نقابة الأطباء .. حكاية الهيئات المنتخبة في الضفة

نقابة الأطباء .. حكاية الهيئات المنتخبة في الضفة
تحميل المادة

شكلت النقابات المهنية والشبكات التطوعية والأحزاب السياسية والجمعيات الخيرية دعامةً رئيسيةً في كل المجتمعات القوية، تسند الدولة وتجبر عجزها، وتضبط مسيرتها وتقوّم خطأها. وفي المقابل كان غياب هذه المؤسسات اللاحكومية يفتح المجال للسلطة السياسية لتستفرد بالقرار وتتمادى في أخطائها. وعماد قوة هذه المؤسسات الذي يمنحها الفاعلية والشرعية هو تمثيلها لقطاع شعبيّ ما، ولا تتمّ الشرعية إلا بأن تعكس هذه الهيئات توجهات منتسيبها، وأهمّ الآليات الضامنة للتّمثيل هي الانتخاب الحر، الذي إذا فُقد فإنّ الهيئة تفقد قدرًا كبيرًا من شرعيّتها ومن ثمّ فاعليتها.

تحاول هذه المادة تسليط الضوء على التطورات الأخيرة التي رافقت القرار بقانون الذي أصدره الرئيس محمود عباس، والذي كان يهدف إلى إحلال نقابة أطبّاء جديدةً بدلًا من النقابة القائمة، وتسليط الضوء كذلك على منطلقات هذه التوجهات، وتداعياتها، وسياقاتها التاريخية والمجتمعية والسياسية.

 

الطريق إلى الأزمة

تأسست نقابة الأطباء الأردنيين عام 1954 أيام الحكم الأردني للضفة الغربية وشرقي القدس، وقد انضم أطباء هاتين المنطقتين -بوصفهم مواطنين أردنيين وقتها- إليها. وبعد نكسة 1967 انفصل البَلَدانِ ورزحتِ الأراضي الفلسطينية تحت "الإدارة المدنية" الاحتلالية. فافتُتِحَ فرعٌ للنقابة الأردنية في الأراضي الفلسطينية، وظلّ الفرعُ تابعًا للنقابة الأردنية ضمنيًا، ولكنه من ناحية عملية تحوّل إلى نقابةٍ مستقلةٍ تنتسب إليها الغالبية العظمى من الأطباء الفلسطينيين الذين ينتخبون مجلسها المركزي، ومجالسها الفرعية، دوريًا، وقد سيطرت منظمة التحرير وفصيلها الأكبر حركة فتح على غالبية هيئات مجالس النقابة المنتخبة غالبًا، ما أفرز نقابةً قريبةً من السلطة وخطّها.

خلال الدورتين الأخيرتين، فازت قوائم مستقلةٌ تضمّ طيفًا متنوعًا من الأطباء، ويقودها الدكتور شوقي صبحة في انتخابات النقابة المركزية، والانتخابات الفرعية على مستوى أغلب المحافظات. وهو فوزٌ تزامنَ مع تراجعٍ ظاهرٍ لهيمنة حركة فتح على الحالة النقابية الفلسطينية، وذلك بفوز قوائم مستقلة في انتخابات نقابة المهندسين، وتراجع الهيمنة المطلقة للحركة على نقابة المحامين.

تصاعدت خلال سنوات ولاية النقابة الحالية وتيرة الاحتجاجات والفعاليات النقابية المطالبة بحقوق الأطباء الوظيفية، وقد كانت الوساطات تؤدي في غالب الأحيان إلى توقف الاحتجاجات استنادًا إلى وعودٌ حكوميةٍ بالاستجابة لمطالب الأطباء، غيرَ أنّ أغلب هذه الوعود لم تكن تتحول إلى حقائق على الأرض، ما كان يعيد الأمور إلى مربعها الأول (مثلاً: جرى الاتفاق على منح الأطباء علاوة "طبيعة العمل" بعد إجراءات نقابية طويلة امتدت شهورًا عديدة، ثم تراجعت الحكومة عن الاتفاق. وجرى كذلك الاتفاق على حل مشكلاتٍ خاصّةٍ لأطباء الطب العام بعد أخذ ورد مع الحكومة، ورغمَ توقيع اتفاقٍ بين نقابة الأطباء والحكومة بهذا الشأن فقد تراجعت الحكومة عن اتفاقها!).

