معركة مخيم جنين 2002.. ومضات من حربٍ لم تنتهِ
على سبيل التقديم..
مع عودة مخيم جنين عنوانًا لحالة الاشتباك الممتدّ مع العدوّ، ومع الدخول في الذكرى الثالثة والعشرين لانتفاضة الأقصى، تعرض هذه المادة، بالعودة لعدد من المراجع والشهادات الحيّة، لجانب من التاريخ المقاوم لمخيم جنين أثناء انتفاضة الأقصى، قبل الاجتياح الكبير وبعده، وما اتصل بذلك من وحدة المقاتلين، وقتالهم كتفًا إلى كتف، وتشكيلهم الخلايا المشتركة.
· التحرير
التذكّر
أحد إشكالات تعامِلِنا مع تصاعُدِ المقاومة المسلَّحة في الضفة الغربية هو فصلها عن سِياقِها التاريخيّ، ولا أقصِدُ بهذا غيرَ جيلٍ ناشئٍ لم يعِ أحداثَ الانتفاضة الثانية بتفاصيلها، وما ذاكِرَتُهُ عنها سوى ما أثّر عليه مباشرة من أحداث وهو طفل (اقتحام بيت العائلة، اعتقال أو استشهاد أحد الأقارب… إلخ). تتكرر الأحداث دون أن يدري، ويظنُّ بفطرته أننا جميعًا نثور اليوم ولكن لأوّل مرة! هذا فخ الذاكرة عندما نفصلها بيولوجيًا عن محيطها فتكون ذاكرةَ من لم يكن هنا من قبل، حتى إذا فطن إلى كذب هذا الفصل وانتبه إلى ذاكرة جماعته؛ تذكّر.
من قاتلوا في الانتفاضة الأولى لا زالوا بيننا فما بالك بمن قاتل في الثانية؟ هناك من سطّر تجربته وكتب ما في ذاكرته لتصبح ذاكرةً لنا جميعًا، هذه الذاكرة هي ما نحتاجه حتى نعود.. نراكم ونتحرر.
بدأت أتنبّه إلى ما أفقد من ذاكرة عندما رجعت لكتاب صدر عام ٢٠٢٢ اقتنيته لعنوانه: "معركة مخيم جنين الكبرى 2002: التاريخ الحي"، ولم أنظر من هو المؤلّف حينها، لاكتشف أنّه جمال حويل[١] ذاته الذي يظهر في مقابلات صحفية وتصفه وسائل الإعلام بـ"قيادي في حركة فتح" و"عضو المجلس الثوري لحركة فتح"، وهذا حيث تشتدّ الاغتيالات في الضفة وتحديدًا في جنين ومخيمها. في الاجتياح الأخير (تموز/ يوليو ٢٠٢٣) ذكر حويل وجوده في المخيم عام ٢٠٠٢، وفي الفترة ذاتها تقريبًا قرأت منشورًا عن ثابت مرداوي[٢] ورأيت تسجيلًا مرئيًا له يقول فيه عبارته المشهورة -حيث سمعتها قبل ذلك في مزج [٣][٤] ولم أكن أعلم لمن هي- أما المنشور فقد ذكر أن لمرداوي كتابًا أيضًا، "نموت في الوطن ولن نغادر - ملحمة جنين بشهادة الأسير المجاهد ثابت مرداوي" الصادر عام ٢٠٠٦، ومرداوي أحد قادة سرايا القدس (الجهاد الإسلامي) المشاركين في معركة جنين. أثناء كل هذا كان وليد دقّة يصارع السرطان والسجّان الصهيوني معًا وهو الذي بدأ طريقه مقاتلًا في صفوف الجبهة الشعبية[٥]، ممّا لفت انتباهي أنّ أحد أوائل كتبه المنشورة يحمل عنوان "يوميات المقاومة في جنين ٢٠٠٢"، وقد صدر عام ٢٠٠٤. هكذا بدأت تترتب لدي المراجع التي اعتمدت عليها في صياغة هذا النص، الذي هو بمثابة عمليّة تذكّر ذاتية لحدث فلسطيني مؤسِّس، غير أن أهمّيته حوّلته إلى قصة مستقلة عن سياقها، بعيدة في الماضي تتناولها الثقافة الفلسطينية بمنتجاتها المختلفة وتعيد روايتها وتذكَّرها وتنتج عنها الأعمال الفنية، أبقت هذه الأعمال والجهود معركة مخيم جنين حيّةً في الذاكرة، ولكنّ هذا لا يكفي لمن يريد العودة إلى فلسطين.
هذا النص ليس نصًّا تاريخيًا حول أحداث المعركة، وليس ملخّصًا للمراجع المذكورة، إنما مجرّد اختيارات مجمّعة في عناوين على شكل مشاهد أو لمحات شكّلتها من المراجع الثلاثة، لذا لم أقدّم مراجعات منفصلة لكل مرجع، وأفردت الحديث عن المراجع في العنوان التالي فقط. هذا النصّ دعوة لقراءة المراجع، وما بُنية هذا النصّ إلّا تأكيد على أهمّيتها حيث لا يغني ولو قليلًا عنها. وبما أنّ النصّ ليس بحثًا تاريخيًا ولا تاريخيًا مقارنًا، لم أقارن بين الروايات ولم أدقّقها، رغم إمكانية إجراء هذا البحث، حيث اختلفت الروايات قليلًا من لحظة الحدث وحتى اليوم من جهة، وبين الأفراد من جهة أخرى، وهذا أمر وارد ومتفهّم، إلّا أنّ ملاحظته وتعريضه للمقارنة والتحليل أمر مهمٌّ. عمومًا لا شك لديّ أنّ في إعادة السؤال عن معركة المخيم الكبرى الآن على من شارك فيها سوف ينتج إجابات مغايرة، وأقصد هنا أنّها مغايرة لما قد تحمله من مقارنة مع الأحداث الجارية التي يمر بها المخيم، ولخضوع هذه الروايات إلى تبدّلٍ في التحليلات الذاتية للمقاتلين مع مرور الزمن على المشاهد الأوّلية للحدث المركزي "معركة المخيم الكبرى"، حيث تتأثر هذه التحليلات بما مرّ بعدها من أحداث في حياة المقاتل أو حتى على السياق الفلسطيني كله، كتصاعد الكفاح المسلّح وتراجع الحلول السلمية.
