من المترك إلى التوجيهي: من الندرة والكفاءة إلى الوفرة والضعف

من المترك إلى التوجيهي: من الندرة والكفاءة إلى الوفرة والضعف
تحميل المادة

تعود إلى الواجهة في صيف كل عام معركة امتحانات الثانوية العامة (التوجيهي)، بين السهولة والصعوبة، بين تقليص المواد أو الإبقاء عليها، بين المطالبة بإلغاء النظام بوصفه محطةً أخيرةً تحسم موضوع دخول الجامعات أو الإبقاء عليه مع تحسينات معينة. وبين محتج ومؤيد ومعارض أجد من الضرورة العودة بعجلة الزمن إلى نحو 100 عام إلى الوراء، أيام الانتداب البريطاني، لنتابع السيرورة التي وصلت بنا إلى "التوجيهي"، ثم كيف تغير، في رحلة عبر التاريخ من التبعية الإدارية، والمناهج، والمخرجات، والواقع.

"المترِك" إرث الانتداب البريطاني

لم تكن في فلسطين حتى بداية الأربعينيات مدارس ثانوية كاملة عدا الكلية العربية والكلية الرشيدية بالقدس، وهما حكوميتان، بالإضافة إلى المدارس التبشيرية[1]، أي أن مَن أراد استكمال التعليم الثانوي عليه أن يتوجه إلى مدينة القدس، حيث تُرسِل كل منطقةً طالبًا أو اثنين. ثم بين 1946-1947 ارتفع عدد المدارس الثانوية الكاملة إلى أربع، ثم إلى 12 مدرسةً في 1947-1948[2]؛ أي حتى انتهاء الانتداب البريطاني وإعلان احتلال فلسطين.

منذ 1926[3] بدأ الطلبة العرب واليهود تقديم امتحان "المتريكيوليشن" في أواخر كل سنة لمن أنهى الدراسة الثانوية، حيث يخوِّل الامتحان الطالب الناجح دخول الجامعات، وكان يُقدَّم سنويًا، بدون دور إكمال، أو دور ثانٍ، وعلى الطالب أن ينجح في المواد الأساسية الأربعة بالإضافة إلى مادتين أو أكثر من المواد الاختيارية ليحصل على الشهادة، وقد أُقر هذا الامتحان عام 1925 [4].

توجيهي 1

يُعرف هذا الامتحان بين الناس بامتحان المَترِك، ولعل أحدنا سمع به من أبيه أو جده أو أقاربه، حيث أصبح هذا الامتحان لاحقًا يجرى بعد الصف السادس الأساسي، ثم بعد الثالث الإعدادي (التاسع) وتحديدًا لمواد: اللغة العربية، واللغة الإنجليزية، والرياضيات الابتدائية، والتاريخ العام، إلى أن توقف تمامًا. وفي السنوات الأخيرة بتنا نشهد امتحانات موحدةً لبعض المواد في الصفوف الأساسية دون استخدام التسمية القديمة، ومع فارق المضمون والمواد التي تجرى لها الامتحانات.

مصر تُرسي بديلًا للمترِك: التوجيهي

ظهر امتحان "التوجيهي" في مصر عام 1955[5]، وبات شرطًا للالتحاق بالجامعات المصرية، حيث يقدم الطالب امتحان التوجيهي رغم حصوله على المترك في بلده لقبول التحاقه بالجامعات المصرية[6]، فيتأخر عامًا أو أكثر. فيما بعد اتفقت الدول العربية على اعتماده، واعتمدته الأردن عام 1960، وبطبيعة الحال فإن الضفة الغربية كانت تحت الحكم الأردني منذ 1950، وهذا يعني أن الطلبة الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية تقدموا لامتحان الثانوية العامة وفقًا للنظام الأردني، بينما طلبة غزة تبعوا إداريًا مِصر، أما في الداخل المحتل فخضعوا لوزارة المعارف الإسرائيلية وبلدية الاحتلال.

