ناجي العلي: ريشة فلسطين التي لم تنكسر

على سبيل التقديم
يُعد ناجي العلي أحد أهم عباقرة فن الكاريكاتير الفلسطيني والعربي، والعالمي، وصاحب مدرسة خاصة به، ترك إرثًا فنيًا حيًا لا يُنسى، ولا يمكن للزمن أن يمحي أثره، يتجسد في أعماله التي ظلت حاضرةً بين الناس، شاهدةً على عصره ومتفاعلةً مع همومه. لم يكن العلي مجرد فنان موهوب، وإنما شاهدًا وشهيدًا صادقًا على مأساة فلسطين، التي رأى فيها تجسيدًا لمآسٍ أوسع تشمل المنطقة بأسرها.
تميزت رؤيته بالوضوح والمباشرة؛ إذ نظر ببصيرته الثاقبة إلى صميم الأزمات، وكشف عن مواطن الخلل والداء بجرأة نادرة، حاملًا عبء مواقفه، إذ تحولت حياته إلى معركة متواصلة انتهت باستشهاده في لندن في مثل هذا اليوم قبل 38 عامًا وتحديدًا في 29 آب/ أغسطس 1987.
لكنه نجح خلال مسيرته الفنية في تحويل لوحاته الفنية إلى ضمير حي يراقب كل شيء، يرصد تفاصيل الواقع بلا مواربة أو غموض. وكان على الدوام قريبًا من الشعوب ككتاب مفتوح، لم يعرف الغموض، ويعري الحقائق التي ربما رغب البعض في طمسها، وكانت رسوماته أشبه بنور ساطع تزعج من يسعون لإدامة الظلام.
قال العلي في وصف نفسه وعلاقته بالناس "أنا متهم بالانحياز، وهذه تهمة لا أنفيها. أنا أصلًا غير محايد. أنا منحاز للناس. الناس الذين يرزحون تحت الأكاذيب وأطنان التضليلات وصخور القهر والنهب وحجار السجون والمعتقلات. أنا منحاز للذين في مصر ينامون بين القبور، ولمن يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بأيديهم سلاسلهم، والذين يقضون الليل في بيروت يشحذون السلاح الذي سيستخرجون به شمس الصباح القادم من مخبئها، ولمن يقرأون كتاب الوطن في المخيمات."[1]
ورغم تكوينه الفني العصامي؛ فهو صاحب الموهبة الفطرية التي لم تصقل في الجامعات أو معاهد الفنون، فقد أبدع في توظيف أدواته لاختراق أعماق السياسة والواقع، وارتقى بفن الكاريكاتير إلى آفاق جمالية وفكرية رفيعة. وهكذا ظل ناجي العلي نموذجًا للفنان الملتزم الذي جعل من ريشته مرآةً عاكسةً لزمانه ومصيره، وخلد اسمه كأحد عمالقة فن الكاريكاتير في التاريخ.
المولد والنشأة وسنوات النزوح
ولد ناجي سليم حسين العلي في العام 1937 في قرية الشجرة الواقعة بين الناصرة وطبريا في الجليل الشمالي من فلسطين. كانت طفولته شاهدةً على النكبة الفلسطينية عام 1948، حينما هجر مع أسرته وهو في سن العاشرة بسبب إرهاب العصابات الصهيونية، ليعاني ويلات اللجوء في مخيم عين الحلوة جنوب صيدا في لبنان. ففي واحدة من الخيام، كان ناجي ووالده ووالدته وإخوته الثلاثة وأخته الوحيدة ينامون على "حصيرة" حملتها أمه معها في رحلة الهجرة، كما حملت "بريموس[2]" يعمل على الكاز وبعض الأغطية.
ومنذ ذلك الحين لم يعرف الاستقرار أبدًا، إذ قام الجيش اللبناني باعتقاله أكثر من مرة[3]، كما اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي[4]، وفي سجنه رسم على جدران الزنزانة، وهو ما يؤكد أن الفن كان رفيقه الدائم حتى في أحلك الظروف. لتبلور تجربة اللجوء القاسية وعيه المبكر بالقضية الفلسطينية، وتؤثر بشكل كبير على فنه ورؤيته للعالم، ويبدأ رحلة التعبير عن نفسه وعن الحياة باللون الأسود، حيث كان يرسم بالفحم على الجدران.