خلال الدورتين الأخريتين، فازت قوائم مستقلةٌ تضمّ طيفًا متنوعًا من الأطباء، ويقودها الدكتور شوقي صبحة في انتخابات النقابة المركزية، والانتخابات الفرعية على مستوى أغلب المحافظات. وهو فوزٌ تزامنَ مع تراجعٍ ظاهرٍ لهيمنة حركة فتح على الحالة النقابية الفلسطينية، وذلك بفوز قوائم مستقلة في انتخابات نقابة المهندسين، وتراجع الهيمنة المطلقة للحركة على نقابة المحامين.

بلغت حالة الخلافِ بين النقابة والحكومة ذروتها في أيار/ مايو من هذا العام، حين تلقى مجلس النقابة ورئيسُه استدعاءً من رئيس نيابة رام الله للتحقيق على خلفية فعالياتهم النقابية، وهو ما أثار حالةً من الرفض والامتعاض لدى جموع الأطبّاء، قبل أن تتدخل الوساطات لحل الخلاف الراهن، دون أن تتمكن –بطبيعة الحال- من الوصول إلى حلٍّ جذري للقضية، لا على مستوى مطالب الأطباء الوظيفية، ولا على مستوى تثبيت حالةَ القَبول بالنقابة بصفتها حالةً منتخبةً لا يجوز المساس بها.

يوم الأربعاء 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2022 تفاجأ الشارع الفلسطيني بقرار بقانونٍ أصدره الرئيس عباس يعلن فيه إنشاء "نقابة الأطباء الفلسطينيين"، وتكليف د. نظام نجيب برئاستها، بعضوية أطباء من الضفة و قطاع غزة. وأُوكل لها "حصرًا –حسب القرار- تنظيم مهنة الطب في الأراضي الفلسطينية". أي أنّها كلّفت بالمهام الموكلة إلى نقابة الأطباء المنتخبة ذاتها، وهو ما فُسّر حلاًّ للنقابة الحالية وإسقاطًا لخيار الأطباء وإهدارًا لأصواتهم.

ردًّا على ذلك، أعلنت النقابة المُنتخَبة بدءاً من الخميس 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2022 العديد من الإجراءات التصعيدية، شملت إضرابًا عمّ جميع المؤسسات الصحية من مستشفيات حكومية وخاصة وأهلية، وعياداتٍ تابعةٍ لوزارةِ الصحةِ، وعياداتٍ خاصة، ومراكزِ الطب العدلي، وكلياتِ الطب وعلوم الصحة، كما أعلنت النقابة سحبها شهادات المزاولة من الأطباء الواردة أسماؤُهم في قائمة النقابة المعيّنة، لانخراطهم في نشاطٍ "من شأنه شقُّ وحدة صف الأطباء وضربُ المؤسسة الناظمة لمزاولة المهنة" وفق النقابة.

يوم الأربعاء 26/10/2022 تفاجأ الشارع الفلسطيني بقرار بقانونٍ أصدره الرئيس عباس يعلن فيه إنشاء "نقابة الأطباء الفلسطينيين"، وتكليف د. نظام نجيب برئاستها، بعضوية أطباء من الضفة و قطاع غزة. وأُوكل لها "حصرًا –حسب القرار- تنظيم مهنة الطب في الأراضي الفلسطينية". أي أنّها كلّفت بالمهام الموكلة إلى نقابة الأطباء المنتخبة ذاتها، وهو ما فُسّر حلاًّ للنقابة الحالية

شهدت هذه الفعاليات توحدًّا فريدًا لجموع الأطباء في كل القطاعات. فالحالة هذه المرة لم تكن متعلقةً بمطالبَ وظيفية، ولا متعلقةً بقطاعٍ من الأطباء دون سواهم (رغم أهمية هذه الحقوق)، بل نُظر إليها بوصفها انقلابًا على إرادتهم الحرة في اختيار من يمثلهم، وتدخلاً مباشرًا من السلطة التنفيذية في العمل النقابي الذي يفترضُ أن يكون الصوتَ الحرَّ لكلّ منضوٍ تحت إطارِ نقابةٍ ما. وإضافةً إلى توّحد الأطّباء، فقد شهدت الحالةُ تضامنًا كبيرًا من قوىً مجتمعيةٍ فاعلةٍ أبرزها: نقابتا المهندسين والمحامين، وهيئاتٌ مدافعة عن حقوق الانسان، فضلاً عن تضامنٍ –أو تفهّمٍ- شعبيٍ واسعٍ لموقف نقابة الأطباء، ما شكّل ضغطًا كبيرًا على السلطة التنفيذية، دفعها للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع النقابة وطرح كافة الملفات المختلف عليها، وأخذ خطوات إلى الوراء في نهاية المطاف.