عن المراجع
اخترتُ هذه المراجع كونها شهادات ممّن كانوا داخل المخيم طوال المعركة (حتى كتاب وليد دقة عبارة عن مقابلات من داخل الأسر أجراها -بالترتيب كما في الكتاب- مع الحاج علي الصفوري/ جهاد إسلامي، جمال حويل/ فتح، يحيى الزبيدي/ جهاد، عبد الجبار خباص/ حماس)، وبما أنّها مادةٌ تشكّلت داخل السجون (وهو أمرٌ يفرض بحدّ ذاته تعقيدات فوق تعقيد السياق)، فإنه من المهم رؤيتها بوصفها عملية كتابة مستمرة، وليس كما يظهر على الأغلفة من جمود.
بدأت عملية التدوين أثناء المعركة كما يقول جمال حويل فقد كان يدوّن اليوميات هو وأبو جندل وغيرهم، بالإضافة لوجود طرق أخرى للتوثيق مثل الكاميرات (يذكرها الحاج علي الصفوري)، إلّا أنّ هذه المصادر فُقدت أثناء المعركة أو لم تنشر حتى الآن.
بعد أقل من عام على معركة جنين، أي في ٢٠٠٣، بدأ وليد دقّة بمقابلة أسرى المعركة. وأخرج ثابت مرداوي في العام ذاته الجزء الأول من كتابه. عام ٢٠٠٤ نُشر كتاب وليد دقة[٦]، تلاه عام ٢٠٠٦ كتاب ثابت مرداوي في نسخة واحدة دون أجزاء (مرداوي، ٢٠٠٦: ١٥)، وفي عام ٢٠١٢ كتب جمال حويل أطروحته للماجستير عن معركة جنين[٧] والتي تعدّ الأصل لكتابه الذي صدر العام الماضي ٢٠٢٢[٨]، بعد مرور ٢٠ عامًا على المعركة.
أثناء كتابة النص احتجت لمصادر إضافية لذا استعنت بسِيَر المقاتلين على مواقع الفصائل (كتائب القسام، كتائب شهداء الأقصى، سرايا القدس) وأطروحة الأسير زكريا الزبيدي "الصياد و التنين - المطاردة في التجربة الفلسطينية من 1968-2018"[٩] حيث تحدّث فيها عن تلك الفترة وإن لم يكن موضوعها الرئيسي معركة المخيم.
لماذا نكتب؟
يمكن قراءة الأحداث في المخيم من منظور أسطوري بطولي، يظهر فيه المقاتل شخصًا خارقًا للعادة، كما يمكن تهميش المقاتل تمامًا والنظر له بوصفه ضحيةً هو وأهله من سكّان المخيم، هذا إذا لم يُنظَر له أيضًا على أنه سبب في خرابه! هذه القراءات لا تستمع للمقاتلين والناس عادةً، وإنما تعكس عجز الوصول إلى المصادر، وإذا ما وصلت فإنها تركّز على ما تريده وتهمل باقي الجوانب. أما التركيز على جوانب معينة فهذه طبيعةٌ بشريةٌ كما هي طبيعة بناء المعرفة -دون جهد بحثي- حول أمرٍ ما، أقصد أن معرفتنا بالموضوع هي صورة عن الواقع ولا يمكن لهذه الصورة أن تستبدل الواقع إلّا في عقولنا، وأثناء التقاط هذه الصورة وتركيب هذه المعرفة يسقط الكثير من الواقع وربما يساهم في هذا السقط عجز عقولنا عن التقاط كل التفاصيل فضلًا عن فهمها، تُردم -وإن لم يكن تمامًا- هذه الفجوات بالمناهج والمقارنات، غير أنّ هذا النص لا يشكّل بحثًا إنما التقاطاتٍ لأجزاء من الصورة، وهنا مكمن فائدته لمن لم يعش لحظة الحدث، ويبقى أن نتذكّر أثناء القراءة والكتابة أنّها التقاطات لصورٍ متعددةٍ عن واقع الحدث وأنّ ما سقط أثناء كتابتي أكثر بكثير مما كتبته. هذه ملاحظات حول السؤال، أما الدافع للكاتبة فأكتفي بأنها محاولة لفهم الرؤى التي قاربت اجتياح جنين في تموز/ يوليو ٢٠٢٣ بمعركة نيسان/ إبريل ٢٠٠٢، أي أن "الحدث الأخير" كان دافعًا للبحث في "الحدث الأكبر".
تاليًا أذكر إجابات دقّة ومرداوي وحويل حول هذا السؤال.
يكتب وليد دقّة ليتحرّر من سجنه، فالحرية ممكنة من داخل السجن بالكتابة. الكتابة عن لحظة فقدان الحرية أثناء فقدانها يعني أن الكتابة سوف تقترب أكثر من الواقع، أي من معنى الحرية، والكتابة أيضًا وسيلة لتسلل الوعي خارج زنزانته (العقل)، فمن ثمّ هي تحرّرٌ للمعنى، وبين الاقتراب من معنى الحرية في الواقع وتحرّر المعنى من الخيال، يشكّل دقّة إجابته عن سؤال لماذا نكتب؟ (دقّة، ٢٠٠٤: ١٢-١٣).
أما ثابت مرداوي فيكتب من أجل الحفاظ على الذاكرة من التشويه والتزييف، ولتأدية أمانة دماء الشهداء وجهد المقاومين، وللتأكيد على أنّ الأمّة تملك من الصلابة والإرادة ما تمثّل في ملحمة مخيم جنين، وأنّ عندها من القوّة ما لم يظهر بعد. (مرداوي، ٢٠٠٦: ١٧).
ويكتب جمال حويل بعد أن تشكّلت الأسطورة إيجابًا أو سلبًا، ويريد في كتابته نزع الأسطرة وتشكيل صورة عمّا "حدث فعلًا" في المعركة، ويكتب كذلك لأهمية المعركة: كونها أول نموذج للانتصار على الوحش من داخله (حويل، ٢٠٢٢: ٥) والتي تلاها لاحقًا خروجه من غزة، ولأنها تعيد طرح خيار الكفاح المسلح الذي طُوِي رسميًا مع أنّه الخيار الذي قامت عليه منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح بجانب باقي الفصائل (حويل، ٢٠٢٢: ٧).
