موسم الفصائل الشتوي.. الفلسطيني وغربته التي صنعته
"أنا الحارث بن مضاض، عشت أربعمائة عام، وجُلت في الأرض مائة عام مغتربًا بعد هلاك قومي جرهم"[1].
تقول الأسطورة العربية، إنّ الحارث بن مضاض حكم مكة، وقاتل بني إسرائيل بمئتي ألف مقاتل من جرهم والعمالقة فهزمهم. ثم إنّ جرهم هلكت بالوباء في مدّته، فخرج هاربًا يجول في الأرض، فجال فيها ثلاثمائة عام، وتطول الأسطورة في ذكر مآله، حتى زعمت أنه اجتمع بإياد بن نزار، فأوصاه باتباع رسول الله محمد، صلّى الله عليه وسلم، إن ظهر، وأعطاه مالاً كثيرًا كان قد خبّأه في دار مدفونة تحت الأرض، ودلّه على مقام إبراهيم، ثمّ مات على سرير كُتِب فوقه تلك العبارة أعلاه، وأكل تنينٌ في تلك الدار بقية المال المدفون. وتنسب الأسطورة له شعرًا، منه:
أموت فقيدًا والعيون كثيرة *** ولكنها جهلًا عليّ جوامد
ولكن ستبكيني الغمام بدمعها *** وتشجى على قبري البروق الرواعد
تمادت بي الأيام حتى تركنني *** كمثل حسام أفردته القلائد
يهنّا بيَ الأعداء يرزا بي الندى *** ويَأمن كيدي الكاشحون الأباعد
تستبطن الأسطورة، الروح الرسالية المعبّأ بها الإنسان العربي، فالرجل الذي هزم الغزو الإسرائيلي لمكة، واستنقذ تابوت موسى، بعدما دفنته جرهم والعمالقة في مزبلة، ودفعه للهميسع بن نبت بن قيدار بن إسماعيل عليه السلام، ظلّ على غربته الطويلة، مهمومًا، بتلك الرسالة، فبشّر بالنبيّ محمد، صلّى الله عليه وسلم، وكشف مقام إبراهيم، وأغنى رجلاً من أهل مكة، ممن سكنوها، بعد أن بادت جرهم بقرون، لكنّه يفعل ذلك، وهو غريب، يجول في البلاد، ينادي على رجل يحمله إلى مكّة، حتى حمله إياد!
بعد قرون متطاولة على حكاية الأسطورة، يحتل "الإسرائيليون" فلسطين، لكنّ سكان فلسطين لا يهلكون، ولا يغترب منهم رجل واحد من دون قومه، وإنّما يغتربون كلّهم، في اللجوء والشتات، ينادون على من يحملهم إلى فلسطين، فلمّا لم يجدوا، حملوا أنفسهم، ثورةً خلف ثورة في بلاد اللجوء، وانتفاضةً خلف أخرى في فلسطين نفسها، فإنّ من ظلّ فيها، عاش غربته الخاصّة بدوره، لطول الزمن على انتصار الإسرائيلي، وتلك غربة، قد تفضي إلى اغتراب عن الذات، لمعاينة الفلسطيني؛ اختلاف أحوال الرجال الذين كانوا يجتمعون في صورة الحارث بن مضاض، بحثًا عن انتصار على الإسرائيلي، وحملاً لرسالة عابرة في الأجيال. بيد أن مجموع الرجال، كان يأتي عليه الزمن بانفراط الرسالة، مع بقاء هيكل الاجتماع، لينشأ هيكل آخر يحمل الرسالة، فإن تقاصرت الهياكل، خرج في الفلسطينيين ألف حارث بن مضاض، كلّ منهم يبحث عن السبيل لتلك الرسالة.
يحتل "الإسرائيليون" فلسطين، لكنّ سكان فلسطين لا يهلكون، ولا يغترب منهم رجل واحد من دون قومه، وإنّما يغتربون كلّهم، في اللجوء والشتات، ينادون على من يحملهم إلى فلسطين، فلمّا لم يجدوا، حملوا أنفسهم، ثورةً خلف ثورة في بلاد اللجوء، وانتفاضةً خلف أخرى في فلسطين نفسها
غربتنا.. أم غربتي؟
بعدما اغترب الشعب الفلسطيني في البلاد العربية، افترقت نظرة الفلسطينيين إلى غربتهم، بين من رأى فيها، غربةً عربيّةً عامّةً، تمثّل فلسطين الدالَّ الأوضح عليها، فلا يمكن استنقاذ الفلسطيني إلا باسترداد العربي إلى ذاته، سعيًا إلى فلسطين، أو بحثًا عن إياد العربي الذي يحمل الحارث الفلسطيني إلى فلسطين، وإياد، والحالة هذه، يحمل نفسه. وبين من تركّز إحساسه بغربة الفلسطيني بين العربيّ، الفلسطيني الغريب في البلاد العربية التي صارت دولًا منفصلةً، بمصالح مختلفة، ترى في الفلسطيني غريبًا، وهو بدوره استغرقته الغربة في مخيمات اللجوء، فكانت أولويته، المنبثقة عن هذا الإحساس المركّز، إيجاد دولة شبيهة لدول أخيه العربيّ، تنحلّ فيها عقدة غربته!
هكذا افترق العمل لفلسطين منذ بدايات هياكل الاجتماع الأولى، لإنقاذ العرب في الطريق إلى فلسطين، أو لإنقاذ فلسطين في الطريق إلى العرب إن أمكن.
لم يكن الفلسطيني الباحث عن العربي، لإنقاذ العرب بفلسطين، منفكًّا عن الإحساس العميق بالغربة عن السياسة العربية، يقول جورج حبش، عن سعيهم في العمل، بعد نكبة الفلسطينيين وغربتهم، لمّا كانوا طلابًا في الجامعة الأمريكية ببيروت، في مطلع خمسينيات القرن الماضي: "كان هناك العشرات من الأحزاب السياسية في العالم العربي، فقد كان هناك حزب البعث، كما كانت هناك الأحزاب الشيوعية العربية، أمّا الشيء الذي حرّكنا فقد كان تحرير فلسطين، لقد أردنا القول: إنّ ذلك لم يكن ممكنًا من خلال الأحزاب العربية الموجودة"[2].