يوم السبت 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2022 تسربت أخبار عن مقترح لاتفاق بين ممثلي وزارة الصحة ونقابة الأطباء يقضي بأن تُنشأ نقابةُ أطباء فلسطينية تسمى "نقابة الأطباء الفلسطينيين"، وأن تتولى حصرًا تنظيم مهنة الطب في الأراضي الفلسطينية وفقًا لأحكام القوانين ذات العلاقة، وأن يكون لها الشخصية الاعتبارية والذمة المالية المستقلة، وأن يكون مقرها الرئيسي في القدس، وأن تَفتتحَ مقراتٍ فرعيةً مؤقتةً لها حسب حاجتها، وأن يستمر العمل بقانون النقابة الأردني عام 1954، والذي كان نافذًا في الضفة الغربية بحيث يمتد القانون ليشمل الأراضي الفلسطينية كافةً. وأمّا نقطةُ الاتفاق الأهم فقد كانت إيكال مهام إعداد مشروع قانون نقابة أطباء فلسطين إلى مجلس نقابة الأطباء الحالي "المنتخب"، بالتنسيق والتشاور مع الهيئة العامة للأطباء، والجهات ذات العلاقة، وبما لا يمسُّ حقوق الأطباء ومقدراتهم المكتسبة، لا سيّما مقرّ النقابة الدائم في القدس، وهو ما يعني عمليًا إلغاء حل النقابة المنتخبة وإيقافَ المجلس الجديد المعينِ عن عمله. ولكن تسريباتٍ شاعت أن مكتب الرئاسة لم يوافق على هذا البيان فلم يتم تعميمه ونشره بشكل رسمي.

تراجعت السلطة التنفيذية، تحت الضغط والرفض، عن قرار الحل، واتفق بدلًا منه على العمل على إعداد مشروع قرار لنقابة أطباء فلسطينية توكل مهمة إعداده إلى نقابة الأطباء الحالية "المنتخبة" بالتشاور مع  الهيئة العامة للأطباء والجهات ذات الصلة.

في مساء يوم الأحد 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2022 جرى الاتفاق بين النقابة والحكومة -بحضور وزير الشؤون المدنية حسين الشيخ -ممثلاً عن مكتب الرئيس- على تعليق النقابة كافة الفعاليات النقابية، والعودة للانتظام بالدوام كالمعتاد لحين "صدور القرار بقانون وتعديلاته، ونشره في الجريدة الرسمية خلال الأيام القادمة".

 

بحث في السّياق .. التفرّد الموصل إلى الحلّ

أثارت هذه الأحداث الكثير من التساؤلات في صفوف الشارع الفلسطيني: هل من القانوني حل نقابة منتخبة؟ هل من الشرعي أن تقوم السلطة التنفيذية بإصدار قرار بقانون أصلاً؟ هل من مصلحة أحد -سواء المجتمع أم النظام السياسي- أن تعيِّن الحكومة النقابة بدلًا من انتخابها؟ في المقابل، هل من الأخلاقي إضراب فئة حيوية مثل الأطباء عن عملهم؟ هل من المنطقي تبعيّة الأطباء الفلسطينيين حتى الآن للنقابة الأردنية؟ وهل من المنطقي ألا ينضويَ أطباء القدس والداخل وقطاع غزة في نقابة تمثل الجغرافيا الفلسطينية؟