رحلة ناجي العلي في الصحافة
كان الصحفي والأديب الفلسطيني غسان كنفاني في زيارة لمخيم عين الحلوة، فشاهد ثلاث لوحات من رسوم ناجي فنشر إحداها في مجلة "الحرية" العدد 88 في 25 أيلول/ سبتمبر 1961 وكانت عبارة عن خيمة تعلو قمتها يد تلوح.[5] يرمز من خلالها للأمل والصمود. سافر ناجي العلي عام 1963 بترتيب من غسان كنفاني إلى الكويت ليعمل محررًا ورسامًا ومخرجًا صحفيًا في مجلة "الطليعة" وبقي يعمل فيها حتى العام 1966 حينما قرر العودة للبنان بسبب الاضطرابات السياسية التي حدثت في الكويت.[6]
وبعد أن هدأت الأوضاع في الكويت عاد ناجي إليها ليتابع عمله في مجلة "الطليعة". ولما أوقفت الحكومة الكويتية إصدار مجلة "الطليعة" انتقل ناجي العلي للعمل في صحيفة "السياسة" الكويتية حتى العام 1974، ليعود مرة أخرى للبنان ويعمل في صحيفة "السفير" اللبنانية.[7]
لكنه عاد للكويت عام 1976 للعمل في صحيفة "السياسية" حتى العام 1978، قبل أن يعود للبنان ويعمل في صحيفة "السفير" اللبنانية، وفي عام 1983 انضم لأسرة صحيفة "القبس" الكويتية، وبعد عامين قررت الحكومة الكويتية ترحيله عن أراضيها، فلجأ إلى إنجلترا في تشرين الأول/ أكتوبر 1985، وبات يعمل مع صحيفة القبس الدولية.[8]
تميزت رسومات ناجي العلي بأنها كانت مرآةً صادقة تعكس الواقع الفلسطيني والعربي بكل تعقيداته، وآلامه، وآماله، فكانت ريشته سلاحًا فتاكًا في معركة الوعي والمقاومة. رسم ساخرًا من جميع الأنظمة العربية، ووصف حال المخيم الذي نشأ فيه، ومجزرة صبرا وشاتيلا، واجتياح لبنان، وقصف المخيمات دون أن ينطق بكلمة واحدة، وتفرد في استخدام الخطوط والمساحات الضوئية والمبالغة التعبيرية.
فلسطين والحضور الدائم
شكلت فلسطين المحور الرئيس في أعمال ناجي العلي الفنية، فحضرت بصورة مباشرة أو ضمنية في جميع لوحاته حتى تلك التي تناولت دولًا أخرى مثل لبنان. كما تميز العلي بكونه الراوي الأمين السلس، الذي قدم تصورًا واضحًا وشاملًا لمأساة الشعب الفلسطيني، متسمًا بنضج فكري وفهم عميق لتعقيدات القضية، وفي الوقت نفسه كان الأكثر تعاطفًا وإحساسًا بمعاناة أهله، والأقرب إلى وجدانهم.
وظل متمسكًا بمبادئه دون مساومة أو مجاملة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني. وقد جسد برسوماته ومعارضته الصامتة ضميرًا حيًا يوقظ الهمم ويذكر بالمبادئ، حتى أصبح مجرد النظر إلى واحدة من رسوماته كفيلًا بإثارة الشعور بالخجل في نفس أيّ متخاذل أو مقصر. كما اتسم عالمه الفني بتنوع الرموز: فجسد فلسطين باسمها وعلمها وشعبها (رجالًا، نساءً، أطفالًا، مقاومين، شهداء).
ورسم العدو الصهيوني بجنود خائفين بزيهم وعتادهم العسكري الكامل، ووجوه على هيئة غريبة، هي أقرب إلى وجوه الجوارح من الطيور، فالأنوف كبيرة كمناقير مدببة تغطي الوجه، وأعين مستديرة تحت الخوذ، وتبدو أجسادهم مرتخية تعبيرًا عن الرعب الذي يسيطر عليهم وارتعادهم من الطفل الفلسطيني.