عن سياق الاجتياحات
أقصد باستخدام هذا المسمى "سياق" للحديث عن "الاجتياحات" أنها لم تكن وليدة لحظة حصلت مرةً واحدةً وانتهت، إنما كانت عبارة عن عملية مركّبة تحقق أهدافًا متتابعةً على مدار فترة معينة يتخللها هدوء أحيانًا، كانت ذروتها في مكان معين من مدينة جنين أي داخل المخيم، وفي لحظة معينة أي في الأول من نيسان/ إبريل ٢٠٠٢. كانت معركة مخيّم جنين هي الاجتياح السادس للمخيم والمدينة منذ بداية الانتفاضة الثانية (دقّة، ٢٠٠٤: ٢٣)، وآخر اجتياح سبقها كان في آذار/ مارس، أي أسابيعَ قليلة قبل بداية المعركة في الأول من نيسان/ إبريل. وفي اجتياح ٢٨ شباط/ فبراير والذي استمر حتى ٣ آذار/ مارس لم يُحاصر المخيم من جميع الجهات مما سمح بخروج المقاتلين ليلًا والعودة فجرًا إلى المخيم (حويل، ٢٠٢٢: ٩٦-٩٨). خلال "آذار الأسود" كما يطلق عليه الصهاينة قتل ١٤٦ صهيونيًا، منهم ٣٠ في عملية فندق بارك في نتانيا التي نفّذها عبد الباسط عودة من طولكرم. في بداية آذار/ مارس بدأت عملية الاجتياح للمدن أي أنّ المخيم كان محاصرًا قبل بداية المعركة، مع ذلك وفي ٣١/٣ أي قبل المعركة بيوم نفّذ شادي الطوباسي من مخيم جنين عمليته في حيفا والتي أدّت لمقتل ١٦ صهيونيًا (حويل، ٢٠٢٢: ٩٤-٩٥). في أحد الاقتحامات (أيلول/ سبتمبر ٢٠٠١) ارتقى ١٣ شهيدًا وكان الهدف تدمير البنية التحتية (حويل، ٢٠٢٢: ٢٦)، الأمر ذاته حصل في الاجتياح قبل الأخير حيث استشهد ٢٤ فلسطينيًا من نساء وشيوخ وأطفال ولم يكن منهم سوى مقاتل واحد وهو أمجد الفاخوي (شهداء الأقصى) (مرداوي، ٢٠٠٦: ٣٩)، كما استنزف مخزون المقاتلين من العبوات (مرداوي، ٢٠٠٦: ٢٥) وجرّفت الشوارع، مع ذلك عاد المقاتلون لنصب الكمائن وإعداد العبوات في هذه الشوارع خلال وقت قصير جدًا، حيث فصل بين نهاية اجتياح آذار/ مارس وبداية اجتياح نيسان/ إبريل أسبوعان تقريبًا (دقّة، ٢٠٠٤: ٣١)، لذا لم يكن هناك وقت كافٍ لإصلاح الشوارع وجمع العتاد الكافي وإعداد العبوات ونصب الكمائن ومع ذلك كان العمل على أشدّه (دقّة، ٢٠٠٤: ٣١-٣٢).
تكثّفت حالة الاجتياحات هذه مع "عملية السور الواقي" التي هَدَفَت إلى إنهاء الانتفاضة الثانية، والتي أدت إلى حصار عدّة مناطق تجمّع فيها المقاتلون، سَرَدتُ في الفقرة السابقة خطًا زمنيًا بسيطًا لسلسلة اجتياحاتٍ وحصارٍ لمخيم جنين، الأمر نفسه حصل في مناطق أخرى سواء داخل جنين أو خارجها، مثلًا في مدخل مدينة جنين - شارع نابلس وحاراتها (حويل، ٢٠٢٢: ١٠٩)، وفي البلدة القديمة بنابلس حيث حصلت اشتباكات في موازاة تلك التي جرت داخل المخيم ولكن لم تذكر المراجع تفاصيلها (مرداوي، ٢٠٠٦: ١٢). أما خارج جنين كانت الأخبار تتوالى عن الاشتباكات في نابلس وحصار البلدة القديمة واستشهاد أبو شرار والطبوق، وحصار كنيسة المهد في بيت لحم، وحصار المقاطعة في رام الله (حويل، ٢٠٢٢: ١١٥)، كما اجتاح الاحتلال مخيم الدهيشة ببيت لحم ومخيمي طولكرم وجباليا (مرداوي، ٢٠٠٦: ٢٤).
حاول مقاتلو مخيم جنين الاستفادة من تجارب الاجتياحات السابقة سواء داخل جنين أو خارجها، فمثلًا استفاد المقاتلون من اجتياح مخيم بلاطة حيث استخدم الجنود خطّة هدم جدران البيوت للتحرّك "من بيت لبيت" دون الوقوع في الكمائن التي أعدّها المقاتلين في الشوارع (حويل، ٢٠٢٢: ٩٠)، وكانت الاستفادة في جنين من عدة جوانب: أولًا باستخدام الأسلوب نفسه للتنقّل بعيدًا عن أعين القنّاصة التي تكشف الشوارع، وثانيًا من خلال نصب كمائن داخل البيوت في انتظار تنفيذ الجنود للخطّة نفسها (مرداوي، ٢٠٠٦: ٣٢).
خلال الفترة التي سبقت الاجتياح الكبير (السور الواقي) جاء وفد أوروبي إلى المقاطعة بهدف "وقف العنف"، وبضغطٍ من السلطة الفلسطينية تعهّد مقاتلو مخيم جنين من خلال كتاب رسمي أرسله علي الصفوري بالتزام وقف إطلاق النار، بالإضافة لقبول اعتقال ثلاثة منهم "ضيوفًا" عند الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، وهم علي الصفوري ومجدي أبو الوفا ومحمد الديك وهو رائد في الأمن الوطني، غير أنّ الجيش طوّق المكان الذي احتجزوا فيه، إلّا أنّهم تمكّنوا من الانسحاب بعد التواصل مع بقية المقاتلين للاشتباك مع هذه القوّات وفك الحصار عنهم. أعلن الصفوري في مقابلة بأنّ "إسرائيل" هي من تتحمل هذا الخرق وأنّه لا التزام بوقف إطلاق النار بعد الآن. استمرت الضغوط وتلاها اجتماع بين فصائل المخيم (حماس، فتح، الجهاد) وخرجوا منه برسالة موقّعة تنصّ بأن يكون استهداف المقاتلين للجنود فقط مع رفض وقف إطلاق النار، إلّا أنّ رد الصهاينة كان أن قتلوا خمسة أطفال وهم طلاب مدرسة من خان يونس، مما جعل الاتفاق لاغيًا حيث جهّزت سرايا القدس وكتائب شهداء الأقصى لعملية في العفولة نفّذها الشهيد عبد الكريم أبو ناعسة والشهيد مصطفى أبو سرية (دقّة، ٢٠٠٤: ٢٧-٢٩).
