ماوراء مفاعل ديمونا: سيرة مختصرة لإسرائيل النووية
على سبيل التقديم...
في عام 1947 وقبل احتلال فلسطين، أبلغ آرنست دافيد بيرغمان العالم الكيميائي والأب الروحي للبرنامج النووي للاحتلال، قائد الهاغاناة، دافيد بن غوريون، أن إحدى البعثات البحثية العلمية الصهيونية اكتشفت احتواء حقول الفوسفات الضخمة في النقب على كميات قليلة من رواسب اليورانيوم القابلة للاستخلاص والإنتاج الصناعي! وكانت هذه المعلومة بالغة الأهمية منطلقًا إلى فكرة استطاعت خلق ركيزة لتثبت الاحتلال في فلسطين.
"مفاعل ديمونا"، كما هو مشهور دوليًا، أو "مركز شمعون بيريز للأبحاث النووية" كما هو معروف رسميًا الآن، أو" مركز النقب للأبحاث النووية"، كما كان اسمه الرسمي سابقًا حتى عام 2018.. أسماء متعددة تشير لمنشأة واحدة هي مفاعل نووي سري يقع في صحراء النقب جنوب فلسطين المحتلة، في منطقة جبلية معزولة وبعيدة عن الأنظار محاط بسياج أمني ضخم وحراسة دائمة ومنشآت أمنية. ويعتبر المفاعل الأساس الفعلي للبرنامج النووي العسكري" الإسرائيلي".
مع اندلاع المواجهة العسكرية الأخيرة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية ودولة الاحتلال في 13 يونيو -24 يونيو2025، والتي عُرفت إعلاميًا بعملية" الأسد الهابط"، عاد اسم مفاعل ديمونا للواجهة وبقوة.. فكيف يعتبر الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية ودولة الاحتلال، البرنامج النووي الإيراني تهديدًا كبيرًا وخطرًا داهمًا لا يمكن السكوت عنه، بينما تُلاحق إيران في سعيها تطوير برنامجها النووي، وتتصاعد الضغوط الدولية عليها لرفض برنامجها وتقييده دوليًا، وتخضع إيران بسببه لعقوبات اقتصادية ودبلوماسية صارمة وعزلة دولية.. في الوقت الذي يصمتون فيه تمامًا على البرنامج النووي لدولة الاحتلال؟ هل من الممكن تبرير البرنامج الإسرائيلي بأنه دفاع عن الذات لدولة ذات سيادة، وردع لتهديدات إقليمية تزعزع وجودها، بينما يُنظر إلى البرنامج الإيراني بأنه تهديد إقليمي وخرق للاتفاقيات؟ لماذا تُكال الأمور بمعايير مزدوجة، وتحيز لا يخفى على عين ناظر حين يتعلق الأمر بالبرنامج النووي لدولة الاحتلال؟ وهل للمصالح الاستراتيجية للغرب علاقة في ذلك؟
ما هو البرنامج النووي لدولة الاحتلال؟ متى أُنشئ؟ وكيف؟ وكيف كُشف الستار عنه؟ وهل من توثيقات لذلك؟ وهل مفاعل ديمونة هو المكان الوحيد في دولة الاحتلال الذي تُجرى فيه التجارب النووية وتُخزن فيه المواد المشعة؟ ماذا بشأن النفايات النووية؟
ما هي انعكاسات مثل هذا البرنامج على المنطقة؟ إلى أي مدى قد يصل التأثير، أم أن هذا تأثيره لا يكاد يُذكر؟ ما مواقف الدول العربية (الجهات الرسمية وغير الرسمية) إزاء البرنامج النووي لدولة الاحتلال؟ وهل من أصوات يهودية رافضة للبرنامج النووي لدولة الاحتلال؟ ماذا لو أن المؤسسات الدولية والحقوقية ضغطت باتجاه إخضاع دولة الاحتلال للتوقيع على المعاهدات الدولية للحد من انتشار الأسلحة النووية وإخضاعها للتفتيش، هل بمقدورها أن تحقق ذلك وتضع حدًا لسياسة الغموض النووي التي تنتهجها؟
هذه الأسئلة وغيرها، سيجيب عنها هذا التقرير الذي يفتح الملفات السرية للبرنامج النووي" الإسرائيلي" السري والغامض.
الخلفية التاريخية والتقنية لمفاعل ديمونة
"ديمونا" مدينة عبرية أُسست بعد احتلال فلسطين عام 1955 على أراضي قبيلة العزازمة العربية الفلسطينية البدوية في النقب الأوسط، على مسافة 32 كم إلى الجنوب الشرقي من مدينة بئر السبع بعد تهجير القبيلة من أراضيها. بُنيت ديمونا في منطقة معزولة جغرافيًا يصعب الوصول إليها ومراقبتها، بعيدًا عن التجمعات الفلسطينية والعربية المأهولة، لتكون قريبة من مناجم الفوسفات والنحاس وحقول النفط والغاز الطبيعي ومنشآت البوتاس، ضمن مخطط لإنشاء حزام استيطاني يهودي حول الموارد الطبيعية الخام في الجنوب. لم تُبْنَ ديمونا باعتبارها مدينة عادية، بل صُممت لتكون غطاء لبرنامج نووي سري، ومركز صناعي استراتيجي، وأداة لفرض السيطرة اليهودية على النقب الفلسطيني.
بحسب الموسوعة اليهودية، فقد كانت أول دفعة من سكان ديمونا تتألف من 36 عائلة يهودية هاجرت إلى البلاد من شمال أفريقيا، واستقرت في المدينة في 1 أغسطس عام 1955، ضمن خطة لتهويد الجنوب الفلسطيني، واستيعاب عمال للعمل في حقول الفوسفات ومصانع البحر الميت. ضُخ المزيد من السكان فيها بعد ذلك، حيث أخذ عدد سكانها يرتفع تدريجيًا بقدوم مهاجرين يهود من الأميركيين السود، ويهود بعض الدول الأوروبية والآسيوية ويهود الأرجنتين والاتحاد السوفيتي.
بن غوريون وفكرة البرنامج النووي الإسرائيلي( 1955 -1957): قبل البدء بالبرنامج النووي "الإسرائيلي" وفي اجتماعات مغلقة مع قادة عسكريين وسياسيين، وبحسب المؤرخ النووي الإسرائيلي أفنير كوهين في كتابه المهم "إسرائيل والقنبلة"، فإن دافيد بن غوريون عبَّر عن رؤيته في أن السلاح النووي هو ضمان الوجود" لإسرائيل"، وتحدث عن ضرورة امتلاك سلاح يجعل العدو يتردد.. لم يُصرح علانية عن نية" إسرائيل" امتلاك سلاح نووي، لكنه كان واضحًا جدًا في إيمانه بأن إسرائيل تحتاج إلى تفوق نوعي لحماية وجودها. وقال بالحرف الواحد: "لا يمكننا الاعتماد على عدد السكان أو على الجغرافيا، بل على تفوق نوعي استراتيجي"، وقال أيضًا: "لن يبقى وجود لدولة إسرائيل إن لم تمتلك السلاح الذي يجعل أعداءها يفكرون ألف مرة قبل مهاجمتها"..
من هنا بدأت الفكرة، إذ أن رؤية دافيد بن غوريون بشأن ضرورة امتلاك إسرائيل لسلاح نووي كوسيلة ردع وجودي اتضحت بشكل حاسم بعد عودته الثانية لرئاسة الحكومة. فالتفوق التقليدي من جيش وطيران وتسلح لم يكن كافيًا برأيه لضمان بقاء إسرائيل؛ لذا بدأ يخوض نقاشات سرية مع مساعديه حول ضرورة امتلاك وسيلة ردع تغيّر قواعد اللعبة مع المحيط، مع حتمية الحفاظ على الغموض وعدم التوقيع على أية معاهدات تحدُّ من قدراتهم وتقيدهم.
وأعطى بن غوريون الضوء الأخضر الكامل لشمعون بيريز، رئيس إدارة وزارة الدفاع الإسرائيلية- نائب وزير الدفاع في خمسينيات القرن الماضي، للمضي قدمًا في بناء مفاعل ديمونا والانطلاق في المشروع النووي الإسرائيلي، ومنحَه كامل الصلاحيات لذلك..
وقد وصف بيرز لاحقًا مشروع ديمونا في مذكراته: Battling for Peace)) بأنه أعظم مشروع خدمَ فيه إسرائيل. ويعتبر بيرز مهندس المشروع النووي الإسرائيلي سياسيًا ودبلوماسيًا؛ لقيادته المفاوضات السرية وصولًا للحصول على المفاعل والتكنولوجيا والمعدات اللازمة لإنتاج البلوتونيوم، وتدريب الخبراء الإسرائيليين.
التحالف النووي مع فرنسا في عام 1956: بحسب أفنير كوهين في كتابه سابق الذكر:" فإنه وفي ذروة العدوان الثلاثي، حصلت إسرائيل على أكثر من دعم عسكري.. حصلت على المفتاح لامتلاك القنبلة".
خلال "العدوان الثلاثي" على مصر، وهو الهجوم العسكري المشترك الذي شنّته فرنسا وبريطانيا" وإسرائيل" على مصر في أواخر عام 1956، بعد قيام الرئيس المصري جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس، التي كانت تسيطر عليها شركتان فرنسية وبريطانية. تطورت العلاقة بين إسرائيل وفرنسا، التي كانت تخوض صراعًا مريرًا ضد الثورة الجزائرية آنذاك، والتي استشرفت في إسرائيل حليفًا استراتيجيًا لها ضد النظام المصري الناصري المزعزع للاستقرار الذي تحلم به فرنسا في شمال أفريقيا ومساعدًا استخباراتيًا وعسكريًا مهمًا، بينما وجدت "إسرائيل" في فرنسا حليفًا يمكنه أداء دور فارق في تنفيذ البرنامج النووي السري الذي تصبو إليه وتتطلع لجعله واقعًا أمامها رادعًا لمحيطها.
أجرى شمعون بيريز عدة زيارات سرية لباريس بين عامي 1956 و1957، فاوض خلالها وصاغ بنود اتفاق دعم فرنسي لإسرائيل لبناء المفاعل النووي وتزويدها بمعدات فصل البلوتونيوم.
