منظمة النجادة الفلسطينية.. سيرةُ قتال لم يكتمل
على سبيل التقديم..
"لسنا من المرض بالدرجة التي يخالها الأعداء، وإنّا وإن تحالفت السياسة ضدّ جموعنا وهاجمنا الصهيونيون بأموالهم ومكائدهم في عقر بيوتنا، ورغم الظلم الصارخ الجاثم فوق صدورنا بشتى أشكاله وعلى اختلاف أساليبه، ورغم تلك الجموع الزاحفة علينا بأعدادها الخبيثة المنكرة، ما زالت بقيه من الإيمان تسطع في أعيننا عند الغضب.
لقد قاست بلادنا مرّ العيش، ومازالت السياسة القائمة في هذه الديار تتجاهل وجودنا، وتعمل وكأن البلاد ليس فيها إلا صهيونيّ أصيل، ويهوديّ مقيم، أعماله مشروعة، واقتراحاته قانون، واحتجاجه يدوي في قاعات البرلمان وبين جموع الكونغرس، وبات الأمر تعجز السلطات المحلية عن حَلّه، وراح الجاني يرفل في ثياب الحرّية والفخر، وأصبح الأمر نسيًا منسيا، لا محقق، ولا مدقق، ولا مسؤولية أدبية ولا شبه أدبية، أما المجنيُّ عليه فحسبه حسن النية، والتغني بالمصداقية التقليدية، وهكذا دواليك كرّ السنين ومرّ الأيام، بلاد فقدت استقرارها السياسي، ومازالت قلقةً على مصيرها، لذلك لا بدّ لتلك الجذوة الوهّاجة التي تستقرّ في صدور أرضعتها العروبة صافي لبنها، وتعهدتها الجزيرة فأحسنت كفالتها، ومن روح الكتاب وسيرة الآباء وقوة الإيمان رائدها، أن تعمل بصدق وإخلاص، ولن نعيش على هامش الحياة، والحياة لا تحسبنا من أبنائها.
في الحادي والعشرين من كانون الأول سنة 1945 انبعثت من الحركة الكشفية في البلاد منظمةٌ جديدة تعدّ في نظر القانون الكشفي الدولي الحلقة الثالثة من حلقات الكشاف، فيها يستكمل الشاب ما بدأه من تعاليم ونُظُم يوم كان شبلًا أو كشافًا، فيروَّض على الطاعة والنظام، ويعوَّد تحمل التبعات الجسام، ويعنى بتوجيه قوته الفكرية والخلقية والجسدية لخدمة بلاده وأمته، وأطلق عليها اسم النجادة لما في هذه الكلمة من جميل معنى ونبل هدف، والعربي نجّاد في طبعه وطبيعته، نصير الضعيف، مسعف الجريح، منقذ المظلوم، مغيث الملهوف، ناه عن المنكر، وآمر بالمعروف، هتافه:
بلادي سنمشي ولسنا نهاب ونزحف في الحالكات الصعاب
تميد الجبال بنا والهضاب وعدتنا سيفنا والكتاب
ونور الشيوخ ونار الشباب .."
ما سبق كان جزءًا من البيان الأول لمنظمة النجادة[1]، والتي سنتحدث عنها بشيءٍ من التفصيل في سطورنا القادمة.
صحيفة الدفاع، 8 كانون الثاني/ 1946
مدخل
توقفت الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1939 بعد ثلاث سنوات من الاشتعال، بالتزامن مع تطورات الحرب العالمية الثانية، بناءً على نصيحة الملوك والرؤساء العرب لقادتها، بعدما وعدتهم بريطانيا بأنها ستلتزم بتنفيذ ما ورد في الكتاب الأبيض[2]، وستُرضي عرب فلسطين عند نهاية الحرب.
وبعدما ضمنت بريطانيا وقف الثورة أدارت ظهرها للعرب ونقضت كل وعودها، فاستمرّت الهجرة اليهودية إلى فلسطين خلال الحرب، كما حوّلت المنظماتُ الصهيونية العديد من القرى التعاونية إلى مخابئ لتخزين الأسلحة، ومراكز لتدريب أفرادها، وعلى الرغم من انتصار الحلفاء في الحرب، بقيت سياسة بريطانيا في فلسطين على حالها، وتراجعت عن معظم بنود الكتاب الأبيض. [3]
كما بدأت المنظمات الصهيونية بممارسة الضغط على بريطانيا مدعومةً من بعض الدول، خاصةً أمريكا، لتنفيذ وعد بلفور وإقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين، لتتحول هذه الضغوط إلى عمليات عنيفة ضدّ المصالح البريطانية في فلسطين.
