مكاتبات لم تصل.. ماذا تقول رسائل الفلسطينيين لأحبابهم أيام النكبة؟

مكاتبات لم تصل.. ماذا تقول رسائل الفلسطينيين لأحبابهم أيام النكبة؟
تحميل المادة

"وقد أرسلت روحي في كتابي

ولو أني استطعت لكنت كلي"

كانت الكتابة إذًا تعويضًا عن العجز في الحضور المادي المباشر، ووُجدت المكاتبات واعتُني بها وبكتابها عبر الزمن الممتد، ومن أبرز المكاتبات، مكاتبات الحرب التي حضرت مصدرًا للكتابة التاريخية، تضاعفت قيمتها مع الزمن، خصوصًا إثر الحرب العالمية الأولى فالثانية. إذ تحولت المكاتبات إلى مصدرٍ كاشف للحرب وخفاياها، بعد أن لم يعد ينُظر لمكاتبات الحرب مصدرًا لتفاصيل المعارك وجبهات القتال، أو الجبهات الخلفية، فحسب، وإنما نُظر أيضًا إلى ما لم تقله هذه المكاتبات، خصوصًا في جوانبها النفسية والاجتماعية.

لكن، ستتجاوز هذه القصاصة المكاتبات بوصفها مصدرًا، إذ إن المكاتبات الآتية لم تبق مكاتبات عاديةً، وإنما تحولت لشاهد على حضور سابق.

اشتعلت حرب فلسطين الكبرى بين كانون الأول/ ديسمبر 1947- ونيسان/ أبريل 1949، وكما صار معلومًا، فَقَدَ أهل فلسطين خلال هذه الحرب جُلَّ أرضهم، وحفظ الرصاص بقيتها. انطلقت المرحلة الأولى من هذه الحرب مع الاشتباكات الأولى التالية لإعلان مشروع الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين. وتصدر أهل فلسطين المواجهة في هذه المرحلة، سواء بتشكيلاتهم العسكرية المحلية، أو بالتشكيلات العسكرية الملحقة باللجنة العسكرية العربية العليا، الهيئةِ المسؤولة عن إدارة المعركة آنذاك. وخُتمت هذه المرحلة من الحرب بسقوط جل المدن المركزية بيد العصابات الصهيونية، بعد معارك امتدت في معظم جبهات القتال لشهور، وكان احتلال جُلِّ هذه المدن مفاجئًا.

بعد أيام قليلة من سقوط طبرية، ابتدأت معركة مفاجئة في حيفا يوم 22 نيسان/ أبريل 1948، بتواطؤ بريطاني حفظته تفاصيل المصادر الأولية والثانوية المختلفة، وانتهت هذه المعركة باحتلال المدينة وتهجير أغلب سكانها. امتدت المعارك، وابتدأت المرحلة الثانية من الحرب في أيار/ مايو 1948 مع الإعلان عن جلاء القوات الاستعمارية البريطانية عن فلسطين والحضور الرسمي لعدد من جيوش الدول العربية. وبعد معارك طويلة سقطت اللد يوم 13 تموز/ يوليو في معركة ما زال كثير من تفاصيلها -كما جل تفاصيل الحرب العربية- مجهولًا، ثمّ كان القرار الصهيوني بطرد أهل المدينة بأمر مباشر.

لم تسقط البلاد وتطهر من أهلها فقط، وإنما سقطت أيضًا نصوص ووثائق، كان منها بعض المكاتبات، التي حفظتها بيوت أصحابها، أو صناديق البريد الذي لم يبرح المدينة. "طُهّرت" البيوت من مقتنياتها، وتعدد مصائر المنهوبات، فحل بعضها في أراشيف المؤسسات الاستعمارية الصهيونية. كان منها هذه المكاتبات التي يمكن أن يقرأ المؤرخ لحرب فلسطين الكبرى في ثناياها الكثير، وعلى مستويات مختلفة، لكن سيُقتصر هنا على إثبات ثلاثة نماذج من هذه المكاتبات، واحدة كتبت في حيفا قبل أيام قليلة من معركتها الأخيرة، وثانية وثالثة كتبتا في أيار/ مايو 1948 في اللد قبل أسابيع قليلة من سقوطها. ومن الجلي أن هذه المكاتبات التي خُطت في مجملها لترسل خارج فلسطين لم تصل لأصحابها، ولعلها تصل ولو بعد حين.