الاتفاقية النووية الأولى في عام 1957: في 3 أكتوبر 1957، وبمقابل المشاركة العسكرية الإسرائيلية في العدوان الثلاثي، وقَّعت فرنسا "وإسرائيل" اتفاقية تلزم فرنسا ببناء مفاعل نووي بقدرة 24 ميجاوات لإسرائيل، إضافة إلى مصنع لإعادة المعالجة الكيميائية. واعتبرت هذه السنة نقطة التحول الفعلي لدى دولة الاحتلال.
بدء بناء مفاعل ديمونا في عام 1958: في عام 1958، بدأ بناء المنشأة بإشراف فرنسي كامل على الموقع في النقب بمشاركة 1500 عامل"إسرائيلي" وفرنسي. وزودت فرنسا" إسرائيل" فعليًا: بالمفاعل، وأجهزة فصل البلوتونيوم، فضلًا عن البدء بتزويدها بخبراء وفنيين للمساعدة في البناء وتدريب الكوادر. وبدأت إسرائيل خطوات الإنشاء الفعلي لمفاعل نووي متكامل بعيدًا عن الأنظار في منطقة صحراوية نائية في الجنوب الغربي وعلى بُعد 13 كيلومترًا من مدينة ديمونا في النقب. كما بنيت "هياكل وهمية" في محيط المفاعل لجعله يبدو وكأنه منشأة صناعية عادية لا غبار عليها، ولا تُخفي خلفها أخطر مشروع عرفته المنطقة على الإطلاق.
كشف موقع BBC في تقرير نُشر في 4 آب 2005 عن وجود أدلة من الأرشيف الوطني البريطاني، أظهرت أن المملكة المتحدة باعت سرًا 20 طنًا من الماء الثقيل لــ "إسرائيل" مقابل 1.5 مليون جنيه إسترليني في عام 1958( وهو فائض شحنة اشترتها الأولى من النرويج عام 1956)، في إطار التحضيرات لتشغيل المفاعل.
وعن ذلك قال الباحث والمؤرخ الاسرائيلي أفنير كوهين في كتابه سابق الذكر: "ديمونا لم يكن مجرد مفاعل للأبحاث، بل كان نواة لقدرة نووية عسكرية حقيقية، بدأت ملامحها تظهر عام 1958".
تطوير منشآت مساندة للمفاعل في عام 1959: في هذا العام شُيدت منشآت سرية مساندة للمفاعل، مثل مركز فصل البلوتونيوم ومختبرات معالجة الوقود النووي، ومختبرات المواد المشعة وتطوير التكنولوجيا النووية وتخصيب اليورانيوم، وبسرية أيضًا.
انكشاف المفاعل في عام 1960: في تلك الفترة بدأ التشغيل التجريبي للمفاعل ودخل في مرحلة الإنتاج الأولى، وبدأ إنتاج البلوتونيوم في المفاعل عبر تفاعلات ذرية لعنصر اليورانيوم، والذي يمكن استخدامه لأغراض سلمية وعسكرية.
وبرغم إعلان إسرائيل أن المنشأة هي مصنع نسيج، إلا أن الدول العربية والمجتمع الدولي ظلوا يشككون في هذا الادعاء بسبب ضخامة المنشأة التي لا تتناسب مع مصنع نسيج عادي، عدا عن الموقع النائي والمعزول، إضافة إلى وجود مرافق سرية كشفتها الصور الجوية الاستخباراتية، والأقمار الصناعية التجسسية. وقد أظهرت تلك الصور وجود مفاعل نووي ومنشآت متخصصة لتجهيز المواد النووية، لا يمكن تفسيرها كمصنع نسيج، ناهيك عن وجود نشاط إشعاعي متقدم رُصد في المنطقة.
ورغم الكشف عن طبيعة المنشأة وافتضاح أمرها، إلا أن إسرائيل استمرت في الإنكار، وواظبت في الوقت ذاته على البناء والتشغيل، وتابعت في سياسة التحرك بسرية تامة، والتعتيم على كل ما يتعلق بطبيعتها وأهدافها، ومن دون أن تعترف رسميًا بأي معلومات تخص وجود المفاعل أو برنامجها النووي.
محاولات التفتيش في عام 1961: أصبح المجتمع الدولي أكثر يقظة تجاه برنامج إسرائيل النووي، وبدأت دول عدة تضغط باتجاه إخضاعه للتفتيش الدولي وإجبار دولة الاحتلال على الشفافية في برنامجها، لكن إسرائيل رفضت، أما الولايات المتحدة فتعاملت بحذر مع إسرائيل بسبب تحالفهما الاستراتيجي معها، ضغطت الولايات المتحدة عليها، ولكن بمقدار محدود للتظاهر بالشفافية، ولكن دون أن تفرض عليها عقوبات مباشرة!
بدء التشغيل الحقيق للمفاعل عام 1963: بدأ المفاعل في إنتاج البلوتونيوم من خلال إشعاع اليورانيوم، وهو المادة الأساسية المستخدمة في تطوير الأسلحة النووية وفي الأغراض السلمية أيضًا مثل توليد الطاقة النووية. ويمثل هذا التاريخ أيضًا نقطة تحول مهمة لأن إسرائيل انتقلت من مرحلة الإنشاء والتجارب إلى مرحلة الإنتاج الفعلي، مما عزز من قدراتها النووية.
إسرائيل تُنتج أول قنبلة نووية عام 1966-1967: أشارت تقديرات الخبراء والمخابرات الغربية إلى أن إسرائيل استطاعت إنتاج مواد نووية (مثل البلوتونيوم) بحلول منتصف الستينيات، وبذلك أصبح لديها القدرة على الإنتاج أول قنبلة نووية قابلة للاستخدام بين عامي 1966-1967. رغم عدم وجود ما يؤكد ذلك من وثائق أو اعترافات بسبب سرية المشروع وغموضه، ولكن التوترات المتزايدة في المنطقة تشير إلى منطقية مثل هذه التقديرات، خاصة مع إصرار دولة الاحتلال على خوض حرب الأيام الستة عام 1967( النكسة) واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والشطر الشرقي من مدينة القدس واحتلال هضبة الجولان السورية واحتلالها لشبه جزيرة سيناء المصرية، كل ذلك يعزز فرضية أن إسرائيل طورت سلاحًا نوويًا كوسيلة ردع للمحيط المعادي.
إسرائيل ترفض التوقيع على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية عام 1968: تهدف معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية إلى منع انتشار الأسلحة النووية بين الدول، وتعزيز نزع السلاح النووي، وتشجيع التعاون السلمي في مجال الطاقة النووية. تُلزَم الدول التي توقع عليها بعدم تطوير أو الحصول على أسلحة نووية، ويُسح لها باستخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية ولكن تحت رقابة دولية.
رفضت إسرائيل التوقيع على المعاهدة وبذلك بقيت خارج نظام الرقابة والتفتيش الدولي، واتبعت سياسة الغموض النووي. وكان التوقيع على المعاهدة سيلزمها بكشف برنامجها النووي بالكامل للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو ما ترفضه جملة وتفصيلًا حفاظًا على سرية مشروعها وقدرتها النووية، وإيمانها بحاجتها الماسة إلى الردع للحفاظ على أمنها في منطقة إقليمية متوترة، محاطة بدول عربية معادية لها.
إضافة إلى أن إسرائيل لم تكن تثق بالمجتمع الدولي أو الدول الكبرى بأنها ستوفر لها الحماية الكافية في حال تعرضت لتهديدات عسكرية. فكان الخيار الأفضل أمامها هو أن تحتفظ بخيار نووي سري كضمان ذاتي لأمنها.
حاول المجتمع الدولي فرض ضغوط سياسية ودبلوماسية على إسرائيل، لكنها نجحت في الحفاظ على موقفها بسبب الدعم الأمريكي المباشر وغير المعلن لها وتقبله لوجود سلاح نووي سري لديها.
تفاهم غير معلن بين إسرائيل وأمريكاعام 1969: توصل كل من رئيسة الوزراء غولدا مائير والرئيس الأميركي نيكسون، إلى تفاهم لم يُعلن عنه ضمن سياسة: "لا تسأل، ولن أُخبر". وبموجب هذه السياسة فإن الولايات المتحدة تلتزم بألا تسأل إسرائيل رسميًا عن امتلاكها سلاحًا نوويًا، ولن تطالب بإخضاع منشآتها النووية للتفتيش، كما أنها لن تضغط عليها للانضمام إلى معاهدة عدم الانتشار النووي، وبالمقابل فإن إسرائيل تلتزم بـالصمت والسرية فيما يتعلق ببرنامجها النووي؛ فلا تعلن رسميًا عن امتلاكها لقنابل نووية، ولن تجري تجارب نووية تكشف برنامجها، كما إنها لن تهدد دولًا أخرى بالسلاح النووي علنًا. وبذلك تم توفير غطاء سياسي أمريكي للبرنامج النووي الإسرائيلي.
وهدفت الولايات المتحدة من وراء هذا التفاهم إلى تفادي تعرضها لإحراج سياسي مع حلفائها الآخرين وخاصة العرب، وتحاشي أي صدام مباشر قد يحدث مع إسرائيل، ومنع انتشار السلاح النووي في المنطقة العربية دون إثارة أزمة.
استقرار سياسة "الغموض النووي" عام 1970: بحسب الأرشيف القومي الأمني الأمريكي، فإنه في هذا العام رُسخ تفاهم مائير- نيسكون، وتوقفت الولايات المتحدة فعليًا عن إثارة ملف مفاعل ديمونة في العلن. وتشير الوثائق السرية من أرشيف الرؤساء الأمريكيين (Document 28، اجتماع 23 شباط 1970)، إلى أن إدارة نيكسون أوعزت للمسؤولين وأصدرت توجيهات واضحة بعدم ممارسة المزيد من الضغط على إسرائيل طالما حافظت على برنامج "متحفظ وغير مرئي".
وبحسب تقديرات استخباراتية، كانت إسرائيل في هذه المرحلة تمتلك ما بين 2 إلى 5 رؤوس نووية قابلة للاستخدام، وربما أكثر. كما استمرت في إنتاج البلوتونيوم وزيادة المخزون الاستراتيجي دون لفت أنظار المجتمع الدولي إليها. وزُودت أيضًا بمعدات إعادة معالجة البلوتونيوم، وهي التكنولوجيا اللازمة لاستخراج البلوتونيوم المستخدم في صناعة الأسلحة النووية.