لماذا لا نخرج من المخيم؟
إنّ سؤال الخروج من المخيم لم يكن وليد اللحظة، ولا إجابته كذلك، أي أنّ هناك عدّة تجارب سابقة أفضت إلى مرحلة الصمود في داخل المخيم وعدم مغادرته، رغم التوقّع المسبق بأن هناك اجتياحًا كبيرًا قادمًا (وإن لم يكن توقّعًا بهدم المخيم هدمًا شبه كامل كما حصل). يصل المقاتلون إلى قراراتهم بعد نقاشات كثيرة وعلى مستويات مختلفة، كذلك تبنى هذه القرارات من المعرفة المتراكمة بالتجربة لدى المقاتلين جميعًا وليس فقط التجربة الفردية، بعد كل اجتياح يجلس المقاتلون لنقاش الأخطاء التي وقعت واقتراح حلول لها، كما يتحاور ممثلو الفصائل في المخيم فيما بينهم ومع الأجهزة الأمنية في المدينة. أحد الأخطاء المرتكبة في (اجتياح آذار) آخر اجتياح سبق الاجتياح الكبير، كان الخروج من المخيم بوساطة بين القيادة السياسية لفصائل -داخل المخيم- والأجهزة الأمنية، حيث قُسِّمَ المقاتلون ووزِّعوا في مناطق مختلفة. يقول علي الصفوري إن البيت الذي نُقل إليه قريب من مستوطنة "جديم"، ويمكن إصابته ورفاقه منها وهم داخل البيت، وكان هناك خوف من حصول خديعة بحيث يسجّل الجيش موقفَ انتصارٍ بدخوله للمخيم وتفتيشه. كل هذا حصل في غضون ساعات، وعندما وصل المقاومون إلى قناعة أن خروجهم من المخيم يحمل مخاطر كبيرة قرروا العودة، بدأت الاتصالات في الساعة العاشرة مساءً واستمرّت عودة المقاتلين إلى المخيم بعد ذلك حتى ساعات الفجر وتمكّنوا من صدّ محاولات الجيش للتقدّم من الساحة بالقرب من الجامع (دقّة، ٢٠٠٤: ٢٥-٢٦). لعل هذه الحادثة هي ذاتها التي ذكرتها مسبقًا عن الخروج من المخيم والعودة إليه في الأول من آذار/ مارس ٢٠٠٢، وهي ذات الحادثة ذاتها التي أصيب فيها القيادي في كتائب القسام جمال أبو الهيجا في يده ممّا أدّى إلى بترها (اعتقل لاحقًا في ٢٨ آب/أغسطس من العام نفسه)[١٠] (حويل، ٢٠٢٢: ٩٧-٩٨). تُظهر هذه المشاهد تراكم المعرفة لدى المقاتلين في المخيم، والتواصلَ المستمر فيما بينهم مع اختلاف الألقاب والانتماء الفصائلي، واختفاءَ الحاجز بين السياسي والمقاتل فكلاهما يؤدّي إلى الآخر. كانت هناك محاولة تواصل لنقل التجربة إلى المقاتلين في مخيم بلاطة غير أنهم كانوا قد خرجوا واقتحم الجيش المخيم (دقّة، ٢٠٠٤: ٢٥)، يبدو أن رفض بعض المقاتلين للقرار الفصائلي بالخروج من مخيم جنين حافظ على صموده في ساعات الليل القليلة، وممن بقي في المخيم حينها: نضال النوباني، محمود طوالبة، أمجد الفايد، عبد الله حويل. (حويل، ٢٠٢٢: ٩٧)، عبد الرحيم فرج (مرداوي، ٢٠٠٦: ١٢٦).
كان مخيم جنين موئلًا للمطاردين من مناطق متفرقة من الضفة، في صورة هي سلفٌ للصورة التي تجري في اللحظة الراهنة، ومن ضمن المطاردين الذين كانوا داخل مخيم جنين وهم في الأصل من خارجه: أمجد الفاخوري - جبع، طارق دراوشة- الفارعة، وهما من كتائب شهداء الأقصى، قيس عدوان - سيريس، محمود أبو هنود - عصير الشمالية وهما من كتائب القسام، محمد العانيني - عانين، الشيخ رياض بدير - طولكرم، وهما من سرايا القدس، وجميعهم ارتقوا شهداء في محطات مختلفة (حويل، ٢٠٢٢: ٨٥).
رغم هذه التجربة، تكرّر الحديث عن الخروج من المخيم في بداية معركة شهر نيسان/ إبريل (معركة جنين ٢٠٠٢) (دقّة، ٢٠٠٤: ٢٦) ولكن كان هناك إجماع على البقاء، مع ذلك اتُخِذَت قرارات فصائلية بخروج بعض الأفراد من المخيم لضمان استمرارية القتال من خارجه، ومن بين من شملتهم القرارات قيس عدوان قائد كتائب القسام في شمال الضفة الغربية، ورئيس مجلس اتحاد الطلبة عن الكتلة الإسلامية في جامعة النجاح قبل ذلك، غير أنّه استشهد في الخامس من نيسان/ إبريل في طوباس مع خمسة من رفاقه[١١]، وكذلك ناشد رمضان شلّح الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي محمود طوالبة القيادي في سرايا القدس الخروج من المخيم، ولكنّه رفض واستشهد فيه في الثامن من نيسان/ إبريل برفقة شادي النوباني وعبد الرحيم فرج (حويل، ٢٠٢٢: ١٠٥).