أما الفلسطينيون فقد وجدوا أنفسهم بدون مؤسسات أو تنظيمات عسكرية أو شبه عسكرية، يمكن استخدامها ورقة ضغط تُجاري الظروف التي كانت قائمةً، فيما حافظ اليهود على تنظيماتهم العسكرية وزوّدوها بالعتاد والرجال كي تكون مستعدةً لمواجهة العرب مثل: "الهاغانا" و"الإتسل" وغيرها، والتي كانت تمارس أنشطتها أمام أعين سلطات الاحتلال البريطاني. وفي ظل انشغال الأحزاب والقيادات الفلسطينية بالصراعات والانقسامات فيما بينها، وغياب اللحمة والتضامن بين غالبية الفئات الاجتماعية والسياسية الفلسطينية، وغياب القيادة السياسية والعسكرية الموحدة القادرة على مواجهة التطورات على الساحة.[4] بدأ الفلسطينيون يبحثون عن الطرق التي يمكن من خلالها الالتفاف على قوانين الاحتلال البريطاني التي تمنعهم من تشكيل تنظيمات شبه عسكرية في البلاد.
تأسيس النجادة
وجد عرب فلسطين ضالّتهم في تأسس منظمة النجادة، لتكون ردَّ فعل على وجود منظمات عسكرية وشبه عسكرية للصهاينة في فلسطين، مثل منظمة "الهاغانا" و"الإتسل" وغيرها، فكانت النجادة وسيلتهم لتحقيق أهدافهم في إعداد الشباب الفلسطيني لمواجهة نشاط المنظمات الصهيونية، وازدياد الهجرة اليهودية إلى البلاد.
ومع توقف النشاط الحزبي الفلسطيني نسبيًا خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، واقتصاره على الحضور الإعلامي والدبلوماسي لنصرة القضية، اتخذ مجلس إدارة النادي الرياضي الإسلامي بيافا في ربيع العام 1944 قرارًا بتأسيس فرقة رياضية على غرار منظمة النجادة اللبنانية، ولكونه واحدًا من أكبر أندية فلسطين وأقدمها، ومركزَ الاتحاد الرياضي الفلسطيني الذي كان يضم معظم أندية فلسطين العربية، تمكن النادي من نشر فكرة إنشاء منظمة النجادة، ولم تمض إلا شهور قليلة حتى انتشرت تلك الفكرة في فلسطين انتشار النار في الهشيم نظرًا لحاجة الفلسطينيين إلى مثل تلك المنظمة.[5]
وانتقلت فكرة إنشاء النجادة إلى حيز التنفيذ بعدما شكّل مجلس إدارة النادي الرياضي الإسلامي لجنةً ثلاثيةً من أعضائه أَوْكل لها مسؤولية المتابعة والتنفيذ، وضمّت اللجنة في عضويتها كل من: رشاد الدباغ، ورشاد عرفة، وعبد السلام الدجاني. وكان أحد الشروط الأساسية لقبول العضوية في النجادة هو أن يكون المتقدم عضوًا في النادي، وإن لم يكن من الأعضاء فعليه أن ينتسب أولًا للنادي ويُقبل فيه، ثم يلتحق بالنجادة. وفي البداية انتسب لفرقة النجادة 24 شخصًا من أعضاء النادي، وتقدم الكثيرون بطلبات الانتساب للنادي من أجل الانضمام لفرقة النجادة، وكان من بين هؤلاء المحامي محمد نمر الهواري، الذي سيصبح فيما بعد القائد العام للنجادة. وتشير بعض المصادر إلى أن الهواري هو من أسّس منظمة النجادة، لكن الأستاذ خيري أبو الجنبين، وهو أحد الأعضاء الأوائل في النجادة، يؤكد أن الهواري لم يكن من مؤسسيها وإنما انتسب إليها لاحقًا وانتخب رئيسًا لها.[6]
وفيما يلي أسماء النجادة الأوائل من أعضاء النادي الرياضي الإسلامي بيافا وهم:
رشـاد الدباغ، رشاد عرفة، عبد السلام الدجاني، خيري الدين أبو الجنبين، فوزي الشنطي، عبد الفتاح الدجاني، علي الشرياني، محمد سمارة، عمـر الطيبي، عوني شهاب الدين، صالح عطية، يعقوب أبو غزالة، محروس السقا، عمر القطان، محمد الفرا، جميل الحسني، إبراهيم سكجها، موسى سرحان، صدقي سرحان، عمر عبد الرحيم، أنيس أبو خليفة، صلاح الحاج مير، محمد علي الهباب.[7]
