من الحرف إلى الميدان.. الثقافة والواقع ومساحات الاشتباك
الثقافة والمثقف
حين نعود إلى جذر الكلمة «ثقف»، نجد أحد المعاني يتكرر في المعاجم -كما في لسان العرب-، وهو الحذق والفطنة والفهم، ويعرّف «الثقِفُ» بأنه "ثابت المعرفةِ بما يُحتاجُ إليه." (لسان العرب)
هكذا أصل الأمر إذن، لا يخلو من ألمعيةٍ وحسن فهم إلى جانب المعرفة، لكن المضمون قد تنامى وتكاثف على مرِّ الحِقَب حتى اختلف المنظّرون وتشتتوا في إرساء حدٍ للمصطلح.
وبعيدًا عن تعريفات المفكرين وتصنيفاتهم، يلاحَظ أن للقب المثقف في التداول الشعبي صدىً رنانًا، ليبدوَ المثقف منتميًا إلى نخبةٍ ما محاطةٍ بهالة من الاحترام العام، منشؤها غالبًا هو ذلك الغموض الذي يسببه التفاوت المعرفي والفكري بين المثقف وغيره من العامة.
أما عند إدوارد سعيد، فالمثقف الواحد هو "صوتٌ فرديٌ واحد، لا يكتسب رناته الحقة إلا حين يرتبط ارتباطًا حرًّا بحركةٍ ما، أو بآمال شعبٍ من الشعوب، أو بالسعي المشترك لتحقيق مثلٍ أعلى يشارك فيه آخرون."
فهو، بهذا، ليسَ كائنًا يقبع في طبقةٍ رفيعةٍ ويحوز على امتيازاتها ويتحدثُ بلغتِها التنظيرية المتعالية، بل إن انخراطه في قضايا مجتمعه وأسئلته، وانتماءه إليها، وسعيه في تقديم الإجابات، هو ما يحققُ فيه فرادته وأهليته.
وليست الثقافة حرفةً أو وظيفةً يتعرّف المثقف بها كذلك، لكن، وضمن أي مجالٍ يخوض فيه المثقف، فإنّه، يحملُ أمانةَ هذا التصنيف الضمني المبني على الكفاية الفكرية والمعرفية التي تمكنه من توجيه الأفكار وبلورتها والحكم عليها، والخروج بخلاصات واضحة من شأنها التأثير، بل والتغيير في الواقع.
وهذا يذكرنا بما يطلق عليه الفيلسوف الإيطالي الماركسي أنطونيو غرامشي "المثقفين العضويين"، حين يقول إنه "مع ولادة كلّ طبقة اجتماعيّة، تولد عضويًا مجموعة أو أكثر من المثقّفين الّذين يُضفون على هذه الطبقة انسجامها وإدراكها لوظيفتها"، فيرى أن المثقفين بوظائفهم المتنوعة موزعون على الطبقات الاجتماعية جميعها، فهناك مثقف فلاح، ومثقف أرستقراطي .. إلخ. ومهمتهم هي التوجيه الفكري ضمن هذه الطبقة وتبعًا لأوضاعها.
وفي كلِ حالٍ فالمثقف خاضعٌ كمجموع الأفراد لشروط الواقع ومنطلِقٌ منها، أما الانطلاقُ من الثقافة ذاتها، والاستغراق في الالتفات إلى شكلها وبروتوكولاتها، فهذا ما يُفقد المثقف الوجهة والقيمة المرجوة، فنرى الكثير من المثقفين يغرق في مستوياتٍ من الوهم؛ لاعتناقه قضايا وأسئلة لا تعني لأمته ومجتمعه ولا لواقعه شيئًا، لكنها برَّاقةٌ وحديثة و"آخر صيحة"، ويحسُن عندَه وقعها الغامضُ في أسماع من لا يفهمها.
