ليست الحرب فقط: لماذا يغادر آلاف من الإسرائيليين البلاد دونما عودة؟
غادر حوالي 470 ألف إسرائيلي البلاد منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول مع بدء الحرب على قطاع غزة. لكنَّ هذه الأعداد الكبيرة من المغادرين لا ينبغي أن يُنظر إليها فقط من منظور الكمّ فحسب بل من منظور النوع أيضا. إذ تشير الإحصائيات إلى أنَّ النسبة الأكبر ممن يغادرون دون عودة هم من العلمانية في إسرائي، مما قد يكون عاملا في الدفع بالمزيد من المتشددين إلى المراكز الحساسة والمؤثرة في المؤسسات الاسرائيلية.
في أبريل/ نيسان، بينما كانت عائلتها في المنطقة الوسطى في "إسرائيل" تعدّ طقوس الاحتفال بيوم الاستقلال، تجهّزت رايتشيل أوهال لما أسمته "حلم كلّ مواطن إسرائيلي". في صبيحة اليوم التالي، أفاقت في منزلها الكائن في ولاية لوس أنجلوس ثم قادت سيارتها باتجاه حفل رسمي لتصبح مواطنة أميركية. هي واحدة من بين مليون مواطن إسرائيلي يتخذون من الولايات المتحدة مكانا للإقامة، وما لم تغير إسرائيل التي تضم 8.8 مليون اسرائيلي نهجها سيتبعها آخرون كثر.
تواجه البلاد أزمة وجودية لا تتعلق بالصواريخ الإيرانية ولا الانتفاضات الفلسطينية؛ إذ تدفع أكلاف العيش الباهظة والأجور المتدنية والاتجاهات الديموغرافية بجموع هائلة من الإسرائيليين لمغادرة البلاد ومحاولة بناء حياتهم في أماكن أخرى غالبا في الولايات المتحدة. ينتقل العديد من هؤلاء الشباب الإسرائيليين إلى المدن الكبرى، لكنهم حتى في هذه الأماكن الباهظة في كثير من الأحيان يجدون فرصًا أكبر للتقدّم عمّا هو الحال في إسرائيل.
والبيانات المتاحة معبّرة كما يقول المحللون، فَبين 2006 و2016 أصبح أكثر من 87,000 إسرائيلي مواطنين أميركيين، أو مقيمين دائمين قانونيين، بحسب أحدث البيانات من وزارة الداخلية الأميركية. في ارتفاع عن رقم 66,000 مهاجر بين 1995 و2005. تأخذ هذه الأرقام بالحسبان فقط أولئك الذين يسلكون المسار القانوني (يشير المحللون إلى أنَّ العديد من الإسرائيليين يأتونَ بتأشيرات سياحة مؤقتة أو لأغراض العمل أو الدراسة ومن ثم يقرّرون البقاء). وبالإضافة إلى الاسرائيليين الذين يعيشون في الولايات المتحدة حاليا بحسب وزارة استيعاب المهاجرين الأميركية، انتقل مئات الآلاف منهم للعيش في أوروبا وكندا من بين بقاع أخرى.
ليست هجرة العقول من البلاد بالجديدة، طيلة سنوات وألمع باحثيها ومفكّريها ينتقلون للعيش في الولايات المتحدة حيث الأجور أعلى بكثير، وثمة المزيد من الوظائف الشاغرة في الجامعات المرموقة. وجد تقرير كتبه دان بن دافيد، الاقتصادي من جامعة تل أبيب، بأنَّ وتيرة هجرة الباحثين الإسرائيليين هي الأعلى في العالم الغربي. غير أن رقعة الهجرة اتسعت مؤخرًا، بحيث شملت الشباب العاديين الذين يقول العديد منهم بألّا مستقبل في إسرائيل.
مع أنَّ هذا البلد المتأهّب للحرب يُعرف بأمّة الشركات الناشئة، حيث لديه من شركات الهايتك في المرحلة المبكرة للفرد الواحد أكثر مما يمتلك أي بلد آخر، إلا أنَّ الاسرائيلي العادي لديه القليل من الارتباط بهذا الحقل المزدهر. بحسب البيانات الحكومية، 8 بالمائة من الإسرائيليين يعملون في حقل الهايتك، الذي يدفع ما يصل إلى سبع مرات أكثر من الأجر المتوسط عند 2,765 دولار أميركي شهريًا قبل الضرائب.