منذ 2006، العام الذي شهد تعطّل عمل المجلس التشريعي الفلسطيني بعد أحداث "الانقسام"، تكرّست في ساحة الضفة معادلةٌ قائمةٌ على محاولة السلطة التنفيذية تعزيز هذا الغياب، واستثماره، وتطويره بما يخدمُ هيمنتها على المجال العام، وهو ما تجلّى في خطواتٍ كثيرةٍ، كان ركيزتها الأساسية التوسع الكبير في استخدام القرار بقانون الذي يفترض أنّ إصداره متعلّق بالضرورة القصوى. وبناءً على قرارات بقوانين أُسّست أول محكمةٍ دستورية فلسطينية، وأعيدَ تشكيل مجلس القضاء، وحُلّ المجلس التشريعي، وحُلَّت هيئات ونقابات كنقابة الموظفين العموميين. لتتكرّس سيطرةُ السلطة التنفيذية، وتُنفى السلطات الأخرى، أو يُعاد تشكيلها لخدمة السلطة التنفيذية. وقد جرى التعامل مع الهيئات والنقابات والجمعيات العمومية بالمنطق نفسه، فإما أن تكون في صفّ السلطة التنفيذية أو أن يُعاد تشكيلها لتكون في صفّها.

وبناءً عليه، فإنّ ادّعاء السلطة التنفيذية بأن الهدف من القرار الأخير هو توحيد الأطباء الفلسطينيين تحت مظلة واحدة يبدو حجةً تبريريةً ضعيفةً تحاولُ تجاوزَ حقيقةٍ ماثلةٍ على الأرض، وهي كون محاولة حل نقابة الأطباء محاولةً سياقيةً تمامًا، مسبوقةً بعشراتِ الخطوات المشابهة.

يقول الأطّباء، ونقابتهم إن مشروع نقابة أطباء فلسطينية لم يكن في يوم من الأيام مشروعًا مرفوضًا لديهم، بل إن نقابة الأطباء تقدّمت مرتينِ سابقًا بمقترحٍ لتشكيل نقابة فلسطينية جامعة، لكنّ المقترح نُوّم في دواليب السلطة التنفيذية. ما يجعل إيقاظه الآن وتنزيلهُ على النقابة والحياة العامة الفلسطينيةِ بقرار بقانون يأتي من عَلٍ، دون أدنى تشاور مع نقابةٍ لم يتجاوز تاريخ انتخابها الشهور القليلة، يَكشف، بما لا يدع مجالًا للشك، غياب القانونيّ والصالح العامّ عن هذا القرار، بقدرِ حضور المصلحة السياسية الضيقة.

يتعارض هذا القرار مع أهم مبدأ نقابي، وهو أن النقابات وليدة الاختيار الحر عبر هيئتها العامة. فتعيين هيئة جديدة -وإن حملت اسم "نقابة فلسطينية"- يسلب عنها صفة "النقابة" ويجعلها ذراعًا حكوميةً في القطاع الطبي. كما أنّ المسمّى من حيث هو لا يمنحُ القيمة الوطنية ولا الفاعلية الشمولية، في ظل انقسام سياسي عميقٍ يمنع توحّد الحياة السياسية والعامة في الضفة والقطاع، وانعدام أي سلطة على القدس، ويضاف إلى ذلك القطيعة مع فلسطينيي الشتات والداخل. وإذا كان الحال هو الحال، فإنّ وجود هذه الهيئة العامة واختيارها لممثليها هو ما يضمن دفاع النقابات عن حقوقهم.

يقول الأطّباء، ونقابتهم إن مشروع نقابة أطباء فلسطينية لم يكن في يوم من الأيام مشروعًا مرفوضًا لديهم، بل إن نقابة الأطباء تقدّمت مرتينِ سابقًا بمقترحٍ لتشكيل نقابة فلسطينية جامعة، لكنّ المقترح نُوّم في دواليب السلطة التنفيذية. ما يجعل إيقاظه الآن وتنزيلهُ على النقابة والحياة العامة الفلسطينيةِ بقرار بقانون، دون أدنى تشاور مع نقابةٍ لم يتجاوز تاريخ انتخابها الشهور القليلة، يَكشف، غياب القانونيّ والصالح العامّ عن هذا القرار، بقدرِ حضور المصلحة السياسية الضيقة.