وتذكر الباحثة الفلسطينية بيان نويهض الحوت أن منظمة النجادة انطلقت في أواخر العام 1945، وكانت انطلاقتها في أوساط الشباب قويةً وحماسيةً ومختلفةً عن كل ما سبقها من منظمات وأحزاب، لأنّها تأسست من أجل تحقيق الهدف الأسمى الذي كان يتطلع إليه الشباب وهو التدريب العسكري، وكان لاسمها "النجادة" وقع محبب في النفوس.[8]
وأقيم أول استعراض محلي للنجادة في أول أيام عيد الفطر عام 1944 بيافا، حيث قام نجادة النادي الرياضي الإسلامي باستعراض كبير في شوارع المدينة استمر ساعتين، وكانوا يرتدون زيّ النجادة شبه العسكري، وقد قوبلوا من الجمهور بالترحاب ولفتوا الأنظار إليهم، وبعدها زاد الإقبال على الانتساب للنجادة من داخل النادي ومن خارجه.[9]
استقلال النجادة عن النادي الرياضي الإسلامي
في أواخر العام 1944 ازداد عدد أعضاء فرقة النجادة في النادي، ورأى مجلس الإدارة أن تستقلّ الفرقة عن النادي وتتخذ لها مقرًا جديدًا. لاحقًا ازداد نشاط المنظمة، وزاد عدد المنتسبين إليها بشكل ملحوظ، وكان من بينهم: عبد الغني الهباب الذي أصبح فيما بعد قائدًا لمنطقة يافا، وخليل الشاعر، ورفيق السعيد، وبشير القيشاوي الذي عمل بعد ذلك مدربًا، وعدنان بيبي، وخميس الصعيدي الذي أصبح قائد فرقة القرب الموسيقية، وكاظم الحسيني، وفيضي الحسيني. ثم انتخب المجلس الأعلى للنجادة لجنةً تنفيذيةً للنجادة وتألفت من: المحامي محمد نمر الهواري، قائدًا عامًا، ورشاد درويش الدباغ، سكرتيرًا عامًا، ورشاد محمد عرفة، أمينًا للصندوق. وقد طُلب من الهواري صياغة قانون للمنظمة. [10]
ومن الأعمال البارزة التي جرت بعد استقلال النجادة عن النادي الرياضي الإسلامي، إنشاء فرقة فتيان النجادة لتكون رافدًا أساسيًا للنجادة، ووسيلةً لاستقطاب الشباب الصاعد وتدريبهم عسكريًا، وقد تألفت فرقة الفتيان آنذاك من صلاح خلف "أبو إياد"، وسليم البيطار الذي كان سكرتيرًا لها، وشفيق الحوت، ومعين خورشيد، وعمر الناطور، وعصام صنع الله، والدكتور محمد أبو لغد وكان من الفرقة الموسيقية، ومحمد توفيق الزعبلاوي الذي تميز بطول قامته وكُلف بحمل علم الفرقة، وفاروق أبو الجبين، وإبراهيم عبد المالك، وخالد الآغا، وشريف العلمي، وخضر الأغا، وسهيل عرفة، وأديب قرنفلة، وغازي الزبط، وآخرين. وكان فتيان النجادة يشاركون أيضًا في الاستعراضات المحلية للنجادة، وكذلك في التدريب على السلاح.[11]
قانون النجادة
لم يكن من الممكن أن تعلن أية منظمة عربية عن أهدافها العسكرية، ولذلك فإنّ منظمة النجادة أخفت هدفها العسكري وراء الأهداف الرياضية العامة التي دعت إليها في قانونها الأساسي، فجاء في مقدمه القانون: [12]
بما أن شبابنا العرب محرومون من الرياضة البدنية وبعيدون الواحد منهم عن الاخر، وبذلك فقدوا عنصرًا هامًا من عناصر النهوض والقوة، ولما كانت العروبة في محنتها الآن في حاجة قصوى إلى عقول سليمة، وهذه لا توجد إلا في الأجسام السليمة، وفي حاجة قصوى أيضًا إلى الاتحاد وهو العنصر الحيوي لسعادة الأمة، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بالتعارف والتحابب وتبادل الأخوة، ولتأمين ذلك كله فقد تأسست في البلاد (فلسطين) منظمة باسم منظمة النجادة تحت رئاسة رئيسها الأعلى بموجب قانون أساسي.
