مواقع الفعل المقاوم: نصر أو شهادة

مواقع الفعل المقاوم: نصر أو شهادة
تحميل المادة

ربما بدا مستغربًا توقيت الإعلان عن استشهاد قادة الصف الأول في كتائب القسام: قائد هيئة أركان القسام محمد الضيف، ومروان عيسى نائب قائد أركان القسام، وقائد ركن الأسلحة والخدمات القتالية غازي أبو طماعة، وقائد ركن القوى البشرية رائد ثابت، وقائد لواء خان يونس رافع سلامة، والتنويه على لسان "أبو عبيدة" الناطق باسم القسام؛ إلى أنه سبق إعلان استشهاد قائد لواء الشمال أحمد الغندور وقائد لواء المحافظة الوسطى أيمن نوفل في أثناء الحرب على قطاع غزة، فقد جرى ذلك أثناء تنفيذ الصفقة وتبادل الأسرى.

حقيقة المشهدية هو الموت الذي يخلق من أمامه الحياة، والبذل الذي تفنى فيه أجساد لأجل عقيدة، إذ عاش أبو خالد ضيفًا لم تُعرف هيأته، وبالكاد عُرِف صوته، ولنا أن نتخيل حركة جسده المحسوبة، فلا حل ولا ترحال له، بل كان ظلًا خفيفًا متسربًا في ثنايا الأرض ولكنه مع ذلك راكز بين الصفوف. وسبق لكل هؤلاء القادة خوض التجربة الاعتقالية لدى الاحتلال الإسرائيلي، ومنهم من خاض اعتقالًا مركبًا، ليُظن أن الألم بات مركبًا كذلك، ما يحيل إلى تخليق إنسان متعب منهك منهار، بينما ظهر أولئك القادة بمظهر السبّاح الذي يتقن فن الغوص إلى العمق مهما كلف الأمر وغليَ الثمن.

وإن الفعل المقاوم متمثلًا في حالة الطوفان، باعتباره نموذجًا له؛ لهو ترسيخ يسهم في بنائه المقاومون، وهم من ذلك أسسوا لعقيدة المقاومة الدينية والوطنية والاجتماعية التي تجمع بين التأييد الشعبي، باعتبارها استراتيجية مقاومة تحررية، والعمل المسلح. فأبو خالد لا يمثل حالة فردية منفصلة في ذاتها عن الشارع الغزي، وتربية القائد في شوارعها ومخيماتها وجامعاتها ومساجدها، إذ كان رحمه الله ناشطًا في حيه ومجتمعه الصغير، وناشطًا في الجامعة والحركة الطلابية، ورياضيًا يشارك في المنافسات، ومعتقلًا سابقًا، وغيرها من الموقعيات المختلفة. إذ رسم فلسفة واضحة تجاه الشهادة وفقهها، وهو الرجل القائد ابن البلد، الذي تزوج وأنجب وترك أولاده وديعة أهله وعائلته. وهنا في هذا المقال تحليل لمنهجية الفعل المقاومة وفواعلها، في أبعاد لا تنفصل عن العمل الثوري في بنيته الاجتماعية ترسخ استمراريتهما.

خرج أبو خالد والسنوار وقادة الصف الأول من واقع غزة الاجتماعي المقاوم وهدفهم الأول تحقيق الحرية وأن لا فصل بين اشتغالات المقاومة في الواقع الاجتماعي، بل هي تمثلات لها وتحقيق لغاياتها نحو التحرر. وهي ما تؤول إليها نظريات العمل التحرري في محايثتها بين النظرية والواقع. وفي كل معركة نموذج فريد من الثوار الذين تعُرَف بهم المعركة.

ذرية بعضها من بعض

ما يجمع قادة العسكر، والأسرى، هو العمل المقاوم، فالأسرى هم مقاومون تجمد عملهم المقاوم بسبب الاعتقال، الذي أثبت أنه لا يأكل إلا من العمر البيولوجي، أما العقول والقلوب، فلا ينال منها، يخرج الأسير عازمًا على المواصلة في العمل المقاوم، في متتالية وتبادلية في الأدوار ليس أكثر، وليس أكثر دلالة على ذلك من السنوار، سيد الطوفان، الذي تحرر في وفاء الأحرار، وأسس للطوفان؛ إذ ظل وعده دينًا عليه حتى أوفى به.