نظام التوجيهي: سنوي أو فصلي؟

وفقًا للدكتور عميش[7] فإن امتحان الثانوية أجري من خلال ما يُعرف بالنظام السنوي ما بين 1968 – 1977، ثم صار الامتحان يجرى على فترتين منذ 1978، واستمر هذا الحال رغم إعلان الانفصال عن الأردن في تموز 1988 حتى عام 1993، ثم مع دخول السلطة إلى الأراضي الفلسطينية عام 1994 حصلت بعض التذبذبات على نظام امتحان الثانوية، فأجري على النظام السنوي عام 1994، بينما عاد عام 1995 إلى نظام الفصلين، ثم عاد إلى النظام السنوي منذ 1996 إلى يومنا هذا[8].

مناهج التوجيهي

أما المناهج، فحتى عام 1959 كان يجري تدريس مناهج الانتداب ذاتها، ثم في 1960 وضعت الأردن مناهج أخرى، مع العلم أن نظام المناهج المنبثق عن نظام التعليم الأردني الصادر في 1955، أُقر فقط عام 1963[9]، وقد أثر الوضع السياسي داخل الأردن وفي محيطها على إرساء الوضع التعليمي. شملت مناهج الفرع الأدبي المباحث الآتية[10]: التربية الدينية، واللغة العربية وآدابها، واللغة الإنجليزية وآدابها، والتاريخ العربي والقضية الفلسطينية، والتاريخ العام، وجغرافية البلاد العربية، والجغرافية العامة، والعلوم العامة والرياضيات العامة، وعلم الاجتماع والفلسفة، والتي حُذف منها لاحقًا: جغرافية البلاد العربية، وعلم الاجتماع والفلسفة. فيما كانت مباحث الفرع العلمي على النحو الآتي: التربية الدينية، واللغة العربية وآدابها، واللغة الإنجليزية وآدابها، والرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، والأحياء، ومادة التخصص العلمي، والاجتماعيات (الوطن العربي)[11]، حيث حذف منها لاحقًا آخر مبحثين.[12]

توجيهي 2

استمر تدريس المناهج الأردنية بعد انفصال الضفة الغربية عن الأردن عام 1988 في ثانويات الضفة الغربية، والمناهج المصرية في ثانويات غزة، حتى إقرار المنهج الفلسطيني الذي تخرج الفوج الأول من دارسيه من الثانوية العامة عام 2007.

منهج التوجيهي الفلسطيني: تغيرات مستمرة

كانت المباحث الرئيسة في المنهج الفلسطيني، والتي تشترك جميع الفروع بدراسة مواد متشابهة لها هي: التربية الإسلامية، واللغة العربية، واللغة الإنجليزية، أضيفت بعض المباحث للفرع الأدبي الذي أطلق عليه "العلوم الإنسانية" إلى جانب التاريخ والجغرافيا: القضايا المعاصرة، وتكنولوجيا المعلومات، والإدارة والاقتصاد، والثقافة العلمية؛ وللفرع العلمي إلى جانب الرياضيات والفيزياء والكيمياء: تكنولوجيا المعلومات، والإدارة والاقتصاد، والعلوم الحياتية (بديل الأحياء)، كما أضيفت فروع مهنية أخرى مثل الفندقي، والاقتصاد المنزلي، أما الفروع: الزراعي، والتجاري، والصناعي، فهي فروع سابقة مرافقة للفرعين: العلمي، والعلوم الإنسانية.

عام 2012 أضيف الفرع الشرعي إلى جانب الفروع السبعة السابقة، أما عام 2015 فألغيت مباحث: الثقافة العلمية للعلوم الإنسانية، والإدارة والاقتصاد من الفرع العلمي، وتكنولوجيا المعلومات من كافة الفروع.

عام2016 [13] أُعلن عما سُمي بنظام "الإنجاز" لصفي الحادي عشر والثاني عشر، حيث استُبدل بمسمى امتحان الثانوية أو التوجيهي اسم امتحانات الإنجاز، حيث جرت الامتحانات تحت هذا المسمى صيف 2017، وقد أعاد النظام تسمية فرع العلوم الإنسانية إلى الفرع الأدبي، وعُدل اسم الفرع التجاري إلى "الريادة والأعمال"، وأعيد مبحث الثقافة العلمية للفرع الأدبي، وصارت امتحانات مبحثي اللغة العربية واللغة الإنجليزية للفرع العلمي تعقد في جلسة واحدة فقط لكل منهما وفقًا لجدول امتحانات الثانوية لعام 2017، كما أعيد إدخال مبحث تكنولوجيا المعلومات لكافة الفروع مع احتساب 50% من علامته من خلال المهارات التطبيقية في مدرسة الطالب، ولأول مرة في ذلك العام تُعلَن النتائج عبر أرقام التسجيل دون إظهار الأسماء والمعدلات في الصُحف، كما أن دورة الاستكمال الأولى، وفقًا لـ "الإنجاز" تعقد في شهر آب/أغسطس والتي تؤهل الراسبين للالتحاق مع دفعتهم في الجامعات، بينما تعقد دورة ثانية للاستكمال في شهر كانون أول/ديسمبر من العام نفسه، ويمنح كل طالب ملفًا اسمه الإنجاز من مدرسته فيه رصيد نقاطه ونشاطاته ويُترك للجامعة آلية تقديره أو احتسابه[14].

