من أين جاء الرجل الحرّ؟!.. في مديح الفتوّة

من أين جاء الرجل الحرّ؟!..  في مديح الفتوّة
تحميل المادة

من مطالع الربيع إلى مطالع الخريف، كان الرجلّ الحرّ يفتتح أزمنة المطر الجديدة، بدماء اثنين من أبنائه، أوّلهم (رعد) في نيسان تعرّش من (يافا) ربيعًا على فضاء الفلسطينيين، والثاني (عبد الرحمن) سعى إليه العدوّ خلسةً، فانساب دمًا في شرايين الفلسطينيين، والرجل هو الرجل، يتسع أبًا للمقاتلين كلّهم. من أين جاء الرجل الحرّ؟!

بدا، وكأنّ رعدًا لمّا أضاء ظَهَرَ الرجلُ، ولكنّ الرجلَ ظلّ من نيسان إلى أيلول، يهدهد المقاتلين، ويحوّط المخيّم، حتّى استشهد عبد الرحمن، وإذا بالشهداء ينسلون من الرجل، عاش ليمنحهم للعالم، وإذا بالمقاتلين يفيضون من كفّيه، يستندون إلى كتفه، ويشدّون إيمانهم بواجبهم من عينيه، ويستمدّون الدافع من الدمع المحبوس على أطراف عينيه. فمن أين جاء الرجل الحرّ؟!

امتدّ الرجل من المخيّم، لوْنَ الفلسطينيين الأصيل يستعيدونه، ينشدهون إليه ودًّا وهو يغرس وردهم في جرحه، يجيء إليهم ويزحفون إليه، يأوون إليه نخلةً لكل فلسطيني، يجيئ إليهم من عمق مأساتهم القديمة، من حقيقة وجعهم الساري، من صراحة واجبهم الصارخ، جدارًا لا ينهدّ، وسفينة لا تنخرق، وأبًا وأخًا وابنًا لا يعقّ أهله، فمن أين جاء الرجل الحرّ؟!

 

مُنْثالاً .. من الحبِّ والواجب

لا يولد الأحرار إلا من صدورهم، "وَلا يَجِدونَ في صُدورِهِم حاجَةً مِمّا أوتوا"، فلا يعلمون من أنفسهم، ولا يدركون في صدورهم، ولا يشعرون في أقطار عالمهم الجوّاني، حاجةً إلى ما بذلوا للناس، فكيف وقد بذلوا للناس كلّ الشيء، العمرَ في ذهابه، والأبناءَ في شبابهم، والزمنَ الجاري، والزمنَ الآتي، يجولون به بين بيوتات الناس، مراغمةً للعدوّ، وانتظارًا لوعد الله، ورصًّا لنفوس المقاتلين وصفوفهم. الأحرارُ الكُمّل، هم الذاهلون عن حرّيتهم، لذهولهم عن عطائهم، فالحرّ منهم حرٌّ حتّى من رِقّ ملاحظته حرّيته.

تبدأ الحرّيّة، من الحبّ، ﴿وَالَّذينَ تَبَوَّءُوا الدّارَ وَالإيمانَ مِن قَبلِهِم يُحِبّونَ مَن هاجَرَ إِلَيهِم﴾. يسبق الحبَّ قرارٌ في الدار، أي في وطن الواجب، وقرار في الإيمان، وعلى قدر الإيمان يعظُمُ الحبّ، وعلى قدر الحبّ تصح النفوس وتسلم، ولا يجيء الرجل من أقصى المدينة ناصرًا ومعينًا إلى موضع الظنّ الغالب بهلاكه، إلا وقد استكمل حرّيته، ولا يستضيئ الرجل بإيمانه المكتوم وسط ظلمة الخطر، إلا وقد استكمل عبوديته، شرط استكمال حرّيته، ﴿وَأُفَوِّضُ أَمري إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصيرٌ بِالعِبادِ﴾.

من أين يجيء الرجل الحرّ؟! يجيئ في غفلة من الناس، من أعلى عارفيهم إلى أدنى غافليهم، عِظةً يقوم بها العالَم، وصرخةً تردّ الناس عن غرورهم، وذراعًا تحوّطهم من على جنبات الطريق المضروب لهم طريقًا وحيدًا صحيحًا، حتى يستبين العارف جهله، ويدرك الغافل وجوده.