وفي هذا إحالة إلى الدافع والاستمرارية في تعبير عن إيمان عقائدي بجدوى المقاومة حتى التحرير. وهذا ما يحيل أيضًا إلى سردية تاريخية تمظهرت في معركة الطوفان، وفي ذلك انعطافة مهمة في تطوير الوعي ورفع درجة الاستعداد للمواجهة الشاملة، وهذا ما ظهر في تصدي المقاومة وصمودها في وجه آلة الحرب الإبادية. وهو حدث نستذكر فيه الدور البارز الذي ظهر فيه قادة عظام على طول تاريخ النضال الفلسطيني مثل القادة: عز الدين القسام وعبد القادر الحسيني وفرحان السعدي وأحمد طافش وعبد الرحيم الحاج أحمد وأبو ابراهيم الكبير وعبد الحليم الجولاني وعارف عبد الرزاق.

الغوص هي مسؤولية السبّاح

على عكس ما يمكن أن يجري تداوله في أي صدد، قادة المقاومة دخلوا الطوفان وهم على قاعدتين أساسيتين، يختم بهما المتحدث باسم كتاب القسام حديثه في كل مرة، وهما: النصر أو الشهادة، وهما يتعديان كونهما شعارات رنانة إلى استراتيجية حرب وقتال، ابتدأت بالإعداد التام والشامل لتحقيق النصر، ولا تنتهي بدفع كل ثمن لتحقيق الغايات، وهذا الذي يوضح الانصهار التام بين القادة العسكريين للمقاومة والحاضنة الشعبية، وهذا يعني أن لا يقتصر الالتحام بين الحاضنة الشعبية للمقاومة والمقاومة على صعيد الأفراد فقط، أو الجنود فقط، بل تعدى ذلك إلى القادة، وفي ظل هذا يمكن قراءة خسائر الإبادة الجماعية في غزة باعتبارها جزءًا من كل، تتماهى مع خسائر الجهاز العسكري للمقاومة، على اعتبار أن كل مقاوم وهو ابن وزوج وحفيد وابن أخت وأخت لأحد العائلات الفلسطينية، وهذا يعني أن الثمن يُدفع جماعيًا حتى لو لم يُستأذن في دفعه الكل الفلسطيني، وهذه حالة يمكن فهمها في النموذج الغزي على وجه الخصوص باعتباره يمثل مجتمعات حرب لم تخرج عن كونها منطقة محاصرة ومحتلة تتناوب عليها آلة الاحتلال عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا.

إن العمل الفدائي المسلح في حالتي التنظيم الظاهر للعلن؛ في الشكل والاستعراض والهيكلية والبطولة والاحتفاء، وكذلك في شكله الخفي الذي يؤدي مهمات الاستراتيجية العسكرية ويحقق أهدافها، لهو تواؤم ربما في صنعه طبيعة الحياة الفلسطينية باعتبارها بيئة مستعمرة عليها أن تجابه الاحتلال بكل أدواتها وأساليبها وطرقها رمزيًا وفيزيائيًا (من فوق الأنفاق ومن تحتها).

وفلسطين بحاجة إلى الأبطال الخارقين الذين يعشيون ويسجنون ويتحررون ويقاومون ويموتون فيُروى تاريخ المقاومين، تاريخًا يشبه القصص والحكايات الخيالية منسوجًا بسير الأبطال الثائرين ورجال الهمة العالية وبهم يكتب التاريخ وتحرر الشعوب. بل إن المسيرة الكفاحية المستمرة في سير المقاومة والمقاومين هي التي تدوّن تاريخ انتصار الشعوب على مر التاريخ.

كل ثمن تدفعه في المقاومة إذا لم تأخذه في حياتك سنأخذه لاحقًا، وهذه هي فكرة المقاومة جدوى مستمرة. فلماذا نذهب إلى الحرب؟ ومن هذا يقول باسل الأعرج إن رومانسية الحرب هي ما يجعل الذهاب إليها أمرًا مرغوبًا وجميلًا، ويحيل تعبير رومانسية الحرب إلى بطولة ترفض ما تمليه الشروط الموضوعية من خيارات، وقادرة على توهين هذه الشروط والتمرد عليها، ويحيل إلى الإيمان بالسرديات البطولية سلاحًا في مواجه الاستعمار وسلاحًا قادرًا على ولادة تاريخ تحرري بأيدي المقاومة ما يجعلنا نشهد فعلًا مقاومًا غير اعتيادي في حيثياته فيحال إلى أسطورة المقاومة التي تحرض على استمرار  فعلها. ولذلك نشهد أيضًا توالد المقاومين، أو إعادة تجدد أدوارهم من الإسفلت إلى المعتقل، ومن ثم ولادة ساحة ما بعد المعتقل وقد نضجت عقولها وأدواتها فتتوالد أساليبها والفاعلون فيها وإن اختفلت أماكنهم.

