجه الله.

لم تكن الكنيسة أو الدير هيئاتٍ مؤسسيةً يسمح القانون العثماني بأن توقف عليهم أي ملكيّة من أي نوع وفقَ المذهبالحنفيّ[6]. لتبدأ بذلك عمليّات مصادرةٍ واسعة للأراضي التي تصرّفت بها الأديرة حتى ذلك الوقت بالبيع والشراء والهبَة وحوّلت بعضها إلى وقف. وبطل هذا الفصل من الحكاية هو قاضي القسطنطينية الذي رُفّع إلى منصب شيخ الإسلام عن عمرٍ ناهز خمسةً وخمسين سنة، "أبو السعود أفندي"، وبالبحث قليلًا سنجد أنّ اسمه ارتبط بعدد من الفتاوى المثيرة للجدل كحظرِ القهوة والدخّان، وإباحة قتل السلاطين أبناءهم وإخوانهم.

ولد أبو السعود محمد العِمادي الملقب بـ "أبو السعود أفندي" في بلدة أسكليب بالقرب من القسطنطينية، وعمل قاضيًا في المحاكم الإٍسلامية حتى منتصف عقده الخامس عندما رُفّع[7] في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1545 م، إلى منصب "شيخ الإسلام" في الدولة العثمانية. واستمر في منصبه طيلةَ 30 عامًا، في أطول مدة شغل بها أحدٌ هذا المنصب، حتى وافتهُ المنيّة مع بدايات عهد السلطان سليم الثاني. وفي العام 1569 م، كتب القضاة في البلقان إلى أبي السعود يسألون عمّا  يفعل بأراضي "الميري" التي تملّكها الرهبان ثم حوّلت إلى وقف مسيحي على الكنائس والأديرة، فأفتى بمصادرة رقبة الأرض لكونها أراضيَ للدولة لا يجوز التصرّف بها بالقول: "إنَّ الولاة والقضاة قد غابت عنهم حقائق الأمور، فأنزلوا أشدّ الضرر بالترتيبات النّافعة لشؤون العباد ومصالحهم بكواشين بيعِ وشراء ووقفٍ إنمّا هي تجافي الشريعة الإسلامية".

وفي المرحلة الثانية، أفتى[8] أبو السعود بحرمة أن يوقف الرعايا المسيحيّون أي نوعٍ من الأملاك والأراضي على الكنيسة أو الدير منعًا باتًّا، وأمر بمصادرةِ هذه الأوقاف لبيت مال المسلمين، ولمّا اعترضت الأديرة وهددت بعدم دفع الضرائب التي درّت الشيء الكثير على خزينة بيت مال المسلمين، اشترط أبو السعود وقفها على الرهبان أفرادًا عبر تسجيل سنداتها تحت أسمائهم.

لكن هذه الفتوى خلقت معها مشكلتين: فمن جهة إن أراد الرهبان أن يرثوا راهبًا متوفّى سيتعيّن عليهم إقناع كل أقاربه الأحياء بالتخلّي عن نصيبهم في التركة، وهي قرابة ممتدّة بحسب المذهب الحنفي ولا تتوقف عند الدرجة الأولى أو حتى الثانية من القرابة، ومن جهة أخرى كان عدد من الرهبان يستنكف عن حياة الدير والرهبنة فيأخذ الأملاك الموقوفة عليه في تصرّفه الشخصيّ لأقربائه وخاصّته. ولما احتجّت الأديرةُ باستحالة إقناع الباقة الواسعة من الأقارب بالتخلّي عن نصيبهم في الميراث، وإمكانية فرار الراهب بالأملاك المسجلة تحت اسمه، لجأ أبو السعود إلى تحديد أخوية الدير عائلةً تسري عليها شروط الوقف الذُّري في الإسلام، وحُددت قرابة الدير أولويّةً على قرابة الراهب البيولوجية، بحيث لا يتمكّن الراهب حتى من تسجيلها بأسماء أبنائه وأقربائه في حياته.