افترقت نظرة الفلسطينيين إلى غربتهم، بين من رأى فيها، غربةً عربيّةً عامّةً، تمثّل فلسطين الدالَّ الأوضح عليها، فلا يمكن استنقاذ الفلسطيني إلا باسترداد العربي إلى ذاته. وبين من تركّز إحساسه بالفلسطيني الغريب في البلاد العربية التي صارت دولًا منفصلةً، ترى في الفلسطيني غريبًا، وهو بدوره استغرقته الغربة في مخيمات اللجوء، فصارت أولويته إيجاد دولة شبيهة لدول أخيه العربيّ، تنحلّ فيها عقدة غربته!
تأسست في الجامعة الأمريكية ببيروت، مجموعة طلابية سمّت نفسها "العروة الوثقى"، وأصدرت مجلةً بالاسم نفسه، وهو أمر، وإن كان يذكّر بمجلة "العروة الوثقى" التي أصدرها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، فإنّه في حقيقته، كان تَجلِيةً لأفكار قسطنطين زريق، الذي أصدر بعد نكبة العام 1948 كتابه "معنى النكبة"، ثمّ عاد وأصدر بعد نكبة العام 1967 كتابه "معنى النكبة مجدّدًا". لقد كانت النكبة بالنسبة لقسطنطين زريق، من مستويين، عربي عام؛ يتمثل في الهزيمة العربية الشاملة، عسكريًّا وسياسيًّا أمام "إسرائيل"، وفلسطيني خاصّ يتمثّل في تهجير الفلسطينيين، ومن ثمّ لم تكن المأساة الفلسطينية إلا تعبيرًا عن الهزيمة العربيّة الشاملة، ليبدأ الحلّ، بالنسبة لزيرق، بالكفاح الداخلي في البلاد العربيّة ضدّ الرجعية، بما يحاكي النموذج الغربي الأوروبي في ضرورة لا بدّ منها للتحديث، وصولاً إلى الحشد الشامل، وهو ما يتطلب نخبةً تقدميةً، تتكتل في تنظيم قويّ، يقود الثورة في البلاد العربية، في الطريق إلى وحدتها، ثمّ إلى فلسطين.
الطريق إلى الجبهات
تحوّلت هذه التجربة إلى "حركة القوميين العرب"، انتقالاً من تنظيم سرّيّ، سمّى نفسه "كتائب الفداء العربي"، والذي نفّذ سلسلة عمليات ضد دبلوماسيين غربيين في دمشق وبيروت، طالت كذلك الجالية اليهودية، وشخصياتٍ عربيةً كانت من ضمن من اتهم بالمسؤولية عن الهزيمة.
الحركة التي امتدت في عدد من الفروع في البلاد العربية، في لبنان والأردن والكويت وسوريا ومصر والعراق، أصدرت مجلةً سمتها "الثأر"، وتخفّت في الإعلان عن نفسها، خلف اسم: "هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل"، تبنت المجلة كشف المشاريع المبكرة للصلح مع العدوّ، وفي حين اهتمت بالقضايا العربية، كالقضية الجزائرية في حينه، فإنّها ثبّتت عناوين لافتةً فيها، من قبيل: "عدوّنا التاريخي اليهود" يتخذ موقفًا من اليهود حيثما همّ، ويدعم الحراكات المناهضة لهم في العالم، وهو الأمر الذي يشير إلى تعريف الخطاب العربي، والفلسطيني منه، في حينه للعدوّ، ويشير إلى اللغة السياسية العربية السائدة إزاءه، والتي لم تكن تقتصر على تسمية العدوّ بالصهيوني، أو الإسرائيلي. كما كان من العناوين الثابتة فيها، "معاركنا القومية"، والذي يؤرخ للفتوحات الإسلامية، بوصفها معارك عربيةً قوميةً. و"مع النازحين" الذي يوجه خطابه "للعربي النازح". وفي "رحاب الوطن" الذي يقصد الوطن العربي بعمومه. وهكذا كانت فلسطين جزءًا من قضية قومية أكبر، لتلتحق حركة القوميين العرب لاحقًا بالخطّ الناصري، بعدما كانت قد أخذت منه موقفًا معارضًا قبل ذلك، ثم ليكون هذا الخطّ بدايات التوجه الاشتراكي للحركة، معلنًا عن نفسه في مجلة "الحرية" لسان الحركة الجديد، وليتحوّل شعار الحركة من "وحدة، حرية، ثأر"، إلى "وحدة، حرية، اشتراكية، استرداد فلسطين"، وقد أفضى هذا التحوّل الأيديولوجي في النتيجة إلى تشظّي الحركة، ثم ظهور الفرع الفلسطيني، ثم انقسامه وفق دعاوى أيديولوجية ماركسية!
بدأ الفرع الفلسطيني باسم "منظمة شباب الثأر"، ثمّ تاليًا وبعد تشظى حركة القوميين العرب، استقلّ باسم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، في تحالف من ثلاثة تنظيمات: "شباب الثأر"، و"أبطال العودة"، و"جبهة تحرير فلسطين"، وقد انفصلت الأخيرة لاحقًا باسم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامّة"[3]. أعلنت الجبهة الشعبية عن نفسها، في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، ومرّت في مراحل متعددة، من حيث علاقتها ببقية قوى الثورة، ومنظمة التحرير الفلسطينية، والسجال الأيدويولجي حول الماركسية اللينينة، وقيادة العمليات الخارجية، وخطف الطائرات، التي اشتهرت بها، والانتقال مع قوى الثورة في مراحلها كلها، من الأردن إلى لبنان، ثم الانخراط في نضالات الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة.