 

متخلّصًا من العلائق

سأل شابّ بلخيٌّ في الحجّ أبا يزيد البسطامي: يا أبا يزيد: ما الزهد عندكم؟ فقال: إذا وجدنا أَكَلنا، وإذا فقدنا صَبَرنا، فقال: هكذا الكلاب عندنا ببلخ. فقال: وما الزهد عندكم؟ فقال: إذا وجدنا آثَرْنا، وإذا فَقَدْنا شَكَرْنا. وما هذه إلا خصلة من رأس العارفين وسيد الزاهدين ومعدن الصدّيقين، سيد المرسلين، صلّى الله عليه وسلم، الذي كان يسارع للخلاص مما في بيته: "عن عقبة قال: صليتُ وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلم ثم قام مسرعًا فتخطّى رقاب الناس إلى بعض حُجَرِ نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم فرأى أنهم عجبوا من سرعته، فقال: "ذكرت شيئًا من تبرٍ عندنا، فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته"، حتّى يبقى زمنه وحاله قوْلَه: "أفلا أكون عبدًا شكورًا"، حتّى أنّك إذا رفعت بصرك في بيته لن ترى فيه "شيئًا يردّ البصر غير أهبة ثلاثة"، وإنك لو قلت له، كما قال له عمر: "ادع الله فليوسع على أمتك؛ فإن فارس والروم وسع عليهم، وأعطوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله". سيقول لك: "أوَفي شك أنت.. أولئك قوم عُجّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا".

من أين يجيء الرجل الحرّ؟! يجيئ في غفلة من الناس، من أعلى عارفيهم إلى أدنى غافليهم، عِظةً يقوم بها العالم، وصرخةً تردّ الناس عن غرورهم، وذراعًا تحوّطهم من على جنبات الطريق المضروب لهم طريقًا وحيدًا صحيحًا، حتى يستبين العارف جهله، ويدرك الغافل وجوده.

يجيء الرجل الحرّ، من صدره، من إيمانه الذي فيه، يعلو، حتى يصير مشربه الإيمان، وسجيّته الحبّ، وعادته البذل، فلا يجد في صدره حاجةً مما يُعطي، أو حاجةً مما يَأخذ غيره، فكيف والرجل الحرّ، يعطي الناس اثنين من أبنائه، ثمّ يعيش وقته، بين الجَلَد والتجلُّدِ.

 

مُستَخلصًا .. بالمجاهدة والتجلّد

ويحسب الناس التجلّد دون الجَلَدِ، بيد أن التجلّدَ أصلُ الجَلَدِ، "ومن يتصبّر يصبّره الله"، فالأمر من الافتعال وإليه، طلبًا للفعل وحفاظًا عليه، كما في الأمر الإلهي لخير الخلق ﴿رَبُّ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَما بَينَهُما فَاعبُدهُ وَاصطَبِر لِعِبادَتِهِ هَل تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾، وذلك لأنّ الله وكما يَبتلي الخلق بالمجاهدة، إذ يطلبهم إليه بالمجاهدة، فإنّه يرفعهم إليه بالمجاهدة، ويقرّبهم إليه بالمجاهدة، ويصطفيهم بالمجاهدة، بعد أن يحفظهم بالمجاهدة، كما أنّه يصطنعهم لنفسه بالمجاهدة، ويصنعهم على عينه بالمجاهدة، وقد اصطنع موسى، عليه السلام، بالشدّة تلاحقه، وتفتن الحبّ في قلبه، ليسلم لربه، حتى عُرِف بالفتوّة، والحميّة، والمروءة، والشهامة.

وهكذا فالأمر بين الجَلَدِ والتجلّدِ، وبين الصبر والمصابرة، فالصبر وإن صار سجيّة، فإنه ممتحن دومًا بالبلاء الصاعد، ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اصبِروا وَصابِروا وَرابِطوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم تُفلِحونَ﴾، وقد قالوا إن المصابرة، هي الصبر في وجه الصبر، ويمكن القول، هي الصبر في وجه البلاءات المتتابعة، السابقة للأنفاس، أو كما قال: زُفَرُ بْنُ الحارِثِ:

سَقَيْناهُمُ كَأْسًا سَقَوْنا بِمِثْلِها *** ولَكِنَّهم كانُوا عَلى المَوْتِ أصْبَرا