وهكذا شكّل الرهبان في القانون العثماني عائلةً وقرابة من الدرجة الأولى يورّثون بعضهم بعضًا، ولكي يكتمل نصاب العمل بأصول الوقف الذُّريّ الذي اندرج تحته هذا النوع من الوقف أفتى أبو السعود بإعفاء الورثة من الرهبان من رسوم تجديد الطابو كما يُفعل مع الورثة من الأرحام شريطة أن يدفع الرهبان ضريبة الخراج الواجبة على أهل الذمّة، وقد بلغت في حالة الأديرة عشرات آلاف من القطع النقديّة سنويًّا. وإظهارًا لحسن نيّة من الأستانة، عُممت هذه الممارسة رسميًّا من خلال إعلان سلطاني يتكرر مع تنصيب كل سلطان عثماني جديد، "بيرات"[9] ، أو رخصةٌ تُمنح لأهل الذمّة، ينصّ على أنه:

"لا يحقّ لأي مسؤول أو أي شخص آخر التدخّل بملك أو إدارة [الرهبان] مثلما امتلك وأدار [الرهبان] السالفين الكروم والبساتين و[أراضي] الجفتلك وطواحين الهواء والحقول والمراعي والبيوت والحوانيت والأشجار المثمرة وغير المثمرة والمياه المقدسّة بالإضافة إلى الأديرة والبضائع والقطعان الموقوفة جميعها على كنيسته".

لقد ثبّت الإعلان حق البطريركيّات والأديرة في الأوقاف مع إعادةِ تنصيب كل سلطانٍ جديد. أما الفتوى فعُممت على القضاة والولاة في ربوع السلطنة ولم تكن فلسطين أو القدس بمنأى عن تبعاتها؛ إذ مكّنت البطريركيّة اليونانية لأكثر من 500 عامٍ من مراكمة مزيدٍ من الأراضي والعقارات التي باتت تستخدمُ ورقة ضغط سياسي واقتصادي لإخضاع الرعية العربية الأرثذوكسيّة أو ممارسة التأثير اللازم لتنفيذ مصالحٍ ضيّقة.

جانب من كنيسة القيامة

 

الضلع الثاني: التنافس بين الكنائس

أما العامل الآخر الذي ساعد البطريركية في مراكمة هذه الأراضي فهو تنافسها مع الكنيسة الكاثوليكية المدعومة من فرنسا تحديدا، بدءا من القرن السابع عشر، وصعود روسيا كمدافع عن حقوق الأرثذوكس ضدها، فبعد هزيمتها في الحرب الروسية التركية، خضعت السلطنة العثمانية لبنود معاهدة "كيتشوك قينارجه" المذلّة مع روسيا في العام 1774م، والتي كفلت لروسيا حق التدخل أينما شعرت بأنَّ حقوق المسيحيين الأرثذوكس معرضة للاضطهاد. وفي عام 1814م، اغتنمَ بوليكاريوس بطريرك القدس الفرصة عندما تقدّم بشكوى إلى القيصر ألكسندر الأوّل حول المضايقات التي يتعرض لها الرعايا الأرثذوكس في الأراضي المقدّسة على يد الكاثوليك المدعومين من فرنسا. وجاء ذلك بالتناغم مع رغبة المسؤولين الروس بتوفير الحماية للحجاج الروس عند زيارتهم للأراضي المقدسة، مما دفع إلى تأسيس أول مركز قنصلي روسي في يافا عام 1820م، لتبدأ فصول جديدة من الصراع التي كانت البطريركيّة اليونانية في صميمها تمامًا.

سَرَت في تلك السنوات حمّى المشاعر القومية بالغةً ذروتها عام 1821م مع قيام ثورة التحرير اليونانية على يد جرمانوس الثالث[10]، والتي نادت باستقلال اليونان عن السلطنة العثمانية واستعادة الإرث الإغريقي، ما دفع السلطنة العثمانية إلى الانتقام من أخوية القبر المقدّس وتجريدها من كل ما تملك، إلى جانب حرمانها من عائدات أوقافها في مناطق البغدان والأفلاق (رومانيا حاليا)، وهي أوقافٌ مَنحها أمراء تلك المنطقة لها هديّةً، فلجأت الأخيرة إلى الاقتراض بفوائد فاحشة من المرابين اليهود، وبعد حربٍ دامت سبع سنواتٍ دمّرت فيها فرنسا وروسيا وبريطانيا الأسطولين العثماني والمصري قبلت السلطنة بالأمر الواقع وانسحب الجيش المصري من اليونان في 3 أيلول/ سبتمبر1828 م.