يُمكن تَفسير سعي السلطة التنفيذية إلى حلّ نقابة منتخبة، ضمن سياقٍ التفرّد وإعادة تشكيل السلطات لخدمتها؛ برغبتِها في السيطرة على مفاصل المجتمع بحيث لا ينازعها سلطتَها أي تشكيل مجتمعي لا يوافق توجهاتها، لا سيّما إذا كان هذا التشكيل منتخبًا، فهو حينها يزيد "خطورةً" من جهة امتلاكه لقدرٍ أكبر من القوّة والوحدة المستندة إلى خيار شعبي، ومن جهة كونِه يمتلك ما تفتقر إليه السلطة من شرعية انتخابية، فهو وفق ظنّها يشكّل خطرًا فعليًا بمخالفة سياساتها، وخطرًا معنويًا من خلال طرحِ سؤال شرعيّتها على المحك.

 

النقابة .. في خدمة المجتمع

يؤشّر التزام الأطباء خلال فترة الأزمة بأماكن عملهم –رغم إضرابهم- ودعوة نقابتهم إلى الإخلاء الشامل لكل المراكز الصحية إلى مقدار المسؤولية المجتمعية التي تتولّد وتنمو في ظل حياة نقابية صحيّة قوامها التمثيل والانتخاب والنهوض لتحصيل حقوق أبناء النقابة، وتطوير أوضاعهم. هذه الحالة في حقيقتها ليست مجرّد تضامنٍ خاصٍّ لفئة معينة من المجتمع مع  نفسها، وليست ثمرتُها متعلّقةً بخصوص الأطباء بعينهم، ولكنّها تنعكس على المجتمع، إذ تمنعُ تغوّل السلطة السياسية (التي تميل بطبيعتها إلى التغوّل في أي نظام إذا لم تجد من يوازنها)، ثمّ هي مع تعمّمها وشمولها لقطاعات واسعة من أبناء المجتمع تحقّقُ مصالحَ مجموعاتٍ واسعةً من الناس، كما أنّها تمنح المجتمع حصانةً أمام التفكك، وتمنح الفردَ قوةَ الجماعة الحامية الضامنة، وتمنعُ عنه الاستفراد. 

وإن كانت الحكومات التي تختارها الشعوب، ومؤسساتُ الدولة الرسمية هي أساس الدولة الحديثة، إلا أن مؤسساتها اللاحكومية الممثلة لفئات الشعب المختلفة هي عماد المجتمعات القوية والحامية لحقوق كل فئاتها. وبها تحتمل الهزات العسكرية أو الاقتصادية أو الكوارث الطبيعية. فعندما تم سحق ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية نهضت الدولتان بعد وقت قصير وعادتا إلى مصافّ الدول الرائدة وتجاوزتا محنتيهما، رغم هزيمتهما العسكرية الساحقة، وانهيار نظامهما، ودخول اليابان في كارثة إنسانية كبيرة. أما في دولٍ مثل يوغوسلافيا واليمن وليبيا، فقد كان المجتمع مهترئًا لا يقوم بوظائفه الحيوية، خاضعًا لنظم قمعية سلطوية متفردة، فلمّا انهارت الدولة بمؤسساتها الرسمية، انهار المجتمع نفسه، ودخلت شعوبها في أتون حروبٍ أهليةٍ وصراعات طويلةٍ ودامية، وعمّت المجاعةُ في بعضها، وارتُكِبتِ المجازر في بعضها الآخر مع علوّ صوتِ القبلية، وتأجيج النعرات المذهبية.

يمنعُ وجود نقابات قوية ومنتخبة تغوّل السلطة السياسية (التي تميل بطبيعتها إلى التغوّل في أي نظام إذا لم تجد من يوازنها)، ثمّ هي تحقّقُ مصالحَ مجموعاتٍ واسعةً من الناس، كما أنّها تمنح المجتمع حصانةً أمام التفكك، وتمنح الفردَ قوةَ الجماعة الحامية الضامنة، وتمنعُ عنه الاستفراد. 

وعليه، فإن الدفاع عن الحياة النقابية هو دفاع عن الدولة (الحيز الجغرافي والبشري وإن لم تصحّ التسمية في الحالة الفلسطينية) والمجتمع في المحصلة، فإن قوة المجتمع في قوة مؤسساته الفاعلة كالنقابات المهنية ومؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية والهيئات الأهلية، التي إن قام كل منها بواجبه انسدّت ثغراتٌ كان يتوجب على النظام القائم سدها.