عام 2018 أضيف الفرع التكنولوجي لفروع الثانوية العامة، أما عام 2020 أعيد استخدام مسمى الثانوية العامة والتوجيهي بدلًا من الإنجاز، وفي عام 2021 قُلص مبحثا اللغة العربية واللغة الإنجليزية وجرى تقديم امتحان كل منهما في جلسة واحدة فقط لكافة الفروع، وفي 2022 و2023 أعيد امتحان مبحث اللغة العربية إلى جلستين للفرعين الأدبي والشرعي، أما امتحان اللغة الإنجليزية فكان في جلسة واحدة لكافة الفروع ما عدا الفرع الأدبي، وألغي الفرع التكنولوجي، وذلك وفقًا لتتبع جداول امتحانات الثانوية المعلنة عبر موقع وزارة التربية والتعليم.

يمكن ملاحظة حالة من التخبط بين التغيير والعودة عن التغيير، رغم أن كثيرًا من التغييرات شكلية لكنها تعكس حالةً من ضبابية الرؤى، وعدم وجود استراتيجيات سليمة تجمع بين الإحاطة بالظروف والاستجابة لضرورة التغيير، وبين الأصالة والمعاصرة، فالمسألة ليست مسميات، ولا حاجةً لزيادة عدد الناجحين، فمثلًا: تعدد الفروع وإن كان في ظاهره إيجابيًا، فهو مشكلة كلما صار أكثر دقة، ومع العمل مع الطلبة في الجامعات تكتشف أن فرعًا مثل التكنولوجي ضعيفٌ مهنيًا ولا يستقيم مع متطلبات دراسة الطالب فيما بعد تخصصًا مثل علم الحاسوب أو تكنولوجيا المعلومات في الجامعة، والنتيجة إلغاؤه عام 2022 أي بعد 4 سنوات من جعله فرعًا من فروع الثانوية العامة.

عام 2023/2024 مطلع تموز/يوليو أعلنت وزارة التربية والتعليم تعليماتٍ متعلقةً بالثانوية العامة؛ منها مواءمة كافة المباحث لتقدم كل امتحاناتها في جلسة واحدة فقط، وتصبح النهاية الصغرى، أي علامة النجاح، في الرياضيات لكافة الفروع 40% ما عدا الفرعين العلمي والصناعي، وكذلك علامة النجاح للغة الإنجليزية 40% ما عدا الفرع العلمي، أما العلامة القصوى لكافة المباحث فهي 100%[15]؛ وهو ما يعني إلغاء العلامات 200 و240 و160 و300 التي كانت سابقًا لعدد من المباحث.

حالة التخبط والتغيير المستمر: غياب للمنهجية والاستراتيجية

يغدو الحديث عن تخفيض علامة النجاح للمواد هامشيًا في ظل ضعف شامل يُظلّل العملية التعليمية، فمسألة تحديث النهايات الصغرى ليست مشكلةً عظمى إن علمنا أن النهايات الصغرى كانت حتى التسعينيات 40% لأغلبية المواد، فالفارق بين القديم والحديث يكمن في نوعية الطلبة وإرادتهم، وطبيعة الجهد المبذول من المعلم والطالب والمؤسسة التعليمية؛ أي المنظومة كلها.

لنلاحظ مثلًا إلغاء نظام الإنجاز بعد 3 سنوات فقط من العمل به (2017 – 2020)، وقد جرى الإلغاء دون زوبعة تعادل تلك التي انطلقت عند إعلانه، وكأنه لم يكن، في محاولة لإخفاء مواجهة المشكلة وتجاوز أهمية التقييم العلني، وليتنا ندرك أنه ليس من المهم أن تُستورد فكرة، بل المهم فاعليتها ومناسبتها للمكان الذي أتت إليه.