بعد عام 1970 وحتى 1986 فضح البرنامج النووي الإسرائيلي على الملأ: بعد عام 1970، شهد مفاعل ديمونا مراحل تطوير وتوسيع لزيادة إنتاج البلوتونيوم اللازم لصنع رؤوس نووية، وبناء منشآت معالجة نووية مرتبطة بالمفاعل لاستخلاص البلوتونيوم من الوقود النووي المستخدم، كما عملت فرق العلماء على تحسين نوعية وكمية الأسلحة النووية المنتجة، مع استمرار سياسة الغموض النووي والسرية التامة حول تفاصيل المفاعل وأنشطته، وتشديد للإجراءات الأمنية حول المفاعل.
في عام 1986، سرَّب مردخاي فعنونو الفني السابق في المفاعل معلومات كشفت تفاصيل مهمة عن البرنامج النووي الإسرائيلي( وهو ما سنتحدث عنه لاحقًا في هذا التقرير)، أدت إلى أزمة دولية وأثارت جدلًا واسعًا.
بالنسبة للخلفية التقنية: فيحتوي مفاعل ديمونا على منشآت داعمة ذات وظائف حيوية، وتشمل:
- منشآت إعادة المعالجة الكيميائية: لفصل البلوتونيوم من الوقود النووي المستهلك.
- منشآت التخزين المؤقت: لتخزين الوقود النووي المستَهلك والنفايات المشعة قبل معالجتها أو للتخلص النهائي منها.
- منشآت التبريد: حيث يُوضع الوقود المستهلك المفاعل لتبريده وتقليل نشاطه الإشعاعي قبل نقله أو معالجته.
الوظيفة الأساسية لمفاعل ديمونا هي إنتاج البلوتونيوم لاستخدامه في الأسلحة النووية. وأثناء عملية إنتاج البلوتونيوم يعمل المفاعل بـالماء الثقيل، ويُبرد به أيضًا، ويُستعمل اليورانيوم الطبيعي غير المخصب وقودًا لتشغيله.
مصطلحات تقنية مهمة
#البلوتونيوم (Plutonium):
عنصر كيميائي مشع ونادر، اكتُشف لأول مرة عام 1940 في الولايات المتحدة الأمريكية، ويعتبر أحد أخطر المواد المشعة المستخدمة في الأسلحة النووية، ينبعث منه إشعاع ألفا (α) شديد التأثير على الجسم. كميات ضئيلة جدًا منه تسبب سرطان الرئة أو العظام، عمره طويل جدًا، فنصف عمره يبلغ 24,100 سنة. من الصعب رصده واكتشافه مقارنة باليورانيوم. الأمر الذي يجعل من البلوتونيوم مادة مثالية للبرامج النووية السرية، مثل برنامج إسرائيل في ديمونا، أو محاولات أي دولة تصنيع سلاح نووي دون التعرض للانكشاف.
المادة الانشطارية، مادة يمكن أن تُطلق كمية هائلة من الطاقة إذا فُجِّرت نوويًا. وتشمل: اليورانيوم-235، والبلوتونيوم-239، وهذه المواد لديها القدرة على الانشطار عند ضربها بنيترونات، حيث تطلق طاقة هائلة ونيترونات جديدة (تضرب ذرات أخرى من العنصر) تؤدي إلى تكرار العملية وتتسبب في تفاعل متسلسل ومستمر.
يمكن أن تُستخدم المادة الانشطارية في تفجير نووي إذا وصلت لكتلة حرجة، والكتلة الحرجة هي أصغر كمية من المادة الانشطارية التي تسمح بحدوث تفاعل نووي متسلسل يستمر ذاتيًا.
#الماء الثقيل:
مركب كيميائي يختلف عن الماء العادي باحتوائه على نظير ثقيل من الهيدروجين يسمى الديوتيريوم بدلًا من الهيدروجين العادي. يستعمل الماء الثقيل في المفاعلات النووية كمهدئ، خلال عملية الانشطار النووي لضمان استمرار التفاعل المتسلسل بفعالية، وخاصة في المفاعلات التي تستخدم اليورانيوم الطبيعي غير المخصب كوقود. ويستعمل الماء الثقيل أيضًا كمبرد، ليمتص الحرارة الناتجة عن التفاعلات النووية وينقلها إلى خارج قلب المفاعل.
تعد أنظمة التبريد حاسمة لسلامة المفاعل، وقد أثيرت مخاوف بشأن تقادم نظام التبريد في مفاعل ديمونا، مما يستدعي صيانة وتحديثات دورية لضمان استمرارية التشغيل الآمن.
#اليورانيوم الُمخصب:
اليورانيوم المُخصب هو اليورانيوم الذي تمت زيادة نسبة نظير اليورانيوم-235 فيه بشكل مصطنع، مقارنةً بما هو موجود في الطبيعة، لاستخدامه في الانشطارات النووية وتوليد الطاقة النووية أو الأسلحة النووية.
لتخصيب اليورانيوم، يُستخرج اليورانيوم الطبيعي من الأرض على شكل خام اليورانيوم وهو مادة صلبة تتكون من نظائر اليورانيوم 238 و235 مع تركيز كبير لليورانيوم- 238 ولكن اليورانيوم- 238 يمتص النيوترونات ويثبط استمرار التفاعل المتسلسل. لذا يُنقى اليورانيوم الطبيعي عبر سحقه وطحنة، ويُعالج كيميائيًا لإزالة الشوائب منه، فيتحول إلى ما يُعرف بالكعكة الصفراء، التي تُسخن ويضاف إليها حمض الهيدروفلوريك (HF)، وعبر تفاعل كيميائي تتحول الكعكة الصفراء إلى مادة خضراء صلبة هي رباعي فلوريد اليورانيوم (UF₄)، يُجرى تفاعل لهذه المادة مع غاز الفلور (F₂) عند درجة حرارة ~350°C، لينج غاز هيكسافلوريد اليورانيوم (UF₆) الذي يوضع في أجهزة الطرد المركزي، فينجذب اليورانيوم- 238 للخارج وهو الأثقل، بينما يتركز اليورانيوم- 235 وهو الأخف في المركز، وهما نظيران لعنصر اليورانيوم، لكن بينهما فروقات أساسية من حيث التركيب، والتفاعل، والاستخدام.
يُسحب الغاز الأقرب إلى المركز ويُعاد تدويره مرات كثيرة في سلسلة من الأجهزة للحصول على النسبة المطلوبة من تركيز اليورانيوم حسب الحاجة المراد استخدامه لها.
#الطاقة النووية السلمية:
تستخدم الطاقة النووية سلميًا لتوليد الكهرباء وتسخين الماء والطب النووي والري والزراعة والأبحاث العلمية وتحلية مياه البحر وتشغيل مركبات الفضاء والدفع البحري.
الردع النووي بين الاستحواذ وسياسة الغموض والهيمنة
منذ بداية تأسيسها، سعت دولة الاحتلال إلى التفوق العسكري على جيرانها المعادين. وكما أسلفنا سابقًا، فإن البرنامج النووي الذي سعت لإنشائه بكل قوة وتصميم كان حجر الزاوية في هذا التفوق، والذي شكَّل عنصرًا مهمًا في إعادة تشكيل ميزان القوى الإقليمية في المنطقة العربية والإسلامية، وأدى إلى تعزيز مكانة دولة الاحتلال استراتيجيًا وفرض واقع من الردع النووي غير المصرح به إقليميًا ودوليًا، ودون أن يؤدي برنامجها هذا إلى إثارة ردود فعل سياسية أو قانونية مباشرة من المجتمع الدولي، وذلك باعتمادها ومنذ البداية لسياسة الغموض النووي.
هذا التفوق النووي الذي عمل خارج أي نوع من الرقابة، أنتج حالة من الهيمنة الاستراتيجية لدولة الاحتلال على المنطقة جمعاء، وكان له تبعات سياسية وأمنية لا يمكن غض النظر عنها، واستُخدم كأداة لإبقاء الخصوم في المنطقة تحت ضغط دائم.
لم تُعلن دولة الاحتلال رسميًا عن امتلاكها لسلاح نووي منذ البدء ببنائه وحتى الآن، رغم أن العالم كله يعرف أو يعتقد على الأقل أنها تملكه. والحديث عن القدرات النووية" الإسرائيلية" لا يزال من المحظورات الشديدة داخل دولة الاحتلال، محظورات لا تستثني أحدًا، علماء كانوا أو كتابًا أو إعلاميين أو سياسيين.
رغم أن سياسيين مثل وزير الثقافة والتراث الإسرائيلي، أميخاي إلياهو من حزب «عوتسماه يهوديت- القوة اليهودية» اليميني المتطرف قد ألمح في تشرين ثاني 2023 على إذاعة راديو محلي إلى إمكانية اللجوء إلى سلاح نووي ضد غزة بقوله: "إن إسقاط قنبلة نووية على قطاع غزة هو خيار مطروح". ما دفع رئيس الحكومة نتنياهو إلى المعاجلة بإصدار أمر بتعليق مشاركة إلياهو في اجتماعات الحكومة، ورفض تصريح الوزير ووصفه بأنه "غير واقعي"، أما وزير الدفاع آنذاك يوآف غالانت فاستنكر التصريح بقوله:" من الجيد أن هؤلاء ليسوا مسؤولين عن أمننا"... كل ذلك للحفاظ على سرية البرنامج وعدم الإدلاء بأي معلومات تخصه.
الهدف الاستراتيجي من سياسة الغموض النووي التي تتبعها دولة الاحتلال أو "الإنكار المتعمد" فلا تؤكد ولا تنفي امتلاكها للأسلحة النووية كنوع من تعزيز الردع، عبر ترك الخصوم في شك حول الحجم الحقيقي الذي تمتلكه من ترسانة نووية وعن طبيعة نواياها في استخدامها، دون أن يؤدي ذلك لإشعال سباق تسلح علني في المنطقة العربية والإسلامية المحيطة أو دعوة إلى شن هجمات استباقية، كما يوفر لدولة الاحتلال مرونة دبلوماسية تمكنها من التعامل مع الاتفاقيات المطروحة دون أن تضطر للإفصاح الصريح.