وهذا التتابع في البلاءات، تترى، لا يكون، إلا للمرادين للاصطفاء، فوصفَ الله بلاء إبراهيم لمّا أُمِر بذبح ابنه بقوله ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ البَلاءُ المُبينُ﴾، وقد استقبل فتحي خازم، شهادة ولديه في خمسة شهور، برضا يزيده التجلّد جلاءً، وفي الحديث: "يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتدّ بلاؤه، وإن كان في دينه رِقّة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة". حتّى وهم يُخرَجون للقاء ربّهم يُستخلصون إليه بأشدّ ما يكون الاستخلاص: "أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم"، وذلك لأنّه "ما من مسلم يصيبه أذى؛ شوكة فما فوقها، إلا كفّر الله بها سيئاته كما تحطُّ الشجرة ورقها"، وهكذا، حتى يأتي المؤمن ربه، وإمامُه إبراهيم الذي كان أمّة ﴿إِذ جاءَ رَبَّهُ بِقَلبٍ سَليمٍ﴾، فإنّ الفتن تُعرض "على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشربها نُكِتَ فيه نكتةٌ سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتةٌ بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيضَ مثل الصفا فلا تضرُّه فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرْبادًّا كالكوز مُجَخّيًا ، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه".

يجيء الرجل الحرّ، من صدره، من إيمانه الذي فيه، يعلو، حتى يصير مشربه الإيمان، وسجيّته الحبّ، وعادته البذل، فلا يجد في صدره حاجةً مما يُعطي، أو حاجةً مما يَأخذ غيره، فكيف والرجل الحرّ، يعطي الناس اثنين من أبنائه، ثمّ يعيش وقته، بين الجَلَد والتجلُّدِ.

فإنّ الرجل الحرّ يتجلّد من سخاء نفسه، إذ الجَلَد قد يذوي منه شيء، فلا يستسلم الرجل الحرّ لحاجة صدره إلى شيء من الضعف، فيغالب الضعف بالتجلّد، ويتكلّف له، فإنّ الجَلَد هبة وعطية، والتجلّد كسب العبد، ويتعرّض العبد للعطية بالمجاهدة، وهذا من قوله تعالى: ﴿وَالَّذينَ جاهَدوا فينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحسِنينَ﴾، وإذا كان الإحسان منتهى المقامات، ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحسِنينَ﴾، فإنّ السبيل إليه بالمجاهدة، وهذا نظم الحديث من الإسلام إلى الإيمان إلى الإحسان، وظاهر لفظ الإحسان من العطاء، والرجل يعطي من وقته ونفسه، حتى يصير محسنًا، فإذا صار محسنًا، فإنّه بين "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، فإن صار إلى هذه الحال، صار من أهل ﴿وَلا يَجِدونَ في صُدورِهِم حاجَةً مِمّا أوتوا﴾.

 

جوادًا بالحزنِ .. حرًّا من الرّق

ولماذا يتجلّد الرجل، إلا وفرةً في الكرم، فيجود بألصق ما يطبق عليه صدره، حزنه. فيعلو حزنَه، جودًا على الذين يستندون إليه، وقد صار جدارهم، ونخلتهم، وقد نُهي المحسنون عن الحزن حتى لا يأتي على سخاء صدورهم، فقيل لهم: ﴿وَلا تَهِنوا وَلا تَحزَنوا وَأَنتُمُ الأَعلَونَ إِن كُنتُم مُؤمِنينَ﴾، ثم بماذا يؤثِر الرجل الحرّ؟ يؤثِر على نفسه، بكلّ شيء. ألا يحتاج الرجل أولاده من كلّ وجه للحاجة، ولكنّهم ﴿وَيُؤثِرونَ عَلى أَنفُسِهِم وَلَو كانَ بِهِم خَصاصَةٌ﴾، وما ذلك إلا بالتزام المجاهدة ﴿وَمَن يوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ﴾.

