من "بوبي ساندز" إلى غزة: التجويع كأداة مقاومة أو عقاب جماعي

من "بوبي ساندز" إلى غزة: التجويع كأداة مقاومة أو عقاب جماعي
تحميل المادة

على سبيل التقديم...

في عمق التجربة الفلسطينية، ظلّ الجوع حاضرًا بصور مختلفة ومتباينة؛ بعضها دافعه الإرادة، والآخر سببه الواقع القسري. وفي الوقت الذي يُعرف فيه الإضراب عن الطعام كأحد أشكال المقاومة السلمية التي يستخدمها الأسرى الفلسطينيون للمطالبة بحقوقهم المشروعة داخل السجون الإسرائيلية، يعيش أهالي قطاع غزة شكلًا آخر من التجويع تفرضه سياسة الاحتلال الإسرائيلي كأداة عقاب منهجية منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. يسعى هذا المقال إلى تقديم مقارنة إنسانية بين هذين الشكلين من الجوع: أحدهما احتجاجي اختياري، والآخر عقابي قسري، من خلال تحليل الأبعاد القانونية والحقوقية والسياسية. والسؤال المركزي يدور حول: كيف يتحول الجوع في مكانٍ ما إلى أداة كرامة، وفي مكانٍ آخر إلى أداة قهر؟ سنحاول الإجابة عن هذا السؤال عبر تسليط الضوء على معاناة أهل غزة من خلال تجربة الأسرى الفلسطينيين والعكس.

أولًا: الإضراب عن الطعام

يُعد الإضراب عن الطعام سلوكًا احتجاجيًا امتد عبر قرون، اتخذ فيه الإنسان من جسده سلاحًا ووسيلة مقاومة ضد الظلم بمختلف أشكاله. فقد استخدمته الديانتان الهندوسية والبوذية كوسيلة للتكفير الروحي وتطهير النفس عبر الصيام، ولم يكن مرتبطًا بمفهوم الإضراب عن الطعام، وسُمّيت هذه الممارسة بالتاباسيا أو التيباس [١].

وفي أيرلندا القديمة كان المظلوم يضرب عن الطعام واقفًا أمام منزل من ظلمه حتى ترد إليه مظلمته، وفي حال موته تتحمل العائلة أو القبيلة المسؤولية القانونية بالكامل. وعُرف بينهم بـ”القانون البريثوني” الذي كان سائدًا عام ١١٦٩ واستمر حتى القرن السابع عشر، وقد استخدمه المناضلون الأيرلنديون خلال وجودهم في سجون بريطانيا للمطالبة بالاعتراف بهم كسجناء سياسيين. ويُعتبر السجين الأيرلندي بوبي ساندز، الذي توفي عام ١٩٨١ بعد ٦٦ يومًا من الإضراب، رمزًا لكل السجناء السياسيين في العالم [٢].

أما في الهند فقد كان المهاتما غاندي أبرز من استخدم وسيلة الإضراب عن الطعام كأداة سلمية لاعنفية، ورسّخ فكرة أن الإضراب عن الطعام أقوى من الرصاص في كسب الرأي العام [٣].

واستخدم المعتقلون السياسيون اليساريون الإضراب عن الطعام مطلع الألفية في تركيا، خلال الصراع الداخلي بين الدولة والحركات اليسارية العمالية وحزب العمال الكردستاني. حينها بدأت السلطات التركية تخطط لنقل السجناء إلى سجون عالية الدرجة الأمنية تهدف لتقسيمهم على غرف صغيرة أشبه بالعزل الانفرادي [٤].

كما كان أبرز إضراب هو الذي خاضه معتقلو غوانتانامو لفترات طويلة بين عامي ٢٠٠٥ و٢٠١٣ احتجاجًا على اعتقالهم بلا محاكمة، وللمطالبة بإنهاء العزل الانفرادي وتحسين ظروف الأكل والمعاملة. تخلله عدة إضرابات فردية مثل إضراب الصحفي السوداني سامي الحاج لأكثر من سنة [٥].