يرجح الخبراء أن" إسرائيل" تمتلك بين 80 و200 رأس نووي تقليدي وهيدروجيني، مع مخزون من البلوتونيوم يصل إلى 1110 كغم من البلوتونيوم، وهو ما يكفي لصنع 277 سلاحًا نوويًا. ونظام يسمح لها باستخدام أسلحتها النووية من ثلاثة مسارات مختلفة جويًا وبحريًا وبرًا وهو ما يُعرف بـالثالوث النووي. ويُقدر أن لدى دولة الاحتلال ست غواصات يُعتقد أنها قادرة على إطلاق صواريخ كروز نووية، وصواريخ باليستية" يريحو" يُعتقد أنها قادرة على إطلاق رؤوس نووية يصل مداها إلى 6500 كيلومتر.
امتلاك السلاح وتطويره كأداة للهيمنة النفسية والاستعمار وازدواجية المعايير الدولية
قضية مفاعل ديمونا النووي تبرز بشكل واضح ازدواجية المعايير في النظام الدولي بخصوص انتشار الأسلحة النووية. فهناك دول مثل كوريا الشمالية، التي انسحبت من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، وكذلك باكستان والهند، اللتان لم توقعا عليها أصلًا، كلها تخضع لقيود وعقوبات دولية صارمة بسبب برامجها النووية. بالمقابل، إسرائيل، رغم أنها في نفس الموقف الرسمي بعدم توقيعها على المعاهدة، تُعامل بشكل مختلف تمامًا، إذ تُمنح حماية ضمنية أو "وصاية غير معلنة" من القوى الكبرى، التي تتغاضى عن ترسانتها النووية طالما أنها تخدم مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
هذه الظاهرة تفضح ازدواجية القانون الدولي الذي يفترض أن يكون أساسًا للعدالة والمساواة بين الدول، لكنه في الواقع يتحول إلى أداة نفوذ سياسي واقتصادي تُستخدم انتقائيًا. فبموجب هذا النظام، تُفرض عقوبات صارمة وتُمارس ضغوط هائلة على دول أخرى في المنطقة، مثل إيران والعراق، بحجة انتهاك قواعد عدم انتشار أسلحة الدمار الشامل، بينما تُمنح دولة الاحتلال تصريحًا مجانيًا للعمل في برنامجها النووي كما تشاء، ويُتغاضى تمامًا عن الانتهاكات الصريحة لها، وتُترك لتحتفظ وتطور وتزيد من ترسانتها النووية دون أي مساءلة حقيقية. هذا التفاوت في التطبيق يعكس بوضوح كيف يُستخدم القانون الدولي أحيانًا لتبرير مصالح القوى الكبرى، لا لتحقيق العدالة أو الأمن العالمي.
يتجلى هنا ما أشار إليه فرانز فانون في تحليله للاستعمار كنظام سلطوي ليس فقط بالاحتلال العسكري المباشر، بل من خلال فرض نظام مغاير للعدالة والمعايير، إذ يُعامل المستعمِر أو حلفاؤه بمكانة استثنائية لا تخضع للمحاسبة، بينما يُحرم الآخرون من نفس الحقوق والمميزات.
في الحالة" الإسرائيلية"، تتجسد هذه الازدواجية بوضوح بتغييب المراقبة الدولية الفعالة على مفاعل ديمونا، وفي عدم إلزام" إسرائيل" بالتقيد بالتفتيش أو الإفصاح عن طبيعة وقدرات برنامجها النووي، ما يرسخ إحساسًا باللامساواة، ويُضعف من شرعية القانون الدولي نفسه في المنطقة.
إلى جانب القانون الدولي المزدوج، يشير فانون إلى ظاهرة أكثر حساسية لكنها ذات أثر بالغ في ترسيخ الاستعمار، ألا وهي النخب المحلية التي تتبنى خطاب المستعمِر وتُعيد إنتاجه داخل مجتمعاتها. هؤلاء هم المثقفون، السياسيون، وقادة الرأي الذين، بدلًا من أن يقاوموا الهيمنة، يصبحون وسطاءها الداخليين، يُعيدون تدوير خطاب الاستعمار لكن بلسان محلي، وبهوية مفرغة من القوة الذاتية. حيث نرى في سياق ملف مفاعل ديمونا انعكاسًا لهذا الموقف في بعض النخب العربية التي تتحدث عن التوازن الإقليمي والضمانات الدولية والأمن في المنطقة حين يتعلق الأمر بدولة مثل إيران، بينما نرى نقيضه يمر دون مساءلة جوهرية للطرف الذي يملك السلاح النووي فعليًا وبشكل غير قانوني بل ويستغله كوسيلة للترهيب والهيمنة.
هذا الخطاب، وإن بدا منطقيًا من وجهة نظر السياسة الواقعية، إلا أنه في الواقع يعكس حالة من الاستلاب الفكري والنفسي التي ينتقدها فانون، حيث يتحول اللسان المحلي إلى أداة لاستيراد خطاب الخارج، ويُعاد إنتاج الهيمنة الثقافية عبر اللغة والكلمات الكبيرة التي لا تعبر عن الواقع الحقيقي للشعوب، بل تخدم مصالح القوى المستعمِرة.
هذا التكرار للأفكار واللغة الاستعمارية بين النخب، يسهم في إدامة حالة الضعف والافتقار إلى الإرادة الوطنية الحقيقية، التي تحتاجها المجتمعات لمواجهة التهديدات الحقيقية التي تمثلها القوى الاستعمارية المهيمنة مثل" إسرائيل".
ما يزيد من خطورة ملف ديمونا هو ما يمكن تسميته بـالترهيب النفسي الجماعي، وهي حالة من الخوف والقلق المستمر الذي يعيشه سكان المنطقة تحت وطأة وجود سلاح نووي غامض، يخضع لسرية مطلقة ولا يخضع لأي مراقبة دولية فعالة.
فانون يرى أن الاستعمار لا يقتصر على السيطرة المادية، بل يمتد إلى تحطيم الذات النفسية للمستعمَر، بحيث يعيش الإنسان في حالة من القلق الدائم والاغتراب عن واقعه.
مفاعل ديمونا، بغموضه وسريته، يمثل رمزًا لهذا النوع من الهيمنة: فهو "القنبلة الصامتة" التي تسيطر على لاوعي شعوب المنطقة، وتزرع فيها شعورًا بالعجز والخوف الذي يحد من قدرتها على المقاومة أو حتى الحديث بحرية عن التهديدات التي تواجهها.
إن الغموض الاستراتيجي حول طبيعة المفاعل، والإنكار الرسمي لإسرائيل لامتلاكها أسلحة نووية، بالإضافة إلى التهديدات غير المعلنة والردع القائم على الخوف، يشكلان معًا بنية ردع نفسية تبقي شعوب المنطقة المحيطة تحت وطأة الاستعمار الرمزي المستمر، حتى وإن غاب الاحتلال المباشر.
وبهذا تفرض إسرائيل هيمنة غير تقليدية تعتمد على إرهاب رمزي يتحول فيه السلاح النووي إلى أداة نفسية أكثر من كونه مجرد أداة عسكرية، تسيطر من خلالها على المنطقة دون الحاجة لخوض حروب تقليدية، ما يتماشى تمامًا مع تصور فانون بأن التحرر لا يكون فقط بكسر الأسلحة، بل بتفكيك هذه السيطرة النفسية العميقة.
نوعم تشومسكي؛ مفكر وسياسي وعالم لغة يهودي أميركي، وأحد الأصوات المناهضة للسياسة" الإسرائيلية" تجاه الفلسطينيين، ورغم أنه ليس متخصصًا في المجال النووي، ولكنه من أبرز الأصوات انتقدت التعتيم الإسرائيلي حول ترسانتها النووية.. وصف تشومسكي الاحتلال الإسرائيلي بأنه استعماري وغير أخلاقي، وفي مقابلة مع Democracy Now شدَّد على أن ما تفعله إسرائيل في الأراضي المحتلة أسوأ بكثير من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، لأنها تسعى لطرد الفلسطينيين أو احتجازهم، خلافًا لجنوب أفريقيا التي كانت تعتمد على السكان كأيدي عاملة.
كتب تشومسكي وألقى محاضرات حول الازدواجية الغربية في التعامل مع إيران" وإسرائيل"، من أقواله:" العالم يعلم بامتلاك" إسرائيل" للسلاح النووي، ومع ذلك يُفرض الضغط على دول أخرى لتتخلى عنه... هذا نفاق واضح".
أخطار محدقة يجرها مفاعل ديمونا للمنطقة
يُعد وجود مفاعل ديمونا من القضايا المسكوت عنها سياسيًا، والتي تحمل في طياتها تهديدات صحية وبيئية خطيرة، خاصة مع وجود احتمالية حدوث تسرب أو حوادث أو إساءة تخزين؛ فمفاعل ديمونا يقع في صحراء النقب، ولكنه ليس ببعيد عن حدود الأردن ومصر وغزة، ففي حال حدوث أي تسرب إشعاعي نتيجة حوادث عرضية في المفاعل أو أثناء عملية التعدين ومعالجة اليورانيوم، أو في حالة التخلص غير الصحيح من النفايات النووية، فإن الغبار النووي يمكنه أن ينتقل لمسافات كبيرة بواسطة الرياح، ويسقط أرضًا بفعل الجاذبية أو المطر، فينتشر في المناطق المحيطة، ويتسبب بتلويث التربة والمياه والهواء وحتى الغذاء بدخوله في السلاسل الغذائية التي توصل العناصر المشعة التي يحملها في ثناياه إلى جسم الإنسان في نهاية المطاف.
ويعتبر قطاع غزة من أكثر المناطق هشاشة في حال حدوث أي تسرب نووي، لضعف البنية الصحية والكثافة السكانية العالية.
يدخل الغبار النووي لجسم الإنسان عبر الاستنشاق أو الابتلاع، ولدى التعرض المباشر بملامسة الجلد له يتسبب بحروق إشعاعية، ويتسبب بتلف في الحمض النووي داخل الخلايا، ينتج عنه طفرات سرطانية، خاصة في العظام والغدة الدرقية والرئتين، ناهيك عن آثار طويلة الأمد مثل العقم، وتشوهات خلقية في الأجنة، وأمراض مزمنة.
ويحتوي الغبار النووي عادة على عناصر مشعة منها: اليود-131، والسيزيوم-137 وهو عنصر ضار يبقى في البيئة لعقود، والسترونشيوم-90 الذي يتراكم في العظام، والبلوتونيوم-239 وهو عنصر مشع خطير جدًا على المدى الطويل، وجميع هذه العناصر تسبب أضرارًا في أنسجة الجسم وتؤدي إلى حدوث أنواع مختلفة من السرطانات.
