نزيه أبو السباع.. القتال والميدان والعلم والمختبر
"بقميصٍ أصفرَ خفيفٍ، وبنطال قماشٍ بنيّ، وحزام استنفد كلَّ إمكانيّة شدّه أكثرَ وما زال مرتخيًا، وشبشب طويل بإصبع، وشعر مليء بالشيب، وشبه لحية غير حليقة، أتذكَّر الأستاذ نزيه، كان نحيلًا جدًا، أسمر طويلًا، بوجه مجفّف، ولطف لا يُحتمل، يمكننا رؤية الخجل الطاغي على وجهه حين تتحدّث إليه إحدى المعلمات، لم أكن أعرف عنه شيئًا سوى أنّه من المخيم"[1]
الشهيد نزيه أبو السباع، وهو يدرّس تلاميذه مادّة العلوم في مختبر مدارس الإيمان.
أمّا أنا فأصنعُ الذكرى المشتهاة مع نزيه أبو السّباع، الأستاذ النحيف، يُخبِّئ خلفَ أستاذيّته القسّاميَّ ومفاجآتِه، أصنعُها من تتبُّع السِّيَرِ واسترسال التخيُّلات عنه، أحاولُ في هذه التذكّراتِ أن أستعيدَ شيئًا من صورتِه وبهائه، فأنا وأمثالي -وهم كُثُرٌ- نقرأ عن الشهداءِ أهلِ الفعلِ العسكريّ بجلالٍ وقداسة، نراهم تجسيدًا للقيم، تفانيًا في التخلّي، نقرأ عن زمنٍ أدركْنا تواليَه مُذ كنّا صغارًا بلهفةٍ وتَوْقٍ: محمّد عزيز، فؤاد الحورانيّ، تيتو مسعود، قيس عدوان، نشأت جبارة، طارق عبد ربّه، صلاح شحادة، رائد زكارنة، أيمن حلاوة، سائد عوّاد، جهاد حمادة، شادي الطوباسيّ، محمد حبيشي، عدنان الغول، أبو هنّود، عماد عقل، محيي الدين الشريف، نضال فرحات، ناهض أبو عودة، نصر جرّار، عبد الباسط عودة، وقائمة الشرفِ تطول والحروفُ تَقْصُرُ وتُقْصِر.
صباح الثلاثاء 19 آذار/ مارس 2002م تقتحمُ "مجموعة الشهيد نزيه أبو السباع" معسكر تياسير الصهيونيّ، وتقتلُ قائد المعسكر. نفّذ العمليّة الشهيدان: أحمد عتيق من بلدة برقين، وصالح كميل من بلدة قباطية، كانتْ هذه العمليّةُ هديّةَ كتائب القسّام لآلِ الشهيديْنِ: خليل الغروز من مخيّم العرّوب، ولؤي الستيتي من مخيّم جنين، الّلذيْنِ استُشهِدا بعد إطلاقِ صاروخٍ على سيّارتهما، قبل تنفيذ عمليّتهما شمال رام الله.
لعلَّ تسَمِّيَ المجموعةِ باسم نزيه أبو السِّباع يشِي بوفاءٍ وفَضْلٍ له، إذ مضى على استشهاده شهرٌ واحدٌ وبضعة أيّام، جاءتْ هذه العمليّة لتقول: القسّام هنا، لا ينسى دَمَه.