أما الشعوب العربية المقهورة فصورها بوجوه منهكة تشبه الجماجم (جبهات عريضة، خدود متدلية). كما هاجم الأنظمة العربية فصور الحكام وأصحاب النفوذ على شكل كتل شحمية مترهلة الذقون، وغالبًا ما ظهروا في مجموعات بوجوه مقلوبة يصعب تمييزها. ووظف رموزًا مثل التوابيت وبراميل النفط وقضبان السجن، التي وضعها على المعالم (كالأهرامات) وحتى داخل عيون الشخصيات.
رسم العلي الكاريكاتير المعبر على جدران سجنه، وعلى قماش خيمته في مخيم عين الحلوة، وعلى الجدران في الشوارع. لم يترك فرصة تفوته ليعبر عن رأيه، رسم 40 ألف كاريكاتير، أشهرها: فاطمة رمزًا للمرأة الفلسطينية القوية، التي لا تهادن، والرجل الطيب رمزًا للفلسطيني المشرد المقهور، والمناضل، والمكسور أحيانًا، وحنظلة الطفل الذي يعقد يديه خلف ظهره وبقي رمزا للقضية الفلسطينية حتى يومنا هذا.
شخصية "حنظلة" [9]
تُعد شخصية "حنظلة" واحدة من أبرز الرموز الفنية والسياسية في تاريخ الأدب المقوم الفلسطيني، فـ"حنظلة" لم تكن يومًا مجرد شخصية كاريكاتيرية عابرة، بل أيقونة عالمية تجسد معاناة الشعب الفلسطيني وصموده، وتعبر عن رفضه لكل أشكال الظلم والتنازلات. وعلى الرغم من ابتكر ناجي العلي شخصيات عدة في رسماته المختلفة، وكان لها دلالات عميقة في انتقاد قيادات فلسطينية وعربية، لكن أيًا منها لم ينل شهرة "حنظلة".
ظل "حنظلة" في رسمات ناجي العلي طفلًا فلسطينيًا بعمر الـ10 سنوات، لا يتقدم به العمر، مهما حدث حوله من أهوال، فهو لن يكبر حتى يعود إلى أرض الوطن "فلسطين" لكن: هذا الطفل الصغير الذي لا يكبر، كان قادرًا على تغيير أساليب احتجاجه على ما يجري حوله من أحداث، فلم يكن "حنظلة" عاقدًا كفيه خلف ظهره عند ظهوره لأول مرة على صفحات صحيفة "السياسية" الكويتية عام 1969. بل كان في بعض الرسوم حاملًا للسلاح ومتحدثا بالعربية تارة والإنجليزية تارةً أخرى، مدافعًا عن القضية الفلسطينية، يلعب الكاراتيه، يغني الزجل، يصرخ ويؤذن ويهمس مبشرًا بالثورة.
بيد أن "حنظلة" أدار ظهره إلى العالم عاقدًا كفيه خلف ظهره بعد الانتصار في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، معلنًا رفضه التسوية مع الاحتلال، ومتمسكًا برفض السياسات الأمريكية لتسوية القضية الفلسطينية. وعندما اجتاحت قوات الاحتلال الإسرائيلي بيروت عام 1982، ظهر "حنظلة" (الطفل العشاري) في لوحة شهيرة بعنوان "صباح الخير يا بيروت"، مقدمًا وردة لفتاة تجسد العاصمة اللبنانية تطل برأسها من بين أنقاض جدار محطم، وعيناها تفيضان حزنًا.
ويقول ناجي العلي على لسان "حنظلة" في تعريفه عن نفسه: "عزيزي القارئ اسمح لي ان اقدم لك نفسي؛ أناوأعوذ بالله من كلمة أنا ..
اسمي: حنظلة، اسم أبي مش ضروري، إمّي: اسمها نكبة وأختي الصغيرة فاطمة..
نمرة رجلي: ما بعرف لأني دايمًا حافي.. تاريخ الولادة: ولدت في 5 حزيران 67...جنسيتي: أنا مش فلسطيني مش أردني مش كويتي مش لبناني مش مصري مش حدا...باختصار معيش هوية ولا ناوي اتجنّس؛ محسوبك إنسان عربي وبس."[10]
شخصيات أخرى أبعاد متعددة للواقع
تميزت أعمال ناجي العلي الكاريكاتيرية بتكرار مجموعة من الشخصيات الرمزية الرئيسة التي ابتكرها لتجسد الواقع الفلسطيني والعربي وقضاياه الاجتماعية والسياسية، ومنها: شخصية "فاطمة" هي المرأة الفلسطينية التي كان لها موقعًا محوريًا في هذه الثلة من الشخصيات المتكررة، مجسدتًا الإرادة الصلبة والثابتة، ورمزًا للوعي الثوري والواضح الحاد فيما يتعلق بالقضية وسبل حلها.