قضية رفعت عام 1997 اعترفت فيها محكمة تل أبيب بأن أحد عمال صيانة الأنابيب في مفاعل ديمونا تسبب له عمله في المفاعل بالإصابة بالسرطان، وارتبط الحُكم بثلاثة حوادث إشعاعية محلية تعرض لها العامل قبل إصابته بالسرطان، وقد توفي بعمر 43 عامًا بعد سنتين فقط من الحادث الثالث. أمرت المحكمة بصرف تعويضات لعائلته باعتبار الوفاة ناجمة عن حادث عمل إشعاعي. وشكَّل هذا القرار سابقة قانونية، لأنه كان أحد أول الأحكام في" إسرائيل" التي تعترف علنًا بارتباط العمل في مفاعل ديمونا بالإصابة بالسرطان.
ورفع أيضًا 44 موظفًا في مفاعل ديمونا ومركز الأبحاث النووية ناحال سوروك دعاوي ضد الدولة، مدعين تعرضهم لإشعاعات خطيرة خلال البحث عن مواد مشعة في تسعينيات القرن الماضي، رغم نفي السلطات لذلك.
وأمرت المحكمة عام 2017 بدفع تعويض بحدود 78 مليون شيكل لـِ 170 موظفًا وعائلاتهم ممن أصيبوا بالسرطان بعد عملهم في المفاعل، رغم أن هيئة الطاقة الذرية "الإسرائيلية" لم تعترف رسميًا بالسبب الإشعاعي.
في أيار 2015 بثت القناة الإسرائيلية العاشرة تحقيقًا جريئًا وغير مسبوق في فيديو مصور مدته 39:53 دقيقة تحت عنوان "السر المعتم.. فرن ديمونا" أكد على إصابة عدد كبير من العاملين السابقين في مفاعل ديمونا بمرض السرطان، وعرض شهادات مؤلمة لعائلات الضحايا حول الإهمال الطبي والتعتيم الرسمي، ووجه الفيلم اتهامات للسلطات" الإسرائيلية" بمحاولة إخفاء العلاقة بين الإشعاعات النووية والوفيات، وتجاهل حقوق الضحايا ورفض تعويضاتهم. ويُعتبر الفيلم تحقيق نادر يكسر الصمت الرسمي حول المخاطر داخل المفاعل.
دراسة أُجريت في الضفة الغربية في محافظة بيت لحم عام 2008، بعنوان" تركيز النشاط الإشعاعي في عينات التربة في الجزء الجنوبي من الضفة الغربية/ فلسطين"، جمع فيها الباحثون 50 عينة من التربة من مناطق مختلفة في محافظة بيت لحم لفحص تركيز عنصر السيزيوم- 137 (والسيزيوم-137 هو النواة المشعة الوحيدة من صنع الإنسان حيث يتكون نتيجة الانشطار النووي لليورانيوم-235 أو البلوتونيوم-239 في المفاعلات أو الأسلحة النووية)، أشارت النتائج إلى وجود نشاط إشعاعي للسيزيوم-137 بنسبة تزيد عن المتوسط، وهي نسبة تُعزى إلى انتشار العنصر عبر الغبار النووي المتساقط جوًا.
دراسة ميدانية أُجريت عام 2007 في منطقة يطا، جنوب الخليل، نفَّذها فرع فلسطين من منظمة "الأطباء الدوليين لمنع الحرب النووية". شملت الدراسة نحو 50,000 نسمة في يطا والمناطق المجاورة خلال الفترة فبراير- يوليو 2007، حيث أشارت الوثائق التي جُمعت من مختلف العيادات والمستشفيات والملاحظات الخاصة للباحثين إلى أن سكان المناطق الجنوبية من محافظة الخليل كانوا أكثر عرضة للأمراض المرتبطة بالإشعاعات النووية، مثل الإجهاض المتكرر وتشوهات الأجنة، بالإضافة إلى زيادة حالات السرطان والعقم. ورصدت نتائج الدراسة وجود 368 حالة سرطان بدون تاريخ عائلي معروف.
كما قيس تركيز عنصر السيزيوم‑137 في التربة ووجد ارتفاع في نسبة وجوده من عام 2002 وحتى عام 2007 بدرجة كبيرة وأصبح أعلى من المعدلات المقبولة في البيئات غير المتأثرة مباشرة بالترسيب النووي، وهو ما اعتبره الباحثون ينسجم مع فرضية التلوث الإشعاعي المرتبط بالغبار النووي.
بيان للأمم المتحدة قُدم إلى مجلس حقوق الإنسان في آب 2023، يستشهد بالدراسات الميدانية التي أوردت قياسات دقيقة للسيزيوم‑137 في يطا والظاهرية وغيرها في عينات التربة، وجد أن كميات هذا العنصر المشع تعادل تلك التي تم العثور عليها بعد كارثتي تشيرنوبل وفوكوشيما.
ويحذر البيان من خطر تلوث المياه الجوفية في الخزانات المشتركة بين دولة الاحتلال والمناطق الفلسطينية بالإشعاع النووي، وهو ما يُشكل مصدر قلق كبير، ويشير إلى أن إسرائيل لم توقع قط على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، كما إنها لا تسمح للوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش منشآتها النووية!
دراسة جيولوجية كيميائية أُجريت عام 2008 بعنوان" الاستخدام الزراعي المستدام لمصادر المياه الطبيعية التي تحتوي على نشاط مرتفع من الراديوم"، ركزت على النشاط الإشعاعي في مياه صحراء النقب والعقبة، أظهرت النتائج تركيزات مرتفعة غير معتادة من الراديوم واليورانيوم في المياه الجوفية، الأمر الذي يستدعي البحث باهتمام عن مصدر إشعاعي محتمل مثل تسرب من مفاعل نووي أو نفايات إشعاعية.
تقرير آخر لوكالة إنتر برس سيرفس، نشر في نيسان 1996 بعنوان" النشاط الإشعاعي الطبيعي في المياه الجوفية في صحراء النقب ووادي عربة "إسرائيل"" أشار إلى أن الإشعاع يتسرب إلى المياه الجوفية في صحراء النقب بالقرب من مفاعل ديمونا. رغم نفي السلطات.
وما يثير المخاوف هو الحاجة المستمرة لتبريد المفاعل، والتي تُنذر بخطر تسريب المواد المشعة التي يتم التعامل معها وتصنيعها داخل المفاعل إلى المياه الجوفية في صحراء النقب، ومنها قد تصل إلى نهر الأردن أو الخزانات الجوفية المشتركة مع الأحواض المائية الأخرى. أظهرت نتائج دراسة أجرتها جامعة بن غوريون، وجود ارتفاع في النشاط الإشعاعي في المياه الجوفية في صحراء النقب ووادي عربة، بنسبة تصل إلى 10 أضعاف المعدل الطبيعي. القائمون على الدراسة ربطوا ذلك مباشرة بمفاعل ديمونا، وقد اثارت النتائج قلق الخبراء.
هل ينحصر البرنامج النووي الإسرائيلي في مفاعل ديمونا؟
يُستخدم مفاعل ديمونة لإنتاج البلوتونيوم المستخدم في صنع الأسلحة النووية، وتشير التقارير إلى أنه يُنتج 1.2 كغ بلوتونيوم في الأسبوع، ما يكفي لصنع 4‑12 سلاح نووي سنويًا، كما يحتوي المفاعل على منشآت تتم فيها عمليات إعادة المعالجة واختبارات المواد المشعة.
يُعتبر مفاعل ديمونا العقل النووي العسكري" لإسرائيل"، ولكنه ليس المكان الوحيد في دولة الاحتلال الذي تُجرى فيه التجارب النووية، وتُخزن فيه المواد المشعة أو الأسلحة النووية بعد إنتاجها، فإنه وبحسب مصادر نافذة مثل اتحاد العلماء الأمريكيين، والأرشيف النووي، فإن البرنامج النووي الإسرائيلي يُدار عبر عدة مواقع متخصصة:
**موقع إنتاج البلوتونيوم ويتم في مفاعل ديمونا.
**مركز الأبحاث والتقنيات الإشعاعية ويتم في مفاعل نحال سوروك قرب مدينة ريشون ليتسيون، ويقوم بتنفيذ أبحاث نووية مدنية، وإنتاج نظائر مشعة، وتدريب، ومراقبة إشعاعية.
**مواقع تخزين على امتداد دولة الاحتلال وتقع في مناطق متفرقة، وتُستخدم لتخزين وتجميع الأسلحة النووية وصيانتها: مثل تيروش( تخزين الأسلحة الاستراتيجية ويقع وسط دولة الاحتلال)، كفار زيخاريا( وهي قاعدة صواريخ نووية من طراز يريحو، وتقع قرب بيت شيمش)، يوديفات وهي موقع لتجميع أو تفكيك الرؤوس النووية وتقع في الجليل الأعلى)، إيلابون( وهو مخزن تكتيكي للأسلحة النووية ويقع في الجليل الشرقي)، رفائيل للأنظمة الدفاعية المتطورة( وهو موقع لتطوير وصيانة الأسلحة النووية ويقع قرب حيفا في الشمال)، قاعدة سدوت ميشا( وهي منصة لإطلاق الصواريخ الباليستية يريحو 2،3 النووية وتقع في الجنوب الغربي من القدس).
**مواقع لإنتاج الصواريخ وبنية تحكم جوية استراتيجية( بير يعقوب ونتافيم، وبالماشيم وهي قاعدة صواريخ وتجارب فضائية، ومغطاة أحيانًا على الخرائط).
** مرافق داعمة وتنظيمية( مثل روتم أمفرت، وهي منشأة صناعية تقع في شمال ديمونا في صحراء النقب، لمعالجة الفوسفات- وهو مورد طبيعي يُستخرج منه اليورانيوم الطبيعي بتركيزات ضئيلة، إضافة إلى أن منتجات الفوسفات الكيميائية مثل الفوسفور الأبيض الذي يدخل في صناعات عسكرية وذخائر محرمة دوليًا).
