ملامح ما بعد شرم الشيخ: الحسم أم إدارة الصراع؟

ملامح ما بعد شرم الشيخ: الحسم أم إدارة الصراع؟
تحميل المادة

 على سبيل اللاسبيل...

صمَت دوي القصف، وخفتت رائحة البارود، وانطلق النازحون والمهجرون عائدين إلى حيثما كانوا ذات يوم، أملًا أن يكون في الاتفاق الحالي ما يتجاوز الهدنة المؤقتة إلى وقفٍ دائم للحرب، بكل أشكالها، وإلى استعادة القليل مما بقي من ملامح الحياة الروتينية أو معالمها.

يفضل الكثيرون عدم الغوص في التفاصيل، أو التنبؤ بالمستقبل، فإحدى دروس هذه الإبادة هي اللحظة فقط، فربما لا يصلون اللحظة التي تليها، لذا يحاولون التعايش مع الاتفاق وفقًا لمقتضياته الآنية، لكنه رغم ذلك يحمل ملامح واضحة لما بعده، فلسطينيًا وعربيًا وإقليميًا، بعضها بدأ يعلن عن نفسه بفجاجة، فيما بعضها الآخر ينتظر اللحظة القاصمة.

في الخامس عشر من الشهر الحالي وخلال مقابلة الـBBC مع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، أجاب الملك على سؤال المذيع "هل من الممكن تحقيق سلامٍ دائم في ظل وجود رئيس الوزراء نتنياهو والائتلاف اليميني في السلطة؟" بالنفي، قائلًا إنه لا يثق فيما يقوله نتنياهو.

تبدو هذه الإجابة شاذة عن العُرف الدبلوماسي الذي يلتزم به رأس النظام الأردني ودستة خطاباته المؤكدة على أهمية السلام وحل الدولتين، ليس ذلك اللافت الوحيد فيها، ولكن أيضًا تزامنها مع توقيع اتفاق شرم الشيخ، الذي شارك فيه العاهل الأردني، باعتباره -وفق وصف راعيه دونالد ترامب-: "فصلًا جديدًا للمنطقة مبنيًا على الأمل والسلام والازدهار".

تصريح ملك الأردن ربما سيكون الأول عربيًا وإقليميًا في وضع النقاط على الحروف وإزالة دعاية كاذبة عنوانها "السلام" على المستوى الرسمي والدبلوماسي، لكنه بالنسبة للفلسطينيين لن يكون إلا تأكيدًا آخر على إدراكٍ عميق يتلبسهم منذ ما قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، مرورًا بالاتفاق، وما سيليه لاحقًا.

ذلك لأن الاتفاق بطبيعته يؤسس لنهايته، وممارسة نوعٍ آخر من الحرب، التي ستفضي عاجلًا أم آجلًا للنوع الأول منها -الإبادة المجردة الصارخة- إن لم يكن في غزة، فحولها، إن لم يكن غدًا، فلاحقًا.

فعلى صعيد اللغة الدبلوماسية للاتفاق يمتنع أطرافه عن وصفه بالهدنة، رغم أنه الوصف الأقرب له، باعتباره وقفًا لإطلاق النار، لن يلبث "الإسرائيلي" أن يجترح المبررات لخرقه -وصل عدد الشهداء نتيجة خروقات الاحتلال أثناء كتابة هذه الكلمات(١٩تشرين الأول/كتوبر الحالي) إلى 46 شهيدًا وأكثر من 132 مواطنًا، إضافة لخروقات أخرى مثل عدم فتح معبر رفح وإدخال المساعدات وتسليم كشوف بأسماء الأسرى وغيرها_.

كما يفرض الاتفاق التزامات محددة وواضحة على المقاومة الفلسطينية، تتوسع شيئًا فشيئًا، بدءًا من وقف القتال إلى نزع السلاح، وانتهاءً ببيان وزارة الخارجية الأمريكية الذي يحذر المقاومة من الاستمرار في ملاحقة العملاء والمتعاونين، تحت مُسمى "هجوم كبير ضد المدنيين في غزة" وكأن الإبادة لم تكن "هجومًا هائلًا ضد المدنيين في غزة"، ويا للصدفة، فجأة يظهر أن في غزة مدنيون!