كما ورد في المادة الثالثة أن الغاية من تأسيس المنظمة هو توحيد صفوف العرب، والنهوض بهم خُلقيًا ورياضيًا وعلميًا، وذلك عن طريق تنظيم مسابقات رياضية تعمل من خلالها على تدريب أعضائها على النظام والرياضة البدنية ليكونوا عنصرًا فعالًا في خدمة البلاد والعروبة، وتأمين كل ما يعود عليها بالنفع والفائدة.
ويوضّح القانون في المادة الرابعة أن المنظمة تتكون من كل عربي تجاوز السادسة عشرة من عمره، عُرف بحسن الأخلاق اجتماعيًا ووطنيًا، وَوُوفق على قبوله في أي من مؤسساتها.
فيما أشارت المادة الخامسة إلى أن أعضاء المنظمة ينقسمون لنوعين: عامل مدرَّب رياضيًا، وعامل غير مدرب رياضيًا، وهم أيضًا على درجات مختلفة باختلاف ثقافتهم ونشاطاتهم وقدراتهم حسب الترتيب الآتي:
فرد، مساعد عريف، عريف، نائب ثانٍ، نائب أول ضابط، أمير فوج، عميد ثانٍ، عميد أول، قائد ثانٍ، قائد أول.
أما بناء المؤسسات الرياضية فيتدرج من الحظيرة التي تضم ثمانية أفراد، إلى الكتيبة التي تتألف من أربعة حظائر، ثم الفوج الذي يتكون من كتيبتين، إلى الفرقة التي تتألف من أربع كتائب، وصولًا للفيلق الذي يتشكل من أربعة فرق.
يشرف على مراكز النجادة التي وُزعت في العديد من المدن الفلسطينية مثل: الناصرة، حيفا، نابلس، يافا، القدس، غزة، وغيرها، قيادة مركزية تضمّ: المجلس الأعلى، ومجلس القيادة، والمجلس الاستشاري، وعلى رأس هذه التشكيلات يُنتخب القائد العام للنجادة مرةً كل سنتين. [13]
وفي 21 كانون الأول/ ديسمبر 1945 نجحت المنظمة في الحصول علي ترخيص رسمي من حكومة الاحتلال البريطاني وفقًا لهذا القانون، ولم تعد تخشى إظهار أهدافها العسكرية، فاتخذت زيًا موحدًا شبيهًا بالزي العسكري، وعدة شارات للرأس والصدر والحزام، واتخذت لكل فرقة علمًا خاصًا يحمل اسم أحد رجالات العرب وعليه رسمة النجاد، وأعلن منذ البداية ولاؤها للمفتي رئيسًا لها، وكان ولاء النجادة للعروبة شعارًا رئيسًا لها، وقد كُتب على شاراتها "بلاد العرب للعرب"، ومن هتافاتها في المناسبات: "يعيش الرئيس، تحيا فلسطين عربية".[14]
أهداف النجادة [15]
جاء في البيان الأول للنجادة ما يلي:
1ـ النجادة مؤسسة قومية غايتها جمع كلمه الشباب وتوحيد صفوفهم، وإيقاظ الوعي القومي فيهم، وترويضهم على الطاعة والنظام والتضحية، وربط فلسطين مع الأقطار الشقيقة، ضمن وحدة تضمن للعربي أن يعيش بين شعوب هذه الكرة [الأرضية] موفور الكرامة عزيز الجانب، ويحمل للعالم رسالة العروبة (الحرية والإخاء والمساواة).
2ـ تَعدّ النجادة فلسطين بلدًا عربيًا له ما لباقي البلدان العربية من حقوق وعليه ما عليها من واجبات.
3ـ تَعدّ النجاة الحركة الصهيونية أفظع جناية عرفها التاريخ تقوم على مبدأ الاعتداء والعدوان، مؤيدوها والقائمون عليها شركاء في الجريمة من الدرجة الأولى، وهم مجرمو الإنسانية جمعاء.
4ـ النجادة تحرّم العنصرية والقطرية والإقليمية والدينية والعائلية والحزبية.
وفي بلاغها الثالث أكّدت المنظمة على أن من أهم أهدافها: خدمة الأمة والبلاد بالطرق الفعالة، لا هتاف ولا دعاء ولا تهويش، وإنما بالترتيب والتنظيم والتدريب على أسس عملية عصرية شورية، بعيدة عن الارتجال والفوضى والاستبداد الفردي، والجهل المميت، فقد أصبح الحمل ثقيلًا على أبناء هذا الجيل.