 انتهت الحرب اليونانية وبدأت معركة الأخويّة لسداد ديونها البالغة 30 مليون قرش، جابت على إثرها مناطق النفوذ التاريخي للأمة الأرثذوكسيّة، وعقب انتهاء المهمّة كان الحكم المصري قد استتبّ بالبلاد فوافق إبراهيم باشا على تقسيط الدفعات حتى سدادها بالكامل. ومع أفول الحكم المصري، وجدت السلطات العثمانية نفسها مدينةً للقوات الأوروبية التي ساعدتها في دحر الحكم المصري عن بلاد الشام في العام 1840م، وتوالى افتتاح القنصليات الأوروبية تباعًا، بدءًا من القنصلية البريطانية عام 1838م والقنصليتيّن الروسية والفرنسيّة عام 1840م، ومع تعاظم وقع التبشير البروتستانتي مدعومًا من أعلى مستويات التاج البريطاني، والتبشير الكاثوليكي مدعومًا من فرنسا، وجدت روسيا نفسها مضطرةً لإيفادِ الأرشمندريت بورفيري أوسبينسكي في أيلول/ سبتمبر 1843م، للوقوف على حال الرعيّة الأرثذوكسيّة ومتابعة شؤونها.

وفي كتابه "الوجود المسيحي في القدس خلال القرنين التاسع عشر والعشرين"، ينشر الدكتور رؤوف سعد أبو جابر، وقائع حديث خاص دارَ بين أوسبينسكي ومطران اللد كيرللس الثاني الذي سيصبح بطريرك القدس فيما بعد، يكشف الكثير عن طبيعة علاقة البطريركيّة اليونانية بالرعيّة العربية في ذلك الوقت، حيث يقول كيرللس:

"هؤلاء العرب أوغاد يكرهوننا ويسيئون إلى سمعتنا وأنت لا تحبنا وتدافع عنهم"، فيجيبه أوسبينسكي "الله يعلم مدى محبتي لكم، ولكنني أشفق على العرب وأنا مستعد للدفاع عنهم أمام أيّ كان". فقال البطريرك "ليس لديهم إيمان وهم برابرة وأنذال"، فقال أوسبينسكي "يجب عليكم أن تعلّموهم الإيمان، فأنتم الذين شجعتم عدم الإيمان لديهم، ولماذا لا تقبلون الإكليروس العرب وتساعدُونهم وتتعلّمون اللغة العربية"، فقال البطريرك "نحن لا نقبل الكهنة العرب بيننا حتى لا تخفض مكانتنا الإكليريكية، ولا نتعلم العربية لأننا لا يمكن أن نخلق عادات جديدة". وهو حوار بائس أظهر للمبعوث الروسي جو انعدام الثقة والشكّ والريبة بين العرب واليونان.

 شهدت تلك الفترة آخر خطوات اليوننة بشكلِها الحديث أيضًا، حيث اشترطت[11] المواطنة اليونانية بدءًا من العام 1830 للانضمام لأخوية القبر المقدس، وضُيّقت لفظة "الروم" في التعريف الكنسي بحيثُ تشير[12] إلى أبناء الأمّة اليونانية، لا إلى ذلك الطيف الواسع المتنوّع من الإثنيّات في البلقان والمشرق العربي، ونُظر إلى أبناء الرعية العرب، وفق هذا التعريف، على أنهم مواطنون يونانيون من الدرجة الثانية، نسوا أصلهم اليوناني القديم وتعرّبوا وأطلقت عليهم البطريركية لقب "أربوفون"، أي اليونانيين المتكلمين بالعربية، ما ترتب عنه أن أرثذوكس فلسطين يونانيّون أصلاً نسوا لغتهم وإرثهم الإغريقي وتعرّبوا بمرور الوقت، لكنّ ذلك عنى أيضًا أنَّ الدولة اليونانية الوليدة ستحاول الاستيلاء على أملاك البطريركيّة بوصفها أشياء تخصّ اليونان في الفترة ما بين (1834-1847) كما يشير باباستاثيسيس وكارك، وهو من بين الأسباب التي دفعت البطريركية اليونانية إلى الاستقلال عن بطريركيّة القسطنطينية بعد 250 عامًا من استقرار البطاركة وانتخابهم فيها.

أُعيد كرسيّ البطريرك إلى القدس، واستثمرت أموال التبرعات الروسية على يد مسؤول البطريركيّة الكاهن الأرخميدس نيكوفوري، الذي عُرف بين الفلّاحين باسم "أبو الذهب" لكثرة ما بحوزته من أموال. كان النيكوفوري قد بدأ منذ العام 1848م عمليّات شراءٍ ضخمةً للأراضي والعقارات في القدس وبيت لحم وبيت جالا ويافا وأريحا، وسُميت تيمّنًا باسمه "أراضي نيكوفوريا"، أو ما عُرف[13] محليًّا بأراضي كرم العنب وجنزاريا وغيرها، حيث شُيّدت أحياء الطبقة المتوسطة الفلسطينية لاحقًا كالطالبية. إلى جانب ذلك، أدّى الدعم الروسي مصحوبًا بعائدات الأوقاف في رومانيا والبلقان إلى إنشاء مدرسةِ دير المصلّبة لتأهيل الإكليروس اليوناني عام 1850م، الذين كانوا بحسب إحدى الشهادات التاريخية "غارقين في حمأة الجهل والغباوة ولا يعرفون سوى حشر الأموال ولا يهتمون إلا بالبذخ والإسراف".