بعد حراك عربي– فلسطيني، كان عنوانه "حركة القوميون العرب"، أعلنت الجبهة الشعبية عن نفسها، في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، ومرّت في مراحل متعددة، من حيث علاقتها ببقية قوى الثورة، ومنظمة التحرير الفلسطينية، والسجال الأيديولوجي حول الماركسية اللينينة، ثم انشقت عنها "الجبهة الديمقراطية" بدعاوى أيديولوجية، إثر صدام مسلح محدود .. ومن ذلك كله لم يبقَ سوى أثر الثورة.. عمليات، وشهداء، وأسرى
في شباط/ فبراير 1969، انشقت، "الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين"، ثم تاليًا تسمّت "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" عن الجبهة الشعبية، بدعاوى أيديولوجية. يقول جورج حبش في بدايات الصراع الداخلي حول التوجه الأيديولوجي معقبًا على أطروحة نايف حواتمة وفريقه: "إنهم إجمالاً يقولون كلامًا صحيحًا، ولكن: هل آن أوان قول مثل هذا الكلام؟! ثمّ هل يعبّر كلامهم عن الواقع تعبيرًا أمينًا ودقيقًا؟! النتيجة العملية الوحيدة لهذا الطرح المبكر والفجّ للأمور هي أن تسقط حركتنا في حصار تامّ يعزلها عن الجماهير والمقاومة في آن معًا"[4]، يردّ حواتمة: "أن تكون فلسطينيًّا يساريًّا هذا يعني ألا تتوقف قيد لحظة أمام قرار مجلس الأمن، أو مشاريع التسوية الاستسلامية التي تسمى بالسلمية.. إذا كنّا نريد تفجير ثورة كفيلة بتحرير فلسطين، وبالتالي الوطن العربي كلّه، فلا بدّ أن نتوقع أن نحاصر، وربما نقتل، لكن هذا يهون أمم المطلوب إنجازه.. علينا أن نبني حزبنا الثوري، حزبنا الماركسي/ اللينيني... إذا كنا نتكلم نفس لغة فتح، ونرفع ذات الشعارات، فما هو مبرر وجودنا؟ ولماذا لا ننضم إليها؟!"[5]
انشق حواتمة، بعد صدام مسلح، حدثت فيه اعتقالات، سقط فيه قتيل وبعض الجرحى، وصار التنظيم الجديد "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين"، يوصف في أوساط يسار فتح، بأنه دورية استطلاع لليمين الفلسطيني[6] (قيادة فتح)، في حين تبنت الشعبية الماركسية اللينينية، ولم يبق من ذلك كلّه، سوى أثر الثورة.. عمليات، وشهداء، وأسرى.. امتدت منذ اللحظات الأولى عبورًا بغسان كنفاني ومرورًا باستشهاد أبو علي مصطفى وليس انتهاء باغتيال رحبعام زئيفي.
فتح .. القُطرية جوابًا للغربة
لم تكن فتح بعيدة عن ذلك السجال، فقد كانت توصف بيمين الثورة. وقبل أن يهيمن اليسار على حركة فتح، بعد أحداث أيلول/ سبتمبر 1970، في تجليات متعددة: يسار ماوي، أو فيتنامي، أو سوفييتي، فقد كانت فتح تعقّب على سجالات اليسار المنبثق عن حركة القوميين العرب، بأنها سرقة انتهازية من متمركسين لحركة القوميين العرب، وأنّ ما تحتاجه القضية الفلسطينية هو حشد طاقات طبقات الشعب لا تفجير الصراع بينها.[7]
يردّ ياسر عرفات في حينه، على مزايدة اليسار، بالقول، إنّ فتح أكثر الناس يساريةً في العالم كلّه، إذا كان الأمر متعلقًا بالحلّ السلمي، فالاتحاد السوفييتي زعيم اليسار في العالم يقول به، وفتح ترفضه، وترفض كلّ المشاريع المتصلة به، بينما الأحزاب الشيوعية العربية حملت ذات يوم لواء الصلح مع "إسرائيل"[8].
لم يكن السجال بين اليساريين القادمين من حركة القوميين العرب، وقيادة فتح، في تلك الفترة المبكّرة من عمر الثورة الفلسطينية (1969)، يدور حول تبني مفاهيم ماركسية للثورة الفلسطينية فحسب، وإنما في العلاقة بين القطري والقومي في الثورة الفلسطينية، فقد ظلّ اليسار القادم من القوميين العرب، حاملاً شيئًا من قوميته، في صورة الدعوة لثورة تقدمية في العالم العربي كلّه، بينما فتح، في أصل نشأتها، رأت في الفلسطيني غريبًا بين العرب، وعكست الشعار القومي الذي نادى بالوحدة طريقًا لتحرير فلسطين إلى "فلسطين طريق الوحدة"، وسعت لتجاوز انتظار الحرب النظامية العربية الخاطفة، وإلى توريط العرب في حرب تجرّهم إليها المقاومة الفلسطينية.
كانت تقرّ قيادة فتح بأنّها قُطرية، وفيما يبدو مجاراةً للخطاب اليساري المزاود عليها، قالت إن الثورة العربية الكبرى لن تتحصّل إلا من النضالات القطرية، وأنه كان عليها أن تعيد للشعب الفلسطيني المشتت والممزق إحساسه بفلسطينيته، وأن النضال تحت راية الأحزاب القومية والأممية كأحزاب البعث، والقوميين العرب، والإخوان المسلمين، والشيوعيين، زاد الفلسطينيين بعدًا عن فلسطين[9].
فتح، في أصل نشأتها، رأت في الفلسطيني غريبًا بين العرب، وعكست الشعار القومي الذي نادى بالوحدة طريقًا لتحرير فلسطين إلى "فلسطين طريق الوحدة"، فكرّست نفسها حركةً قُطريةً تطمح إلى إطلاق مقاومة فلسطينية، غير انتظارية
لقد كانت فتح وسط هذا السجال، فتح الخارجة قويةً، متصدرةً للثورة، من بعد معركة الكرامة، تكرّس موقفها، حركةً فلسطينيةً قُطريةً.