وشدّدت على أنها تعمل على توحيد صفوف الأمة وشدّ أزر الشباب، وعادت لتؤكّد على ضرورة تدريب الشباب على النظام والطاعة.[16]
نشيد النجادة
اتخذت منظمة النجادة الفلسطينية من نشيد النجادة اللبنانية نشيدًا لها، وهو من تأليف الشاعر اللبناني محمد يوسف حمود، وفيما يلي نصه: [17]
نجــاد يـا وجـه العـلا
نجاد يا وجه العلا وخفقة العلم
كن للبلاد الأملَ والسيف والقلم
في حالكات النوب لا تهب
واهتف بلاد العرب للعرب
بلادي سنمشي ولسنا نهاب ونزحف في الحالكات الصعاب
تميد الجبال بنا والهضاب
وعدَّتُنا سيفنا والكتاب ونور الشيوخ ونار الشباب
نجــاد يـا وجـه العـلا
بلادي بلاد الشباب الأبِي إذا انتابك الشر من أجنبي
فنجّادك الفارس اليعربي يُثِرها مدى الشرق والمغرب
فـدى وجهـك الأبيض الطيـب
نجــاد يـا وجـه العـلا
التدريب العسكري
تولى صلاح الحاج منير والذي كان ضابطًا متطوعًا في الجيش البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية تدريب نجادة النادي الإسلامي في البداية، وكان التدريب يجري في المساء على سطح عمارة النادي، وكان عبارة عن تمرينات لياقة بدنية، وتدريب على المشية العسكرية، ثم تطور بعد ذلك إلى تدريب على فك الأسلحة الخفيفة وتركيبها، وبعدها إلى تدريب فعلي على السلاح. وقد تدرّب النجادة الأوائل على الرماية في قرية عرب أبو كشك قرب يافا. واستمر تدريب النجادة بعد تطورها، وكان التدريب على الأسلحة يجري غالبًا في القرى المجاورة ليافا، وتدرّب أفراد فرق النجادة الأخرى في فلسطين على السلاح كل في موقعه، وأصبح بشير القيشاوي هو المدرب العام للنجادة، وكان لكل فرقة مدرب محلي أو أكثر خاص بها، بيد أن المشكلة كانت دائمًا نقص السلاح في كل مكان، وما توفر منه كن قديمًا من مخلفات الحرب العالمية الأولى أو الثانية أو ما بينهما.[18]
مهرجان إعلان تأسيس النجادة
بعدما أصبحت النجادة حقيقةً واقعةً، انضم لصفوفها عدد كبير من الشباب المثقف وحملة الشهادات الثانوية والعليا، وانتشرت فكرتها في عموم البلاد، حتى صار عدد أعضائها بالآلاف، ولما اطمأنت لقوتها أقامت في يافا مهرجانًا كبيرًا في شهر أيار/ مايو 1945 أعلنت فيه رسميًا عن تأسيسها، وقد شارك في الحفل الذي نُظم على ملعب البصة -وهو الملعب البلدي ليافا- جميعُ أعضاء نجادة يافا بملابسهم الرسمية. وحضر ذلك الحفل جماهير غفيرة وعدد من الزعماء الفلسطينيين منهم: جمال الحسيني، وحسين الخالدي، وأحمد حلمي، وأحمد الشقيري، ورئيس بلدية يافا الدكتور يوسف هيكل، وكان من بين الحاضرين أنيس الصغير، القائد العام للنجادة اللبنانية، وشفيق النقاش سكرتيرها العام. [19]
وأظهر رئيس الحزب العربي جمال الحسيني التشجيع والمحبة للنجادة خلال كلمته التي ألقاها في المهرجان، لكن الحقيقة كانت مختلفة تمامًا، لأن ظهور النجادة في مهرجانها قويةً وموحدةً، عزز مخاوف زعيم الحزب العربي منها بوصفها حركةً تهدّد زعامته السياسية، فكان يشجعها علنًا ويحاربها سرًا، وكانت بداية محاولات تحطيم النجادة من خلال حرب الإشاعات.
