هالة السكاكيني وقدسها.. الذاكرة حين تكتب التاريخ
"القدس مدينتي. في تلك المدينة العظيمة ولد أبي، وكذلك جدايّ من الطرفين إلى الجد السابع"*
* هالة السكاكيني.
ثمة من يرى أن الذاكرة أكثر أصالة من التاريخ، باعتبار أن الأخير مزوَّق أو متلاعَب فيه، أو مؤوَّل ضمن محددات معينة. بمعنى أن المؤرخين يقدمونه بعد دراسة وتمحيص، وهنا تكون الذاكرة مصفّاة عفوية وسليمة. والصحيح أن الذاكرة هي كذلك معالجة للماضي، كما هو الشأن مع التاريخ، فهي تخضع للبنى الاجتماعية والأيديلوجية والسياسية والبيئية، وغير ذلك من المحددات. والتاريخ كذلك مجال معرفي خاضع لمنظومة بمحددات سلطوية ورقابية.
فمن السابق على الآخر، ومن الحادث ومن الأصيل؟
الذاكرة مادّة أوّلية، مصدر أوّلي في شكله الأول ذهنيًّا وشفويًّا، حتى وإن عُرِّفت من دون أي تعديل. وهي قد تكون واعية، بمعنى أن من يكتبها يدرك تمامًا الهدف منها وإلى أيّ المسارات ستؤول، وهل ستُتاح للقراءة والتأويل أم لا.
أما إذا كانت الذاكرة غير واعية، وهذا في القليل المعدود، ستكون معرّضة للتلاعب عبر الأزمنة المتلاحقة، ومن ثم التلاشي والنسيان، والمؤرخ الجادّ هنا هو الذي يقيّمها، وينقب عنها، بأدوات أركيولوجية، لتتحوّل إلى مادة علمية تغذّي المعارف الإنسانية، وتحفظ تاريخ الأمم.
على أن يعلم المؤرخ/ الكاتب، قواعد اللعبة، لعبة الحاضر والماضي، يقصّها بالغ مدرك واع عن سنوات طفولته، عن المكان وعلاقته بالأشخاص في الزمان والمكان، المتعاقبين، فتتغيّر أحكامه، ومواقفه، ومن ثمّ، نظرته للأشياء وإخباره عنها من الذاكرة، الحكاية، السردية، في عملية تحرير للماضي وليس عبئًا على التاريخ، كما يقول هيجل.وهنا خوض في جدليات مركّبة بين أصالة الماضي، أو تخلّفه، وعراقة المعاصرة أو زيفها، فتبدو حركة التاريخ هنا محسوسة، توقف في لحظة زمنية ما، تفحص في سياقاتها، والأحكام التي أطلقت عليها. إن التاريخ لم يعد كتابة المجتمعات الإنسانية، إنه حركة، ووثيقة، وصورة، وشكل فني، وإحصاء، وهو بالتالي بناء المعرفة التاريخية.
"لقد جعلني رحيل أمي أدرك فجأة الحقيقة أن الحياة زائلة. أصبحت الذكريات ثمينة، شيئًا يتمسك به المرء عندما يغيب الأصل. وهكذا سارعت إلى تسجيل كل حدث عشته، وكل فكرة خطرت لي، وكل شعور أحسسته، آملة بهذا أن أمسك كل اللحظات العابرة في حياتي وأبقيها حية على صفحات مفكرتي".