وفلسطينيًا، مع الظرف الفلسطيني الخاص القائم على مقاومة الاحتلال وطلب التحرر، فقد التصق كثيرٌ من الأطباء بالثورة، على الرغم من أن الطب وممارسته تدفع الطبيب في الغالب بعيدًا عن الممارسة الثورية المباشرة، سواءً بسبب تعقّد عمليته التعليمية وضغطها الشديد الذي يستمرّ بعد دخول سوق العمل، أو بسبب إغراءات المقابل المادي المريح، والتقيّد بالبيروقراطية والروتين، وهو ما يقف على النقيض من الانخراط المباشر في العمل الثوري؛ إلا أن كثيرًا من الأطباء الفلسطينيين قدموا نماذجَ مهمةً غلبتْ القيود المانعة لانخراط الطبيب في المجال التحرري الثوري المباشر، ويمكن استذكار أسماءٍ بالغة الأهمية في التاريخ الفلسطيني كجورج حبش ووديع حداد وعبد العزيز الرنتيسي وفتحي الشقاقي وثابت ثابت، كما ينهضُ ليدخلَ في  السلسلة، ويفتح الباب لنماذج أخرى تكملها، الطبيب المشتبك عبد الله الأحمد أبو التين الذي ارتقى مؤخرًا في مخيم جنين.

 

الحراك .. الضرورة

يشكل الحراك الذي تقوم به النقابات، وعلى رأسها نقابة الأطباء محاولة لتوجيه أنظار المجتمع تجاه الأوضاع السياسية والاقتصادية المتردية وسوء الإدارة (أو فسادها) الذي أدى لكل هذه الكوارث. وإلى الهوة الواسعة بين العدد القليل من الأغنياء المتنفذين الذين أصبحوا يمتلكون البلد وبين عامة الناس الذين يكتفون ب80% من رواتبهم ثم يركضون بقية يومهم لإطعام أولادهم. وعامة الأطباء، الذين تحمل النقابة المُنتخبة صوتهم، هم من عامة هذا الشعب المحروم من حقوقه الأساسية.

إنّ محاولة خلق هوّةٍ بين الطبيب والناس، ووضع الطبيب في مواجهة المواطن عبر الترويج بأنه المسؤول عن ترهل الوضع الطبي في البلاد، أو عدّ فعل الإضراب نفسه، لا ما تسبّب به، هو الذي يجلب الضرر على الناس ويحرمهم من حقّهم في التطبب والتداوي؛ هو محاولةٌ لحرفِ النّظر عن الأصل السياسي للمشكلة المتمثّل في رغبة السلطة التنفيذية في الهيمنة على المجال العام، وهو ما من شأنه أن يصنع خللًا بنيويًا ويثيرَ الشقاق بين أبناء الشعب الواحد.

إنّ المسؤولية الرئيسية المتعلقة بضعف القطاع الطبي في فلسطين، يتحمّل مسؤوليتها النظام القائم بداهةً، من جهةِ كونه صاحب السلطة والقدرة والتّصدر أولا، ثمّ من جهة ما يعتري إدارته للشأن العام من عيوب وأعطاب. فحينما تتكرر حالاتُ الوفاة الناجمة عن الأخطاء الطبية أو انعدام المقدّرات اللوجستية، أو محدودية الطواقم العاملة في المستشفيات، فإنّ توجيهَ اللوم للطبيب أو الطواقم الطبية، دون الانتباه إلى أن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق المنظومة الحاكمة، هو نوعٌ من الاستقواء على الطرف الأضعف، ومنح المخطئ تذكرةً تجيز له ارتكاب المزيد من الأخطاء.

تحاول النقابات وعلى رأسها نقابة الأطباء والمحامين ومن قبلهما حراكات المعلمين، وسواهم، توجيه رفض الناس بالاتجاه الصحيح، اتجاه من عليه أن يتحمل مسؤولية صحتهم وتعليمهم وتحصيل حقوقهم. وسعيهم في سبيل تحقيق مطالب نقابية لمنتسبي نقاباتهم هو سعي في تحقيق حق من حقوق أبناء هذا الشعب الذي انتخبها لذلك، وسعيٌ نحو مجتمع أقوى في الوقت نفسه.