تسجّل إسرائيل واحدة من أعلى معدلات الفقر ولا مساواة الدّخل في العالم الغربي بينما لديها أيضا واحدة من أعلى تكاليف المعيشة. تحتل تل أبيب المرتبة التاسعة في المدن الأعلى من حيث تكلفة العيش في العالم بحيث تتقدّمُ على نيويورك ولوس أنجلوس وكانت قبل خمس سنوات تحتل المرتبة الـ 34. المشهد مفزع لدرجةَ أنَّ مسحا أجرته صحيفة «Calcalist» الاقتصادية عام 2013، وهي الدراسة الإسرائيلية الأحدث حول الموضوع، وجد بأن 87 بالمائة من البالغين الذين لدى العديد منهم أبناء أيضًا يعتمدون على الدعم المالي الأساسي من ذويهم. في صيف 2011، تسربت هذه الضغوط الاقتصادية إلى الشوارع، حيث قضى نصف مليون إسرائيلي شهورًا في الاحتجاج ضد أكلاف العيش الباهظة، بجانب الأنظمة الصحية والتعليمية المتهالكة.
منذ ذلك الحين، استثمر قادة البلاد مئات الملايين من الدولارات في جهودٍ لإعادة أفضل الاسرائيليين تعليمًا إلى البلاد. يشير الباحثون إلى أن هذه الجهود باءت بالفشل. في 2011، أطلقت الحكومة الاسرائيلية مبادرة «I-CORE»، وهو برنامج بقيمة 360 مليون دولار أميركي لتشجيع الباحثين على العودة إلى جامعات البلاد. كانت النتائج محبطة لدرجة أنَّ البرنامج أُلغي بعد ثلاث سنوات. يشير باراك مدينا، موجّه في الجامعة العبرية في القدس، إلى أنَّ 20 بالمائة فقط من الاسرائيليين الذين يذهبون إلى الخارج بهدف نيل درجة الدكتوراة يعودون إلى البلاد، وذلك بسبب الأجور المتدنية وأكلاف العيش الباهظة. يضيف مدينا الذي كانت جامعته جزءًا من مبادرة«I-CORE» بأنَّ بعض الحالات قد شهدت عودة أعضاء الهيئات التدريسية إلى "إسرائيل"، لكنهم سرعان ما عادوا إلى الولايات المتحدة. ويقول إنه "كانت هناك فجوة بين المأمول عند الوصول إلى هنا وبين ما حصلوا عليه في الواقع".
في 2013، أطلقت الحكومة "برنامج جذب العقول إلى إسرائيل" الهادف إلى تمييز الاسرائيليين الموهوبين القاطنين في الخارج، وإعادتهم عبر مساعدتهم في البحث عن وظائف من بين أشياء أخرى. توقف العمل بالبرنامج قبل تسعة أشهر بحسب ناعومي كريجر كارمي، رئيسة قسم التحديات المجتمعية في سلطة الإبداع الإسرائيلية، وهي الوكالة الحكومية التي أشرفت على البرنامج. فقد أخفقوا في إقناع ما يكفي من الناس بالعودة.
يقول بن دافيد، الاقتصادي الإسرائيلي إنَّ "الجهود الحكومية الرامية لإعادة الأكاديميين غيضٌ من فيض؛ نحن بحاجة لإصلاح البلاد برمتّها".
تتفق لينوي (21 عامًا) من القدس مع وجهة النظر تلك (مثل جميع من قابلتهم من أجل هذه القصة، طلبت ألا ننشر اسم عائلتها لأنّها وصلت إلى الولايات المتحدة بتأشيرةٍ سياحية). حيث انتقلت خلال العام الماضي، ليس بعد وقت طويل من إتمام خدمتها العسكرية الإلزامية، إلى لوس أنجلوس أملًا في مستقبل أفضل. بعد وصولها إلى الولايات المتحدة، تزوجت من مواطن أميركي وهي في انتظار بطاقتها الخضراء. تقلق بأن ينتهي بها المطاف إن عادت إلى إسرائيل كوالدتها التي لا تزال في عامها الـ47 تستأجر شقّتها وتعتاش على الراتب شهرًا بشهر.
تقول لينوي: «أحب إسرائيل» وتضيف: لكن الحكومة أوصلتنا إلى نقطة لا نستطيع معها بناء حياة في بلادنا. من المحزن بأنَّ الجيل الجديد يبحث عن طريقة للفرار فحسب. ستودّ أن تربيّ أبناءها هناك يوما ما لكنَّ شكوكا تساورها بشأن ذلك.
شعرت رايتشيل أوهال وزوجها أمير بالشيء نفسه. قبل خمس سنوات كانا يعيشان في إسرائيل برفقة طفلين ويعملان بدوام كامل، كانت هي موظفة في مصرف بينما عمل هو في خدمة دعم المستهلك في شركة اتصالات. سويّة، كان أجرهما الشهري أدنى من 4000 دولار أميركي بعد الضرائب وكانا يدفعان الفواتير بشقّ الأنفس. ثم انتقلا في 2013 للعيش في لوس أنجلس وخلال ثلاث سنوات تمكّنا من اقتناء بيتٍ لهما بأربعة غرف للنوم.