 

أخبارنا من أخبار البلاد

خُطت المكاتبة الأولى من محسن فواز، أحد العاملين في معسكر عتليت -الذي صار سجنًا صهيونيًا-، إلى قاسم زهدي أبو محمد، يوم 18 نيسان/ أبريل 1948. حَفظت هذه المكاتبة تفاصيل عن الأخبار المتداولة بين الناس آنذاك، أمكن من خلالها إدراك الأثر النفسي الكبير لبعض الحوادث، كاستشهاد عبد القادر الحسيني ومذبحة دير ياسين. ورغم أن الكثير من التفاصيل المثبتة في المكاتبة لم تكن إلا إشاعاتٍ بُثت في بعض وسائل الإعلام، إلا أن الرسالة تعكس طغيان العام على الشخصي، وهنا نصها الكامل:

حيفا 18 نيسان لسنة 1948

لحضرة العم الفاضل السيد أبو محمد قاسم زهدي المحترم

من بعد إهداء السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم بعد، إذا سألتم عن الأحوال ساعة تاريخه لله الحمد، لم خايس علينا [لا ينقصنا] إلا المشاهدة، نطلب منه تعالى أن يجمعنا عن قريب إنه سميع مجيب.

أكتب إليكم هذه الرسالة لأجل أن أعطيكم قليلاً من أخباري وآخذ قليلاً من أخباركم، هذا الذي أريده والسلام، أما من جهة أخبارنا طبعًا في الوقت الحاضر فا إنها [فإنها] خطرة جدًا في فلسطين. وفي هذه الرسالة أسطر إلى حضرتكم فاجعةً وقعت في قرية عربية وقد فقد 250 ضحيةً معظمها من النساء والأطفال، فتك بها الجناة اليهود في مذبحة الأبرياء بقرية "دير ياسين" وها أخبركم تفاصيل الحادثة:

إن هذه القرية تقع في الغرب من القدس تبدر عنها ستة كيلو متر تقريبًا، وجميع جيرانها مستعمرات يهودية وإن هذه القرية كان بين سكانها وبين اليهود، اتفاق على عدم الاعتداء، لقد انقضّ اليهود اللئام على القرية واعملوا في أهلها التقتيل والذبح ولم ينج منها إلا الشباب اللذين [الذين] استعملوا جميع الوسائل المقاومة، وقد ذبح من القرية 250 نفسًا بجميع أنواع الأسلحة والقنابل. ثم جمع اليهود 150 امرأة وأطفال [طفلًا] وأركبوهم في سيارات شحن وطافوا بهم الأحياء اليهودية في القدس، وكان اليهود يبصقون عليهم ويرجمونهم بالحجارة ويضربونهم حتى أوصلوهم إلى أطراف الأحياء العربية وما كادوا يصلون إلى هناك حتى أطلق اليهود رصاص البنادق الرشاشة فوق رؤوسهم إرهابًا. ومن هناك تسلمتهم الهيئة العربية العليا ووضعتهم في أماكن تحت رعاية دائرة الشئون الاجتماعية.

إن جميع اللذين [الذين] قتلوا قد وضعوهم في بئر عميق، إن 25 امرأة حاملًا و50 امرأة مرضعة، و60 امرأة أو فتاة قد ذبحن ذبح النعاج. وقد كانت هذه الجريمة أفظع جريمة وقعت من حين ما قامت هذه الثورة إلى حد الآن، وإن الرؤساء قد أرسلوا برقيات إلى جلالة ملك [الملك] عبد الله والملوك والرؤساء والعالم الإسلامي والمسيحي، هذه أخبار فاجعة (دير ياسين العربية).[1]

إن القوات العربية في ثاني الأيام قد ربطت على طريق نابلس وقد مرت قافلة سيارات يهودية مؤلفة من 15 سيارة ترافقها خمسة سيارات ومصفحة وقضت على جميع ركابها وتمكنت قوات التحرير من إصابة الطائرة فهوت في وسط المعركة والنيران تشتعل وقتل جميع ركابها، وإن العرب محاصرِة مستعمرةً يهوديةً في جهات الجليل وإنشاء [إن شاء] الله ستقضي عليهم.

أخبار جهات غزة

غزة، في الساعة الرابعة من صباح يوم الأحد الواقع في 11 نيسان قام المناضلون العرب على مستعمرة تسمى (كفار داروم) الواقعة شرقي دير البلح، ودمرت قسمًا كبيرًا منها، وقد بدأ الهجوم بقنابل الهاون. كانت تتساقط على أبنية المستعمرة الكافرة، وفي الوقت نفسه كان فريق كبير من المناضلين يطلق الرصاص بكثرة لحماية إخوانهم الفدائية الذين دخلوا المستعمرة بقلوب لا تهاب الموت وقد وضعوا الألغام في المستعمرة وقد تهدوا [هدّوا] العمارات على رؤوس أصحابها اللذين [الذين] دفنوا تحتها.