كارثة وشيكة تقرع الأبواب بقوة
دراسة للوكالة الأميركية للطاقة النووية، صدرت في عام 2021 تحلّل آثار الشيخوخة والإشعاع النيوتروني على البنية الخرسانية المحيطة بالمفاعلات، وخصوصًا تلك التي تجاوز عمرها 40 عامًا. عالجت الدراسة التعرض للإشعاع النيوتروني بمستويات حددتها الدراسة، وخلصت إلى أن هذه الإشعاعات تؤثر في المواد الحجرية داخل الخرسانة التي تتكون منها جدران وأسطح المفاعلات، وتسبب فيها توسعًا داخليًا يشكل فجوات دقيقة، تعتبر من أكثر المؤشرات المقلقة لديمومة سلامة الغلاف الخرساني حول المفاعل، وتجعله قابلًا للتصدع والانهيار.
رغم أن هذه الدراسة الأمريكية عالجت مشكلة تتعلق بالمفاعلات بشكل عام إلا أن نتائجها تنطبق على مفاعل ديمونا الذي تجاوز عمره نصف القرن، وبدأ الخبراء يقرعون أجراس الإنذار ويحذرون من المخاطر التي بدأت تحفه.
حذَّر العالِم" الإسرائيلي" عوزي إيفين الذي كان عضوًا في إدارة مفاعل ديمونا، من وقوع كارثة شبيهة بانفجار مفاعل تشيرنوبل، قائلًا:" مفاعل (ديمونا) صغير جدًا مقارنة بـتشيرنوبل، ولكنه يعمل وينتج نفايات نووية منذ نحو ما يزيد عن 55 عامًا، بينما تتراكم النفايات وتخزَّن في موقع المفاعل، لدرجة أن كمية النفايات المشعة التي تراكمت في ديمونا أصبحت لا تقل كثيرًا عن الكمية التي انتشرت في كارثة مفاعل تشيرنوبل".
وقال إيفين لموقع تايمز أوف" إسرائيل" إن هناك العديد من الأسباب السياسية التي تسهم في إبقاء المفاعل النووي مفتوحًا، منها عدم الرغبة بتعريض آلاف الوظائف للخطر، ناهيك عن أن بناء مفاعل جديد يعني أن على "إسرائيل" أن تعلن رسميًا عن قدراتها النووية.
وأوردت صحيفة هآرتس تحقيقًا أكد وجود 1,537 عيبًا في أُسس الألمنيوم في مفاعل ديمونا، حيث أفادت تقارير علمية وصور أقمار صناعية بأن مفاعل ديمونا قد دخل في مرحلة الخطر الإستراتيجي بسبب انتهاء عمره الافتراضي.
أبراج التبريد الخاصة بمنشآت المفاعل والتي لم تُجدد منذ أكثر من ثلاثين عامًا، باتت مصدر قلق لدى الخبراء، والتي تعتبر مؤشر خطر تشير إلى إمكانية حدوث انفجار مماثل للذي حدث وأدى إلى انفجار مفاعل تشرنوبل في أوكرانيا عام 1986، إضافة إلى أخطار أخرى متوقعة ومحتملة جراء تآكل جدران المفاعل وتصدُّعها وما يرافق ذلك من انزلاقات أرضية تنذر بكارثة بيئية لخطر الانفجار وتسرب الإشعاعات السامة القاتلة.
مقالًا تحليليًا لموقع( مجلة +972 ) نُشر في آذار 2011 بعنوان:" الزلازل والمشروع النووي الإسرائيلي: السيناريو الكابوسي" ناقش سيناريو حدوث زلزال في المنطقة وتأثيرات ذلك على مفاعل ديمونة. فبحسب المقال، فإن ما يزيد من خطورة المفاعل هو وقوعه على خط الصدع السوري الإفريقي، وهو أحد أكثر المواقع تعرضًا للزلازل في المنطقة، ورغم شدة المخاطر، لا يُتطرق علنًا إلى قدرة المفاعل على الصمود ضد زلزال ويمنع القيام بأي استعدادات لاحتمال وقوع كارثة نووية، ويشير المقال إلى وقوع زلازل تاريخية خطيرة (كالتي حدثت في أعوام 1837 و1937) وضربت وادي الأردن والبحر الميت، مما يوضح جدية الخطر الطبيعي وفق الحسابات التاريخية.
هياكل وهمية للتغطية على طبيعة المفاعل
تشير مقالة في صحيفة واشنطن بوست إلى أن إسرائيل أنشأت غرف تحكم زائفة، وألواح تحكم مؤقتة مزيفة، لتحاكي مشروعًا صناعيًا مدنيًا (كمحطة مياه أو مصنع نسيج)، وخدعت المفتشين الأمريكيين مرارًا خلال زياراتهم للمفاعل في ستينيات القرن الماضي، ضمن اتفاق سرّي مع واشنطن.
سُمح لمفتشين أمريكيين بدخول الموقع (بالترتيب المسبق فقط ولمدة محددة) أكَّدوا أن" إسرائيل" بنت غرفة تحكم زائفة مزودة بألواح وأجهزة كمبيوتر أوهمتهم بأنها غرفة إدارة لمشروع ري. وكانت تغلق ممرات سرية، وتُنصب جدرانًا مؤقتة تمنع الوصول إلى المنشآت الحقيقية (مثل وحدات إعادة المعالجة). وتُنشئ واجهة مزيفة بأجهزة ذات مظهر مدني.
كتاب خيار شمشون ( The Samson Option: Israel's Nuclear Arsenal and American Foreign Policy ) للصحفي الاستقصائي الأمريكي سيمور هيرش، يحتوي تفاصيل فظيعة عن غرف التحكم الوهمية في مفاعل ديمونا، وكان من أوائل من قدموا أدلة صحفية قوية أشارت إلى أن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية. تحدث هيرش في كتابه عن غرف التحكم الزائفة التي تُبنى خصيصًا لعرضها أمام المفتشين الأمريكيين، والتي تم فيها استخدام أجهزة تحكم وقياس مزيفة، وتم توظيف خدع بصرية وهندسية، مثل إقامة حوائط مؤقتة لتقسيم الغرف الكبيرة إلى أقسام صغيرة لإخفاء المعدات الأساسية وتغطية المناطق الحقيقية الحساسة، عدا عن طلي أسطح المعدات من أنابيب وآلات لتبدو وكأنها قديمة وغير مستعملة. ولإظهار الصورة على أكمل وجه، تم تأهيل الموظفين وتعليمهم كيفية التصرف بطريقة مسرحية أثناء زيارات التفتيش؛ لإلباس المنشأة القناع السلمي.
هذه الحيل كانت تستخدم خصوصًا أثناء زيارات المختصين الأمريكيين أو الأوروبيين التي كانت تجري بعد ترتيبات سياسية مجدولة، وضمانات بأن المشروع مدني. ورغم علم الولايات المتحدة بحقيقة المشروع كما ذكر هيرش، إلا أنها اختارت غض النظر، في إطار صفقة الغموض النووي مع" إسرائيل".
وتعرف النفايات النووية على أنها المواد التي تبقى بعد استخدام الوقود النووي أو إجراء العمليات النووية في المفاعلات، وتكون غير صالحة للاستخدام لكنها تستمر في خاصيتها المشعة والخطيرة لفترات زمنية طويلة. وتُقسم النفايات النووية إلى 3 أقسام بحسب كمية الإشعاع التي تلوثها:
*نفايات منخفضة الإشعاع: من ملابس، وأدوات طبية أو صناعية تعرضت للإشعاع خلال العمل والتعامل مع العناصر المشعة، وتكون كميات الإشعاع التي تلوثها ضعيفة، وتُدفن عادة في حاويات محكمة الإغلاق.
*نفايات متوسطة الإشعاع: وتحتوي تركيزات متوسطة الكمية من المواد المشعة، مثل مخلفات معالجة الوقود النووي. وتحتاج هذه النفايات إلى تغليف خاص ودفن في أعماق أرضية
*نفايات عالية الإشعاع: وهي الأخطر على الإطلاق، منها الوقود النووي المستنفد من قلب المفاعل، العناصر انشطارية المشعة التي ينتجها المفاعل مثل السيزيوم-137 والسترونشيوم-90، وتبقى هذه المواد نشطة ومهددة للبيئة لآلاف السنين.
وهذه النفايات تكون خطرة جدًا لاحتوائها على إشعاعات طويلة الأمد قد تمتد لعشرات الآلاف من السنين، كما إن تسرّبها في البيئة يسبب تلوثًا في المياه والتربة والهواء، والتعرض لها يسبب السرطان وتلفًا في الجينات وحتى الوفاة.
يمر التعامل مع النفايات الإشعاعية بعدة مراحل، تبدأ بالتخزين المؤقت في المفاعلات، حيث توضع في البداية في برك مياه للتبريد أو حاويات جافة لتقليل نشاطها الإشعاعي. ثم تُعالج بتحويلها إلى مواد صلبة تُغلف بالزجاج أو الإسمنت، لتُدفن في أنفاق أو كهوف تحت الأرض على عمق مئات الأمتار في النهاية.
وليس هناك أمثل من المناطق التي يقطنها الفلسطينيون ليُتخلص من النفايات النووية فيها وتصبح مكبًا لأكثر المواد خطرًا على الأرض. تحقيق صحفي بعنوان" هل تحولت الضفة الغربية إلى مكب للنفايات النووية الإسرائيلية؟!" نُشر عام 2008 في مجلة آفاق البيئة والتنمية، كتب الباحثون: "تشير بعض الدلائل القوية إلى وجود مواقع يُعتقد أنها تحوي مكبات نووية أو كيميائية في بعض المناطق المحيطة بقرى وبلدات محافظة الخليل، مثل مكب صحراء بني نعيم، والذي أكد بدو المنطقة أن الإسرائيليين أغلقوا أحد كهوفه الكبيرة بالإسمنت، بعد أن دفنوا مواد غريبة فيه، وموَّهوا لون الإسمنت بلون الصخر وثبَّتوا فيه قضبان حديدية على شكل براغي. واللافت في الأمر أن الدكتور محمود سعادة الأخصائي في الجراحة الباطنية الذي أشرف على تشخيص ومعالجة العديد من الحالات السرطانية في قرى جنوب الخليل، أكَّد أنه وعلى إثر إنشاء هذه المكبات تفاقمت حالات السرطان والتشوهات بين سكان المنطقة. وهو ما يتفق مع ما ورد في الفيديو الذي بثته القناة " الإسرائيلية" العاشرة بعنوان "السر المعتم.. فرن ديمونا".