يعدّ أبو السّباع الرجلَ الثاني في كتائب القسّام في منطقة جنين حين استشهاده، مساعِدًا للشهيد نصر جرّار، ونائبًا له في متابعة المجموعات العسكريّة القسّاميّة، وهو الّذي تعلَّمَ إعداد العبوات الناسفة والأحزمة وصناعة المتفجّرات والصواريخ على يد الشهيديْن أيمن حلاوة، وجاسر سمارو[2]، ولعلَّ الحدثَ الأخطَرَ الذي جعلَ الصهاينة سريعين في اغتيالِ "أبو السباع" أنّه كان المساعِد لنصر جرّار في مشروع إنتاج الصواريخ، الّذي حاولت قيادة القسّام متمثّلةً في "فريق تطوير الأسلحة" نقلَ خبرة إنتاجه إلى الضّفّة الغربيّة، وجنين تحديدًا، إذ كان المهندسان نضال فرحات وتيتو مسعود قد أنتجا صاروخ (قسّام 2) وهما مَن طرحا فكرة تصنيع الصورايخ محلّيًّا[3]، وهو تفكيرٌ لو قُدِّرَ استمرارُه ونجاحُ تطبيقه في شماليّ الضفّة الغربيّة لَكانَ سلاحًا ذا أثرٍ استراتيجيّ بعيد المدى، خاصّة في المنطقة الأقلّ عرضًا لدولة الكيان، ما يُمكِّنُ، ولو نظريًّا، من فصل شمالِها عن وسطِها وجنوبِها.
ضمَّ فريقُ تطوير الأسلحة في كتائب القسّام الشيخ صلاح شحادة، مؤسّس الجناح العسكريّ لكتائب القسّام، ومؤسّس خلية "المجاهدون الفلسطينيّون" عام 1984م الّتي يمكن عدّها البذرةَ الّتي أينعَتْ منها كتائبُ القسّام، إذ أوكلَ له الشيخُ أحمد ياسين تأسيس خلايا عسكريّة شماليّ قطاع غزّة، وأوكَل للرنتيسيّ، كذلك، تأسيسَ خلايا عسكريّة جنوبي قطاع غزّة؛ وضمّ الفريق كذلك عدنان الغول، كبير المهندسين العسكريّين، الذي حصَّلَ خبرتَه الواسعة في صناعة الصواريخ والمتفجّرات حين كان منفيًّا إلى مصر الّتي رحّلتْه بدورها إلى سورية؛ وبجانب شحادة والغول كان من عناصر الفريق الشهيد يحيى عيّاش، وياسر طه، وزاهر نصّار الذي كان يتعجّبُ صلاحُ شحادة من جمعه الأموال ومن أين يأتي بها، فيجيبُه: ما دمتَ تعمل لله فلن يُضيِّعَك.
اليوم، تُعيدُ جنين، استرداد المسيرةِ، ونحْتَ صخرِ الفعلِ المقاوم، فـ "كتيبة العيّاش"[4] تستعيدُ الفكرةَ وتستثمرُ حالة المخيّمِ، ليتجدّد ثأرُ المسيرةِ للدماء الزكيّة الطاهرة، ولعلّ أهمَّ ما يُكتَسَبُ باعتمادِ الصواريخِ سلاحًا استراتيجيًّا: أنّها غيَّبَتْ وتُغيِّبُ فكرةَ الأمنِ والهدوء الّتي بُنِيَ عليها الكيان الصّهيونيّ، وراكمت على مدارِ السنوات قوّةَ ردْعٍ تخصم من رصيد التفوُّقَ الجويِّ الإسرائيليِّ، فوصَلَتِ المقاومةُ الآن إلى إمكانيّة صناعة ردعِها الخاص عبر الصواريخ والذي يقابل الردع الذي يصنعه سلاح الجو الإسرائيلي، مع التنبُّه إلى أنّ الصواريخ هي التكتيك القتالي الأبرز والأكثر استخدامًا من طرف المقاومة في القطاع، خلال السنوات العشر الأخيرة، في ظلّ غيابِ الحضورِ البريّ، الذي يبدو أنّ قيادة الجيشِ لن تلجأ إليه بعد حرب 2014م، محاولةً أن تردمَ فجوة الإنجاز المتشكلة بغيابه من خلال الاستثمار في أسلحة السايبر والضربات الجوّيّة، وهو ما لا يحسمُ، وحده، حربًا.