بالإضافة إلى تجربة المقاتلين المباشرة، كانت الأخبار تتوالى عن تنكيل الجيش بالناس وبأفراد من الأجهزة الأمنية، وسقوط رام الله، وتدمير المقاطعة وقطع الكهرباء عنها وحصار الرئيس ياسر عرفات فيها، وكذلك إعدام خمسةٍ من قوات الشرطة الفلسطينية بدم بارد عند المدخل الجنوبي لبلدة بيتونيا، واعتقال الكثير وتخريب البنى التحتية والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية، كل هذه المؤشرات دفعت المقاتلين للتشبث بقرارهم، ورفض اللجوء وخسارة فلسطين مرّةً أخرى (حويل، ٢٠٢٢: ١٠٦) حتى أنّ "أبو جندل" (أحد أهم قادة معركة مخيم جنين)، بعدما رأى مشاهد القتل التي انتشرت "بدأ في الليلة نفسها يدور على كل المواقع ويقول سواء قاتلتم أو لم تقاتلوا، الجيش الإسرائيلي سيقتلكم كما فعل في رام الله وعليكم الصمود والقتال (دقّة، ٢٠٠٤: ١٢٤).
عدوّنا التعب.. عدوّهم الاشتباك
في بداية المعركة كان التقدّم بطيئًا، وحتى اليوم الخامس لم يتمكن العدو من احتلال منزل واحد في المخيم، لذا دخلت الجرافات وأصبحت في الخطوط الأمامية، أما المناطق التي يصعب دخولها فيجري قصفها وهدمها تمهيدًا لدخول قوّات المشاة برفقة الدبابات وناقلات الجند، بعد أن تكون الجرافات وكاسحات الألغام قد تلقّت ضربات العبوات أو أبطلت مفعولها أو قطعت خطوطها الكهربائية (مرداوي، ٢٠٠٦: ٥٧-٥٨).
إن القتال في مواجهة جيش متعدد القدرات وكثير العدد يحمل في طيّاته الكثير من التعقيد، حيث فهم المقاتلون أنّ هناك نمطًا معيّنُا يتكرر: تحصل اشتباكات مع القوات التي تحاول التقدّم وعندما تفشل في مهمّتها تتراجع وتأتي قوّة جديدة ويجري التغطية على عملية الانسحاب بالقصف المدفعي والجوّي. تبديل القوّات هذا كان يخفّف عن الجنود أثقال المعركة ولكنّه كان يحرمهم أيضًا من سيرورتها، من ثمّ لم يكن في إمكانهم التحرّك داخل أرض المعركة دون تعليمات مسبقة، كما أنّ كل دفعة جديدة من الجنود تبدي نوعًا من اللامبالاة، حيث إنهم لم يشاهدوا ما ينتظرهم كما شاهد من كان قبلهم (مرداوي، ٢٠٠٦: ٨٤).
مقابل هذه الراحة كان التعب ينهش في المقاتلين الفلسطينيين، حيث يصعب النوم، فكان بعضهم يسقط من شدّة الإرهاق، حتى الإفطار كان صعبًا، إذ كان من المقاتلين من هم صائمون ولا يأكلون إلا ما يكسرون به صيامهم ومن ثم العودة للقتال (حويل، ٢٠٢٢: ١٢١)، ولم يكن هناك وقت للتخطيط أيضًا، ومع أن القتال كان يتوقف في ساعات الليل إلّا أنّه لم يكن يتوقف إلا ليحلّ القصف مكانه. توقّفُ القصف يعني اقتراب قوّات المشاة، ممّا يعني فرصة لمواجهة مباشرة، وعدم استخدام طائرات ثقيلة لقرب المسافة بين المقاتلين والجنود، أي أن الالتحام والاشتباك مع الجنود يُفقد منظومة جيش الاحتلال بعضًا من قدراتها (مرداوي، ٢٠٠٦: ٤٩) (مرداوي، ٢٠٠٦: ٨٠-٨١).
القتال ضدّ منظومة يعني القتال ضدّ عدوٍّ بطيء وإن كان يحاول ردم الفجوة بالتكنولوجيا إلّا أن المقاتلين على الأرض أكثر سرعةً من منظومة القرارات، فتجد المقاتلين يستخدمون الأجهزة الالكترونية للتواصل السريع ومن ثم يبدّلون مكانهم، أو كما أدرك أبو جندل حين قال "نريد جرحى في صفوف القوات الإسرائيلية الغازية، لأنهم يرهقون الجيش أكثر من القتلى بالعلاج والتضميد والنقل إلى المستشفى. إن صراخهم وعويلهم ومشاهد تألمهم ستؤثّر بشكل كبير في معنويات جنودهم."(حويل، ٢٠٢٢: ١٢٥-١٢٦)، كما كان المقاتلون يتوقّعون مكان سقوط الصاروخ من وضعية الطائرة في السماء وهو ما يوفّر لهم هامشًا للإفلات من هذه الصواريخ وأخذ ساتر والاستلقاء على الأرض (مرداوي، ٢٠٠٦: ٨١)، وكان المقاومون يحسبون الوقت بين سماع صوت إطلاق الصاروخ وانفجاره مما يمنحهم ثوانيَ قليلةً لتغيير مكانهم (مرداوي، ٢٠٠٦: ٩٣). بدت ردّات فعل الجسد بلا جدوى كإغلاق الآذان وفتح الفم خوفًا من فقدان السمع، إذ ماذا يفيد السمع عند الموت؟ أو هي بدت كحركات بهلوانية لتفادي الموت، مع ذلك كان الجسد يتحرّك وحده في كلّ مرة بحثًا عن البقاء، لأنّ بقاء المقاتلين يعني بقاء المخيم (مرداوي، ٢٠٠٦: ٨٢-٨٣)، في هذا إشارة إلى علاقة الجسد بالمخيم، إذ إنّ بقاء أحدهما يعني بقاء الآخر، وردّات الفعل اللاإرادية للحفاظ على جسد المحارب، وعلى وجوده في وجه آلة القتل، هي أيضًا ردّات فعل المخيم للحفاظ على وجوده في وجه آلة المحو الاستعمارية.
في إحدى المحاولات دخل الجنود إلى منزل مأهول، فعلا صراخ ساكنيه، وهو ما دفع المقاومين إلى المنزل لإنقاذ أهله ومن ثم الاشتباك مع الجنود داخل المنزل نفسه. في هذه الرواية ما هو مغاير لرواية الاستعمار الصهيوني بأن المقاتلين يحتمون بالمدنيين، وذلك لأن المدنيين هؤلاء لا يخرجون من بيوتهم وهو أمر طبيعي، ودفاع المقاتلين عنهم تجسيد لما هو بديهي في سياق استعماري، ومن المستغرب فصل المقاتلين عن أهاليهم وإخراجهم من بيوتهم حتى تتحول المعركة إلى اصطياد "إرهابيين" في مقابل مدنيين مسالمين حسب الرواية الصهيونية (مرداوي، ٢٠٠٦: ٦٩-٧٠). يتكرّر مشهد القتال من داخل البيوت عندما يقع الجنود في الكمائن أو عندما يشعر المقاتلون بأنّ ما بينهم وبين الجنود جدار، وما هي إلّا لحظات ويبدأ الجنود بهدم الجدار.