خطاب القائد فوزي بك القاوقجي يؤبن القائد عبد القادر الحسيني

في سبيل الله والوطن في سبيل العروبة والعرب، في سبيل تحرير فلسطين وانقاضها [وإنقاذها] من ربقة الاكتساح الصهيوني، استشهد القائد المجاهد البطل عبد القادر الحسيني، إنها لساعة رهيبة ساعة استشهد فيها، ساعة تحيطه وتسيطر عليه شآبيب الرحمة. ففي سبيل الله والوطن يا عبد القادر وسيجزيك الله جزاء الشهداء وسيسجل له [لك] تاريخ الوطن مفخرة استشهادك ليس بالحبر بل بالدماء وإن العرب لِدَمك لناقمون. لقد جاء العرب من مختلف أقطارهم إلى فلسطين فأعطاهم الشهيد اليوم ابن فلسطين البار مثلاً صالحًا لن ينسوه أبدًا. وقد ختم القائد كلمته، إن الله لناصرنا ومن ينصره الله فلا غالب له.

أخبار معركة القسطل بجوار القدس

إن العرب أخيرًا قد استولت على جميع جبال (القسطل) وإن اليهود قد قتل منهم 174 نفسًا وقد كسبت منهم مكاسب كثيرة.[2]

هذه أخبار فلسطين في يومين فقط أخبرتكم بها وإن الساعة خطرة جدًا جدًا ومن جهتي فإنني أحمد الله وأثنيه، صحتي جيدة جدًا، وبعدني [ما زلت] متوظف في معسكر (عتليت) ولكن المصروف غالي جدًا ويفرجها الله تعالى.

عمنا قاسم

لا يمكنني إرسال دراهم مع أولاد البلد لسبب كثرة الحوادث على الطرق.

أهدي سلامي إلى والدي له ألف سلام، أهدي سلامي إلى الأخ موسى العبد وإلى عمه محمد العبد، وإلى عمنا الحاج عبد الحميد والإخوان: محمد سعيد، أحمد الحسين، سليمان الخطاب، حسان السالم، وحمد الحسن الشوفي، ولسيد فرح، وإلى عموم من يسأل عنا له ألف سلام، ودمتم.

الداعي لكم مخدومكم

محسن فواز

يصل ويحظى لمطالع العم الفاضل أبو محمد قاسم زهدي المحترم

جندي صهيوني أمام مسجد دهمش وسط اللد بعد احتلالها

 

من دولة اللد

المكاتبتان الثانية والثالثة خُطتا في اللد، أولاهما خطت يوم 26 أيار/ مايو 1948، ولم تؤرَّخ المكاتبة الثانية، لكن وقائعها تؤشر إلى أنها خُطت في أيار/ مايو 1948، كما المكاتبة الأولى فإن هاتين المكاتبتين اعتنيتا بالعام وأبرزته، وأبرزتا ما هو مؤكدٌ من حضور اللد وأهلها، واعتدادهم بأنفسهم وبمدينتهم، اعتدادٌ حضر بعد عقود طويلة، في أيار/ مايو أيضًا، لكن هذه المرة في العام 2021.

اللد

26/5/48 م

حضرة السيد علي أفندي الهنيدي المحترم

كتب إليك من شوقي كتابًا

جعلت مداده ساقي فؤادي

وقد أرسلت روحي في كتابي

ولو أني استطعت لكنت كلي

فاتخذ كتابنا إليك كثرة [لكثرة] شوقنا، وشدة وجدنا وهيامنا، وإهدائك خالص سلامنا الذي ينبعث من قلب يتلهّف بنار الشوق لرؤيتك.

لقد وصلنا سلامك لنا ونحن في أشد الحاجة إليه لشدة شوقنا إليك، فأتانا "محمد" بهذا السلام فقمنا جميعًا نسأله من الذي أخبره ذلك، فعلمنا أن خالد وخميس قد أخبراه وذلك إن الحالة في مدينة اللد هادئة نسبيًا، ولكنها في الرملة متوترة جدًا والنجدات تتقاطر عليها من كل صوب لحمايتها. إن جميع المراكز الآن تحت حماية اللد مثل الهلمون والمحطة والمطار، كل منهم بهم رجال من أهالي اللد لحمايتهم.