كانت فتح قد أخذت تبلور نفسها، في مجلة سمّتها "فلسطيننا- نداء الحياة"، أصدرت عددها الأول في تشرين الأول/ أكتوبر 1959، أظهرت فيه، في أوّل كلمة لها، إحساس الفلسطيني بالغربة، في الوسط العربي، بقولها: "إنّ إصدار هذه المجلة ليس بالشيء السهل اليسير، وخاصة نحن كشعب فلسطين نُحارَب في كل مكان نوجد فيه. لا صوت لنا ولا كيان"[10]. لا تكشف المجلة، والحالة هذه، عن غربة الفلسطيني في الوسط العربي، لمجرد ما يعانيه الفلسطيني من "محاربة" في ذلك الوسط فحسب، ولكن الفلسطيني، وجد نفسه فجأةً، بلا صوت ولا كيان. وهذا التصوّر كاف، لإظهار البعد القُطري في أصل منشأ الحركة، ووعيها المبكر، واختلافها بذلك عن حركة القوميين العرب، وفي حين أنّ فلسطين تسيّدت صفحات المجلة، دون أن تنفك عن النظر إلى "الأمّة"، فإنّها ومنذ البداية، كانت تشير إلى ملامح رؤية ذلك الجيل المؤسس الساعي لإطلاق مقاومة فلسطينية، غير انتظارية، فضمت في عددها الأوّل قصة لاجئ متسلل إلى قريته داخل الأرض المحتلة، ينتظر ساعة الثأر وقيامه بواجبه. وقد ظلت المجلة فلسطينيةً خالصةً على هذا النحو، المختلف عن خطاب حركة القوميين العرب في حينه.
كانت البدايات، من رابطة الطلاب الفلسطينيين في القاهرة، التي ظلّ ياسر عرفات، رئيسًا لها منذ العام 1952 وحتى العام 1956، ثم من التجارب الذاتية، لبعض الشخصيات التي ساهمت في تأسيس حركة "فتح" لاحقًا، كخليل الوزير (أبو جهاد)، الذي نفّذ عددًا من العمليات، في الخمسينيات، فترة انتمائه للإخوان المسلمين[11]، وسليم الزعنون (أبو الأديب)، من خلال تجربة "المقاومة الشعبية" التي اتنتظمت في قطاع غزّة، من أفراد انحدروا من الإخوان المسلمين، وجمعية التوحيد، والبعث، وقوميين آخرين، ومستقلين، واستمرت من تشرين أول/ أكتوبر 1957 إلى 14 آذار/ مارس من العام نفسه[12]، وبالتوازي، كان الطلاب الفلسطينيون في القاهرة، ينظّمون مظاهراتهم، دعمًا لإخوانهم في غزّة، واحتجاجًا على بعض السياسات المصرية في حينه، ويدخلون المال والسلاح والمناشير إلى غزة[13].
تبلورت هذه التجارب، في ورقة أعدها خليل الوزير، وعرضها على قيادة الإخوان المسلمين في قطاع غزّة، لتأسيس تنظيم فلسطيني يتجاوز الحواجز الأيدويولجية، ويتجنب الصدام الإخواني الناصري، ويكفّ عن الفكرة السكونية المنتظرة خلاصًا قادمًا من الخارج، وهو المقترح الذي رفضته قيادة الجماعة الإخوانية في غزّة في حينه، الأمر الذي استدعى نزيفًا مستمرًّا من كادرها لصالح فتح الوليدة، بما طبع العلاقة بينهما في نمط من التوترّ الدائم[14]، في حين كانت بقية الفروع الإخوانية تنظر إلى حركة فتح، بوصفها منها أو قريبة منها، وهو ما سهل لفتح استقطاب الدعم الإخواني، من بعض إخوان الخليج، وكذلك إصدار مجلة "فلسطيننا" على امتياز الإسلامي توفيق حوري، والتعاون مع بعض كوادر الإخوان المسلمين السوريين، وقد تجلّت الرؤية الإخوانية المتباينة حول حركة فتح، في تجربة "معسكرات الشيوخ"، التي تحمست لها الأقطار الإخوانية باستثناء الفرع الغزي.
هذه العلاقة المتداخلة بين الإخوان الفلسطينيين، وحركة فتح، ستأخذ منحى صداميًّا لاحقًا، للتنافسية التي وسمت العلاقة بينهما، لاسيما منذ منتصف السبعينيات فصاعدًا، بعدما أخذ التيار الإسلامي في فلسطين، يتلمس طريقه النضالي، في خطوات متناثرة، انتهت أخيرًا إلى حركتي حماس والجهاد الإسلامي، في حين بدأ الخطاب اليساري بالهيمنة على حركة فتح منذ أحداث أيلول/ سبتمبر في الأردن، وإذا كان التيار اليساري، في فتح، قد انحسر لاحقًا، بعد اجتياح العام 1982 للبنان، والانشقاق الكبير في فتح عام 1983، وخروج الثورة الفلسطينية من لبنان، وصعود التيار الإسلامي منذ النصف الثاني من السبعينيات، قافزًا، إلى الأمام، مع الغزو السوفييتي لأفغانستان والثورة الإيرانية، فإن هاجس التثميل، كان باستمرار، يدفع فتح، لتقديم أولوية صدام أخرى، مع غير العدوّ، وهو ما حكم علاقتها، تاليًا مع منافسها الأبرز حركة حماس.