وقد واجهت المقاومة الفلسطينيّة معيقاتٍ وصعوباتٍ تستهدفُ القدرة الصاروخيّة وتطويرَها، من ذلك: منع الاحتلال الإسرائيليّ وصول الموادّ اللازمة لعمليّة التصنيع وفرض حصارٍ مشدّدٍ على الضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة، من ذلك منع كثيرٍ من موادّ التنظيف المحتوية على مركّباتٍ ذات استخدامٍ مزدوج، وكذلك منع مادّة اليوريا المستخدمة في الزراعة والتسميد، ما حدا بوحدة التصنيع العسكريّ الأولى، إلى الاستعانة برَوْثِ البهائم لاستخراج بعض الغازاتِ والموادّ الكيماويّة، وكذلك مادّة الكبريت المستخدمة في الزراعة. ومع استمرار إجراءات الاحتلال وتضييقاته بأشكالٍ متعدةٍ حتى يومنا، فإنه يظهرُ تطوّرٌ في القدرات التفجيريّة لعبوات مخيّم جنين، أمّا صواريخ كتيبة العيّاش فيبدو أن طريقها طويل، وحسبُها تبصيرُ الطريق للسابلة، والله يتولّى، فإنّ لله عبادًا إذا أرادوا أراد، وهي منّة اللهِ على عباده يكافئهم على عزيمة السعي حين يرى من نواياهم ما يؤهّلهم لأن يكونوا مؤمنين به واثقين بنصره.
شيء من السيرة الظاهرة.. الطاهرة
يعود نزيه أبو السباع إلى قرية الكفرين المهجَّرة، من قرى الرّوحة، جنوب شرق حيفا، وتنتسب عائلته إلى حمولة المصاروة، وُلِدَ في مخيَّم جنين عام 1972م، المخيَّم الّذي ما زال ولّادًا، والذي انخرط بكثافة، وعموم شماليّ الضّفّة الغربيّة في انتفاضة الاقصى، ما حدا ببعض الباحثين أن يعزو محدودية المشاركة التنظيميّة في هبّة القدس عام 2015م إلى إلقاء التنظيماتِ العسكريّة بكلّ ثقلِها البشريّ النوعيّ في الانتفاضة الثانية في شمالي الضّفّة الغربيّة، بحيث لم تستطِع حتّى هذه الأيّام أن ترمِّم الفَقْدَ الكبير في قواها البشريّة كمًّا ونوعًا، لا سيما في نابلس وطولكرم.[5]
الشهيد نزيه أبو السباع وهو ابن 15 ربيعًا
التحقَ شهيدُنا بجامعة القدس، ليدرس الهندسة الكيميائيّة، صارَ أميرًا للكتلة الإسلاميّة، وكان لافتًا أنّ إمارة الكتلةِ الإسلاميّة تقترنُ، غالبًا، بفعلٍ عسكريّ على مستوى عالٍ، كانتْ إمارةً تُختَمُ بالدمِ، فيها صدق البداياتِ، ما يجعل منتسبيها أمثلةً لمَن تلاهم. سُجِنَ خلال ذلك مرّتين، وعُيِّنَ خلال اعتقال 1995/ 1996 سكرتيرًا للجنة الثقافيّة في سجن مجدّو، لعلاقته مع الكتاب والمطالعة. تُروى مواقف تمرُّ مرَّ النسيمِ عليكَ، مثلاً: "في ظهيرةٍ ما، اختلفتُ مع صديق في كنية أحد الشهداء المعروفين، وعجز كل المحيطين بنا عن معرفة الإجابة، حتّى قال لنا أحدُهم: اسألوا نزيه، وبعد صلاة ظهرٍ في جامع جنين الكبير كان الأستاذ نزيه يلبس شبشبه الطويل ذا الإصبع ويهمُّ بالخروج، فداهمناه بالصراخ: أستاذ نزيه، أستاذ نزيه..
