مناهجنا ومناهج الاحتلال .. أسئلة المواجهة والتطوير

مناهجنا ومناهج الاحتلال .. أسئلة المواجهة والتطوير
تحميل المادة

تمهيد

يتوجه آلاف الطلبة بين سن الخامسة والثامنة عشرة إلى مدارسهم يوميًا، في كل فلسطين، يتلقون مناهج تعليميةً مختلفةً؛ ففيما يتلقى الطلبة في الضفة الغربية وغزة ومناطق من القدس المحتلة منهجًا فلسطينيًا؛ يتلقى الطلبة في الداخل المحتل وبعض مناطق القدس المحتلة المنهج الإسرائيلي، أو منهجًا فلسطينيًا معدلاً خضع لعمليات اقتطاع وحذف لما يتعلق بفلسطين وهويتها.

وفي الوقت الذي تظهر فيه تساؤلات حول قدرة المناهج الفلسطينية على تعزيز الانتماء الوطني، لا سيما مع الضغوط الخارجية لتعديل المناهج؛ فإن مسألة فرض المنهج الإسرائيلي، أو المنهج المعدّل على طلبة القدس وضواحيها يعيد طرح مسألة الثقافة والهوية الوطنية على طاولة البحث، فالاحتجاج على تدريس المنهج الإسرائيلي وتحويل النظام إلى "بجروت"[1] بدل نظام الثانوية العامة الفلسطيني؛ احتجاج على مصدر المنهج الذي لن يخدم الفلسطيني في مسيرة تكونه، وليس احتجاجًا جزئيًا على ما يتضمنه منهج التربية الوطنية الإسرائيلي مثلًا.

يظهر هنا سؤال الثقافة الوطنية، ماهيتها ومصادرها، وإن كانت ثمة علاقة بين المناهج التعليمية والثقافة الوطنية المعزِزة للهوية الوطنية.

 

مفاهيم: الثقافة، والهوية، والهوية الثقافية

تُعرَّف الثقافة وفقًا لمفاهيم علم الاجتماع بأنها طريقة الحياة من المعرفة والعادات والتقاليد والمعتقدات التي تميز مجتمعًا عن غيره، أما الهوية فهي الملامح المميزة لشخص أو مجموعة أو مجتمع بما يشمل المظهر، والسلوك، الذي يُعرّف الإنسان بالنظر إليه، مشيرًا إلى انتمائه لمجتمع، أو مجموعة، أو بيئة، أو أي شكل من أشكال التصنيف التي تُعرف بها الأشياء.

إذا ما أضفنا "الوطنية" إلى الثقافة (الثقافة الوطنية) فإننا بذلك نحدد السياق الذي يجري فيه المفهوم، فهو بهذا يحمل كل ما يتعلق بالوطن داخل حدوده المعلومة أو التي يجري تناقلها من جيل إلى جيل، وكلُّ ما يتعلق بالوطن يتضمن: التاريخ، والسياسة، والجغرافيا، والمجتمع، واللغة، والدين، والعادات والتقاليد. وفيما لو أضفنا "الوطنية" إلى الهوية (الهوية الوطنية) فإنها تشير إلى الرموز التي تعكس الانتماء إلى الوطن؛ كالزي الفلسطيني مثلًا، والهوية تعكس بدورها أيضًا مستوى الثقافة الوطنية، وتشير إلى وحدة مكونات المجتمع في التعاطي مع مكونات الهوية بعيدًا عن الاختلاف الأيديولوجي، أو الاجتماعي، أو السياسي، فالهوية الوطنية؛ هوية جامعة شاملة، توفّر قدرًا كافيًا من المشتركات التي ينتظم فيها المختَلِفون[2].

وهذا يشير إلى مفهوم "الهوية الثقافية"، كما في تعريفه الوارد في دليل اليونسكو: (أننا أفراد ننتمي إلى جماعة لغوية محلية أو إقليمية أو وطنية بما لها من قيم تميزها، ويتضمن ذلك الأسلوب الذي نستوعب به تاريخ هذه الجماعة وتقاليدها وعاداتها وأساليب حياتها)[3].