إن هذا التعارض بين الماضي والحاضر هو الذي يولّد وعيًا، ضمن المعارف الأنثروبولوجية وعلم النفس والألسنية، ويجعل عمقه ينتج تداخلًا في العلوم وبناء في المعارف. وأودّ هنا أن أورد إحدى الذاكرات، وهي إن أُعطيت فتُعطى لخصوصيتين، إحداهما ذاكرة الوجود – المنفى – العودة، وهي ثلاثية معقدة تخوضها الذاكرة الفلسطينية الجمعية، وثانيهما ذاكرة أنثى، وصاحبتها هالة السكاكيني، فلسطينية مقدسية أمضت طفولتها في القدس، وتركتها عقب الاحتلال في عام 1948، وعادت إليها قبيل حرب عام 1967. وهي ليست الذاكرة النسائية الوحيدة، فقد صدرت مذكرات كتبتها نساء، ومنها: "مذكرات رحلة"، لنجوى قعوار فرح في عام 1957، و"مذكرات فتاة عربية" لسميرة أبو غزالة في عام 1960، و"جولة في الذكريات بين لبنان وفلسطين" لعنبرة سلام الخالدي في عام 1978، و"الجذور التيلا ترحل" لليلى السائح في عام 1983، و"رحلة جبلية رحلة صعبة" ثم "الرحلة الأصعب" لفدوى طوقان في عامي 1988 و1993 على التوالي. و"تيتا وأمي وأنا: ثلاثة أجيال لنساء عربيات" للجين سعيد مقدسي في عام 2004، (بالإنكليزية)، و"ذكريات من القدس" لسيرين الحسيني شهيد في عام 2009، و"بحثًا عن فاطمة: قصة فلسطينية"، ثم "مذكرات فلسطينية" لغادة الكرمي في عامي 2014 و2015 على التوالي، (بالإنكليزية)، و"سيرة غيرب طولية" لرندة الخالدي في عام 2016.
نشرت هالة السكاكيني مذكراتها بعنوان "أنا والقدس"، باللغة الإنجليزية، والتي تُرجمت لاحقًا إلى العربية وصدرت عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ومؤسسة تامر للتعليم المجتمعي في عام 2019. تضمنت المذكرات حياتها منذ عام 1924 وحتى نكبة عام 1948، من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية عاشتها في كنف عائلتها، وتأثير والدها خليل السكاكيني. شاركت هالة بلحظاتها وتفاصيل المكان؛ المسارح والمقاهي والحدائق والمدارس، وأماكن امتدت إلى خارج البلدة القديمة؛ الطالبية والقطمون والبقعة، وحي الكولونية الألمانية حيث درست وأختها دمية في الثلاثينيات.
اعتمدت السكاكيني في كتابة مذكراتها على يومياتها التي التزمت بكتابتها منذ وفاة والدتها في عام 1939، حتى توقفت عندما توفّي والدها وأخوها سري في عام 1953. قبل أن تعود للكتابة التي كانت مرهونة بعودتها إلى الوطن في عام 1967.
هذا المذكرات فيها تذكّرات وتأمّلات، وأظنّ أن هالة أعادت فيها ما كتبت وهي طفلة، ولكنها استعانت بكتابتها في الطفولة لتسند ذاكرتها في تفاصيل الأحداث، أو تقمّص المشاعر، ربما. إنها كتابة ذاتية، ولكنها في الوقت نفسه، كتابة واعية، فيها قراءة للسياسة وتغيراتها، والحرب ومآلاتها، خصوصًا في مدينة كالقدس، تستوعب المشاعر التي رافقت الطفولة يومذاك، عند الباب الفلاني، وذاك الزقاق، وتلك الزاروبة، وهذا الحي، وهذه البقالة. وبالطبع، فإن الكتابة الذاتية في آنِها تعكس رؤية الشخص وتفكيره، وهالة، ابنة خليل السكاكيني، تربّت في كنف عائلة مهتمّة بالعلم والثقافة والأدب والفن، وكانت هالة مشتبكة في كل ذلك، إضافة إلى حميمية العائلة وتأثيرها على موجة كتابتها؛ إذ كانت هالة شديدة التأثر بموت شقيقها إثر مرض ألمّ به. نشرت هالة رسائل والدها إلى أخيها في كتاب "كذا أنا يا دنيا"، وهي جزء من مذكرات والدها، وبقية سيرتها الذاتية في كتاب "Twosome" وكتابين آخرين.