يقول فرانز فانون إن الشعب يستعمل أيضًا بعض الأحداث من حياة الجماعة في سبيل أن يحافظ على شكله وأن يصون طاقته الثورية. من ذلك أن قاطع الطريق الذي يصمد لمطاردات رجال الدرك أيامًا بكاملها أو الذي يقتل في معركة فذة بعد أن يقتل أربعة أو خمسة.... أو الذي ينتحر حتى لا يسلم رفاقه هؤلاء جميعًا، بالنسبة إلى الشعب منارات وقدوات وأبطال.

 المنتمي والمقاتل، وكل الأسرى، يكونون أثناء اعتقالهم قد جمعوا أفكارهم وشحذوا عزائمهم. وحين يضربون عن الطعام ويتضامنون في أعمال عديدة يقومون بها في زنزانة مشتركة في السجون، يتصورون إطلاق سراحهم فرصة تتاح لهم من أجل الشروع في الكفاح المسلح. وهذا جهد فخم يبذله شعب كان قد تحنّط، كي يُعيد اكتشاف عبقريته هو، ويُعيد الاستيلاء على تاريخه الخاص، ويؤكد سيادته.

وكيف يعود الأسير مناضلًا مرة أخرى في انبعاث لا نقول إنه جديد بقدر ما هو أن حالة الأسير الذي يستأنف النضال هو ليس حالة طارئة في ذاتها، بل منبنية في وعيه ونشأته وارتباطه والموقعية التي يتخذها بين أبناء شعبه وفاعليته باعتباره مقاومًا كان ولا يزال.

ونموذج السنوار ينطبق على هذه الحالة؛ فالرجل تنقل في مواقعياته المختلفة، سياسيًا وعسكريًا وأسيرًا، وأسيرًا محررًا، وسياسًا مرة أخرى ومن ثم عسكريًا في موقع المعركة، وحمل مسؤولياته في كل المواقع التي اتخذها، إذ وعد بعد تحرره بحرية الأسرى وفعل وهو شهيد، وهذا يعني أنه يؤدي، فعلًا مضارعًا، مسؤوليته بعد أن فارق الحياة. وينطبق الأمر على مروان عيسى نائب القائد العام لكتائب القسام الذي التحق بالكتائب مبكرًا، واعتُقل خمس سنوات لدى الاحتلال ومن ثم في سجون السلطة، ولم يخرج إلا إبان الانتفاضة الثانية في عام 2000، ولم ينفصل في اشتباكه بعد تحرره حتى قضى شهيدًا في معركة الطوفان. أما أبو خالد الضيف، القائد العام لكتائي القسام، فقد اعتقل 16 عشر شهرًا لدى الاحتلال، وأفلت هاربًا من بين يدي السلطة الفلسطينية، ولم يُعْرَف عنه أَثَر بشخصيته الحقيقية منذ ذلك الحين. وتعرض للعديد من محاولات الاغتيال وهو متخف ولكن أحدًا لم يفلح في إنهاء حياته حتى استشهاده في معركة الطوفان.

من يتسلم الراية

في صيرورة التاريخ تُبنى جدليات التوالد، وهذا التوالد ليس محض صدفة أبدًا، بل هو مخزون عقائدي وماديّ تقذف به الشعوب التي ترزح تحت الاستعمار، فالمستعمَر عليه أن يقاوم المستعمِر في كل حال وبكل أداة وفي كل وقت. وهذا يعني القبض على الحالة الراهنة، وهو تمامًا ما فعله المقاوم الفلسطيني خارج مكاناته المادية والزمنية، مخترقًا إياهما وسابقًا الاحتلال بخطوات. فالاحتلال الذي يمكّن آلته بهدف صهر وعي الفلسطيني، يفشل، كما أثبتت معركة الطوفان وجنودها، إذ مورست أقصى أدوات التعذيب المادي والنفسي على الأسرى، ولكنهم خرجوا يستأنفون مسيرتهم، ليس من حيث انتهوا إليها قبل مرحلة الأسر، وإنما في تطورها في غيابهم عن الساحة النشطة، وليس أدل على ذلك استشهاد 4 من الأسرى الذين خرجوا في صفقة التبادل التي أبرمتها المقاومة في أواخر العام المنصرم 2023 أثناء حرب الطوفان واشتعال الساحة في غزة وشمالي فلسطين.

فمن يتسلم الراية إذن! الإجابة محققة بالفعل ببداهة صيرورة توالد المقاومة الفلسطينية، فلا انقطاع فيها وليس منها انقطاع أيضًا، وحملة الراية كثر.