حاولت النجادة في بلاغها الثالث الرد على حرب الاشاعات فأعلنت انتماءها السياسي لصاحب السماحة الحاج أمين الحسيني وحده، ما يعني ضمنيًا أنها لا توافق على سياسة الحزب العربي ورئيسه جمال الحسيني، رافضةً "أساليب الهتاف والتصفيق التي اشتهرت بها مهرجانات الحزب العربي، ومؤكدةً أن غايتها خدمة الأمة والبلاد بالطرق الفعالة، لا هتاف ولا دعاء ولا تهويش، وإنما بالترتيب والتنظيم والتدريب على أسس عملية عصرية شورية، بعيدة عن الارتجال والفوضى والاستبداد الفردي، والجهل المميت، فقد أصبح الحمل ثقيلًا على أبناء هذا الجيل".[20]
ومع انتشار أخبار مهرجان النجادة الضخم في كافة أنحاء فلسطين وهرولة العديد من أندية المدن والقرى إلى الاتصال بقيادة النجادة في يافا من أجل تشكيل فرق مماثلة، وبعدما تجاوز عدد أعضائها الـ 5 ألاف، رأى جمال الحسيني رئيس الحزب العربي الفلسطيني أنه من الضروري أن يستحوذ على المنظمة ويضمها إلى الحزب العربي، لكن قادة المنظمة رفضوا ذلك، حيث أعلنوا أنها مستقلة، لا حزبية ولا عائلية ولا طائفية.
ويروي رشاد عرفة أحد الأعضاء المؤسسين للنجادة في مذكراته قصة لقاء وفد من أعضاء المنظمة مع جمال الحسيني فيقول إنه: بعد أن جرى إعداد قانون النجادة أُرسل وفد عنها إلى جمال الحسيني في رام الله من أجل الحصول على الدعم والتأييد، وتألف الوفد من رشاد الدباغ السكرتير العام للنجادة، وعمر عبد الرحيم أحد أعضائها، والذي اختير لأن عمه محمد عبد الرحيم كان من أركان الحزب العربي في يافا، وقام الوفد بعرض القانون الجديد على الزعيم الفلسطيني طالبين مباركته، وبعد أن تصفح جمال القانون قال لهما "أنا مستعد لكل شيء، الله يوفقكم، بشرط أن تكتبوا في القانون أن النجادة تتبع الحزب العربي الفلسطيني". ولما عرض الوفد على قيادته تلك الفكرة رفضتها القيادة.[21]
مرحلة الصراع وتأسيس منظمة الفتوة
في أواخر شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1946 أسس جمال الحسيني منظمة الفتوة في القدس، وأتبعها للحزب العربي، وأوكل مهمة قيادتها لكمال عريقات الذي كان ضابطًا سابقًا في البوليس، وأقسم قادتُها يمين الولاء لرئيس الحزب العربي، رئيسُا أعلى للفتوة.
ارتدى الزيَّ الرسميَّ للفتوة 3500 عضو، وكان البعض منهم من الذين استقالوا من النجادة وانضموا إلى الفتوة، وأصدرت المنظمة في أول عام 1947 قانونًا لا يختلف بنصوصه عن قانون النجادة إلا فيما يتعلق بانتخاب القائد ومدة تسلّمه القيادة، إذ نصّ ذلك قانون الفتوة على أن يبقى القائد في عمله مادام يتمتع بثقة رئيس الحزب العربي، بينما كان قانون النجادة يحدد مدة رئاسة القائد بسنتين. [22]
فبدأت النجادة تبحث عن حل لهذا الصراع الذي قد يقضي في النهاية على المنظمتين، فأرسلت وفدًا للقاء جمال الحسيني، فكان رده يقضي إمّا بحل النجادة والتحاق أعضائها بالفتوة، أو أن تبقى على حالها على أن يقوم رؤساؤها بحلف يمين الولاء له بوصفه رئيس الحزب العربي، ذلك أنه يريد أن تكون هذه المنظمات أدوات لتنفيذ أوامر الحزب الإدارية، فكان رد وفد النجادة بأنها ليست منظمة حزبية، لكنه لم يقتنع، ومع استحكام الخلاف بين الطرفين، تدخل المفتي بنفسه فاستدعى قائد النجادة محمد نمر الهواري إلى الإسكندرية، وقرر دمج المنظمتين في منظمة واحدة تحمل اسم منظمة الشباب، وشكّل المفتي لجنة ثلاثية برئاسة رفيق التميمي، وعضوية أميل الغوري، وكلاهما من الهيئة العربية العليا، ومحمد نمر الهواري قائد النجادة، لدراسة الموضوع ووضع الترتيبات.[23]