في المقابل يمنح الاتفاق الجانب "الإسرائيلي" امتيازات غير متناظرة مع تلك التي يُخضع لها المقاومة الفلسطينية، فالامتيازات "الإسرائيلية" فضفاضة قابلة للتوسع دائمًا بحجة الأمن، ومحورها الأساس هو "الهدوء مقابل الهدوء"، وليس المساواة ولا الترميم ولا حل الصراع، ما يجعل أول مخرجات الاتفاق "تجميد الصراع بهدف إدارته على قاعدة الهيمنة"، ويحول الاحتلال من فعلٍ عسكري مباشر لمنظومة سيطرة ناعمة تستخدم الإعمار والوساطة والمساعدات كأدوات "شرعية" يملك الاحتلال حق الفيتو فيها، تحت عنوان الأمن والاستقرار.

في الاتفاق نفسه تتموضع غزة منطقة اختبار للاتفاقيات الإقليمية والعربية والدولية، وللتقنيات الأمنية الإسرائيلية والرقابة الدولية الأممية، وللخبرة الأمريكية- الأوروبية- الإسرائيلية في إدارة الحدود والمساعدات، بينما يخضع سُكانها للضبط عبر ملفات الاقتصاد والمساعدات وإعادة الإعمار، بما يُنتج ولاءات اقتصادية واجتماعية، عائلية وعشائرية، لصالح الاحتلال تُمنع المقاومة من المساس بها – كما في بيانات أمريكية- فيما تتعاظم سلطة الشركات الممولة أو الجهات المانحة لتغدو سلطة فعلية بديلة وضابطة للمجتمع من خلال التمويل، ما يحقق للاحتلال هدفي الضبط والإدارة، دون الحاجة لسلطة سياسية فلسطينية، وبما يؤدي إلى إنهاء المقاومة من غزة فعلاً مؤثرًا، وشطب الهوية السياسية للشعب الفلسطيني.

أما الزاوية الأكثر اختناقًا في الاتفاق، فهو غياب الضامن أو الراعي الحقيقي، فمهما قيل عن ضمانات أمريكية خطية أو شفهية، فالسياسة الأمريكية العامة، والذهنية المسيطرة لترامب وفريقه، تجعل أي ضمانات متاحة للاستهلاك الإعلامي فقط، وحتى على صعيد  الوسطاء والضامنين من الدول العربية والإسلامية، فإن اجتماعهم الأخير بترامب في واشنطن قبيل الإعلان النهائي عن الاتفاق يؤكد أنهم مجرد قنوات تنفيذية ضاغطة على طرفٍ واحد، بما يحقق مصالح واشنطن في  هدوء مصطنع، ويعزّز الأمن "الإسرائيلي" بأدوات إقليمية.

ملامح عرجاء لاتفاقٍ هش

في ضوء ما سبق، يحمل الاتفاق ملامح واضحة: فلسطينيًا يمحو الاتفاق ما ظنته السلطة الفلسطينية مكاسب لها من موجة الاعتراف الدولي بفلسطين، إذ ربما اعتقدت أن ذلك قد يمنحها مكانة دولي جديدة، فقد استبعدها الاتفاق بنحو نهائي وكامل لها من المشهد العربي والإقليمي، ومن أي ترتيبات جديدة قد تخص الضفة الغربية كما تخص غزة، إلا في حدود استمرار التنسيق الأمني بما يضمن قمع المقاومة وحماية أمن المستوطنين، وبما أن التنسيق مقدسٌ وفق عُرف قيادة السلطة، مهما هُرس من فلسطينيين تحت مسنناته، فلا حاجة لذكره في أي اتفاقٍ أو ترتيب.