ومع احتدام التنافس بين الكنائس في القدس ممثلةً بقنصليّاتها، اندلعت حرب القرم عام 1853م، وعقب هزيمة روسيا، رحلت البعثة الروسية عن البلاد كما توقّفت عطايا الحجاج الروس الأثرياء للبطريركيّة، وعلى مدار السنوات اللاحقة منعت الحكومة الروسية موارد دخل الكنيسة في بيسارابيا من الوصول إليها، مما دفع البطريركيّة أخيرًا للاستثمار في فلسطين، حيث تمتلك شبكةً قانونيةً تيسّر لها الاستحواذ، وبالأخص بعد أن سنّت الحكومة العثمانية قانون الأراضي عام 1858م، وما تبعه من تعديلات أتاحت خصخصة الأراضي والمنافع، إلى جانب تحديث القطاع الزراعي الذي كفل لها دخلاً ثابتًا من الأراضي الزراعية.

خدم القانون البطريركيّة بأكثر من طريقة، فمن جهة، تمكّن عدد من الرهبان الذين كانوا رعايا عثمانيين من تسجيل مساحاتٍ شاسعة من الأراضي ملكًا خاصًّا، وشيّدوا فوقها المحال والمتاجر والمدارس التي أوقفت على البطريركيّة فيما بعد. ومن جهة أخرى، كما ذهب باباستاثيسيس وكارك، فقد تمكّنت البطريركيّة من وضع يدها على أملاك الرعيّة الأرثذوكسيّة مقابل سداد رسوم الطابو والضرائب الجديدة نيابةً عنهم أمام السلطات العثمانية، فسُجّلت حقوق التصرّف من محالّ وأراضٍ زراعية وغيرها تحت اسم مسؤول بطريركيّ يحوّلها إلى وقف لاحقًا. كما أنَّ التملُّك ترتّب عنه الانضمام للجندية وفقًا للقانون، وهو ما حدا بعدد من أبناء الرعية الأرثذوكسية إلى تحويل ملكياتهم لوقف ذرّي. ويقول[14] أبناء الرعية العرب إن 80 بيتًا داخل البلدة القديمة قد استحوذت البطريركيّة عليهم بهذه الطريقة، وعاشوا فيها دون الاضطرار لدفع الإيجار على أن تكون وقفًا للبطريركية، فترثَ الملك وحق التصرف في حال انقطاع النسل وغياب الوصيّة.

وفي نيسان/ إبريل من عام 1882م، أصدر وزير الداخلية العثماني قانونًا مشفوعًا بإعلان بطريركيّ مكملاً لفتوى أبي السعود، يحدد أخويّة القبر المقدّس وريثًا مباشرًا وحيدًا لأملاك الرهبان المتوفين، والجهةَ التي تُوقف عليها أوقاف المسيحيين الأرثذوكس، في خطوة أضفت المزيد من المركزة على الأخويّة وحوّلتها إلى جسم قانوني أشبه بالشركة التي نراها تتصرّف بالأوقاف اليوم.

وهكذا، دخلت البطريركيّة اليونانية القرن العشرين وهي أكبر مالك للأراضي في فلسطين، لا ينازعها في ملكها سوى الصندوق القومي اليهودي، الذي سيكون واحدًا من أبرزِ زبائنها عند مرحلة معيّنة كما سيتبيّن لنا في الجزء الثاني من هذه المقالة.

 

 

 

 



[1]  https://bit.ly/3KXOJ0Y

[2]  أليف صباغ، القضية الأرثذوكسية الوطنية/ https://bit.ly/3H7jbUb

[3]  https://bit.ly/41ykTFz

[4]  https://bit.ly/409K6VN

[5]  https://bit.ly/41ykTFz

[6]  https://bit.ly/3A1gCz0

[7]  https://bit.ly/3zWgcd9

[8]  https://bit.ly/3zWgcd9

[9]   https://bit.ly/3KEq3Jk

[10]   https://bit.ly/41bYX3A

 https://bit.ly/3KGvec0 [11]

[12]  https://bit.ly/3MKQeRo

[13]  https://bit.ly/416GDZF

[14]  https://bit.ly/3KXOJ0Y