واتجهت عملية توحيد المنظمتين ضمن المنظمة الجديدة تحت شعار اللاءات الثلاث وهي: لا حزبية، لا طائفية، لا عائلية. في محاولة لإرضاء منظمة النجادة من خلال إبعاد نفوذ الحزب العربي ظاهريًا على الأقل، وجرى الاتفاق على أن يكون المقر الرئيسي للمنظمة الجديدة في مدينة يافا، وأجمعوا على أن تكون المنظمة تحت رئاسة سماحة المفتي، كما تركوا أمر اختيار القائد العام للمنظمة للمفتي كي يعين من يشاء. لكنهم اختلفوا حول التسمية الجديدة للمنظمة، فقد تمسك أعضاء النجادة باسم منظمتهم لأسباب قانونية ومادية ومعنوية، شرحها أمين سر المنظمة رشاد الدباغ في رسالة بعثها إلى المفتي فقال: العقبة القانونية تعود إلى قانون الطوارئ للدفاع الذي صدر في 24 آذار/ مارس 1946، وهو يجبر أيّ منظمة ترغب في ارتداء أفرادها زيًا موحدًا، أو تحمل شعارًا، أن تراجع مدير البوليس العام للحصول على إذن رسمي، ولمّا أرادت سلطات الاحتلال البريطاني تطبيق هذا القانون عليها، كان ردّهم بأنّ منظمتهم وجدت قبل قانون الطوارئ، وأن الحكومة لم تعترض على الاستعراضات التي نظموها، فإذا حملت المنظمة الجديدة اسمًا جديدًا غير النجادة، ستواجه صعوبات كبيرةً للحصول على إذن جديد. [24]
وأما العقبة المالية فقد قدرتها النجادة بـ20 ألف جنيه، ذلك لأن تغير الاسم سيتبعه تغيير الأعلام واليافطات والشارات. وأما العقبة المعنوية فتكمن في صعوبة قبول النجاد التخلي عن اسمه بعدما أصبح للمنظمة أناشيد وأهازيج شعبية.
فأرسل رفيق التميمي، رئيس لجنة دمج المنظمتين كتابًا للمفتي قال فيه: "الاندماج بات متعثرًا نظرًا لسوء النوايا، والأيدي الخبيثة التي تواصل اللعب بالضمائر الضعيفة بين أفراد النجادة، وقد يخطر على البال أن ندع كلًا من المنظمتين على حالتهما، على أن يتصل قائداهما بالهيئة العليا عن طريق العضو المنتدب لتلقي التوجيه اللازم، إنّي أرى هذه الخطة أقرب إلى الصواب وأسهل للتنفيذ من العمل على الدمج في منظمة واحدة، وناحية أخرى يجب أن ننتبه لها وهي أن المنظمة الموحدة إذا كتب لها التكوين ستكلف الهيئة العليا مبلغًا من المال لا يقلّ عن ستين ألف جنيه في السنة، وهو مبلغ جسيم يصعب جدًا العثور عليه". [25]
لكن المفتي أصر على دمج المنظمتين في منظمة واحدة تحمل اسم منظمة الشباب العربي، فصدّر بيانًا رسميًا بتوقيع كل من قائد النجادة محمد نمر الهواري وقائد الفتوة كمال عريقات يعلنان فيه الولاء التام للهيئة العربية العليا ولرئيسها، والموافقة قلبًا وقالبًا على دمج المنظمتين في منظمة واحدة هي منظمة الشباب العربي.
وخصّص المفتي لها ميزانيةً محدودةً، كما عين لقيادتها الضابط المصري المتقاعد محمود لبيب الذي كان في السابق قائدًا لجوالة الإخوان المسلمين في القاهرة، وقد أقام لبيب في يافا، وحاول جمع شباب المنظمتين وتدريبهم، لكن، حينما عرفت سلطات الاحتلال البريطاني بمهمته أصدرت أمرًا بطرده من البلاد.
فبقيت المنظمة الجديدة شهورًا قليلة دون فائدة تذكر، وهكذا ماتت منظمة الشباب وماتت قبلها منظمة النجادة ومنظمة الفتوة ومع بداية الأحداث بعد قرار التقسيم لم تكن أي منها موجودة في فلسطين.[26]
ويذكر خيري أبو الجنبين في كتابه "قصة حياتي في فلسطين والكويت" أن روح النجادة ومبادئها بقيت حيةً في نفوس شبابها، وعلى إثر قرار التقسيم اجتمعت بقايا النجادة في مكتب الهواري في يافا وألفوا فيما بينهم "مجلس الأمن" للدفاع عن المدينة، واتخذوا مقرًا لهم، واستعانوا بما كان قد بقي للنجادة من أثاث ومهمات وسيارة واحدة وأسلحة قليلة، وجمعوا بعض التبرعات من المواطنين وأرسلوا مصطفى أبو غبن إلى مصر لشراء السلاح، لكنهم وجدوا فيما بعد أن تنظيمهم يفتقد إلى الشرعية، ومـن أجل الحصول على دعم اللجنة القومية عادوا لاتخاذ اسم "منظمة الشباب" برئاسة عبد الرحمن السكسك وفتحوا باب التطوع للتدريب على السلاح في ملعب النادي الأرثذوكسي بيافا، وهكذا نظموا أنفسهم للمساهمة في الدفاع عن المدينة، لكنّ الإمكانيات كانت قليلةً، وكان العدو أكثر تجهيزًا وتنظيمًا فسقطت يافا عسكريًا في 28 نيسان/ إبريل 1948، كما سقطت قبلها وبعدها مدن وقرى فلسطينية أخرى حاول شباب النجادة فيها أيضًا تنظيم أنفسهم والمساهمة في الدفاع عنها ولكنها سقطت.[27]
صحيفة الشعب، 2 نيسان/ 1947
خاتمة
لم يكن اندماج منظمتي النجادة والفتوة في منظمة الشباب العربي سوى اندماجًا شكليًا، أما على الصعيد العملي فبات على الساحة ثلاث منظمات، وضعفت روح الشباب المعنوية بسبب الخلافات، كما أن المنظمة الجديدة لم تجد الدعم الكافي من الهيئة العربية العليا التي أوجدتها، لا سيما على الصعيدين المالي والعسكري، وهو الهدف الأسمى للمنظمة، فلم يتطور التدريب على السلاح، وظل تدريبًا سطحيًا.