وهذا التتابع في البلاءات، تترى، لا يكون، إلا للمرادين للاصطفاء، فوصفَ الله بلاء إبراهيم لمّا أُمِر بذبح ابنه بقوله "إِنَّ هذا لَهُوَ البَلاءُ المُبينُ"، وقد استقبل فتحي خازم، شهادة ولديه في خمسة شهور، برضا يزيده التجلّد جلاءً .. فإنّ الرجل الحرّ يتجلّد من سخاء نفسه، إذ الجَلَد قد يذوي منه شيء فيغالب الضعف بالتجلّد

وقد جعل العارفون هذا الإيثار علامة الحرّيّة، وقد جعلوا هذه الحرّيّة، كما قال أبو عليّ الدقاق: "ألّا يكون العبد تحتّ رقّ المخلوقات، ولا يجري عليه سلطان المكوَّنات، وعلامة صحّته: سقوط التمييز عن قلبه بين الأشياء، فيتساوى عنده أخطار الأعراض". أفيصدق هذا، كما يصدق على الرجل الذي تجلّد بعد اندفاع ولدين له للشهادة، ثمّ هو في ذلك كلّه، لم يكن يصدر عن قسوة قلب، ولا عن نقص في إحساس الأبوّة، وانظر إلى وداعه لابنه عبد الرحمن، وهو يُشهد الله وملائكته وحملة عرشه على رضاه عنه، وانظر إلى ذكر ربه، وإيمانه به، الذي ما انقطع عن لسانه، في هذه البلاءات العظيمات!

وهذه الحرّيّة التي قيل إنها عزيزة، وقد تمثّل العارفون في بيان ندرتها في الناس، بقول الشاعر:

أتمنى على الزمان مُحالاً *** أن ترى مُقلَتايَ طلعة حرّ

وذلك لأنّ الحرّيّة، كما قالوا، بالخروج من الدنيا قبل الخروج منها، وهذا لا يكون إلا من الصدر، فإن خرجت منه، خرج المرء منها، ولا تَخرج تمام الخروج إلا بكمال العبودية، "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض"، وتجليات هذه الحرّيّة لا تكون إلا في خدمة الناس، وهذه الفتوّة، حقيقة الحرّيّة في الناس، وهذه الفتوّة السبيل إلى الهداية المستمرّة: ﴿نَحنُ نَقُصُّ عَلَيكَ نَبَأَهُم بِالحَقِّ إِنَّهُم فِتيَةٌ آمَنوا بِرَبِّهِم وَزِدناهُم هُدًى﴾، وصورتها قوله صلّى الله عليه وسلم: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، والهداية أعظم ما يعان به العبد.

ولماذا يتجلّد الرجل، إلا وفرةً في الكرم، فيجود بألصق ما يطبق عليه صدره، حزنه. فيعلو حزنَه، جودًا على الذين يستندون إليه، وقد صار جدارهم، ونخلتهم، وقد نُهي المحسنون عن الحزن حتى لا يأتي على سخاء صدورهم .. "وَلا تَهِنوا وَلا تَحزَنوا وَأَنتُمُ الأَعلَونَ إِن كُنتُم مُؤمِنينَ"

 

قالوا في الفتوة .. في أبي رعد:

وهذه أقوال العارفين في الفتوّة: "الفتوة كفُّ الأذى وبذل الندى"، "الفتوة الوفاء والحفاظ"، "الفتوة فضيلة تأتيها ولا ترى نفسك فِيهَا"، "الفتوة أَن لا تهرب إِذَا أقبل السائل"، "أَن لا تحتجب من القاصدين"، "أَن لا تدخر ولا تعتذر"، "إظهار النعمة وإسرار المحنة"، "أَن تدعو عشرة أنفس فلا تتغير إِن جاء تسعة أَوْ أحد عشر"، "الفتوة ترك التمييز". ولم يُظهر الرجل الحرّ فتحي خازم إلا مثل هذا.

يجيء الرجل الحرّ من صدره، من سخاء نفسه، منه يبدأ وإليه يعود، موعظةً وذكرى ومثلاً وعونًا وسندًا، فإنّ الناس لا تستقيم، إلا بالرجال الأحرار!

قالوا في الفتوة: "الفتوة كفُّ الأذى وبذل الندى"، "الفتوة الوفاء والحفاظ"، "الفتوة فضيلة تأتيها ولا ترى نفسك فِيهَا"، "أَن لا تحتجب من القاصدين"، "أَن لا تدخر ولا تعتذر"، "إظهار النعمة وإسرار المحنة"، "أَن تدعو عشرة أنفس فلا تتغير إِن جاء تسعة أَوْ أحد عشر". ولم يُظهر الرجل الحرّ فتحي خازم إلا مثل هذا.