القرارات الجديدة وتخفيض المباحث والتغير المستمر فيها يعيدنا لطرح مسألة الكفاءة في المناهج، والمستوى التعليمي الذي يحصل عليه الطلبة، والقيمة التي يطورها ويعظمها الطالب خلال سنوات دراسته الاثنتي عشرة ليكون مؤهلًا بمستوى طالب جامعي. الفوارق بين الأجيال في ازدياد، والشكاوى في ازدياد، وكل ممارسات الوزارات المتعاقبة لم تخفف من هالة الثانوية العامة ومخاوف الأهالي، وبالعكس فإنها تنصهر مع حالة المبالغة رغم ضعف المستوى والعبء الأكاديمي.

ضمن حالة التخبط وعدم وضوح الرؤية والاستراتيجية لبناء جيل مؤسَّس بطريقة صحيحة، يمكن ملاحظة مرات دمج وزارة التربية والتعليم مع وزارة التعليم العالي منذ 2002 إلى 2019[16]، حيث دُمجتا عام 2002، ثم أعيد الفصل بينهما عام 2012، وأعيد الدمج عام 2013، ثم أعيد فصلهما إلى وزارتين عام 2019، هذا الفصل والدمج مع ما رافقه من تغيرات على طبيعة الثانوية العامة من مناهج، وتقليص للمناهج، وجلسات الامتحانات، والتغيرات على الفروع بالإضافة والحذف، كل ذلك مؤشرات لحالة من التشتت. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل تمتلك السلطة الفلسطينية ميزانياتٍ مفتوحةً لكل هذه التغييرات؟ وإن كانت الإجابة نعم، فلماذا تستمر أزمة الرواتب وكل ما يرتبط بالأزمة المالية؟ ومَن يملك المساءلة ليوقف مهزلة اللعب التي تزيد الضعف القائم في العملية التعليمية ضعفًا؟ وإذا علمنا أن هناك نقصًا في الكوادر التعليمية في ظل اكتظاظ الصفوف؛ فكيف ستعالج المشكلة دون الحاجة لمعلمين إضافيين، مما يعني الحاجة إلى صرف رواتب أخرى أيضًا؟!

في كل المحطات التي سبق عرضها فإن الظروف السياسية والأوضاع المحيطة كانت ذات تأثير مباشر على تطوير البنية التعليمية أو تغييرها، وإن كان غاية المُنى أن يكون لنا مناهجنا الخاصة فإن الأزمات السياسية -إضرابات النقابات والمعلمين-، والأزمات المالية -أزمة الرواتب- التي تعاني منها السلطة الفلسطينية تفقدها حالة الاستقرار مع غياب الجهة التشريعية؛ وبالتالي لا يستقيم مع حالة كهذه الدخول في أي مغامرات؛ بل لعل الخيار الأفضل كان الإبقاء على النظام التعليمي السائد رغم كل مساوئه إلى حين تحقيق حالة استقرار سياسي مهيأ لتغييرات في كافة المجالات اللازمة.

اعتماد شهادة التوجيهي

لم تواجه شهادة المترك، أو شهادة الثانوية العامة أي مشكلات في الاعتماد الدولي للقبول في الجامعات في الدول المختلفة، حتى عام 2021 حيث قررت الحكومة الألمانية إخضاع الطلبة الفلسطينيين من كافة فروع الثانوية باستثناء الفرعين العلمي والأدبي إلى سنة تحضيرية أخرى إضافة إلى سنة اللغة المعتادة -بعد أن كانت شهادة الثانوية للفلسطينيين تقبل دون عوائق-، وهذا يسري على بقية دول أوروبا وفقًا لما تداوله فلسطينيون مقيمون في أوروبا.

هذه المشكلة تحيلنا إلى مشكلة تضخم علامات الثانوية وارتفاع المعدلات فوق 90%، ووفقًا لتحليل[17] أجراه د.خالد ربايعة المحاضر في الجامعة العربية الأمريكية بجنين حول مشكلة التضخم في علامات 2021 فإنه يقدر زيادةً تبلغ 10 علامات على المعدل الحقيقي للطلبة.