حماس .. صحوة إسلاميي فلسطين
انتهت في حماس، جهود متعددة، انتشرت في رقعة الوجود الفلسطيني في الداخل والخارج، بعودة عدد من الدارسين في البلاد المجاورة إلى الضفة الغربية وقطاع غزّة، وتأسيس كتل إسلامية طلابية في الجامعات الوطنية حديثة النشأة[15]، وإنشاء المؤسسات في قطاع غزّة، كالمجمع الإسلامي والجامعة الإسلامية والجمعية الإسلامية، والروابط والأندية والاتحادات الطلابية الفلسطينية الإسلامية في الخليج، وأوروبا، والولايات المتحدة، وتأسيس جهاز خاص بفلسطين، داخل تنظيم "بلاد الشام" الذي كان قد صار التنظيم الموحد لإخوان فلسطين والأردن[16]، وبعد تجارب عسكرية، كتجربة الشيخ أحمد ياسين التي انتهت بالاعتقال عام 1984، وقبل ذلك، تشكّل "الجماعة الإسلامية" في سجون الاحتلال[17]، وقد ضمّت الإسلاميين أصالةً، أو القادمين إليهم من الفصائل الوطنية الأخرى، وبمختلف الأفكار الإسلامية المتباينة، وطوال هذه الطريق، لم تخل تلك المحطات، من صدامات مع حركة فتح، أو فصائل منظمة التحرير، كانت تصلّ حد الاعتداء البدني، وباتت الجامعات ميدانًا لهذه الصدامات الساعية لعزل المنافس الجديد[18]، بدعاوى سياسية أو أيدويولجية، وكذلك كان الحال في السجون، التي ظلّ فيها المعتقلون الإسلاميون يعانون القمع والإقصاء، حتى إلى ما بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى. وفي الأثناء، كانت التشكيلات الأولى للإخوان، في مطالع الثمانينيات، تحاول أن تواجه الأسئلة الكبرى المطروحة فلسطينيًّا وعلى الحركة الإسلامية، بما يعني أن ذلك الصعود، لاسيّما في الجامعات بدأ مسيّسًّا في قلب الحركة الدعوية، وكان من تلك الأسئلة، دور الحركة الإسلامية نحو القضية الفلسطينية، والوحدة الوطنية، والموقف من مقترحات الحلّ السلمي، ويمكن القول، إنّ خطاب الحركة الطلابية للإخوان من خلال الكتل الإسلامية بدا أكثر تسييسًا[19] من ميثاق حركة حماس الذي كُتب في ظروف خاصة، وقد ظلّ همّ الإجابة على موقع الحركة الإسلامية في المواجهة المباشرة مع العدوّ، والتخلّص مما يفضي إليه هذا الهمّ من اغتراب، يلاحق التشكيلات الأولى للإخوان الفلسطينيين، بعد النصف الثاني من السبعينيات، في كلّ مكان، وواجهة تعريفهم بأنفسهم للعالم[20]، حتى إلى ما بعد تأسيس حماس.
لم يكن ليتصور أن تتولّد حركة حماس، بوصفها المعبّر عن صيغة الاشتباك النضالي ضد العدوّ للجماعة الإخوانية الفلسطينية، بالقوّة التي حضرت فيها الحركة منفردةً، خارج إطار القيادة الوطنيّة الموحدة الممثلة لفصائل منظمة التحرير، وتمكنت بهذه القوة من فرض فعالياتها في الانتفاضة بما يوازي فصائل المنظمة، وكأنّها، أي حماس، جاءت إلى موقع الاشتباك فجأةً، أو منبتّةً عن تاريخ دافع، أو منقطعةً عن تجمّعات داعمة، ولكنّها كانت حصيلة ذلك التاريخ، وابنة تلك التجارب، ونتيجة اتفاقات سابقة بين عديد التجمعات الإخوانية الفلسطينية، على الانخلاع من الاغتراب الداخلي، إلى الانخراط الداخلي، في الفعل النضالي الوطني، فلمّا كانت شرارة الانتفاضة الأولى من غزّة، استثمرت الجماعة في غزّة الحدث، للإعلان عن بنيتها الجديدة، وفق ترتيبات سابقة بين قيادات الجماعة في كلّ من غزّة والضفّة، تحدّث عنها أحد مؤسسي الحركة في الضفة الغربية عدنان مسودة[21].
يمكن القول إن تأسيس حركة حماس، بوصفها الصيغة المقاومة للجماعة الإخوانية في فلسطين، كان حتمية جملة عوامل، منها صعود الإحيائية الإسلامية في سبعينيات القرن الماضي في المنطقة العربية برمّتها، والثورة الإيرانية، وتجربة الجهاد الأفغاني. بيد أن الغربة الداخلية، ساهمت في استعادة الإرث الجهادي للجماعة، وإعادة صياغة موقفها، من دورها الفلسطيني، بما يعيد صياغة العلاقة بين القُطري والقومي، أو بين القُطري والأممي، وهو سؤال استغرق الحركة الوطنية الفلسطينية طويلاً، منذ بواكير القضية الفلسطينية مع الانتداب البريطاني، وتاليًا بعد النكبة، في حركة القوميين العرب، وفي سجال فتح مع تجليات النظام القومي في العالم العربي، وفي أطروحات اليسار الفلسطيني المنبثق عن القوميين العرب حول العلاقة المتداخلة بين الثورة الفلسطينية والثورة العربية، وهو سجال لم يكفّ عن إعادة تقديم نفسه حتى هذه اللحظة، مع ظهور خطابات الأولويات الوطنية، وموجات التطبيع مع الاحتلال والتخلّي عن الفلسطينيين، وأسئلة الثورات العربية وأولوياتها الداخلية التي قد تشفّ عن تناقضات ظاهرية مع القضية الفلسطينية.
يمكن القول إن تأسيس حركة حماس، بوصفها الصيغة المقاومة للجماعة الإخوانية في فلسطين، كان حتمية جملة عوامل، منها صعود الإحيائية الإسلامية، والثورة الإيرانية، وتجربة الجهاد الأفغاني. بيد أن الغربة الداخلية، ساهمت في استعادة الإرث الجهادي للجماعة، وإعادة صياغة موقفها، من دورها الفلسطيني، بما يعيد صياغة العلاقة بين القُطري والقومي
إنّ سؤال المواجهة، فرض نفسه على مجمل التشكيلات الإخوانية باتجاه تأسيس حماس، والتي رأت في نفسها، كما تبدّا في سلوكها، قوّةً قادرةً على المنافسة الداخلية على موقع التمثيل، بيد أنّ ذلك كان محمولاً، على الإحساس العميق، بالمسؤولية التاريخية، لقطع الطريق على مسار التسوية، الذي ظلّ يحفر طريقه، منذ نهاية حرب تشرين/ أكتوبر 1973، مرورًا بأطروحة النقاط العشر (الحلّ المرحلي) 1974، ووثيقة إعلان الاستقلال في الجزائر 1988، والتي كانت اعترافًا ضمنيًّا بالاحتلال، أو استعدادًا معلنًا للتسوية معه على أساس الاعتراف به.