ومع التأكيد على عدم التزام النجادة والفتوة بقرار الحل والاندماج في منظمة الشباب، نؤكّد على حقيقة ثانية وهي أن المنظمتين كانتا قد وصلتا إلى مرحلة كبيرة من الضعف والتفتت نتيجة التنافس الكبير بينهما، كما توقفت التبرعات التي كانت تُقدّم لهما، بالإضافة لانقطاع أموال الاشتراكات.
مما تقدم يتضح أن رغبة جمال الحسيني رئيس الحزب العربي في السيطرة على منظمة النجادة، ومن ثم إنشاؤه لمنظمة الفتوة كان عاملًا حاسمًا في انهيار النجادة وفشل الفتوة نتيجةً للتنافس والتناحر بينهما، وهو ما أدى لاحقًا لفشل منظمة الشباب العربي.
صحيفة الدفاع، 8 تشرين أول/ 1946
[1] - في 8 كانون الثاني/ يناير 1946، صحيفة الدفاع، العدد 3252، ص 4.
[2] - للاطلاع على الكتاب الأبيض بكل تفاصيله راجع الرابط التالي: https://cutt.us/s2JMy
[3] - تميم منصور، المنظمات شبه عسكرية التي أقيمت في فلسطين قبل النكبة، https://cutt.us/ZMAkB
[4] - المصدر السابق
[5] - خيري أبو الجنبين، قصة حياتي في فلسطين والكويت، (عمان، دار الشروق للنشر والتوزيع، 2002) ص 471-472.
[6] - المصدر السابق، ص 472.
[7] - المصدر السابق، ص 472-473.
[8] - بيان نويهض الحوت، القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917-1948، (بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، الطبعة الثالثة، 1986) ص 508.
[9] - خيري أبو الجنبين، قصة حياتي في فلسطين والكويت، ص 474
[10] - المصدر السابق، ص 476.
[11] - المصدر السابق، ص 476-477.
[12] - الأرشيف الرقمي الفلسطيني، https://cutt.us/PXsnS
[13] - بيان نويهض الحوت، القيادات والمؤسسات الفلسطينية في فلسطين 1917-1948، ص 509.
[14] - المصدر السابق، ص 509.
[15] - بيان النجادة الأول، 8 كانون الثاني/ يناير 1946، صحيفة الدفاع، العدد 3252، ص 4.
[16] - بيان نويهض الحوت، القيادات والمؤسسات الفلسطينية في فلسطين 1917-1948، ص 800.
[17] - خيري أبو الجنبين، قصة حياتي في فلسطين والكويت، ص 486.
[18] - المصدر السابق، ص 473.
[19] - المصدر السابق، ص 477.
[20] - بيان نويهض الحوت، القيادات والمؤسسات الفلسطينية في فلسطين 1917-1948، ص 510.
[21] - خيري أبو الجنبين، قصة حياتي في فلسطين والكويت، ص 489.
[22] - المصدر السابق، ص 490.
[23] - بيان نويهض الحوت، القيادات والمؤسسات الفلسطينية في فلسطين 1917-1948، ص 511.
[24] - المصدر السابق، ص 511-512.
[25] - المصدر السابق، ص 512.
[26] - خيري أبو الجنبين، قصة حياتي في فلسطين والكويت، ص 292-293-294.
[27] - المصدر السابق، ص 494-495.