وفي مقابلها، كانت شخصية زوجها المتذبذبة، إذ يغلبه اليأس وتنكسر إرادته أحيانًا تحت وطأة الظروف والمعاناة، وهو ما شكل تباينًا دراميًا يبرز ثباتها وقوة موقفها. ويتجلى موقف "فاطمة" الصارم في الكثير من اللوحات، التي أتت فيها ردود فعلها قاطعتًا وغاضبة، ففي أحد الرسمات المشهورة ظهر زوجها يبكي مُعلنًا يأسه، قائلًا: "سامحني يا رب، بدي أبيع حالي لأي نظام عشان أطعمي ولادي"، لترد عليه "فاطمة" على الفور بعبارة تحمل إدانة أخلاقية وسياسية قوية: "الله لا يسامحك على هالعملة."
وفي كاريكاتير آخر، تقول لزوجها: "شفت يافطة مكتوب عليها عاشت الطبقة العاملة بأول الشارع، روح جيبها بدي أخيط اواعي للولاد." وفي المقابل، يقف نقيضان لهذه الشخصية الوطنية المثابرة:
أولاً: شخصية "السمين"، الذي يصور بجسد ممتلئ ومؤخرة عارية وبدون أقدام، ليكون تجسيدًا ساخرًا ونقدًا لاذعًا للقيادات الفلسطينية والعربية المترفة والانتهازيين من الخونة الذين تخلوا عن المبادئ وساهموا في تمكين المحتل.
ثانيًا: شخصية "الجندي الإسرائيلي طويل الأنف" الذي يظهر غالبًا في حالة من الارتباك والعجز أمام بسالة المقاومة الشعبية، وخاصةً عند مواجهة حجارة الأطفال، مما يرمز إلى ضعف الاحتلال أمام إرادة الشعب الفلسطيني.
بينما يبدو خبيثًا، شريرًا، ومتعاونًا بشكل واضح مع القيادات الانتهازية والعميلة، ما يعكس تواطؤ بعض الأنظمة مع الاحتلال.
أسلوب ناجي العلي الفني
كان أسلوب ناجي العلي فريد من نوعه يجمع بين البساطة والعمق، يخاطب الوجدان قبل العقل، فهو لم يكن فنانًا يلتزم بالقواعد الأكاديمية الصارمة، بل أطلق العنان لفطرته، معتمدًا على الفكرة والمضمون قبل الشكل والتقنيات المعقدة.
مؤمنًا بأن الفن يجب أن يكون في خدمة القضية، وصوتًا للمقهورين والمظلومين الذين لا صوت لهم، لذا كانت رسوماته تتميز بالجرأة والقوة والوضوح، ينتقد من خلالها الأوضاع السياسية والاجتماعية بأسلوب لاذع ومباشر.
من أبرز سمات أسلوبه الفني:
ـ البساطة والرمزية: من خلال استخدام خطوط بسيطة وواضحة، لكنها تحمل رموزًا عميقة ومعاني متعددة.
ـ النقد اللاذع: كان لرسوماته تأثير عميق في المشهد السياسي، إذ دأب على انتقاد الأنظمة العربية الفاسدة والقيادات المتخاذلة والاحتلال.
ـ التركيز على فلسطين: كانت فلسطين هي المحور الأساسي لجميع أعماله، فعبر عن معاناة الشعب وصموده، وحقه في العودة والتحرير. وأضحت رسوماته بمثابة وثيقة تاريخية حية تسجل أحداث القضية الفلسطينية.
ـ التفاعل مع الجمهور: كان ناجي العلي يؤمن بأن الكاريكاتير يجب أن يكون متصلًا بالناس، وأن يعبر عن همومهم وتطلعاتهم.