 

مصادر الثقافة الوطنية

أما مصادر الثقافة الوطنية فهي مزيج متكامل يتنوع في شكله ومبناه، فالكتاب في المرتبة الأولى؛ كل كتاب يتحدث عن فلسطين في الماضي والحاضر، والرواية الشفهية التي نقلتها أجيال أجدادنا وآبائنا، سواء وُثّقت في كتاب أم بقيت في دائرة الحديث المسموع، والأعمال الفنية بما فيها الأدب كالقصة، والشعر، والدراما، والمسرح، والبرامج المتلفزة كالوثائقيات، والأفلام، والإعلام بما فيه مواقع التواصل الاجتماعي، والمدارس بما تقدمه من مناهج، والأحداث الجارية بما فيها من تفاعلات -بين فعل ورد فعل- تصنع تيارًا أحيانًا، أو تصنع ثقافةً جمعيةً، أو سلوكًا جمعيًا مقصودًا أو عفويًا؛ ومن مصادر الثقافة الوطنية كذلك المثقفون سواء الذين يمارسون التنظير والعمل الثقافي على منابر، أو في صالونات، أو مراكز دراسات؛ أو المثقف في ثوب المعلم الذي لا يقف عند حدود دفتي الكتاب الذي بين يديه في توجيه دفة المعرفة المتفاعلة بينه وبين طلابه، وقد يكون هناك دور للحكومة أو الوزارات في تشكيل أو توجيه أو صياغة الثقافة الوطنية كدورها في تغيير المناهج أو تخصيص منهاج فلسطيني.

 

المنهاج الفلسطيني والثقافة الوطنية

وبالحديث عن المنهاج الفلسطيني فقد تناولت عدةُ دراسات العلاقة بين المنهاج الفلسطيني والثقافة الوطنية وتشكلات الهوية الفلسطينية، ففي مسألة المناهج الفلسطينية وما يقابلها، أعد أسامة الخطيب (2012) رسالة ماجستير بعنوان: "مناهج الإنسانيات والعلوم الاجتماعية في مدارس قرية برطعة "المشطورة:" تحوّلات الهوية الوطنية الفلسطينية"، حيث هدفت الدراسة إلى بحث أثر المناهج (الفلسطينية والإسرائيلية) في تبلور الهوية الوطنية وتشكلها لدى طلبة المدارس في قرية برطعة (الشرقية والغربية)، إلى جانب توضيح علاقة التقسيم والجدار بتشكل الهوية الوطنية وتبلورها، وقد حلَّلَت مضمون مناهج الإنسانيات والعلوم الاجتماعية في المناهج الفلسطينية والإسرائيلية للصفوف السادس والتاسع والثاني عشر، وكانت المواد التي تناولها التحليل: التربية الإسلامية، واللغة العربية، واللغة الإنجليزية، واللغة العبرية، والجغرافيا، والتاريخ، والتربية المدنية، والتربية الوطنية، والقضايا المعاصرة، ومنهاج المدنيّات الإسرائيلي، وقد وجد الباحث أن منهج التربية الإسلامية كان خجولًا وانتقائيًا فيما يتعلق بمضامين الهوية الفلسطينية، فيما عززت اللغتان العربية والإنجليزية الهوية الفلسطينية، كما وجد أن منهج الجغرافيا ضعيف في سياق الهوية، بينما بدا التاريخ جيدًا، مع ضعف نسبي في بقية المواد، مقابل تركيز الاحتلال في المنهج على تدمير الوعي الوطني، إلى جانب دورها في بناء شخصيات خاضعة ومستسلمة ذات ولاء للاحتلال.

كما قدم طارق الجعبري (2018) دراسة بعنوان: "واقع المنهاج الفلسطيني في تعزيز الصورة الذهنية للوطن: دراسة استقصائية تحليلية في منهاج التربية الوطنية في المرحلة الأساسية"، تناولت الدراسة الصفوف من الأول إلى الرابع، وقد حلَّلَ العناصر الواردة في منهج التربية الوطنية: (المدن الفلسطينية، المقدسات والآثار السياحية، الشعارات الوطنية، أقاليم فلسطين)، كما حلل محتوى مكونات وأبعاد الهوية: (فلسطين/فلسطيني، علم فلسطين، خارطة فلسطين، الاحتلال، القدس، السجن/الأسرى، مخيم/لاجئ، مستوطنة، وطني/مواطن)، ورأى أن المنهج اعتمد في صياغة الهوية الوطنية على الجغرافيا، وعلى مبدأ التكرار.