وفي الولايات المتحدة لجأ المهاجرون واللاجئون المحتجزون إلى الإضراب عن الطعام اعتراضًا على ظروف الاحتجاز خلال فترة انتظارهم الترحيل. وقد تمثلت تلك الظروف في الاكتظاظ والإهمال الطبي، إضافة إلى غياب الشفافية القانونية، مما أجبرهم على خوض العديد من الإضرابات، أشهرها خلال جائحة كورونا (٢٠٢٠–٢٠٢١) حيث غابت الإجراءات الوقائية، وغالبًا ما واجهوا سياسة التغذية القسرية [٦].

وفي فلسطين، يُعتبر الإضراب عن الطعام أحد أهم الوسائل التي يلجأ إليها الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال الإسرائيلي. فقد شهدت السجون العديد من الإضرابات على مدار تاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية منذ بداية السبعينيات وحتى اليوم، حيث يُعد استراتيجية نضالية لإدارة الحياة اليومية مع مصلحة السجون الإسرائيلية، وليس مجرد وسيلة احتجاجية. وتُنظم هذه الإضرابات أطر تنظيمية تهدف إلى انتزاع حقوق الأسرى التي نصت عليها المواثيق الدولية. ويُقسم الإضراب عن الطعام لدى الأسرى الفلسطينيين إلى عدة أنواع: جماعي، فردي، تنظيمي وسياسي. وقد يكون مفتوحًا أو محددًا زمنيًا، يقدّر الأسرى أنفسهم وقته وشكله تبعًا لظروف التفاوض مع إدارة السجون.

وبشكل عام، نرى أن الإضراب عن الطعام أداة مشتركة في العالم كلّه، ذات أبعاد سياسية وحقوقية وإنسانية. ويجمع بين من استخدموه عبر التاريخ أنهم اختاروا الجوع سلاحًا صامتًا ذا أثر عظيم.

ثانيًا: التجويع في غزة

استُخدم أسلوب التجويع في كثير من النزاعات والحروب بهدف تحقيق مكاسب سياسية لطرف على حساب آخر. ورغم تجريم القانون الدولي لاستخدامه ضد المدنيين مع مرور الزمن، إلا أنه لا يزال يُمارَس بشكل ممنهج في العديد من بؤر الصراع، مما أضعف القانون الدولي وأدى إلى تجاوزه.

يُعرَّف التجويع بأنه حرمان السكان المدنيين من الغذاء والماء بهدف الضغط أو كعقوبة جماعية، ويشمل: منع دخول المواد الغذائية والدوائية، تدمير مصادرها، فرض الحصار الكامل على المنطقة المستهدفة، وتعطيل شبكات الإغاثة الإنسانية. وقد نص البروتوكول الإضافي لاتفاقية جنيف لعام ١٩٧٧ في المادة ٥٤ على:

١. “يحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب”.

٢. “يحظر مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين، مثل المواد الغذائية والمناطق الزراعية لإنتاجها والمحاصيل والماشية ومرافق وشبكات مياه الشرب وأعمال الري” [٧].

منذ اندلاع حرب السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، دخل قطاع غزة في مجاعة تدريجية حتى وصل إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة. فقد أُغلقت المعابر، ودُمّرت سُبل الإمدادات، وتعرض النظام الصحي والغذائي لانهيار كبير. وتعود الأسباب إلى فرض الاحتلال الإسرائيلي حصارًا كاملًا على القطاع، ومنعه دخول المساعدات، وتدميره للبنية التحتية، وفرضه سياسات العقاب الجماعي. وحتى تاريخ كتابة هذا المقال، أعلنت هيئة الأمم المتحدة رسميًا دخول قطاع غزة في حالة مجاعة بعد أكثر من ٦٥٠ يومًا على الحرب [٨].