وذُكر أن عرب الصرايعة الذين يقيمون في تجمع بدوي بجوار يطا، تواصلوا مع بلدية يطا وأبلغوا أن الجيش" الإسرائيلي" أحضر شاحنات مغلقة وجرافات وونشات، بعد أن أغلق المنطقة، ومنع البدو الذين يقيمون فيها من التحرك لأكثر من عشر ساعات، وبعد مغادرتهم تبيَّن وجود آثار حفر ضخمة دفنت فيها مواد غريبة تخرج منها أسلاك على سطح الأرض، دون أن تحضر أي جهة فلسطينية رسمية للفحص والكشف وتوضيح حقيقة ما جرى.
المواقف الرسمية للدول العربية من البرنامج النووي الاسرائيلي
بعد مراجعات مستفيضة للمواقف العربية الرسمية لدول الجوار، وُجد أنه لم تصدر أي بيانات رسمية صريحة من الحكومات العربية تطالب فيها بإغلاق المفاعل أو استهدافه، ولكن وجدت مطالب حزبية محدودة. الغريب في الأمر أن التحليلات الرسمية مالت وبقوة إلى دراسة واقع المخاطر والتأكيد على قدرة الدولة على التعامل معها محليًا إقليميًا في حال حدوثها.
الموقف العربي تجاه قضايا مثل البرنامج النووي" الإسرائيلي" غالبًا ما يوصف بالرخاوة والحذر المفرط والتردد السياسي، وكأنّ قرار المواجهة مؤجل إلى إشعارٍ غير معلوم، وتُبذل الكثير من الجهود لطمأنة الداخل العربي بدلًا من تعبئة الإرادة الجماعية، ضمن سياسة التعايش.
هناك على سبيل المثال موقف مصري واضح ورافض للبرنامج النووي" الإسرائيلي"، ولكنه ملتزم بمبدأ التوازن والتعقُّل! ويستند إلى القانون الدولي، ويهدف للضغط على" إسرائيل" دبلوماسيًا عبر إبراز التناقض الدولي، دون الدخول في مواجهة مباشرة معها، فلا تُطالب مصر علانية مثلًا بإغلاق مفاعل ديمونة، ولا تلوِّح باستخدام القوة، لكنها تُعبّر عن موقفها الرافض ضمن أطر الأمم المتحدة والوكالة الذرية.
د. مصطفى عزيز (الرئيس السابق للهيئة المصرية للرقابة النووية والإشعاعية) وجه تحذيرًا بقوله: الإشعاع الناتج عن مفاعل ديمونا قد يمتد إلى دول الجوار، أخطر السيناريوهات يتمثل في قصف مناطق تخزين الوقود النووي، المفاعلات يجب أن تُستثنى من ساحات المعارك.
ويمكننا اعتبارها دعوة صريحة لسياسة أخذ الاحتياطات، والابتعاد عن أي تصعيد قد يؤدي لكارثة!
الموقف الأردني الرسمي من البرنامج النووي" الإسرائيلي" يتسم بمطالبات غير مباشرة بالرقابة الدولية، ويؤيد جعل الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية، ويضم صوته إلى الأصوات الدولية المطالبة بإخضاع" إسرائيل" للتفتيش الدولي، ولكن بحذر شديد؛ فلا يرفع سقف هذه المطالب بطريقة حادة أو مباشرة، حتى لا يثير غضب دولة الاحتلال. كما إن هيئة الطاقة الذرية الأردنية صرحت وفي أكثر من مناسبة أن الأردن يمتلك أجهزة رصد إشعاعي حديثة على حدوده الغربية الجنوبية لمراقبة أي تسرب محتمل، وأكدت دومًا أنه لم يُسجَّل أي تسرب إشعاعي خطير حتى الآن! وتؤكد أيضًا أنه في حال حدوث تسريب نووي فإنها قادرة على التعامل معه ضمن خطط طوارئ وقدرات تقنية جاهزة مسبقًا! في محاولة منها لطمأنة الرأي العام!
رغم أن للمفكرين والمحللين والمثقفين رأي آخر، على سبيل المثال لا الحصر، ناهض حتّر الصحفي والكاتب الأردني وعند مناقشته لموضوع مفاعل ديمونة، وجه نقدًا حادًا للحكومة الأردنية، بقوله: الحكومة الأردنية تضع العلاقات فوق مصالح الشعب الأردني وبيئته.. كنا نتصوّر أن تُشكّل لجنة للتحقيق لكن ما فوجئنا به هو نوع من الاستهتار الشديد بمصالح الشعب الأردني.
ومثال آخر على أصوات عربية مناهضة، الصحفي المصري السيد البابلي، والذي لفت الانتباه إلى خطر مفاعل ديمونا وانتقد سياسة الكيل بمكيالين في التعامل مع الملف النووي" الإسرائيلي"، في مقال بعنوان "الخوف من النووي.. لماذا لم تضربوا مفاعل ديمونا؟"، والذي جاء فيه:" يتحدثون بفخر عن النجاح في ضرب المنشآت النووية الإيرانية، ولكنهم يتجاهلون أن هناك إسرائيل في المنطقة، والعالم الحر الذي يكيل بمكيالين، لم يدعُ يومًا إلى تفتيش المنشآت النووية في" إسرائيل". منتقدًا التفاوت في المعايير الدولية تجاه البرامج النووية" لإسرائيل" وإيران.
أما فيما يخص السلطة الوطنية الفلسطينية، فلم نعثر على موقف رسمي واضح تجاه البرنامج النووي" الإسرائيلي" عامة ومفاعل ديمونا خاصة، برغم القرب الجغرافي، ففي حال حدوث تسرب إشعاعي فإن المناطق الفلسطينية والتي تتسم غالبيتها بأنها مناطق ذات كثافة سكانية عالية، ستضرر لا محالة، ناهيك عن تكرار حوادث دفن النفايات النووية في المناطق الفلسطينية، والتي وُثقت كما ذكرنا في الأعلى.
ولهذا الحذر المفرط والموقف العربي الرخو من البرنامج النووي" الإسرائيلي" أسباب تفسرها، منها:
- تمر الدول العربية بحالة من الضعف السياسي الداخلي والتبعية الغربية، ما يجعلها تبتعد عن التفكير في اتخاذ موقف حازم تجاه قضايا كبرى مثل السلاح النووي" الإسرائيلي".
- تفوق" إسرائيل" العسكري والتقني والدعم الغربي اللامحدود لها، يجعل موازين القوى في المنطقة تحيد عن مصالح الدول العربية وأمنها.
- الانقسام العربي والخلافات حول أولويات الأمن الداخلي( أزمات اقتصادية، ونزاعات أهليه، وتهديدات داخلية لأنظمة الحكم... الخ)، ووجود تباين كبير بين دول الطوق مثل الأردن ومصر يجعلها لا تتفق في تقييم التهديدات الأكثر خطرًا، حيث يُنزع الملف النووي الإسرائيلي من قائمة الأولويات الملحة على الأجندات السياسية والحساسة لديها.
- خشية الدول العربية من التصعيد وحدوث ردود فعل غير متوقعة من دولة الاحتلال يدفع الدول العربية لصرف النظر عن المطالبة حتى بإغلاق المفاعل أو مهاجمته؛ وذلك لسد الذرائع أمام الاحتلال فلا يبادر إلى تنفيذ ضربات استباقية كما فعل مع إيران، أو تشديد الضغط العسكري والدبلوماسي على أي دولة عربية تطالب بذلك.
- كثير من الدول العربية تعتمد على الدعم العسكري والاقتصادي للولايات المتحدة( الحامية الفعلية للبرنامج النووي" الإسرائيلي") إضافة إلى دول غربية أخرى، فأي خطاب تحريضي ضد البرنامج النووي سيعرض تلك الدول العربية لـقطيعة مع الغرب، وهو ما يترتب عليه خسائر واسعة.
أصوات رافضة وشهادات تقرع الخزان بقوة
منذ أوائل الستينيات، استخدمت دولة الاحتلال مفاعل ديمونة في صحراء النقب لإنتاج البلوتونيوم. ومع ذلك، كانت التقديرات غير مؤكدة لأن مستوى طاقة المفاعل غير معروف، وهناك نقص في التفاصيل حول تصميم المفاعل. ولكن تعرضت سياسة الغموض" الإسرائيلية" لانتكاسة كبيرة عام 1986، حين كشف مردخاي فعنونو الفني السابق في مفاعل ديمونا أنشطة المفاعل الحقيقية. ففي مقابلته الشهيرة مع صحيفة صانداي تايمز البريطانية عام 1986، والتي أحدثت ضجة عالمية، كان من بين ما قاله الفني في مفاعل ديمونا مردخاي فعنونو: "الناس لا يعرفون. هذه ليست ديمقراطية. هذا نظام يستخدم السلاح النووي كأداة قمع وكتمان".
تقرير مهم للصحفي بيتر هونام في أكتوبر 1986 كشف أسرار البرنامج النووي" الإسرائيلي" جاء في بدايته:" كشف فريق صنداي تايمز أسرار مصنع تحت الأرض يستخدم في تصنيع الأسلحة النووية" الإسرائيلية". يُنتج هذا المصنع، المختبئ تحت صحراء النقب، رؤوسًا حربية ذرية منذ عشرين عامًا. والآن، على الأرجح، بدأ بتصنيع أسلحة نووية حرارية، بقوة تفجيرية كافية لتدمير مدن بأكملها".
وقد اقتُبست هذه المعلومات من شهادة مردخاي فعنونو، " اليهودي الإسرائيلي" الذي يبلغ من العمر 31 عامًا، والذي عمل كفني نووي لمدة تقرب من عشر سنوات في ماشون 2 ـ وهو مخبأ سري للغاية تحت الأرض تم بناؤه لتوفير المكونات الحيوية اللازمة لإنتاج الأسلحة في مفاعل ديمونا.
لقد فاجأت شهادة فعنونو خبراء الأسلحة النووية الذين اتصلت بهم مجلة الصنداي تايمز للتحقق من دقتها لأنها تشير إلى أن إسرائيل لا تمتلك القنبلة الذرية فحسب - وهو ما كان موضع شك منذ فترة طويلة - بل إنها أصبحت قوة نووية كبرى مثل فرنسا والصين وغيرها. وتظهر شهادة فعنونو والأوصاف والـ 57 صورة التي قدمها للصنداي تايمز والتي فحصها خبراء نوويون على جانبي المحيط الأطلسي وتأكدوا من صحتها ما أعطاها وزنًا استثنائيًا، أن" إسرائيل" طورت تقنيات متطورة وسرية.