ضَحِكَ من السؤال وألقى الإجابة دون تفكير وذهب، عرفنا يومَها أنّه خبير بالشهداء."[6]
16 شباط 2002: ويبقى الأثر
نحبُّ، نحن الأحياءَ الذين انغمسنا في الدنيا، أن ننسبَ الشهداء إلينا، أن نجعلهم منّا في تراكيبنا، فنقول: شهيدنا، شهداؤنا، كأنّنا نريد أن نستر تقصيرنا ونمتزج بمثالنا: رحلَ شهيدُنا نزيه محمود مسعود أبو السباع، بعد أن نثرَ علمَه في مدارس الإيمان بجنين يدرّس مادّة العلوم، وفي طريق عودته إلى بيته، في الشارع الفرعيّ بين مسجد النور والحسبة، مرّ بجانب سيّارة ميتسوبيشي مركونة جانب الطريق، انفجرت فيه، كانت طائرة عسكرية إسرائيلية تحلّق في المكان، زعموا أنّها فعّلت القنبلة عن بعد. قال شارون بعدها: "لقد تخلّصنا من قنبلة موقوتة"، وهو نفسُه الذي قال: "فدائيّ ميّت خيرٌ من فدائيّ حيٍّ"، استُشهِدَ كثيرون من أبناء القسّام والمقاومة بمثلِ هذا الاغتيال، منهم: إبراهيم بني عودة، أيمن حلاوة، فوّاز بدران.
صعد شهيدُنا صائمًا في الرابع من ذي الحجّة، يتجهّزُ لزفافه، معلّمًا للناس الخيرَ من طرقه كلّها، وما زال طلابه يترحّمون عليه، كان مُعلّمًا وكفى، والعلم طرقه واسعة، لكنْ، أن تجد مَن يعلّمك أنّ العلمَ الحقيقيّ الشريف هو الذي يقود إلى الدم، وإلى وضوح الطريق فذلك علمٌ ينفع صاحبَه يوم القيامة.
في اليوم التالي، على الإذاعة المدرسيّة، كان الطفل مؤمن عيادية يلقي شعرًا يقول فيه:
نزيهُ، ستبكي عليـك العيون :: وتسأل عنك دموع المئين
وإن جفَّ دمعي سيبكي الغمام :: يُرَصِّعُ قبرَك بالياسمين
وأمّا صلاح جرار الشاعر الذي زامَلَ الشهيدَ نزيه أبو السباع، فقد قال في ذكرى استشهاده الأولى:
هو ذا نزيهٌ ثمَّ قيسٌ بعده :: وأبو صهيبٍ قد لقوا الموعودا
هو ذا نزيهٌ والصحابُ جميعُهم :: أفلا ترى عقدًا أغرَّ نضيدًا
حبّاتُه الشهداءُ في ساح الوغى :: والحمزةُ المغوارُ زانَ الجيدا
فلئن بكتْ عيني نزيهًا إنّها :: تبكي الوفاءَ وفعلَه المحمودا
تبكي شبابًا كالرياضِ نضارةً :: تبكي أريجًا منعشًا وورودًا
تبكي محيّا أشرقَـتْ قسَماتُه :: كشروقِ إيمانٍ يظلُّ سجودًا
تبكي رفيقًا في أداء مهمّــةٍ :: في معهد الإيمانِ يقطر جودًا
تبكي حبيبًا راح يُسرِعُ خطوَه :: كيما نرى عرسًا له مشهودًا
[1] هكذا أتذكّر الأستاذ نزيه، عبّاد يحيى، نُشرتْ في موقع ألترا فلسطين، بتاريخ 4 أكتوبر 2016م
[2] درب الأشواك، سليم حجّة، ص127
[3] في ضيافة البندقيّة، الجزء الأوّل، قناة الجزيرة، الدقيقة: 30:00
[4] ظهرت عددٌ من التسجيلات المرئية تظهر إطلاق هذا التشكيل الذي ينسب نفسه لكتائب القسام في جنين، صواريخ على مستوطنات مقامة على أراضي جنين، ورغم عدم وجود تبنٍ رسميٍ من القسام أو حماس للإطلاق، إلا أن نائب رئيس المكتب السياسي للحركة صالح العاروري أشار إليه في أحد لقاءاته عبر قناة الأقصى في 3/7/2023، إلى أنه جرى "إطلاق صواريخ قسام "1" في جنين قبل أيام".
[5] إرث انتفاضة الأقصى، أحمد العاروريّ، نُشِر في موقع "باب الواد"
[6] هكذا أتذكّر الأستاذ نزيه، مصدر سابق.