كما يلغي الاتفاق التمثيل الفلسطيني باستبعاده كُلًا من المقاومة والتمثيل الرسمي للفلسطينيين، بإحالة إدارة غزة لوصاية عربية- إسرائيلية، أو إدارة مدنية وفق شروط دولية، تغدو جماعات أبو شباب أكثر مواءمة لها حتى من إدارة الأونروا نفسها، ما يعني أن الاتفاق يحقق بأدواتٍ سياسية واقتصادية، ما عجزت عنه "إسرائيل" على مدى عامين، ويخضع قدرة المقاومة على المناورة للاختبار في ظل سعيٍ إقليمي ودولي وعربي لضمان محو السابع من تشرين الأول/  أكتوبر، من التاريخ والمستقبل.

ربما تكون هذه الملامح، بتفكيك البنية السياسية والشرعية للقضية الفلسطينية، أخطر ما يمكن أن يفضي إليه الاتفاق، في حال لو مضى وفق الخطة الأمريكية/ الإسرائيلية، خاصة وأنه يعزز غياب مركز قيادة فلسطينية مجمعٍ عليها، ويُلغي الشرعيات الطبيعية والأصيلة السياسية التمثيلية للشعب الفلسطيني.

بهذه المعادلة، خرج الملف الفلسطيني من المفاوضات بأضعف مما قدم، فالمقاومة خرجت منهكة ومقيدة، لم تستطع تحقيق جزءٍ كبيرٍ من أهداف الطوفان الأولى، من إطلاق سراح جميع عمداء أسرى المقاومة، وترسيخ معادلة مقاومة متمكنة وراسخة في مواجهة المحتل، ودمج العرب والمسلمين في ملحمة فلسطين، وتحقيق وحدة ساحات يُراد لها أن تذهب بمسار القضية لخلاف ما وصلت إليه -حينها- وإشعال الضفة بما يقف في وجه الضم والتهويد، ليغدو المُتاح استلابًا متواصلًا لما استطاعت تحقيقه من تحرير مئات الأسرى والجثامين، ووقف إطلاق للنار وفتحٍ معبر رفح ودخول المساعدات، بالابتزاز والضغط والتهديد.

 وحتى السلطة رغم تنازلاتها فقد جرى تجاهلها، ليخلق الاتفاق ما يمكن تسميته مرحلة "وصاية غير معلنة"، يخضع بها الفلسطينيون لشروط "إسرائيلية" أمنية دقيقة، قوامها في القطاع (الإعمار لمن يتعاون ويلتزم بالهدوء، والموت لمن يخل بالاستقرار)، فيما تسقط الضفة في كوة النسيان بلا سائل، بهذا تُفرغ المقاومة من أدواتها، فإما المقاومة وإما الإبادة الصارخة، وبينهما إبادة صامتة مستمرة في الحالتين، يتحول عبرها الفلسطينيون من شعب يُفاوض إلى جماعات تُراقَب، ويتمظهر الوجود "الإسرائيلي" من احتلال عسكري صريح، إلى نظام مراقبة سياسي واقتصادي بإجماعٍ دولي.

ترجمة ذلك، هي أن الملف الفلسطيني أصبح ملفًا إقليميًا تديره العواصم العربية بدلًا عن المقاومة أو السلطة، تتحاصر فيه الأولى وتهدد بالنفي والعزل، لتُخضع الثانية عبر تقليص المساعدات والتحويلات المالية لميزانيتها.

أما الملامح العربية الإقليمية، فهي استثمار عربي إسلامي إقليمي لصمود الفلسطينيين، نتج عنه تعزيز لنفوذ الأنظمة المشاركة في شرعنة الاتفاق، وتثبيت لموقعها في الشرق الأوسط بوصفهمحلفاء وعملاء لواشنطن في الوقت ذاته، يتكسب كل منهم عبر الهدوء الطويل، أكثر مما يكسبه في حسم الحرب لصالح طرفٍ ما، فمصر استعادت دور الوسيط الرئيس، وفي دعايتها الرسمية وغير الرسمية دور القائد الجسور للمنطقة العربية، وقطر تحمي مصالحها وتثبت مكانتها ولو على حساب المقاوم الفلسطيني، فيما ارتفعت حرارة التقارب التركي الأمريكي، وقطع الأردن الطريق على أي انفجارٍ قد يطال داخله باستمرار الحرب، بينما مهدت السعودية لتطبيعٍ دافئ بلا عوائق فلسطينية.