في الأيام الأخيرة من المعركة كان ضوء القمر خافتًا حيث صادفت نهاية الشهر القمري، ما عنى أنّ رؤية ما يوجد في السماء تزداد صعوبة، وفي النهار يستخدم الاحتلال طائرات أباتشي بيضاء حيث يصعب رؤيتها مع ضوء الشمس (مرداوي، ٢٠٠٦: ٨١-٨٢). أثناء الاستطلاع ليلًا كان على المقاتلين الاعتماد على ذاكرتهم للتحرّك في المكان، لأن إشعال سيجارة كان كفيلًا بكشف مكانهم، فلجؤوا إلى ذاكراتهم للسير داخل ظلام الليل وظلام الأبنية، واستنفر المقاتلون جميع حواسّهم، فالخطأ يعني الموت، يضبط المجاهد أنفاسه وحركاته فالعدو في مكان قريب ولا يدري من أين قد يظهر(مرداوي، ٢٠٠٦: ٨٣-٨٤).
مع أن نقص السلاح كان منذ بداية المعركة، إلّا أن نقص الذخيرة بدأ يظهر في اليوم الخامس عندما ألجأ المقاتلين إلى مغادرة عدّة مواقع بعد تجريفها، أما نقص الطعام فبدأ يظهر في اليوم الثامن عندما غادر الكثير من أهالي المخيم وهم الذين كانوا يزوّدون المقاتلين بالطعام باستمرار. مع ذلك لم يختفِ الطعام ولم تختفِ الذخيرة، وما كان مدفونًا منها كان يكفي لأسبوع آخر تقريبًا (دقّة، ٢٠٠٤: ٣١) كذلك كان سلاح الشهيد ينتقل لمقاتل آخر، كما لعبت الغنائم -خصوصًا من كمين الـ١٣- دورًا في سدّ فجوة نقص السلاح والذخائر، وإن كان هناك شكوك بكونها تحمل أجهزة تعقّب.
يشعر المقاتل بالضعف والحزن عندما يواجه الحديد المصفّح وهو لا يملك ما يقاتل به، حيث حيّد العدو ما أعدّه لهذا الحديد من بداية المعركة، هذا الشعور بالعجز في لحظةٍ يتمنى الواحد منهم فيها لو يرى جنديًا ويقاتل عدوّه وجهًا لوجه. وفي أثناء المعركة التي تمر أيامها كالدهر ويُفقد فيها الشعور بالزمن، يتذكّر المقاتل إخوته الشهداء فيغرق في الحزن، حيث يظنّ أنّ مجموعته آخر من تبقى، ثمّ يسرّ وترتدّ إليه روحه عندما يلتقي برفاقه المقاتلين من باقي المجموعات (مرداوي، ٢٠٠٦: ١٢٣) (مرداوي، ٢٠٠٦: ١٣١).
وحدة الساحات حينها
في اليوم الثامن للمعركة سمع المقاتلون عبر الراديو خبر قصف حزب الله لمزارع شبعا المحتلة في شمال فلسطين وإصابة عدد من الجنود (حويل، ٢٠٢٢: ١٣١)، يبدو أنّ فكرة وحدة الساحات كانت حيّة، ويمكن تتبعها وتعمل أيضًا باتجاهات مختلفة، ربما نشعر الآن أنّ وحدة الساحات متمحورة حول الضفّة والقدس، أي أن جرائم الصهاينة في الضفة والقدس تعني ردًّا من غزة أو لبنان، لكن وحدة الساحات تعني أيضًا أن جرائم الصهاينة في لبنان يقابلها رد في جنين، مثال قديم على ذلك هو العملية الاستشهادية التي قام بها الشهيد فتحي القانوح في شارع الملك طلال وسط جنين عام ١٩٨٢ ردًا على حصار بيروت (حويل، ٢٠٢٢: ٧٣-٧٤). أمّا في الأيام الأخيرة من معركة جنين، وعندما ظنّ المقاتلون أنّهم مُدركون وقد هُدم المخيم وحوصروا قرر جزء منهم المضي قدمًا نحو الشهادة حتى لا يخرجهم عدوّهم بطريقة مهينة من المخيم (من ضمن الشروط رفع الأيدي ونزع الملابس)، إلّا أنّهم سمعوا بمبادرة حزب الله والتي أعلن فيها جاهزيته لمبادلة الضابط المأسور لديه مقابل انقاذ المقاتلين والحفاظ على سلامتهم، رغم أن هذه المبادرة لم تنجح إلّا أنّها خفّفت عن المقاتلين وقرروا البقاء والخروج معًا (دقّة، ٢٠٠٤: ٦٠).
تتبّع سِيَر المقاتلين
لم ينتهِ القتال في المخيم بانتهاء المعركة، كما لم تنتهِ العمليات، حيث بقي زكريا الزبيدي (فتح) ثمانية عشر يومًا مختفيًا تحت الأنقاض، وكان ومعه سبعة عشر آخرون، خرجوا بعد انسحاب الجيش بالكامل. بدؤوا بإخراج رفاقهم الشهداء من بين الركام وبجمع العتاد وتشكيل خلايا مسلحة من جديد للدفاع عن المخيم، ومن ثم ضبط الأمن في المحافظة حيث فقدت السلطة جميع وظائفها الأمنية، كما تشكّلت اللجان الشعبية لتوفير المساكن لمن هدمت بيوتهم (الزبيدي، ٢٠٢٢: ٥٣-٥٤)، كما بقي إياد تحسين أبو الليل (حماس) مصابًا تحت الركام في بيت الدرج من اليوم السادس حتى اليوم الثالث عشر أو الخامس عشر وقد بقي على قيد الحياة بفضل قنينة ماء وقطعٍ من الجبن (دقّة، ٢٠٠٤: ٩٠)، ليستكمل خطى المقاتلين حتى استشهاده أثناء التغطية على انسحاب رفاقه بالقرب من بلدية جنين في ٣١ كانون الثاني/ يناير ٢٠٠٣[١٢].