كيف يصف الإنسان مشاعره بعد عودة يقدر عمرها بـ 19 عامًا، بعيدًا عن القطمون، بعد عودة من المنفى إبّان حرب عام 1948، كيف تغيّر الحي، والبيت، والناس. العودة بعد الحرب "هذه لحظة تاريخية في حياتنا"، هكذا تقول هالة عندما عادت مع أختها دمية بعد 19 عامًا؛ باب الخليل مغلق، والمحلات عادت خرابًا، تقول: "مشينا في الشارع المألوف قبل تسعة عشر عامًا، باستثناء أن البيوت بدت مهلهلة، والحدائق مهملة ومملوؤة بالنفايات. وعندما وصلنا إلى دكان إبينغر، الذي تم تحويله، طبعًا، إلى شيء آخر، استدرنا إلى الشارع الذي كنا نعيش فيه، والذي كان معروفًا لكل سكان الكولونية الألمانية باسم ladle، وقد بدا لنا أكثر فوضى من أي وقت مضى. أخيرًا توقفنا أمام بيت بوريللي حيث كنا نسكن. كان ذلك البيت القرميدي الجميل خرابًا أيضًا. لقد بدا قاتمًا، وكأن طبقات فوق طبقات من الغبار قد التصقت به على مدى سنين. عدنا أدراجنا إلى الشارع الرئيسي، واصلنا مرورًا بمركز الشرطة...وأما محل خضار الدجاني وملحمة الكالوتي، ثم فيلا غارابديان، ثم المقبرة الألمانية وعمارة سماحة البيضاء عند زاوية الشارع، ثم إلى اليمين من أمام الكولونية اليونانية والنادي الرياضي...أخذنا نتقدم نحو حينا – القطمون. شعرنا بانفعال شديد، ولم نكن نطيق الانتظار...مشينا في ممرنا المألوف المظلل بالشجر...حيث كانت تسكن جدتي وأخوالي وآل عوض وآل صفير وآل البديري، مرورًا ببيت آل طليل الثالث الذين كانوا جيراننا، وأخيرًا أصبحنا هناك...كانت لحظة حزينة!".
إن شكل الوجود الاجتماعي للفلسطيني لم يخرج في الحقيقة من الحدث المفصلي في تاريخهم وهو نكبة عام 1948. وعملية تهجيرهم، وتدمير بيوتهم، أو مصادرتها وإسكان اليهود المهاجرين فيها ما هي إلا التمظهر المادي الأساس للنظام الاستعماري في فلسطين. والعودة، عودة هالة وشقيقتها، إلى بيت الطفولة، بعد 19 عامًا، وقد وجدتاه مسكونًا، إنما هي آليات تشكيل المعاني التي تشكّل مجتمعة ما هو فلسطيني.
"صعدنا الدرج. كانت الشرفة خالية تمامًا، واللمبة القديمة ملتصقة بالسقف. ترددنا قليلًا، ثم فتحنا الباب الأمامي ودخلنا...أخيرًا، توقفنا وسط غرفة معيشتنا الكبيرة...كان المكان عاريًا تمامًا...كنا كأننا في حلم.. تمنينا لو نستطيع تمضية بعض الوقت وحدنا في البيت كي نعيش بهدوء كل تلك الذكريات التي تدفقت في أذهاننا..كنا نخشى أن يخرج أحدهم من تلك الغرف، ويتهمنا بانتهاك المكان...طرقنا الباب، فظهرت سيدتان، إحداهما شابة سمراء، والثانية أوروبية متقدمة في السن...حاولنا أن نشرح: هذا بيتنا، كنا نعيش فيه قبل سنة 1948، أول مرة نراه منذ...بدا التأثر على السيدة الطاعنة في السن، لكنها بدأت تشرح فورًا أنها هي الأخرى فقدت بيتًا في بولندا، وكأننا نحن شخصيًا، أو العرب عامة، المسؤولون عن ذلك".
ما أودّ قوله أخيرًا، أن هالة التي عاشت وأختها طفولة كاملة في القدس، وعاشت كذلك منفى بعد حرب، ثم عودة غير كاملة، إذ صودر بيت طفولتهما، وسرقت مكتبة والدهما ومقتنياته ووثائقه، وصور العائلة وكل ما يعود لهم في بيتهم. تسكب هالة ذاكرتها مستخدمة ضمائر الأنا، المتكلم، الملكية، فتقول: بيتنا، مديتنا، شارعنا، حينا، مدرستنا، والقدس وأنا! وإن الاحتفاظ بسردية/ذاكرة المستعمَر لهو مما نحارب به المستعمِر.