لم يكن مستغربًا، والحالة هذه، أن تكون حماس، الدافع الأكبر لثمن تأسيس السلطة الفلسطينية، سريعًا، كما في مجزرة مسجد فلسطين في تشرين الثاني/ نوفمبر 1994، وتبقى كذلك إلى حين انتفاضة الأقصى، التي كانت فيها، الفاعل الأكبر، والصابّ لصفّها الأوّل وكادرها الأساس في أتونها، ليعود فرعها في الضفة إلى دفع ثمن السلطة مجددًا، بعد فوز الحركة بانتخابات العام 2006، ثم حصول ما يسمى بـ "الانقسام الفلسطيني"، ليبقى هذا الفرع في غربته إلى اللحظة، بينما تمكّن فرعها الغزّي من تطوير تجربة مقاومة فريدة مبنية على إرث كتائب القسام، ذراع الحركة العسكري، وعلى حصيلة انتفاضة الأقصى التي انتهت في غزّة على غير ما انتهت إليه في الضفة، ليصبح قطاع غزّة قاعدةً لفصائل المقاومة كلّها، وليخوض سلسلة حروب في ظروف، وصفُها بالاستحالة؛ ليس من المبالغة في شيء، ولتتمكن أثناء تلك الحروب من أسر الجنود، أو قيادة صفقات تبادل أسرى من داخل الأرض المحتلة لأوّل مرّة في تاريخ الصراع.
الجهاد .. في فتح الباب النضالي لإسلاميي فلسطين
لا يمكن الحديث في العوامل الدافعة نحو حماس، دون ملاحظة، عامل ذي نمط داخليّ، مثّله الدكتور فتحي الشقاقي، الذي أخذ يبلور نقده لجماعته الإخوانية، وهو طالب للطب في جامعة الزقاقيق في مصر، في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، على أساس إرجائها قضية المواجهة مع الاحتلال، ولخطّها السياسيّ المحافظ في المجال العربي، كان الشقاقي قد تأثّر أكثر من غيره بالثورة الإيرانية[22]، وأخذ ينشر أفكاره، في مطبوعات متعددة داخل فلسطين مثل "الطليعة الإسلامية"، والتقت جملة جهود في تأسيس ما صار لاحقًا، حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، والتي في بداياتها ارتبطت بعلاقة مع "سرايا الجهاد" التي أسستها مجموعة من حركة فتح كانت قد خرجت من فكرها اليساري الماوي إلى الفكر الإسلامي، حاملةً معها تجربةً تنظيميةً عميقةً من داخل القطاع الغربي في حركة فتح، وتجربةً قتاليةً ممتدةً، كانت أبرز تجلياتها الكتيبة الطلابية.
من المرجّح أن جهود الشقاقي الفكرية والتنظيمية، قد ساهمت في تسريع النقاش الإخواني الداخلي نحو حماس، ليس فقط في المزاحمة على موقع نضالي للحركة الإسلامية، ولكن في الإجابة عن السؤال الأهمّ حول موقع القضية الفلسطينية بالنسبة للحركة الإسلامية، فقد وظّف الشقاقي شعار "فلسطين القضية المركزية للحركة الإسلامية"الذي استفاده من تأثير كتيب حمل اسم "ما بعد النكبتين"[23]، كما أنّ العبء العسكري الجريء الذي نهضت به مجموعته، سواء منفردة أم بالتعاون مع سرايا الجهاد، قد اندرج في جملة العوامل التي انتهت إلى الانتفاضة الفلسطينية الأولى، مثل عملية البراق في 15 تشرين الأول/ أكتوبر 1986، وعملية الهروب من السجن المركزي بغزة، في 17 أيار/ مايو 1987، بقيادة مصباح الصوري ومحمد سعيد الجمل، لتنفّد المجموعة عددًا من العمليات منها قتل مستوطن صهيوني في 25 أيار/ مايو، وقتل قائد الشرطة العسكرية في لواء غزة في 2 آب/ أغسطس، وقد استشهد عناصر هذه المجموعة على مرحلتين، الأولى وقعت في 1 تشرين أول/ أكتوبر من العام نفسه واستشهد فيها قائد المجموعة مصباح الصوري، والثانية في 6 تشرين أول/ أكتوبر في اشتباك قتل فيه ضابط صهيوني، وهو التاريخ الذي تعتمده الحركة للاحتفال بانطلاقتها، وقد ظلّت الحركة، على محدودية حضورها الجماهيري، من أكثر الفصائل الفلسطينية حضورًا في العمل المقاوم.
جهود الشقاقي الفكرية والتنظيمية، قد ساهمت ليس فقط في المزاحمة على موقع نضالي للحركة الإسلامية، ولكن في الإجابة عن السؤال الأهمّ حول موقع القضية الفلسطينية بالنسبة للحركة الإسلامية، فقد تبنّى الشقاقي شعار "فلسطين القضية المركزية للحركة الإسلامية"
لم تكن حركة الجهاد الإسلامي، في بواكير تبلورها فكريًّا ونظريًّا، ونقدها للجماعة الإخوانية، تدعو للانغلاق الفلسطيني عن القضايا الإسلامية، فهي، في حينه من هذه الحيثية، لم تكن حركةً قطريةً، وهو ما حاولت قوله، في العدد الأول من مجلة "الطليعة الإسلامية"، في سعيها لبيان العلاقة والتداخل بين الإسلام والقضية الفلسطينية[24]، إذ يمكن ملاحظة كثافة الاهتمام بالقضايا الإسلامية، طوال أعداد هذه المجلة، التي سيكون من موضوعاتها على امتداد أعدادها "أربعة أعوام على انتصار الثورة الإسلامية"، "مرور عام على مجزرة حماة"، "لبنان خلفيات الحدث الكبير"، "في ذكرى استشهاد خالد الإسلامبولي"، "يسار تونس الإسلامي.. بدعة طاغوتية جديدة"، "المسلمون في البلقان من المعاناة إلى النهضة"، "تشاد.. الصحراء وقضايا أخرى"، "ليبيا: النظام.. المعارضة: والإسلام"، "قبرص الإسلامية"، "السودان وتحديات المستقل"، فضلاً عن الانشغالات الفكرية والسجالية مع مختلف الأفكار المطروحة في الساحة، لاسيما مع اليسار.