قبل معركة جنين ومع اجتياح المخيمات جهّزت سرايا القدس لعمليات حملت عنوان "سلسلة عمليات غضب المخيمات"، عملية في غزة وأخرى في القدس وثالثة نفّذها الاستشهادي عبد الكريم طحاينة من السيلة الحارثية بجنين في العفولة رغم الحصار المطبق على جنين واجتياح آذار/ مارس للمخيم، أما العملية الرابعة فنفّذها الاستشهادي رأفت أبو دياك في ٢٠ آذار/ مارس تحت الظروف نفسها فقتل ١٠ صهاينة في وادي عارة، كما جُهّزت العملية الخامسة "عملية الياجور" ولكن لم تنطلق إلّا في ١٠ نيسان/ إبريل -بعد يوم من كمين الـ١٣- حيث نفّذها الاستشهادي راغب جرادات على المدخل الجنوبي الشرقي لمدينة حيفا وقتل ١٢ صهيونيًا، في ٢٢ أيار/ مايو من العام نفسه استشهد خالد زكارنة أثناء كمين أعدّه لقوّة صهيونية حيث فجّر فيها عبوة وكان يستعد لإطلاق صاروخ لاو عليها إلّا أنّ الصاروخ انفجر فيه (مرداوي، ٢٠٠٦: ٢٣-٢٤) (مرداوي، ٢٠٠٦: ١٢٠)، زكارنة أشرف على العديد من العمليات ومنها عملية الياجور، كما ساهم في الدفاع عن مخيم جنين وهو من قرية دير غزالة شرق جنين[١٣].
من الخلايا المشتركة التي تشكّلت بعد المعركة خليّة علاء الصبّاغ (شهداء الأقصى) وعماد النشرتي (كتائب القسام) وعبد الله الوحش –برجيس/ برغيش- (سرايا القدس)، اعتقل برجيس في ٢٢ تشرين الثاني/ نوفمبر وبعده بأيام اغتيل الصبّاغ والنشرتي بصاروخ استهدف منزلًا في المخيم حيث كانا معًا[١٤]. في ٢١ نيسان/ إبريل ٢٠٠٧ اقتحم جيش العدو منزل عائلة برجيس بحثًا عن مطلوبين، وأثناء الاشتباك معهم أطلق الجيش النار على المنزل بكثافة ممّا أدى لاستشهاد شقيقة الأسير بشرى[١٥]. هؤلاء المقاتلون الثلاثة كانوا ممّن دافع عن المخيم في معركة نيسان/ إبريل واستمرّوا في القتال بعد انتهاء المعركة، يتّهم العدو برجيس بضلوعه في عملية كركور التي نفذها الاستشهاديان من مخيم جنين أشرف الأسمر ومحمد حسنين وأدّت لمقتل ١٤ صهيونيًا في ٢١ تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٠٢. احتُجِزَ النشرتي مع تسعة من المقاتلين في أحد البيوت التي هدمتها الجرافات أثناء تمهيدها الطريق لقوات المشاة، ليخرجوا بعد انسحاب الجيش ويعودوا للقتال، فمثلًا ينسب العدو للنشرتي مع مازن فقهاء مسؤولية تنفيذ عملية صفد في ٤ آب/ أغسطس ٢٠٠٢ والتي جاءت ردًّا ثانيًا على اغتيال القائد العام لكتائب القسام صلاح شحادة[١٦]، فقهاء الذي حاول فكّ الحصار عن قيس عدوان ورفاقه في طوباس بالتزامن مع معركة جنين بعد أن خرجوا من المخيم قبل بدايتها. وبعد انتهاء المعركة شارك فقهاء مع الشهيد نصر جرار (الذي انتشل من تحت الأنقاض حيًا) بإعادة بناء خلايا القسّام في جنين، ومن ثم اعتقل في ٥ آب/ أغسطس ٢٠٠٢ بعد اشتباك استمر ٦ ساعات، وبعد سنوات من الأسر أُبعد إلى غزة بعد الإفراج عنه في صفقة وفاء الأحرار عام ٢٠١١، واتّهمه العدو بقيادة خلايا الضفة ومنها الخليّة المسؤولة عن أسر ومن ثم قتل ثلاثة مستوطنين في الخليل عام ٢٠١٤[١٧] واغتيل بتاريخ ٢٤ آذار/ مارس ٢٠١٧ في غزة[١٨].
استمرّت مطاردة المقاتلين بعد المعركة واعتقال كل من يساعدهم والتضييق على أهاليهم، وأطلق الاحتلال على هذه العمليات أسماء مثل "لمّ القمامة"، "عملية الجرذ الأسود"، "أوراق الشدّة"، "دموع التنين" (الزبيدي، ٢٠٢٢: ٥٠) وإن كانت المقاومة في المخيّم تلقّت ضربة قاسية إلّا أنّ هذه الضربة لم تنه وجودها. استمرّت المقاومة بعدها، وما كان تركّز المقاومة في مناطق من فلسطين التاريخية دون غيرها إلّا بسبب اجتماع ظروف إضافية بعد عدّة سنوات، ثم ما لبثت أن عادت على شكل هبّات منذ ٢٠١٤، وهو ما يوصلنا لاستنتاج أنّ استخدام المزيد من القوّة غير كافٍ لإخماد جذوة المقاومة، وأن الاستعمار الصهيوني يلجأ لوسائل أخرى مثل اغتيال القيادات السياسية، وضرب النسيج الاجتماعي، والمساومة على تحسين الظروف الاقتصادية، وغيرها.