بكلماتٍ أخرى، يشكل الاتفاق مقدمة لتسوية إقليمية تشمل مسارات أوسع من التطبيع والإعمار تحت إدارة عربية- غربية مشتركة، وبإشراف "إسرائيلي"- أمريكي مباشر، عبر عنه نتنياهو بالقول "قلنا إننا سنغير وجه الشرق الأوسط وهذا بالضبط ما نقوم به، يدنا ممدودة للسلام واليد الأخرى تمسك بسيف داوود". هل هناك خطابٌ محفزٌ للسلام والتطبيع أبلغ من هذا؟

ربما يمكن اعتبار الاتفاق وفقًا لذلك "تجديدًا للعقد الاستعماري" بمشاركة فاعلة من الأنظمة السياسية، وخضوعٍ كامل لمنطق "السلام مقابل الهيمنة" بدلًا من الأرض مقابل السلام، أو حتى السلام مقابل السلام، ذلك لأنه وعلى خلاف ما يُروج للاتفاق باعتباره نجاحًا دبلوماسيًا لهذه الأنظمة، إلا أنه في الواقع ليس أكثر من غطاء لهزيمة جماعية، فشل فيه الإقليم والمجتمع الدولي في ضبط "إسرائيل" أو ردعها، ما حول "الهدوء" للسلعة الأكثر طلبًا، اجتماعيًا وسياسيًا، في المنطقة، انعكاسًا لحالة نفسية عامة جرى استثمارها سياسيًا لتبرير الخضوع لأي اتفاق يُروج له بصفته "منطقي" .

 في المحصلة، ما نراه الآن هو صمتٌ مؤقت لهدير حربٍ بلا نهاية، وسلام على هيئة اعتداء بلا ضامنٍ ولا مضمون، وربما استراحة قسرية لجميع الأطراف، تُمكن المقاومة من استعادة ما بقي أنفاسها، بينما تشتري "إسرائيل" الوقت لتثبيت مكاسبها، فيما يتجنب العالم انفجارًا إقليميًا أوسع، باختبائه تحت مظلة الهدوء، وتجميده للقضايا الحاسمة إلى أجلٍ غير مسمى.

هذا الهدوء قد يكون أكثر قسوة من الحرب نفسها، بتعدد أدوات سيطرته من الفعل العسكري إلى المعابر ومن القصف إلى المراقبة ومن السلاح إلى التمويل والإعلام والمناهج التعليمية والبُنى الاجتماعية والاقتصادية، وبفجاجة التواطؤ البنيوي العربي والإسلامي والإقليمي، حين يخصم كل طرفٍ مكاسبه من ميزان الدم الفلسطيني، ويؤسس لعلاقات تطبيع تفتح أمام "إسرائيل" الحدود والأجواء، ليصح القول إنها خرجت من الحرب أكثر اندماجًا في المنطقة وتناغمًا مع أنظمتها لا أكثر عُزلة، هُنا لا خاسر إلى الفلسطيني.

تتكالب الأسئلة هُنا، في ظل غياب الفلسطيني الرسمي والمقاوم، هل تحول دم الفلسطيني إلى العملة التفاوضية الأكثر رواجًا في الإقليم؟ أم هل أصبحت الوساطة الأداة التنفيذية الجديدة لإعادة هندسة الإقليم وفق مسطرة "إسرائيل" وقلم أمريكا؟

عمومًا، من المبكر جدًا التنبؤ بنتائج الطوفان، قبل أن تنحسر أمواجه وتهدأ عواصفه، لكن الثابت والمؤكد أن "إسرائيل" اليوم، لن ترضى بأقل من هيمنة كُبرى، وأن فلسطيني اليوم لن يرتضي لنفسه أقل من تحريرٍ كامل، وبينهما تُثار العواصف والأعاصير من جديد.