الواجب والرسالة: في نفي غربة متجددة
وأخيرًا..
كانت تلك لقطات، لبدايات الفصائل الفلسطينية الأكثر فاعليةً وأهميةً حتى اللحظة في التغريبة الفلسطينية الطويلة، والتي تحتفل بانطلاقتها في أيام الشتاء، تباعًا، في حين كانت نكبات الفلسطينيين في الصيف، أيار/ مايو، وحزيران/ يونيو، ويتصل بتلك اللقطات الأولى، تاريخ طويل، بأحداث ضخمة، وتحولات كثيرة، يمكن منها النظر إلى الغربة الفلسطينية اليوم، بعد هذا التاريخ، والسؤال، إن كان الكادر في هذه الفصائل يقيس راهنه إلى تلك اللقطات، ثمّ إلى ما تبعها من تاريخ، ليتحسس شعوره، إن غلبت عليه الغربة، أم الأنس والسكن.
بيد أنّ غربة الفلسطينيين بعد هذا التاريخ الشتوي الطويل لم تنته بعد، فهي تجدد نفسها بتنويعات مستمرّة. يغترب الفلسطينيون في الضفّة الغربية إزاء سياسات السلطة المتناقضة مع إرث الحركة الوطنية التي انبثقت عنها، كما يغترب الكادر الفتحاوي وهو يهتف لتاريخ مناقض لراهن حركته، كما يغترب الفتحاوي الذاهب نحو المقاومة مع أخيه في الحركة نفسها المنسلك في مسار متعارض معه جوهريًّا، وذلك في حين يغترب الفلسطيني في قطاع غزّة خلف الحصار، أو أثناء الحرب التي لا يرى ما يكافئها، بينما لم يزل كادر حماس في الضفّة يعيش غربته في الملاحقة التي لم تتوقف يومًا، ولم يهتد الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948 إلى طريق أخرى يقطع فيها مع طريق "الكنيست" الغريب عن جوهر القضية الفلسطينية، وبعدما تركته منظمة التحرير غريبًا بتوقيع اتفاقية أوسلو، وإذا كان الفلسطيني اللاجئ قد كان يومًا وجه الثورة ، فإنّه الآن أكثر غربة، من حيث موقعه النضالي، من أيام اللجوء الأولى بين العرب.
يسير الفلسطيني اليوم في الضفّة الغربية، بشعور جديد من الغربة، بين الحياة التي لا تبدو مكترثةً لشيء، وبين الارتقاء اليومي للشهداء، متسائلاً عن الآتي، باحثًا عن دور أوضح للفصائل التي قامت بذلك الحمل عقودًا متواصلةً، ولن يغيب عن وعي هذا المتسائل، أن الطريق اللاحبة نفيًا للغربة لم تنحرف إلا بالتنكب لأصل الطريق، بيد أنّه في وسط هذه الغربة، ثمّة من يقتدي في غربته بغربة الحارث بن مضاض، حملاً للرسالة، بالرغم من كلّ شيء، بوصف ذلك الواجب الوحيد الصحيح، والذي يأنس به المرء في حين الغربة، وذلك همّ مئات الشباب والفتيات، الذين ما زلوا يجددون للقضية الفلسطينية وجهها الأوّل، ومعناها الصحيح.
قال أبو تمام:
غُربَةٌ تَقتَدي بِغُربَةِ قَيسِ بـ *** ـنِ زُهَيرٍ وَالحارِثِ بنِ مُضاضِ
وقد كانت تلك غربة الحارث بن مضاض، وأمّا غربة قيس، ملك عبس، وفارسها، وقائد حروبها، فقد اختلف الرواة في شأنها، وكان مما قيل في ذلك: أوْبته إلى الحقّ وأنفته وكرامة نفسه، وذلك أنّه لمّا أسنّ وضجر من الحروب التي كانت بينه وبني ذبيان وغيرهم من العرب، أشار على قومه بالرجوع إلى قومهم ومصالحتهم، فقالوا: سر نسر معك، فقال: لا والله لا اطلعتْ في وجهي ذبيانية قتلتُ أباها أو أخاها أو زوجها أو ولدها؛ ولكن الحقوا بقومكم ودعوني. فلحقوا بقومهم وصالحوهم. وكان قيس بن زهير يدور في الفيافي ويتقمّم العشب، فرأى ليلة صائدًا قد أورى نارًا فقصده يستطعمه، وكان قد مكث دهرًا لم يطعم غير العشب، فلمّا هم بذلك أنف وقال: إن بطنًا يحملني على هذه الخطة لبطن سوء، والله لا أدخله شيئًا حتى أموت ولم يطعم شيئا حتى مات، فقال فيه بعض قومه:
إن قيسا كان ميتته *** كرمًا والحي منطلق
شام نارًا باللوى اقتدحت *** وشجاع البطن يختفق
في دريس ليس يستره *** رب حرّ ثوبه خلق [25]
ستكون أوبة الفلسطيني دائمًا إلى الحقّ، الذي هو المقاومة، عزيز النفس، يختار الجوع الحرّ الكريم، على خطّة عبودية الشبع.