أما محمد الزطمة (2019)، قدم دراسة بعنوان: "تقويم كتاب التنشئة الوطنية والاجتماعية للصف الثاني الأساسي في ضوء المنهاج الفلسطيني الجديد"، حيث اتفق الباحث مع طارق الجعبري بأن منهج الصف الثاني يربط الطالب بالهوية الفلسطينية ويعززها، وإن كانت دراسته متعلّقةً بتقييم المنهج والبحث في جودته أساسًا.

وقد أجريتُ جولةً على منهجي التاريخ والتربية الوطنية للصفوف من الخامس الأساسي إلى العاشر الأساسي، ولم أجد أن منهج التاريخ المقرر يشكل خلفيةً تاريخيةً واعيةً لدى طلبة المدارس، بينما بدا منهج التربية الوطنية في بعض الأحيان قاصرًا ومجتزأً، ويسهب أحيانًا في التفصيل، خاصةً ما تعلق بالمؤسسات الرسمية الفلسطينية. وبالوقوف مع منهج الصف العاشر تحديدًا فقد لفتت انتباهي عدة أمور منها استخدام لفظ "حرب 1948" وهذه تكررت في عدة سنوات ما عدا بالصف الثامن حيث ذكرت "النكبة" في سياق الحديث عن الحرب، كما يجري تقديم القضية فقط من زاوية منظمة التحرير الفلسطينية، أما الانتخابات فلم تُذكر سوى انتخابات 1996، علمًا هذا المنهج جرى تطويره في 2016، وفي الحديث عن المجلس الوطني ذُكرت حركة الجهاد الإسلامي الممثلة بعضوين، فيما استثنيت حركة حماس من الحضور في المناهج.

والسؤال هنا: كيف يجيب الأساتذة إذا ما تعرضوا لأسئلة حول أحداث فلسطينية مهمة كالمجازر في المخيمات، كالإبعاد إلى مرج الزهور، كصفقات تبادل الأسرى، أو حتى عند الحديث عن فصيل ذي ذراع عسكرية يتصدر كل حرب بين الفلسطينيين والاحتلال في السنوات العشر الأخيرة؟

ليست القضية مرتبطةً بالشق السياسي فحسب؛ فبالوقوف على منهج التربية الوطنية للصف السابع، يوجد عنوان: فصل التعليم في فلسطين 1882 – 1948، في صفحتين فقط، لم يُذكر أي شيء عن واقع التعلم أو التعليم، سوى أن "الهوية الوطنية الفلسطينية تتميز بثبات جذورها وأصولها في أرض فلسطين منذ قديم الزمان"، فهل هذا الاجتزاء طبيعي لأن عنوان الفصل تمت تغطيته بمنهج التاريخ الموازي؟ بعد تفقد منهج التاريخ تأتي الإجابة بـ: لا!

 بالنتيجة فإن هذا الاستعراض مع ما سبق من دراسات يؤكد عدم وجود بنية معرفية كافية للطالب الفلسطيني، باستثناء التوعية بالرموز الفلسطينية في المرحلة الأساسية الدنيا بشكل مكثف، أما في المرحلة العليا فهناك تأسيس أكبر يمزج بين المواطنة ومؤسسات الدولة والديمقراطية والمنظمة وملحقاتها، أي بالتركيز على الرمز السلطوي على حساب الرمز الوطني، وبمزيدِ تأملٍ فإن البناء المعرفي قاصر، يقتطع فلسطين من سياقاتها، ولا يقدم ربطًا كافيًا مع الواقع، فإذًا من أين يتعلم الطلبة وسائل المقاومة؟ وكيف يتعاطون مع تطورات الواقع في الصراع مع الاحتلال؟ ومن أين يشكل معتقداته الخاصة بالوطن؟ وكيف ومتى يتعرف على الأقل على تاريخ فلسطين المعاصر في القرن الأخير بما يتضمنه من تعاقب الاحتلال، والحكومات، والمجازر في الوطن والمنفى؟ بل متى يعرف الطلبة خريطة علاقة فلسطين بالدول العربية؟ ومتى يتعرف على الثورات والانتفاضات فيما خلا موسم النبي موسى ويوم الأرض ويوم الاستقلال مثلًا؟ هذا بعيدًا عن السؤال عن الشخصيات الوطنية خلال قرن من الزمان.