لقد أتى سليمان منذ أيام بفتاتين وشابين من اليهود أسرى، وما خرجوا من اللد إلا بعد أن أخرج اليهود من عندهم أولاد أبو حطب من اللد.

لقد أتى على اللد جنسين [جنسان] من العربان بقيادة السيد مثقال باشا الفايز، إنهم يحسنون إطلاق النار جيدًا، وإنهم يأخذون كل ما تستطيع يدهم أخذه من اليهود، ولا يرهبون الموت أبدًا، ولا غدر اليهود، فواحد منهم قتل أخاه ليقتل اليهودي الذي قابض عليه.

[.....]

إن جميع الأماكن في اللد ملأى بالسكان، حتى امتلأت الأماكن والمقرات ومراكز البوليس وأصبحت الناس تنام في الطرقات.

إن جميع من عندنا يهدونك السلام ويرجون لك التوفيق، فوالدتك تقبّل وجناتك عن بعد وكذلك خالتك وخالك ونسوان خوالك [أخوالك] وإخوانك وجميع الأقارب والأهل والأصدقاء يقدمون لك أحرّ سلامهم. هل رأيت أحدًا من دار عبده في عمّان.

سلامٌ وإهداء السلام من البعد

دليلٌ على حفظ المودة والعهد

وفي الختام نطلب لك الصحة والعافية وطيب المقام ونهديك أحر السلام ونطلب من الله أن نراك عن قريب، إنه سميع مجيب، ودمت لوالدك المحب

صادق هنيدي

***

المكاتبة الثانية:

أخي العزيز

بعد السلام والسؤال على صحتكم الغالية، التي أرجو أن تكون على ما يرام، اطمئنك على صحتنا، فنحن جميعًا في صحة جيدة لا ينقصنا سوى رؤية محياك لا حرمنا الله من رؤيته.

وبعد فإني انتهز فرصة سفر السيد صالح إلى عمّان لأرسل إليك هذه الرسالة مستفسرًا فيها عن صحتك التي أرجو أن تكون على ما يرام، باثًا لك فيها جميع شوقي الشديد إلى رؤية محياك لا حرمني الله منه، وجميعًا نحن هنا في صحة جيدة.

أخي إن مدينة الله [اللد] في أمان من اعتداء اليهود عليها، لهول القوة التي فيها فإن اليهود عندما يريدون غزو اللد لا يستطيعون أن يصلوا إليها رأسًا، ويشتبكوا [يشتبكون] مع حرسها الداخلي، بل إن معارك طاحنة تستعر أوارها على بعد ثلاث كيلو مترات من اللد نفسها تحول دون وصول اليهود، كما تكون المدفعية اللدية الثقيلة من عيار 6 بوصات والتي تتكون من 8 مدافع تقذف بحممها على رؤوسهم فتحصدهم حصدًا، فلا يكون بالك مشغول من جهتنا ما دمنا في حمايتهم. وأود أن اخبرك أن مدينة الله [اللد] أعادت صيتها القديم، وزادت عليه أضعافًا، فهي وحدها التي بقيت في هذا اللواء صامدة أمام اليهود، ولم يرحل من سكانها أحد، بل لجأ لها عائلات كثيرة جدًا من يافا والرملة وجميع اللواء، وهي وحدها التي تصد الهجوم عن مدينة الرملة وعن جميع قضائها وعن المطار والمحطة وعدة معسكرات، ومما زاد هيبتها أنها هي وحدها التي تتقدم هذه المهمات دون اشتراك المتطوعين أو الجيوش العربية التي لم تصل إليها بعد.

أخي العزيز،

إن جميع الأصدقاء في أحسن الأحوال، وجميعهم يتمنون لك النجاح والصحة.

وختامًا أتمنى لك كل توفيق ونجاح، وأخيرًا إبلاغ سلامي إلى جميع الأصدقاء والسلام.

باسم حسن هنيدي

وفي الختام، لعل السلام وصل!



[1] لتفاصيل عن دير ياسين، وبيان لحجم الإشاعة والواقع في هذه الأخبار ينظر: وليد الخالدي، دير ياسين: الجمعة 9/ 4/ 1948 (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2003).

[2] عن استشهاد الحسيني ومعركة القسطل وما تلاها وسبق من معارك في القطاع الشرقي من المنطقة الوسطى يمكن مراجعة، بلال محمد شلش. داخل السور القديم.. نصوص قاسم الريماوي عن الجهاد المقدس، دراسة وتحقيق (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020).