وإن أردنا تجاوز الأرقام فقد يلمس الأكاديميون في الجامعات الفلسطينية مستويات الطلبة واستحقاقهم للنجاح في الثانوية العامة، حيث إن التعليم الجامعي مخيّرٌ بين  أن يقوم بدوره في التقويم والتقييم وإعطاء الطلبة ما يستحقونه فعلًا، أو أن ينصهر مع منظومة الفشل ويمارس دورًا فاسدًا في إعطاء مَن لا يستحق ما لا يستحق. هذا الضعف المُرَحَّل من مرحلة إلى مرحلة يبدأ من سنوات الدراسة الأولى، فمظاهر كثيرة تنبئ عن الضعف ليس أولها نتيجة الثانوية العامة، ولا نظام الشهادة.

التوجيهي هل من بديل؟

تستخدم شهادة الثانوية العامة لتقييم الطلبة وقياس مدى كفاءتهم المؤهِلة لهم لدخول تخصصات معينة، فقدرات الطلبة في الجامعة هي امتداد لقدراتهم ومهاراتهم وثقافتهم التي سبق تزويدهم بها أو حصولهم عليها بالرعاية والتوجيه من البيت أو المدرسة أو غير ذلك.

قديمًا، كان نخبةٌ من الطلبة من يتأهلون لشهادة المترك، ويحصل عليها نخبة توجههم المباحث التي اختاروها للدراسة في حقول معينة، أما اليوم في 2023 فإن الثانوية العامة يتقدم لها الجميع حتى المرفّع من صف إلى آخر، مَن يتقن الكتابة والقراءة ومَن لا يتقن المهارتين أو الفاقد لإحداهما، مَن يرغب بالدراسة ومَن لا يرغب، مَن لديه طموح لتخصص ومَن ليس لديه ذلك الطموح، الأمين والغشاش، وهذا يعني ضعف أسلوب التقييم.

بموازنة بسيطة في ظل الوضع السياسي القائم، وترهل المنظومة التعليمية بضعف مخرجاتها، وازدياد البطالة مقارنةً بعدد التخصصات الأكاديمية والجامعات المتاحة داخل فلسطين وخارجها، وازدياد عدد المتسربين من الثانوية العامة إلى سوق العمل لدى الاحتلال، وهي المشكلة الأكثر أهمية من التغيير المستمر لنظام الثانوية العامة؛ فإن الحديث عن بديل لنظام التوجيهي مجرد ترف لا يمتلك المقومات، فنحن بحاجة لإعادة تأهيل منظومة التعليم، وبحاجة لوسيلة تقييم وتأهيل لقبول الطلبة في الجامعات، وبحاجة لرؤية واستراتيجية ناظمة تقود كل ذلك وتحقق اختراقًا يردم الهوة أو يقللها، بحيث تتحمل تبعات ذلك كل الجهات بما فيها الأُسر الفلسطينية.

المبالغة طارئ أم سِمة؟

ذكرتُ فيما سبق أن التغييرات التي طرأت على نظام الثانوية لم تسهم في الواقع في تخفيف حالة التوتر التي تعيشها العائلات التي لديها طالب/ة في الثانوية العامة.

تعيش غالبية عائلات الطلبة في الثانوية حالةً من التأهب تسبق عام الثانوية بالاستعداد المبالغ به من دورات للمناهج قبل العام الدراسي وأثناءه، وتحمّل نفسها تكاليف الأساتذة الخصوصيين، وتبالغ في مسألة الهدوء والغذاء، وتُضبط ساعات العائلة بمواعيد هذا الطالب، حتى لو كانت مبالغة شكلية لمواكبة توتر المجتمع والمحيط.

هذه المبالغة ذاتها تجدها في الاهتمام بالعلامات في مراحل مبكرة، ومن ثم الاحتفال بالتخرج من كل صف دراسي حتى الروضة، ومقارنات الأقران التي لا يخلو منها بيت أو عائلة ممتدة وكأنها منافسة بين الأمهات، لتنسحب حتى في شكل انتظار النتائج، وتعزيل البيوت، وتجهيزات ما قبل النتائج من توزيعات، ومفرقعات، وملابس.