وأيًا كان تعريف المثقف ومهمته، فإنه لن يخلو من مسؤوليةٍ مجتمعية من نوعٍ ما، لا يصير مثقفًا بحق إلا إذا تحملها، أما الذي يتطلب من التسمية بريقها وصداها ثم يختار الاعتزال في وسطٍ أكثر خصوصيةً ورقيًّا، فعليه أن يبحث عن مدينةٍ فاضلة تُنصِّب مفكريها وفلاسفتها حكامًا يشرفون من علٍ.
ومن الجدير بالذكر أننا حين نتحدث عن الثقافة هنا، فنحن بالتأكيد نتحدث عن نوعٍ أصيلٍ بات نادرًا، يختلف كل الاختلاف عما نراه الآن من تضاؤلٍ في الجوهر والقيمة، وتضخمٍ وتجوُّف في العَرض والتسميات، فقد يتزيَّا بالثقافةِ غيرُ أهلِها ويضطر الجوهريُّ إلى مناقشةِ من لا يلائمُه.
جدارية للشهيد ناجي العلي من تنفيذ الفنان التشكيلي الفلسطيني يوسف كتلو في بلدة دورا بالخليل
ثقافة المشتبك
بالحديثِ عن قضيتنا الوطنية، تكتسِب الثقافة بعدًا جديدًا، وتتحمَّل ثقلًا مضافًا وسؤالًا شجيًا، كان صاحب مقولةِ (ثقافة المشتبِك) الاسم الألمع الذي أيقظه فينا -في مرحلةٍ متأخرةٍ من عمر القضية- ، تلك النظرية التي قُدِّر لها أن تتجرَّد، بفضل صدق صاحبها، من قشور التنظير، وتتحوَّل إلى حالة جبارة قائمة من العمل النضالي جليِّ الوجهة.
يبدو أن ما أراده الشهيد باسل الأعرج هو أن يجعل الاشتباك مع العدو ثقافةً، وأن يجعل الثقافة كذلِك اشتباكًا مع العدو، بتشكيلها للوعي المقاوم وبنائه على خلاصات تجارب حضارية في الصراع مع الأعداء، كحرب العصابات التي عدّها منحىً طبيعيًا لا بد منه في نضالنا الفلسطيني. ولو لم يكن الشهيد تجليًّا صادقًا لِما أراد تقريره في النفوس، لَما أفلَح في فَرضِه الصارم حين قال: "بدك تصير مثقف، بدك تصير مشتبِك، ما بدك مشتبك، بلا منك ومن ثقافتك". فالنظرية إذن لم تكُن إلا مطيته لما هو أبقى وأسمى، وهكذا أتعبَ الباسِل من بعدَه بصدقه، والشهادة مِصداقُ الدعاوى.
أما كنه مفهوم الثقافة عنده فمن الواضِح أنه لم يعنِ به تلك المطالعة وذلك التأمل المولد للأفكار والأسئلة والنقاشات في مؤلفات الفكر والتاريخ والسياسة والحروب وغيرها، لكنه كان يحمل فكرته هو وسؤاله هو معه أينما ذهب، ويفتِّشُ في كل القراءات والتجارب تفتيشًا صادِقًا جادًّا عن كلِ ما من شأنِه أن يُركِّب إجابة سؤاله هذا، سؤال فلسطين.
لقد كان باسل الأعرج باحثًا في تاريخ الثورة الفلسطينية، ومنظمًا لرحلات ميدانية للتعريف بالأرض الفلسطينية المحتلّة، ومُدَوِّنًا وناشطًا ومتصدِّرًا موسوعي الثقافة، وكانت تلك الطاقة الهائلة في حراكه وحضوره المتوقّد في شتى الميادين تهّيئه للخلود في الذاكرة الشعبية، دون أن يخفت صوته أو ترثَّ أفكاره مع الزمن.
وكانت خلاصاتُه التي خرجَ بها في مقالاته وأفعاله غايةً في الوضوح والصميمية، تُمكّن كلَّ مريدٍ من الاستقاء منها على قدر سعته.