اغتياله بكاتم صوت
ذات يوم قال ناجي العلي: "اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرّف حاله: ميت"[11] كانت كلماته تلك تحمل صدق النبوءة، تأسيسًا على حقائق الواقع. وفي تفاصيل الجريمة [12]، عند الساعة 5:13 بتوقيت غرينتش، يوم الأربعاء 22 تموز/ يوليو 1987، أوقف العلي سيارته على رصيف الجانب الأيمن لشارع ايفز جنوب غرب لندن، حيث مقر جريدة القبس الدولية.
لم يكن ناجي يعلم أن قاتلًا يترصده، ورغم التهديدات التي تفوق المئة حسب قوله، والتي كانت تنذره بالعقاب على رسوماته، وتلقيه معلومات وافية بأن حياته في خطر نظرًا لأن الموساد الإسرائيلي قد جعله هدفًا، إلا أن ناجي العلي لم يتخذ لنفسه أية إجراءات للحماية، لإيمانه القدري وفقًا لمقولة: "الحذر لا يمنع القدر"، لذلك كان اقتناصه سهلًا.
وما أن اقترب ناجي العلي من مخزن "بيتر جونز"، القريب من نقطة الاستهداف حتى اقترب منه القاتل الذي ارتدى سترة من الجينز والذي وصفه الشهود بأن شعره أسود أشعث وكثيف، وعندما سار في موازاته أخرج مسدسه وأطلق الرصاص باتجاه رأس ناجي العلي، ثم لاذ بالفرار.
نقل ناجي إلى مستشفى "القديس ستيفن"، وهو خاضع لجهاز التنفس الاصطناعي، ثم جرى تحويله إلى مستشفى "الصليب تشارنج" وأدخل إلى قسم جراحة الأعصاب، ثم أعيد مرة أخرى إلى مستشفى القديس ستيفن. ظل العلي يصارع الموت حتى يوم السبت 29 آب/ أغسطس 1987، وانتقلت روحه إلى بارئها في تمام الساعة الثانية فجرًا، ودفن في مقبرة "بروك وود" الإسلامية في لندن، وحمل قبره رقم (230191).
رغم طلبه أن يدفن في مخيم عين الحلوة بجانب والده، وذلك لصعوبة تحقيق طلبه، [13] "يتهم جهاز الموساد الإسرائيلي بشكل أساسي باغتيال الرسام، فقد كانت رسوماته شديدة الوطأة على الكيان الإسرائيلي المحتل. كما تطول الاتهامات منظمة التحرير الفلسطينية باعتبار أن بعض أعمال الفنان كانت تمس بعض قياداتها، كما أن بعض الأنظمة العربية التي كان ناجي العلي يوجه انتقادات لاذعة لها يراها البعض مسؤولة عن اغتيال الفنان الذي لم يوفر أحدًا من انتقاداته، التي كان السياسيون العرب يضيقون بها ذرعًا."[14]
ناجي العلي والإرث الخالد
ترك ناجي العلي إرثًا فنيًا حيًا لا ينسى، ولا يمكن للزمن أن يمحي أثره، يمكن تلخيصه في النقاط الآتية:
تأصيل الكاريكاتير السياسي: إذ ارتقى ناجي العلي بفن الكاريكاتير السياسي إلى مستوى رفيع في العالم العربي، وجعله أداة فعالة للتعبير عن الرأي العام والنقد السياسي، وصار جرءًا لا يتجزء من المشهد الإعلامي.
رمز للمقاومة: أصبحت شخصية "حنظلة" رمزًا عالميًا للمقاومة والصمود الفلسطيني، وتجاوزت حدود الفن لتصبح أيقونة للنضال ضد الظلم والاحتلال.
تأثير على الوعي الجمعي: ساهمت رسومات ناجي العلي في تشكيل الوعي الجمعي العربي حول القضية الفلسطينية، وعززت الانتماء والهوية الوطنية.
مدرسة فنية: أسس ناجي العلي مدرسة فنية خاصة به، تتميز بالجرأة والقوة والوضوح والمباشرة والالتزام بالقضايا الإنسانية والوطنية.
السياق السياسي لرسومات ناجي العلي
عاش ناجي العلي في فترة مليئة بالأحداث السياسية والحروب، بدءًا من النكبة الفلسطينية عام 1948، مرورًا بالحروب العربية الإسرائيلية المتتالية، وصولًا إلى اتفاقيات السلام بين مصر وإسرائيل التي اعتبرها خيانة للقضية. كانت رسوماته انعكاسًا مباشرًا لهذا الواقع السياسي المعقد، فعبر عن موقفه بواضح من القضية الفلسطينية.