ووفقًا لبرنامج الغذاء العالمي (WFP) وحتى أغسطس ٢٠٢٥، فإنّ أكثر من نصف مليون شخص يعيشون في مجاعة كارثية، بينما يواجه آخرون خطر انعدام الأمن الغذائي. ووفقًا لتقييم التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي (IPC ٢٠٢٥)، فقد دخلت المجاعة في غزة المرحلة الخامسة، أي المرحلة الكارثية [٩]. ومنذ هذا الإعلان، قدّرت منظمة الصحة العالمية عدد وفيات المجاعة بـ١٣٣ حالة بينهم ٢٧ طفلًا، بينما قدّرتها وزارة الصحة في غزة بـ٤١١ قتيلًا بينهم ١٤٢ طفلًا منذ بداية أزمة سوء التغذية [١٠].

يمر الجسد في حالة التجويع بثلاث مراحل: تبدأ بتجاوز وجبة الإفطار، ثم الصيام لفترات طويلة حيث يفقد الجسم الدهون المخزنة، وتنتهي بمرحلة الموت بعد استهلاك الجسم للعضلات والعظام. وفي حال كان الضحية طفلًا، فإن التجويع يؤدي إلى هلاك جسده وإعاقة نموه. كما يؤدي نقص البروتين إلى انتفاخ البطن واحتباس السوائل وتضرر الأجهزة الحيوية بشكل متوالٍ حتى يصل إلى الموت [١١].

وقد أكد مايكل فخري، المفوض الخاص للأمم المتحدة لحق الغذاء، أنّ “إسرائيل تستخدم مجاعة غزة كسلاح” [١٢]. أما منظمة العفو الدولية فاتهمت إسرائيل بتنفيذ “سياسة متعمدة” لتجويع الفلسطينيين [١٣]. وصرّح شاي بارنز، مدير الإعلام في منظمة بتسيلم الحقوقية الإسرائيلية، بأنّ “إسرائيل تستخدم التجويع كأداة لتحقيق أغراض سياسية” [١٤]. كما علّق رياض منصور، المندوب الدائم لفلسطين لدى الأمم المتحدة، قائلًا: “إنّ التجويع يُستخدم كسلاح حرب ضد سكان مدنيين برمتهم لا يزالون يتعرضون للقصف دون هوادة” [١٥].

ورغم تنديد العديد من المنظمات الدولية باستمرار التجويع، لم تُتخذ خطوات فعلية لوقفه أو لمحاسبة مسببيه أو لفتح تحقيق جنائي دولي حتى اليوم.

ويعيدنا حصار غزة وتجويعها إلى حصار لينينغراد بين عامي ١٩٤١–١٩٤٤، كأحد أكثر الأمثلة مأساوية في التاريخ الحديث. حينها استخدم الجيش الألماني التجويع سلاحًا ضد الاتحاد السوفيتي لإضعافه ودفع سكان المدينة للاستسلام. فُرض الحصار على قرابة ثلاثة ملايين نسمة، وقُطعت عنهم مصادر الغذاء والوقود والكهرباء، مع تزويدهم بحصص لا تتجاوز ١٢٥ غرامًا من الخبز للفرد يوميًا مطلع عام ١٩٤٣. وقد اضطر السكان إلى أكل الحيوانات وأوراق الشجر وحتى لحوم البشر، ووصل عدد الوفيات إلى نحو مليون نتيجة الجوع والبرد والقصف، في غياب أي إطار قانوني يجرّم التجويع آنذاك. بينما يُحاصر قطاع غزة منذ عام ٢٠٠٧ في ظل إطار قانوني دولي يجرّم التجويع، لكن دون جدوى [١٦].