تنتهي علاقة الطلبة بالتربية الوطنية في الصف العاشر الأساسي، ولديهم عامان مدرسيّان آخران (الأول ثانوي والثانوية العامة) قبل الوصول إلى الجامعة أو سوق العمل، وبعيدًا عن خطط التعبئة والتنظيم التي ينفّذها حزب ما مثلًا؛ فإن الطلبة يصلون إلى الجامعة دون خلفية ثقافية متكاملة، ولا يختلف طالب المنهاج الفلسطيني عن أقرانه في الداخل المحتل في مستوى الجهل إلا بأنه يميز أنه فلسطيني مع بعض الامتيازات باعتبار ما تلقاه في المدرسة أو ما تعلمه في الشارع من خلال الاحتكاك والمواجهة إن حدثت.

يظهر استقراء الكاتب والدراسات المتخصصة عدم وجود بنية معرفية كافية للطالب الفلسطيني، باستثناء التوعية بالرموز الفلسطينية في المرحلة الأساسية الدنيا بشكل مكثف، أما في المرحلة العليا فهناك تأسيس أكبر يمزج بين المواطنة ومؤسسات الدولة والديمقراطية والمنظمة وملحقاتها، أي بالتركيز على الرمز السلطوي على حساب الرمز الوطني

 

 

أسرلة المناهج والثقافة الوطنية

أما في سياق أسرلة المناهج في مدينة القدس وضواحيها والتي باتت صراعًا يتبلور أكثر، أعدت رهام زهد (2016) رسالة ماجستير بعنوان: "تأثير السياسة التعليمية الإسرائيلية على الوعي العام للشباب الفلسطيني في شرق القدس"، حيث هدفت الدراسة إلى تحديد تأثير السياسة التعليمية الإسرائيلية على الوعي العام للشباب الفلسطيني، بالإضافة إلى الكشف عن التحديات التي تواجه المؤسسات التعليمية والتربوية الفلسطينية، وطرق تعامل الاحتلال مع المناهج العربية في المدينة.

كما بحثت نبيلة أبو غزالة (2021)، في رسالتها الماجستير تحت عنوان: "أسرلة المناهج وأثرها على الثقافة الوطنية لدى سكان مدينة القدس: حالة معلمي مدارس القدس"، والتي هدفت إلى التعرف على مدى تأثير الأسرلة على الثقافة الوطنية لدى المقدسيين، والتحديات التي تواجه ذلك والمتمثلة في السياسات المعمول بها في المدينة من قبل الاحتلال، مع تعدد الجهات المشرفة على قطاع التعليم.

 ليس مستغربًا الحديث عن فرض الاحتلال لمناهجه على أهل مدينة القدس وضواحيها، وهو الذي يسعى منذ احتلاله البلاد إلى تثبيت أقدامه بكل الوسائل، مراوحًا بين القوة الناعمة والقوة الباطشة والتدريج والابتزاز وغيرها من الوسائل. وقد وزع الاحتلال المنهج الإسرائيلي على مدارس القدس عام 2015[4]، واتبع عدة سياسات لفرض المنهج الإسرائيلي، ملوّحًا بالإغلاق تارة، وبسحب الرخصة وفصل المعلمين تارة أخرى، وبربط الميزانيات المخصصة للمدارس بتطبيق المنهج الإسرائيلي، أو المنهج الفلسطيني المعدّل والمتدخّل فيه "إسرائيليا" فيها[5]، وقبل ذلك لجأ إلى فرض حذف شعار السلطة من كافة طبعات الكتب المدرسية، ثم حذف كل ما يتعلق بالهوية الفلسطينية والمسميات العربية كما أشارت إليه الباحثة رهام زهد (2016)، كحذف صورة الجندي الفلسطيني والعلم الفلسطيني من كتاب اللغة العربية للصف الثالث، وحذف آية (الحجرات، 15) التي تتناول الجهاد من كتاب التربية الإسلامية للصف السادس، وحذف النشيد الوطني كاملًا من كتاب التربية الوطنية للصف الأول ، ولكن هذا كله لم يشبع الاحتلال لأن الهدف الأساسي هو تدريس المنهج الإسرائيلي لا غير.