خاتمة
لم أذكر في هذا النص سِيَر قادة المعركة: يوسف ريحان "أبو جندل"، محمود طوالبة، وحتى من كان لهم أثر كبير في الإعداد المسبق والقتال في المعركة مثل زياد العامر (حيث استشهد في بدايتها) وهو من قادة ومؤسسي كتائب شهداء الأقصى، وأيضًا لم أذكر تفاصيل مرتبطة بأصحاب الشهادات التي يراجعها النص: علي الصفوري "الحاج هاون"، وجمال حويل، وثابت مرداوي، وعبد الجبار خباص، ويحيى الزبيدي، حيث تحتاج الكتابة حول هذه السِّيَر إلى مجهود بحثي آخر. كما أن هناك تفاصيل تسرد التواصل بين الفصائل قبل المعركة وأثناءها مع السلطة الفلسطينية من أجل تزويدهم بالسلاح أو استعادة الأسلحة المصادرة منهم مسبقًا، ومشاركة مقاتلين من الأجهزة الأمنية بانتماءات مختلفة (فتح بشكل رئيسي ولكن هناك من الجهاد وحماس أيضًا)، وتضاربَ المعلومات حول التمرّد على أوامر الانسحاب من المخيم من جهة والبقاء على اتصال مع مكتب رئيس السلطة الفلسطينية حينها ياسر عرفات أبو عمار ومع مروان البرغوثي من جهة ثانية. ومن المحطات المهمة التي لم تأتِ المادة على تفصيلها: الكمين الـ١٣ الذي كان له دور محوري في سير المعركة[١٩][٢٠]. فمن الضروري العودة لهذه المراجع حتى تتضح صورة تلك الفترة أكثر. ولامتداد هذه المعركة التاريخي ولتشابه أحداثها الوثيق مع أحداث المخيم اليوم ولفهم التجربة السابقة وتقييمها وفهم سلوكيات مختلف الأطراف وتجاوز أخطائها في سبيل مواجهة العدو، تصبح العودة لهذه المصادر أكثر أهمية.
في نهاية كتابة هذا النص وجدت كتابًا صدر عام ٢٠٠٣ وهو على ما يبدو أوّل ما صدر عن معركة المخيم فيما يتعلّق بشهادات المقاتلين، الكتاب حمل عنوان "الشيخ الجنرال: قصة جهاد قائد ملحمة مخيم جنين الشهيد محمود طوالبة"[٢١] الصادر عن مركز جنين الجديد للدراسات والإعلام عام ٢٠٠٣، وفيه مجموعة من الشهادات لمقاتلين من المخيم -بعضهم لم يذكر اسمه- يتحدّثون فيها عن الشهيد محمود طوالبة وقتاله في معركة المخيم وقبلها، وهو مرجع مهم بحاجة لمراجعة أخرى.
على الرغم من الاعتماد على مراجع عدّة إلّا أنّ النصّ -مجددًا- لم يذكر الكثير من الأحداث لذا أرى من الضرورة العودة إلى هذه المراجع عرضًا وبحثًا حيث لم أوفِ أيًا منها حقه.
المصادر
[١] مركز رؤية للتنمية السياسية. (تموز/يوليو٢٠١٩). جمال حويل https://bit.ly/3Pj6xVc .
[٢] مركز رؤية للتنمية السياسية. (حزيران/يونيو٢٠٢٣). ثابت مرداوي https://bit.ly/3rp0C92 .
[٣] متراس.(29 أيلول/سبتمبر2018). صوتُ هبّة السلاح.. مزجُ الانتفاضة الثانية. ساوندكلاود، https://bit.ly/3LpI8Mn .
[4]vnpeker. 'The Road to Jenin': Thaber Mardawi, Islamic Jihad (1) YouTube. ،https://bit.ly/3PKrHgm .
[٥] مركز رؤية للتنمية السياسية. (تشرين الأول/أكتوبر٢٠٢2). وليد دقّة https://bit.ly/45V1eSR .
[٦] دقّة، وليد. ٢٠٠٤. يوميات المقاومة في مخيم جنين 2002. مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديموقراطية https://bit.ly/3ZE3L1L .
[٧] حويل، جمال. ٢٠١٢. معركة مخيم جنين : التشكيل و الأسطورة نيسان/إبريل 2002. رسالة ماجستير - جامعة بيرزيت https://bit.ly/3PJa803 .
[٨] حويل، جمال. ٢٠٢٢. معركة مخيم جنين الكبرى 2002: التاريخ الحي. مؤسسة الدراسات الفلسطينية https://bit.ly/3ZrX82q .
[٩] الزبيدي، زكريا. ٢٠٢٢. الصياد و التنين : المطاردة في التجربة الفلسطينية من 1968-2018. رسالة ماجستير - جامعة بيرزيت https://bit.ly/48iNeUK .
[١٠] موقع كتائب الشهيد عز الدين القسام. الشيخ الأسير جمال أبو الهيجا https://bit.ly/454leRH .
[١١] موقع كتائب الشهيد عز الدين القسام. قيس عدوان أبو جبل https://bit.ly/3PnvPl8 .
[١٢] موقع كتائب الشهيد عز الدين القسام. إياد تحسين موسى https://bit.ly/3ELb9i3 .
[١٣] موقع سرايا القدس. (22 أيار/مايو٢٠٢٢). الشهيد القائد «خالد زكارنة».. مهندسٌ ترك بصماته في عمليات نوعية https://bit.ly/3rj1zzM .
[١٤] موقع كتائب شهداء الأقصى. الشهيد القائد "علاء أحمد الصباغ" https://bit.ly/3ELbj99 .
[١٥] موقع سرايا القدس. عبد الله ناجي وحش برجيس https://bit.ly/451oOw5 .
[١٦] موقع كتائب الشهيد عز الدين القسام. عماد فاروق نشرتي https://bit.ly/3sXARgC .
[١٧] شبكة صرخة الإخبارية. (12 حزيران/يونيو ٢٠١7) البلاغ الأخير، أول فيلم وثائقي يروي قصة اختطاف مستوطني الخليل عام 2014 HD. يوتيوب https://bit.ly/46cjGH3 .
[١٨] موقع كتائب الشهيد عز الدين القسام. مازن محمد فقها https://bit.ly/44T9nWR .
[١٩] الجزيرة. (9 نيسان/إبريل ٢٠٠٢). شارون معترفًا بمقتل 13 جنديا: إنه ليوم عصيب https://bit.ly/3LrHXjG .
[٢٠] شبكة قدس الإخبارية. (11 نيسان/إبريل٢٠٢٣). كمين الـ13 بمعركة مخيم جنين والذي أسفر عن مقتل 13 جنديًا إسرائيليًا ومَنَع اقتحام حارة الحواشين، يوتيوب https://bit.ly/48mKB4b .
[٢١] مركز جنين الجديد للدراسات والإعلام. ٢٠٠٣. الشيخ الجنرال: قصة جهاد قائد ملحمة مخيم جنين الشهيد محمود طوالبة https://bit.ly/3Pntl6c .