ويمكن تقسيم السياق السياسي لأعماله إلى عدة محاور:
ـ النكبة واللجوء: كانت تجربة اللجوء الشرارة الأولى التي أشعلت وعيه السياسي والفني، فراح يعبر عن معاناة اللاجئين، وحقهم في العودة، ورفضه لسياسات التهجير والتشريد.
ـ نقد الأنظمة العربية: انتقد ناجي العلي لأنظمة العربية التي اعتبرها متخاذلة ومتواطئة مع الاحتلال، فصور فسادها وقمعها لشعوبها، وتخليها عن القضية الفلسطينية، وكانت شخصية “السمين ذي المؤخرة العارية” تجسيدًا لهذا النقد اللاذع.
ـ مقاومة الاحتلال: تبنى ناجي العلي فكر المقاومة، ودعا لمقاومة الاحتلال من خلال رسوماته، فصور صمود الشعب الفلسطيني، وبطولاته، ومقاومته بالحجارة والكلمة. ورسم شخصية "الجندي الإسرائيلي ذو الأنف الطويل" المرتبك أمام الأطفال لتكون رمزًا لضعف الاحتلال أمام إرادة الشعب.
ـ رفض التسوية: عارض بشدة أي تسوية سياسية لا تضمن حقوق الشعب الفلسطيني كاملة.
ـ الوحدة العربية: كان يؤمن بالوحدة العربية كسبيل لتحرير فلسطين، وانتقد الانقسامات والصراعات بين الدول العربية.
الخاتمة
ناجي العلي هو فنان الكاريكاتير الفلسطيني الذي حول المأساة إلى إرث خالد، لم يهادن أيًا من أعداء الشعوب العربية، سواء الاحتلال الإسرائيلي (الذي صوره بوجوه شبيهة بالجوارح) أو الأنظمة الفاسدة (التي جسدها ككتل شحمية).
تميز فنه بالوضوح والجرأة، مستخدمًا رموزًا كـ"النجمة الصهيونية" و"قضبان السجون" لفضح الظلم. وأبدع شخصية "حنظلة"، الطفل الذي يجسد روح ومعاناة الفلسطينيين، حين توقف عمره عند سن العاشرة وهي لحظة طرده مع أسرته من قرية "الشجرة" عام 1948. لذا لم تكن رسوماته مجرد مجرد لوحات عابرة، وإنما وثيقة سياسية حية، تعبر عن ضمير الأمة، وتكشف زيف الواقع، وتدعو إلى التغيير. لقد كان فنانًا ملتزمًا بقضايا شعبه وأمته، ودفع حياته ثمنًا لهذا الالتزام. واغتياله لم يمحِأثره، بل جعله شهيدًا حيًا في الذاكرة الجمعية، وفنانًا خالدًا بفنه الذي ظل ضد الظلم والظلام حتى بعد رحيله.
[4] - 35 عاما وأكثر.. “حنظلة” ناجي العلي لا يزال حيا ورمزا للمقاومة الفلسطينية وكرامة العرب، https://2u.pw/YDqay
[5] - مركز المعلومات الوطني الفلسطيني، مصدر سابق.
[6] - الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية، https://2u.pw/sRvJR .
[7] - 36 عامًا على استشهاد ناجي العلي .. سيرة فن ونضال، https://2u.pw/Y3tbV .
[8] - الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية، مصدر سابق.
[9] - كنا قد تحدثنا بشيء من التفصيل عن شخصية حنظلة في مادة منفصلة حملت عنوان: "حنلة أيقونة الطفل الخالد .. ورمز المقاومة والصمود الفلسطيني، https://2u.pw/a3Hb9 .
[10] - ناجي العلي .. من حنظلة إلى كاتم الصوت، https://2u.pw/OsZAR .
[11] - حنظلة .. كيف رسم ناجي العلي نفسه، https://2u.pw/Jk1Vs .
[12] - 36 عامًا على استشهاد ناجي العلي .. سيرة فن ونضال، مصدر سابق.
[13] - ناجي العلي .. أنهار من الحبر الجريء، https://2u.pw/bYolV .
[14] - المصدر السابق.