اليوم يمتلك أمير عمله الخاص في المقاولات وهو أمر كافح من أجل القيام به في إسرائيل. بحسب أقواله، هناك مجموعة من العائلات ذات النفوذ التي تدير الصناعة، ويُقال بأنَّ إحداها ترتبط بالمافيا الإسرائيلية. حاليا، يجني أمير أكثر بحوالي 10 مرّات مما كان يجنيه في إسرائيل بينما رايتشل غير مطالبةً بالعمل. تقول رايتشل "في اسرائيل، أطفالي لم يكن لديهم أم، وتضيف: هنا أستطيع أن أكون برفقتهم طوال اليوم.
نجاح عائلة أوهال أبعد ما يكون عن النموذجي، غير أنَّ حكايتهم نموذجية من ناحية الفرص الاقتصادية الأكبر التي يجدها الإسرائيليون هنا. أسس آدم ميلستين المجلس الإسرائيلي الأميركي في 2007 كتجمّع للمجتمع الإسرائيلي في لوس أنجلوس. يقول بأنَّه عندما غادر إسرائيل في عام 1980 كانت الهجرة إلى الولايات المتحدة مختلفة عما هي عليه اليوم "في تلك الأيام كنا نجلس فوق حقائبنا نتحيّن الفرصة للعودة إلى البلاد. لكن الإسرائيليين الذين يأتون اليوم أكثر شبابا وأكبر موهبةً بكثير، وغير متعجّلين للعودة إلى الديار".
السبب الآخر الذي يطرحه الإسرائيليون للمغادرة هو ما يرونه ابتعادًا للبلاد عن جذورها كديمقراطية يهودية علمانية. إسرائيل مكان لأعداد متزايدة من اليهود المتدينين، وهو تغييرٌ يلقي بظلاله على كل جانب من جوانب المجتمع، من السياسة إلى نظام التعليم الحكومي، حيث يأخذ التعليم الديني نصيبًا أكبر من اليوم التعليمي. وتقول كرميت (30 عامًا)، التي تخطط للانتقال إلى نيويورك مع زوجها العام القادم "إنني أريد لبلادي أن تظل ديمقراطية ويهودية لا يهودية ومن ثم ديمقراطية".
أدّى التدين المتزايد للاسرائيليين في جانب منه بالبلاد لأن تصبح أكثر محافظةً. أولئك المغادرون يكونون في العادةِ أكثر ليبرالية. بينما يؤلّف اليهود المتشددون 12 بالمائة من السكان اليوم، إلا أنّ الرقم مرشّح للمضاعفة أربع مرّات بحلول 2065، بحسب جهاز الإحصاء المركزي الإسرائيلي.
تنامي أعداد اليهود المتشددين الذين يقومون علانيةً بتمويل المدارس التي تعلم القليل الرياضيات والعلوم والإنجليزية، هذا إن كانت تعلّم أيَّا من هذه المواد أصلًا، ينذر بمشكلة أكبر من ذلك حتى. يقول بن دافيد بأنَّ "نصف الأطفال في مدارس إسرائيل يتلقّون تعليم دولةٍ من العالم الثالث"، مستندا إلى بيانات جمعتها منظمته مؤسسة شورش.
علاوة على ما سبق، فالعديد في أوساط المتشددين أو الحريديم لا يدفعون ضرائب الدخل لأنهم لا يجنون بما فيه الكفاية. إنهم يعيشون في العوز، يكرّسون حياتهم من أجل دراسة دينية تموّلها الدولة ويعتمدون على خدمات الرفاه الاجتماعي. يقول بن دافيد بأنَّ النتيجة أن انقسام إسرائيل إلى بلدين. "ثمة إسرائيل الشركات الناشئة"، وتلك الأخرى لا تتلقى الأدوات اللازمة للعيش في ظل اقتصاد حديث.
بحسب أقواله، الفجوة بين الاثنين آخذة في الاتساع، ومع غياب حل للصراع مع الفلسطينيين في الأفق، بالإضافة إلى تذبذبات الحرب مع إيران ووكلائها في لبنان وسوريا، يعتقد بن دافيد بأن الوضع القائم غير قابل للاستمرار. ويقول إنَّ "اقتصاد عالم ثالث لا يمكن أن يعيل جيش عالم أوّل. وبدون جيش عالم أوّل في أكثر الأماكن خطورة على وجه الأرض، ستكون لدينا مشكلات وجودية. علينا أن نرتّب شؤوننا. أعتقد أنّ بإمكاننا ذلك، وآمل بأننا سنفعل".
تشاطره الرأي عائلة أوهال التي حصل أفرادها على المواطنة الأميركية. يقول أمير "ليس علي بأن أكون ثريًّا؛ لكن إن كنتم تريدون حقا عودتنا سيكون عليكم تغيير النظام".
رابط المقالة الأصلي من هنا