فهذا هو النموذَج الذي يُحتذى به للمثقف، ولمثقف الوطن المشتبِك بالضرورة.
الذاكرة المضادة
يقال إن ذاكرة الشعوب قصيرة، وهي كذلك، فطبيعة الشعوب أنها سريعة التكيف مع أي واقعٍ مفروض، مدفوعةً إليه بهاجس النجاة وغريزة البقاء. وهكذا فإن الأمر يتطلب -حتى لا نتجه إلى مستقبلٍ لا نعرف على وجه الدقة جذوره وما أدّى بنا إليه- ذاكرةً مضادةً، لا تنساق مع كل واقعٍ مفروضٍ، كما لا تستعلي عليه، تنظر في المعطيات فتبصر مبدأها وبواعثها قبل أن تتنبأ بمآلاتها، فتشتغل هذه الذاكرة بلا هوادة على مستوياتٍ من الوعي، بالتاريخ والواقع والمصير، ولا يشغلها التحليل والنظر عن الحضور في ميادين الفعل. هذا ما يجدر أن يكون عليه المثقف، على حدّ وصف إدوارد سعيد؛ ذاكرةً "تملك خطابها المعاكس المخصوص الذي يمنع الضمير من أن يشيح بنظره أو أن يستسلم للنوم" (الأنسنية والنقد الديمقراطي، إدوارد سعيد)
إن الضمير اليقظ والتفكير الواعي الدؤوب، هما اللذان ما زالا صورةً أنيقةً للشقاء الإنساني، هما أهمّ سمات المثقف الذي نعِدُّه حتى يكون ذاكرتنا، ذاكرة الشعب الأمينة التي ننظر في نبوءات الآتي من خلالها، ونكتب في التاريخ وفي الأدب بالعودة إليها.
جدارية للشهيد الأديب غسان كنفاني في مخيم الدهيشة/ بيت لحم
قوة الاسترداد
ليس بمقدور الكتب ولا النقاشات ولا الدعوات الفكرية أن تُحرّر وطنًا. لكن الإنسانَ المغيَّب عن الوعي الأممي التاريخي، والمقيَّد بحدود ما يعلمه مما نشأ فيه وجرَّبه، هذا الفرد في أي موقعٍ كان، من السهل اقتياده لقبول أيديولوجيات -قد لا يفهمها- تكون مسخّرةً للعدو -أي عدوٍ كان- وتخدم أجنداته، إذا لم يكن ثمّةَ حالةٌ ثقافية عالية وموحدة، ووعيٌ شعبي عام، يحدد أي الطرق التي من الصواب سلوكها، حتى تصب جميعها في غاية تحررية واحدة.
إن التقليل من شأن الثقافة والأدب والفن كان رافِدًا لكارثتنا، وهذا ما أشار إليه الباحث والناقد شاكر النابلسي في معرض روايته للسيرة الفنية لناجي العلي، رسام الكاريكاتير الشهير، حين تحدث عن مقولة أن "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة"، فتساءل عن تلك القوة التي احتلت بها فلسطين ابتداءً، في حين لم يعرف اليهود -على مدار التاريخ- بممارسة الحرب أو القيادة العسكرية أو الشجاعة، فهم إنما عرفوا بأنهم أرباب أموال وسياسة وفلسفة وأدب سُخِّرت جميعها ببطءٍ واستمرار طيلة عقودٍ تنامت فيها الأمّية الثقافية والسياسية العربية، للتوجيه إلى القومية الصهيونية، التي ستكوِّن لاحقًا قواتٍ عسكرية تكون أداةً لإنفاذ مخططاتها. فيخلُص الكاتب أخيرًا إلى أن قوة استرداد فلسطين هي "قوة العلم وقوة المال المسخر للعلم والثقافة"، جنبًا إلى جنب مع الكفاح المسلح. (أكله الذئب، شاكر النابلسي)