المنهج "الإسرائيلي" الملوح به، منهج يقوم على إلغاء وجود الفلسطيني، ولا يعزز قيمه وأفعاله وثقافته وعاداته وهويته، بل يسعى المنهج إلى تعليم القيم اليهودية، بخلاف تحريف التاريخ والجغرافيا التي لا تذكر إلّا الرواية اليهودية، وأسماء المناطق المحرفة من العربية إلى العبرية[6]، ونلاحظ جرأة المحتل في تثبيت روايته التي بدأها قبل مائة عام مع تزايد هجراته إلى بلادنا، في مقابل فقداننا لروايتنا الخاصة التي تروي ما حصل في المائة عام الأخيرة.

اتبع الاحتلال عدة سياسات لفرض المنهج الإسرائيلي في القدس، ملوّحًا بالإغلاق تارة، وبسحب الرخصة وفصل المعلمين تارة أخرى، وبربط الميزانيات المخصصة للمدارس بتطبيق المنهج "الإسرائيلي"، أو المنهج الفلسطيني المعدّل والمتدخّل فيه "إسرائيليا" فيها، وقبل ذلك لجأ إلى فرض حذف شعار السلطة من كافة طبعات الكتب المدرسية، ثم حذف كل ما يتعلق بالهوية الفلسطينية والمسميات العربية

 

إذًا؛ من أين جاءت ثقافة الطلبة الوطنية؟

هنا لا بد من التساؤل حول طلبة القدس وضواحيها، من أين تأتي ثقافتهم الوطنية مع اشتداد الحملة ضد المدارس والمناهج فيها، ومع إجراءات التهويد المستمرة في المدينة؟ فرغم ذلك لاحظنا حضور الأطفال والشباب الفلسطيني ليس فقط ضد قرار التقسيم وأحداث المسجد الأقصى في 2014، بل في هبة القدس 2015-2016، وفي هبة باب الأسباط 2017، وفي هبة باب الرحمة 2019، وفي هبة الشيخ جراح 2021، وفي ذات السياق ومع ضعف المنهاج الفلسطيني المعمول به في الضفة الغربية؛ من أين يأتي الطلبة بثقافتهم الوطنية الأوسع من المناهج المقولِبة لهم؟

المنهج "الإسرائيلي" الملوح به، منهج يقوم على إلغاء وجود الفلسطيني، ولا يعزز قيمه وأفعاله وثقافته وعاداته وهويته، بل يسعى المنهج إلى تعليم القيم اليهودية، بخلاف تحريف التاريخ والجغرافيا التي لا تذكر إلّا الرواية اليهودية، وأسماء المناطق المحرفة من العربية إلى العبرية

قد يشير هذا إلى أن صناعة الثقافة والهوية الوطنية تجاوز أسوار المدرسة، تجاوز التعليم، وحملته وسائل أكثر سيولة، لعلها وسائل الإعلام والإعلام الاجتماعي والتي برز دورها كثيرًا في حرب سيف القدس 2021 حتى التيك توك نشط عليه شباب فلسطينيون استهدفوا جيلًا ناشئًا كعادة شباب الحراكات عندما يحوّلون وسائل التواصل إلى وسائل تثوير ووعي، يضاف إلى ذلك الأصدقاء واحتكاك البيئات المختلفة. غير أن الأكيد أنه لا توجد دراسة بحثت في مصادر التلقي وصناعة الوعي لدى الجيل الجديد التي تجعله ملتصقًا بقضيته إلى حد ما بمعزل عن عمق الثقافة والمعرفة.

دعنا نسأل أيضًا: من أين جاءت الثقافة الوطنية للأجيال التي سبقت المنهاج الفلسطيني التي تتلمذت على يدي المنهاج الأردني؟ وهنا أتذكر الدور المركزي للمعلم، ومن واقع التجربة الشخصية فقد كانت معلماتنا ومعلمونا واسعي الثقافة، كانت الإذاعة المدرسية اليومية تقدم "حدث في مثل هذا اليوم"، واللجنة الثقافية تُعد مجلة الأسبوع عن موضوع فلسطيني، وهناك أسبوع للثقافة والتراث كان يتزامن مع يوم الأسير الفلسطيني، كان المعلم يقف ويطرح السؤال للبحث، ثم لا نجد إلا المكتبة للعودة بالمراجع والإجابات، فهل خرجنا من الإعدادية ونحن ندرك صراعنا؟ أو نعرف عمق تاريخنا؟ كنا نحفظ أحداثًا موثقة باليوم والشهر والسنة، لم يكن المنهج هو الفاعل الرئيس، بل المعلم، ثم الطالب وما يتوفر لديه في البيت من مصادر شفوية أو مقروءة، هذا بالإضافة إلى المجلات والجرائد التي كانت تصدر وتساهم في تشكيل الوعي.