المبالغة الاستهلاكية المنسحبة إلى المبالغة في النتائج؛ في تعظيم النجاح أو تعظيم الفشل، مبالغةً في ردود الفعل، ربما تكون مبالغةً متوهمةً، ولكنها تقود إلى ما نراه من مظاهر "جنونية"، شاهدنا بعضها مع إعلان النتائج لهذا العام في 20 تموز/يوليو.

قديمًا وحديثًا يحتفل الناس بالإنجازات التعليمية، لكن المبالغة سِمة العصر الاستهلاكي الذي نعيش فيه، أما حالة التوتر فيبدو أنها حالة متوارثة بسؤال عدة أجيال، إلا أن شكلها وحجمها تغير كحال كل شيء، وأجد أنه كلما زاد تعليم الوالديْن زاد التوتر والقلق من نتيجة الأبناء -ربما-.

المقلق هنا أنه رغم ضعف الطلبة، وضعف أداء المدارس التعليمي، وتقليص المواد المستمر؛ إلا أن هذا لم يُقلل من درجة التوتر العائلي المصاحب للثانوية، ولم يمنح العائلات الاطمئنان بنجاح أبنائهم؛ وهذا قد يشير إلى ضعف ثقة الآباء بأداء الأبناء، أو ضعف الثقة بالمنظومة التعليمية.

ينسجم مع طبيعة العصر الذي نعيش فيه التقليل من منسوب التوتر، والتعامل مع النجاح والفشل بمرونة أكبر، فالثانوية العامة هي فرصة ومحطة لا تنتهي معها الحياة، لكن، في بنيتنا الثقافية لا يمكننا التصالح أو التسامح مع الفشل؛ بل كثيرًا ما تركنا مَن يفشل وحده دون دعم، والدعم هنا ليس فقط بإتاحة فرصة له بالإعادة، بل بشكر الجهد، والتحفيز، وفتح أبوابٍ أخرى لاستثمار الطاقات المتنوعة.

ربما تستمر هذه الحالة حتى نحصل يومًا ما على استقرار سياسي، وتغيير ثقافي يصحح القيم، وبيئة تعليمية مأمولة تستفيد من كل التجارب السابقة، ولكن حتى ذلك الحين علينا أن نتوقف عن مسيرة التخبط، وعلى وزارة التربية والتعليم أن تفعّل دور الأهالي فيما يعود بالنفع وتخفيف حالة التوتر ويضبط حالة المبالغة.

 

 

 

 



[1] خير الدين أبو الجبين، https://bit.ly/3NUzlTg .

[2] التعليم في عهد الانتداب البريطاني، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية: https://bit.ly/43xzemq .

[3] صادق إبراهيم عودة، 1999، الكلية العربية في القدس 1918-1948، مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 10، العدد 40، https://bit.ly/43zhKpy .

[4] جهاد الشويخ، 2021، التعلم والتعليم في سياق استعماري: إثنوغرافيا تعلم الرياضيات في فلسطين، معهد مواطن للديمقراطية وحقوق الإنسان، جامعة بيرزيت، https://bit.ly/3DjSHMy .

[5] عميش يوسف عميش، 2017، تطوير التعليم الثانوي من المترك للتوجيهي وإلى أين؟، https://bit.ly/44zaFXF .

[6] إبراهيم غوشة، المئذنة الحمراء، ص60.

[7] عميش، مرجع سابق.

[8]  جرى سؤال معارف وأصدقاء حول سنوات تقدمهم للثانوية والنظام الذي خضعوا له، (1989، 1993، 1994، 1995، 1996)

[9] نور ادكيدك، 2011، أوضاع التعليم في القدس إبان الحكم الأردني 1948-1967، رسالة ماجستير، جامعة القدس، https://bit.ly/3Q2UBsy .

[10]  المقتفي، تعليمات امتحان شهادة الدراسة الثانوية العامة رقم (4) لسنة 1964، https://bit.ly/3O2DODk .

[11] مرجع سابق.

[12] شهادة الثانوية من موقع خزائن، https://bit.ly/3rvWKml .

[13]النظام الجديد لامتحان الثانوية العامة 2016، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية، https://bit.ly/3O2OyBG .

[14]  https://bit.ly/3Om6qZC

[15] نظام الثانوية العامة "التوجيهي" الجديد لعام 2023-2024 فلسطين، https://bit.ly/44OQvbO .

[16] نشأة الوزارة، https://bit.ly/3Y1cuKd .

[17]  https://bit.ly/43Bcphw .