يسير الفلسطيني اليوم في الضفّة الغربية، بشعور جديد من الغربة، بين الحياة التي لا تبدو مكترثةً لشيء، وبين الارتقاء اليومي للشهداء، متسائلاً عن الآتي، باحثًا عن دور أوضح للفصائل التي قامت بذلك الحمل عقودًا متواصلةً، بيد أنّه في وسط هذه الغربة، ثمّة من يقتدي في غربته بغربة الحارث بن مضاض، حملاً للرسالة، بالرغم من كلّ شيء، بوصف ذلك الواجب الوحيد الصحيح
[1] . ابن سعد المغربي، نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب، تحقيق: نصرت عبد الرحمن، (عمان: مكتبة الأقصى، 1982): ج1، ص292 - 299
[2] . هيلغى باومغرتن، من التحرير إلى الدولة: تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية 1948 – 1988، (رام الله: مواطن: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 2006): ص99.
[3] . غازي حورشيد، دليل حركة المقاومة الفلسطينية، (بيروت: مركز الأبحاث/ منظمة التحرير الفلسطينية، 1971): ص111
[4] . طلال سلمان، مع فتح والفدائيين، (بيروت: دار العودة، 1969): 36
[5] . السابق ص42- 46
[6] . نزيه أبو نضال، مذكرات نزيه أبو نضال: من أوراق ثورة مغدورة، حاوره: زياد منى، (بيروت: قدمس للنشر والتوزيع، 2011): ص144
[7] . طلال سلمان، مصدر سابق، ص52-53
[8] . المصدر السابق، ص20-21
[9] . المصدر السابق، ص57
[10] . كلمة التحرير، مجلة نداء الحياة: فلسطيننا، العدد 1، (أكتوبر 1959): ص3
[11] . صلاح خلف، فلسطيني بلا هوية، تحرير وتصويب: فؤاد أبو حجلة، (عمان: دار الجيل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية، 1969): ص46
[12] . سليم الزعنون، السيرة والمسيرة: مذكرات سليم الزعنون «أبو الأديب»، (عمان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2013): ص59-61
[13] . صلاح خلف، مصدر سابق، ص50.
[14] . عبد الله أبو عزة، مع الحركة الإسلامية في الدول العربية، (الكويت: دار القلم، ١٩٨٦): ص70-71، والكتاب مصدر مهم للاطلاع على تاريخ العلاقة المكبرة بين الإخوان المسلمين في غزة وحركة فتح.
[15] . عن تأسيس الكتل الإسلامية، والتحديات التي واجهتها يمكن مراجعة:
- دلال باجس، الحركة الطلابية الإسلامية في فلسطين: الكتلة الإسلامية نموذجاً، (بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2012).
[16]. عن هذه البدايات يمكن مراجعة:
- إبراهيم غوشة، المئذنة الحمراء: سيرة ذاتية، (بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2008).
[17]. عن الجماعة الإسلاميون في السجون يمكن مراجعة:
- محمد أبو طير، سيدي عمر: ذكريات الشيخ محمد أبو طير في المقاومة وثلاثين عامًا من الاعتقال، تحرير: بلال محمد شلش، (بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2017).
- محسن ثابت، نشأة الجماعة الإسلامية في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ([د.م]: [د.ن]، [د.ت])
[18] . ساري عرابي، التيار الإسلامي والحركة الطالبية، ملحق فلسطين، صحيفة السفير، بيروت، حزيران/ يونيو 2013.
[19] . أصدرت الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت، في آذار/ مارس 1983، مجلة سمّتها "الله أكبر صيحة الحق"، تعرّضت فيه لمجمل هذه الأسئلة بخطاب سياسيّ واضح، وإن كان مشبعًا بتصوّرات ودفاعات ومفردات تلك المرحلة، ومن الواضح أن احتكاك طلبة الإخوان بدعاية القوى الوطنية، بما في ذلك الخطابات المناوئة لهم، جعلت أولوياتهم الخطابية أكثر اقترابًا من السؤال الفلسطيني اللحوح، في حين كان بعض قيادات الجماعة أكثر استغراقًا في الأدبيات الإخوانية التقليدية، وهو بالضرورة ما سوف ينعكس في الميثاق، عن ظروف كتابة الميثاق انظر:
- ساري عرابي، وثيقة حماس.. صياغة جديدة أم تحولات جوهرية؟، شبكة الجزيرة نت، 3/4/2017، https://bit.ly/3jArIG0
[20] . أصدرت الرابطة الإسلامية للشباب الفلسطينيين في المملكة المتحدة وإيرلندا، في كانون الأول/ ديسمبر 1980 العدد الأوّل من مجلة "فلسطين المسلمة"، التي ستصبح لاحقًا واحدة من أهم المنشورات المعبّرة عن حركة حماس لسنوات طويلة. جعلت افتتاحية ذلك العدد، محاولة للإجابة على سؤال "أين الصوت الإسلامي؟ وماذا قدّم المسلمون من أجل فلسطين؟"
[21] . يمكن حول ذلك مراجعة:
- عدنان مسودة، إلى المواجهة.. ذكريات الدكتور عدنان مسودي عن الإخوان المسلمين في الضفة الغربية وتأسيس حماس، تحرير: بلال محمد، (بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2013).
[22] . كتب الشقاقي كتابًا عن الخميني والثورة الإيرانية بالتزامن مع الثورة، بعنوان "الخميني الحلّ الإسلامي والبديل"، وأصدرته دار المختار الإسلامي عام 1979.
[23] . توفيف الطيب، الحل الإسلامي ما بعد النكبتين، (القاهرة: المختار الإسلامي، 1979)، يقول الطيب "ونحن نرى أن فلسطين هي قضية الإسلام والحركة الإسلامية الأولى"، وقد أعاد الشقاقي طبع الكتاب بالعنوان المذكور في هذا الهامش. وانظر أيضًا دراسة الشقاقي:
- فتحي الشقاقي، القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للحركة الإسلامية.. لماذا؟، مجلة المختار الإسلامي، العدد 13، (يوليو 1980).
[24] . أحمد صادق، الإسلام والقضية الفلسطينية، مجلة الطليعة الإسلامية، العدد 1، (يناير 1983): ص41-50
[25] . الخالديان، الأشباه والنظائر من أشعار المتقدمين والجاهليين والمخضرمين، تحقيق: محمد علي دقة، (دمشق: وزارة الثقافة، 1995): ج1، ص47.