يشير الانخراط الكبير للشباب المقدسي في الهبات المتلاحقة بالمدينة، مع المحاولات المتقدمة في فرض المناهج المعدلة و"الإسرائيلية"، إلى أن صناعة الثقافة والهوية الوطنية تجاوز أسوار المدرسة، تجاوز التعليم، وحملته وسائل أكثر سيولة، لعلها وسائل الإعلام والإعلام الاجتماعي والتي برز دورها كثيرًا في حرب سيف القدس 2021

فهل يمكن أن نعزل المنهج عن دوره في تكوين الثقافة الوطنية؟ إذا كانت الأجيال الناشئة تتفوق وطنيًا في الممارسة؛ فكيف يمكن أن نسد ثغرة الثقافة المعرفية؟

تكمن الحاجة هنا إلى جهد موازٍ في تكوين الهوية الثقافية الوطنية في البيت، والمجتمع، والمدرسة، والإعلام، بما يجبر نقص المناهج وخللها من ناحية، وبما يمنح أبناءنا أسلحةً معرفيةً تعينهم على استخدام التفكير النقدي، وتحفزهم للبحث عن النقص فيما يتعلمون ويعرفون، أي خلق بيئة تعليم موازٍ، قوام نجاحها دافعية التعلم، وإدراك الأهل للدور المنوط بهم لتربية أبنائهم، أما المناهج فأضم صوتي للقائلين بأهمية مراجعة منهجي التاريخ والجغرافيا، فمن المهم وجود رواية تاريخية تنطق باسمنا، تتحدث عن المائة عام  الأخيرة، فتاريخنا ليس محصورًا بالمنظمة، ولا بأوسلو ومؤسسات السلطة.

تكمن الحاجة إلى جهد موازٍ في تكوين الهوية الثقافية الوطنية في البيت، والمجتمع، والمدرسة، والإعلام، بما يجبر نقص المناهج وخللها من ناحية، وبما يمنح أبناءنا أسلحةً معرفيةً تعينهم على استخدام التفكير النقدي، وتحفزهم للبحث عن النقص فيما يتعلمون ويعرفون

 



[1] هو ما يمكن عدّه نظام الثانوية العامة الإسرائيلي، وهو قائم على نظام "الوحدات التعليمية" المتدرجة في نطاق صعوبة تصاعدي من 1 إلى 5، ويدرّس سبع مواد إجبارية، هي: (اللغة العبرية، اللغة الإنكليزية، الرياضيات، التوراة، التاريخ، دراسات الدولة، والأدب). وللنظام تفاصيل متعددة أخرى متعلقة بطبيعة الدراسة والنجاح.

[2] عبد الفتاح القلقيلي وأحمد أبو غوش، الهوية الوطنية الفلسطينية: خصوصية التشكل والإطار الناظم، ورقة عمل رقم 13 - مركز بديل -  2012

[3] . نقلاً عن و إيمان علي، المناهج الدراسية والهوية الثقافية، 2018.

[4]   . رهام هاشم زهد، تأثير ‎السياسة التعليمية الإسرائيلية على الوعي العام للشباب الفلسطيني في مدارس شرق القدس، رسالة ماجستير، جامعة النجاح، 2016

[5]. نبيلة صالح أبو غزالة، ‎ أسرلة المناهج وأثره ا على الثقافة الوطنية لدى سكان مدينة القدس: حالة معلمي مدارس القدس، جامع النجاح، 2021

[6]. أسامة أحمد الخطيب، ‎مناهج الإنسانيات والعلوم الاجتماعية في مدارس قرية برطعة "المشطورة:" تحولات الهوية الوطنية الفلسطينية، رسالة ماجستير، جامعة بيرزيت، 2012