وفي عام 2004، نشرت صحيفة هآرتس معلومات خطيرة وردت على لسان الفني السابق في مفاعل ديمونا مردخاي فعنونو والذي قال إن مفاعل ديمونا بات يشكل خطرًا على ملايين البشر في الشرق الأوسط بسبب تقادم المفاعل وحدوث تسربات إشعاعية محتملة. وحذر من احتمال تكرار كارثة تشبه كارثة انفجار مفاعل تشيرنوبل، وأكد على ضرورة إجراء فحوصات طبية لسكان المناطق المجاورة وتوزيع أقراص اليود للوقاية من الإشعاع، مشيرًا إلى إصابة عدد من عمال المفاعل بأمراض خطيرة نتيجة التلوث.
وكان من معرض ما قاله فعنونو أيضًا إن الحكومة الإسرائيلية تدير برنامجًا نوويًا سريًا لا يخضع لأي رقابة برلمانية أو دولية، ولا يُبلغ المواطنين بوجوده.
وبحسب إفادات مردخاي فعنونو، فإنه عمل داخل منشأة سرية تحت الأرض تختص بـإنتاج القنابل النووية خلال الفترة 1976–1985، وشارك فعليًا في معالجة البلوتونيوم بمعدل يكفي لصنع 10 قنابل سنويًا، وأشار إلى تخزين مخزون كافٍ لـتصنيع حوالي 200 سلاح نووي، وشدَّد على تصنيع ليثيوم‑6، وهو عنصر يستخدم حصريًا في القنبلة الهيدروجينية.
بعد كشفه الخطير عن البرنامج النووي السري لدولة الاحتلال، استُدرج فعنونو إلى العاصمة الإيطالية روما من خلال عميلة للموساد، حيث اختطفه جهاز المخابرات الإسرائيلي "الموساد"، وقيدّوه وحقنوه بمادة مخدرة وأعادوه إلى "إسرائيل" على متن سفينة ليحاكم بتهمة الخيانة ويُحكم بالسجن لمدة 18 عامًا قضي منها 10 سنوات في العزل الانفرادي، وحتى بعد خروجه من السجن، لم يُسمح له بمغادرة البلاد أو التواصل مع أجانب بدون إذن مسبق.
وعلى الرغم من مرور أكثر من عقدين على إطلاق سراحه، إلا أن سلطات الاحتلال لا تزال تفرض قيودًا مشددة على فعنونو، بما في ذلك منع استخدامه للإنترنت والتحدث إلى الصحفيين، وهو رهن الإقامة الجبرية ولكن بشكل غير رسمي.
ويُعد مفاعل ديمونا حجر الزاوية في الخطاب السياسي الإسرائيلي، ويُلوَّح به باستمرار وبشكل غير مباشر لتهديد الأعداء ومطالبتهم بالتعقل مع الحفاظ على خط متوسط من عدم التصريح وعدم النفي بوجوده في ذات الوقت. فعلى سبيل المثال: وفي آب 2018، حضر بنيامين نتنياهو حفلًا بمناسبة تدشين وحدة جديدة ضمن هيئة الطاقة الذرية" الإسرائيلية"، وألقى خطابًا في الحفل. في هذا الخطاب، قال نتنياهو:" الذين يهددون بمحو إسرائيل يجعلون مصيرهم محفوفًا بالخطر. إسرائيل تردع أعداءها اليوم بقدرات دفاعية وهجومية استثنائية".
وفي هذه العبارة تلميح واضح ومحسوب يُرسله نتنياهو لأعداء" إسرائيل" خاصة إيران وحزب الله، ليقول لهم وبمواربة:" نحن نملك قدرات استراتيجية خارقة، أنتم تعرفونها.. الاقتراب من حدودنا أو تهديد وجودنا سيقابَل بعواقب كارثية" ولكن دون مزيد من التفصيل.. واللبيب من الإشارة يفهمُ!
في عام 2000، أُثير نقاش في الكنيست وللمرة الأولى حول مخاطر ديمونا من قِبل أعضاء عربًا وأحزاب سلام حذروا فيه من إمكانية حدوث كارثة بيئية بسبب شيخوخة المفاعل، وطالبوا بإغلاقه أو فرض رقابة دولية عليه، ولكنهم اصطدموا برفض قاطع للمقترح، وتحذير من المساس بالقدرات النووية غير المعلنة لدولة الاحتلال، تحت حجة أن الذين يريدون كشفه يسيئون إلى أمن الدولة.
وفي حزيران 2018، رفض الكنيست بأغلبية ساحقة اقتراحًا من القائمة المشتركة يشدّد على إخضاع ديمونا لرقابة دولية: تم رفض مشروع القانون بـ73 صوتًا مقابل 8 أصوات فقط، بحجة أن المفاعل يخضع للإشراف الحكومي الكافي وتُجرى فيه تحديثات دورية كافية.
وفي 17 آذار 2004، قدم ثلاثة أعضاء من الجبهة العربية (مخول، بركة، وطبي) مشروع قانون لإغلاق مفاعل ديمونا بسبب "المخاطر البيئية"، وركزت اللجنة على أن عمر المفاعل تجاوز الـ 40 سنة ما يزيد من احتمال الحوادث وتسرب الإشعاعات، خاصة مع ظهور حالات مرضية بين العمال نتجت عن عملهم في المفاعل. وقد رُفض المشروع أيضًا بأغلبية ساحقة (65 صوتًا ضد 6) مع اعتراضات من القوى الرافضة والتي شكلت الأغلبية بذريعة أن مناقشة إغلاق المفاعل تهدد موقف الدولة الأمني.
أما البرنامج النووي" الإسرائيلي" في ميزان القانون الدولي، فيعتبر البرنامج النووي الإسرائيلي من أكثر البرامج النووية على مستوى العالم إثارةً للسجال والجدل، وذلك بسبب سياسة "الغموض النووي" التي تتشبث بها دولة الاحتلال وتتواطأ معها فيها الدول الغربية، وتُبقيها خارج الالتزامات القانونية الدولية الخاصة بالحد من انتشار الأسلحة النووية، وغير خاضعة لها.
فعدم توقيع" إسرائيل" على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية لعام 1968، يُبرر ومن منظور القانون الدولي، بأنها بالتالي غير ملزمة قانونًا ببنود المعاهدة، ولكن من منظور الأعراف الموجودة في الساحة الدولية، يُعتبر هذا السلوك انتهاكًا لمبدأ الأمن الجماعي وعدم الانتشار.
وقد صدرت عدة قرارات من الجمعية العامة للأمم المتحدة دعت فيها" إسرائيل" إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، ووضع منشآتها تحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة النووية، أبرزها القرار رقم A/RES/74/64 ( الصادر في كانون ثاني 2019)، والذي أكد على هذه المطالب بأغلبية ساحقة، ولكن قوبلت هذه المطالب بالرفض المتكرر من" إسرائيل" وهو ما يُعتبر تحديًا لإجماع دولي متزايد يعمل على نزع السلاح النووي وإبقاء المنطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل.
الخاتمة
مطلب دولي قديم يتلخص بإخضاع البرنامج النووي الإسرائيلي للمراقبة الدولية، لكنه يواجه عقبات قانونية وسياسية كبيرة خاصة في ظل تشبث دولة الاحتلال بالإبقاء على سياسة الغموض النووي، وإيمانها بأن الإعلان عن برنامجها النووي سيفقدها قوة الردع والتفوق العسكري ويهدد أمنها القومي، وهو ما أقرَّته الولايات المتحدة والدول الغربية عليها، وغضت الطرف عن ممارساتها العدوانية تجاه محيطها.. وهو ما يُغذي الصراع في المنطقة ويُبقى على توترًا إقليميًا وزعزعة للاستقرار لا يمكن السكون عنه. وبحسب وصف أفنير كوهين لسياسية الغموض النووي بأنها تحولت إلى أداة سياسية لتبرير الاستثناء لإسرائيل.
وفي رأيها الاستشاري عام 1996، صرحت محكمة العدل الدولية: "التهديد باستخدامها أو استخدام الأسلحة النووية فعليًا، يتعارض غالبًا مع قواعد القانون الإنساني الدولي، إلا في ظروف قصوى وللدفاع عن النفس حين يكون بقاء الدولة ذاته مهددًا".
أصوات يهودية ترفض البرنامج النووي وتؤكد أنه جزء لا يتجزأ من سياساتها الاستعمارية والاستعلاء في المنطقة، المفكر اليهود إيلان بابيه انتقد الغموض النووي واعتبره امتدادًا لسياسات الإقصاء والسيطرة الاستعمارية، خاصة في كتابه" التطهير العرقي في فلسطين"، والذي صدر عام 2006، الذي يناقش فيه أيضًا كيف ساعد الغموض النووي في تعزيز قدرة إسرائيل على تنفيذ سياساتها التوسعية دون رادع خارجي.
وريتشارد فولك أيضًا، اليهودي الأمريكي، وأستاذ القانون دولي، وصف السياسات النووية الدولية بـالتمييز في المعايير، إذ تُحمى إسرائيل وتُهاجم دول أخرى دون سند قانوني متساوي. ودعا فولك إلى نزع السلاح النووي" الإسرائيلي" حين طالب بإنشاء منطقة خالية من السلاح النووي في الشرق الأوسط تشمل" إسرائيل".
أما الأكاديمي والمفكر السياسي اليهودي الأمريكي ذا الأصول البولندية نورمان فينكلشتاين، فيعتبر أن السكوت الدولي على الأسلحة النووية الإسرائيلية هو جزء من "صفقة سياسية قذرة"، يستخدم كورقة ضغط على العرب، تُستخدم فيها تهم مثل معاداة السامية لتبرير السياسات" الإسرائيلية"، بما في ذلك تجاهل المجتمع الدولي لترسانة" إسرائيل" النووية، في حين تُفرض رقابة شديدة على دول أخرى!
فهل هناك من يستجيب لإرساء قواعد العدل، وإحقاق الحق، والوقوف أمام المعتدي والظالم، ونصرة المظلوم؟