ثالثًا: الرابط بين الإضراب عن الطعام والتجويع في غزة

رغم الفارق الكبير بين السياقين، إلا أنّ القاسم المشترك بينهما هو الجوع، الذي يُمثل شكلًا من أشكال الصراع الوجودي. ففي حالة الإضراب عن الطعام، يُعتبر الجوع صرخة الإنسان الذي حُرم من كرامته ويعمل من أجل استردادها. أما التجويع في غزة، الذي يُقابل بتجاهل دولي متعمد أو يُبرَّر بأسباب أمنية وسياسية، فيُعد سلاحًا يُستخدم لتحقيق أهداف الاحتلال، من بينها موت وتهجير المدنيين والضغط على فصائل المقاومة لإجبارها على الاستسلام.

خاتمة

ما بين إرادة الأسرى الفلسطينيين في الإضراب عن الطعام، وواقع التجويع المتعمد في قطاع غزة، يقف شاهدٌ يصرخ بالفرق بين خيار النضال وواقع الإبادة. وفي ظل هذا التناقض، لا بد من ترسيخ قاعدة أنّ الغذاء حق إنساني أصيل، وليس امتيازًا يجوز التلاعب به أو مصادرته.

قائمة المصادر

[١] الهدوي، علاء الدين، شعيرة الصوم لدى الديانات المختلفة، ٢٠٢٠، مجلة الرافد الإلكترونية، https://n9.cl/git12

[٢] ساندز، بوبي، كتابات من السجن، الطبعة الأولى، ٢٠١٦، طوى للثقافة والنشر والإعلام، لندن

[٣] العقاد، عباس محمود، روح عظيم المهاتما غاندي، ١٩٤٨، شركة فن الطباعة، القاهرة

[٤] مجزرة في السجون التركية، تقرير منشور، الجزيرة نت، ٢٠٠٠، https://2h.ae/kecQ

[٥] الحاج، سامي، غوانتنامو قصتي، ٢٠١٧، الدار العربية للعلوم، بيروت

[٦] Incarcerated in a Pandemic: How COVID-19 Exacerbated the "Pains of Imprisonment", 2017, An official website of the United States government, https://2u.pw/Ha49p

[٧] الملحق (البروتوكول) الإضافي الأول إلى اتفاقيات جنيف المتعلق بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، منصة قانون، https://2h.ae/roBm

[٨] الأمم المتحدة تعلن رسميًا تفشي المجاعة بغزة، تقرير منشور، الجزيرة نت، ٢٠٢٥، https://2u.pw/ZTfXK

[٩] خطر المجاعة يهدد جميع أنحاء غزة، تقرير منشور، موقع برنامج الأغذية العالمي، ٢٠٢٥، https://2u.pw/YpzTt

[١٠] صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا القصف والجماعة في غزة، تقرير منشور، موقع RT، ٢٠٢٥ https://2u.pw/g9vNu

[١١] ما هي المراحل التي يمر بها الإنسان من بداية الجوع إلى الموت؟، فيديو مرئي منشور، ٢٠٢٥، قناة BBC News، https://2u.pw/76lGSr

[١٢] مقابله مصورة مع مايكل فخري، ٢٠٢٥، قناة الجزيرة، https://2h.ae/SQvj

[١٣] منظمة العفو الدولية، تقرير منشور، ٢٠٢٥، الجزيرة نت، https://2h.ae/zfFNM

[١٤] بتسيلم: إسرائيل تستخدم التجويع بغزة لأغراض سياسية، تقرير منشور، ٢٠٢٥، موقع المسار الإخباري، https://2h.ae/ZHRj

[١٥] مراقبة فلسطين للأمم المتحدة: الأردن ومصر تصدرتا ملف تقديم المساعدات الإنسانية، تقرير منشور، ٢٠٢٥، قناة المملكة، https://2h.ae/BRoG

[١٦] السباعي، أحمد، لينينغراد وغزة .. عندما يستلهم نتنياهو فكرة هتلر، تقرير منشور، ٢٠٢٣، الجزيرة نت، https://n9.cl/4nbeme