هل بإمكان الفنّ مُقاومة الفاشيّة؟
هل بإمكان الفنّ مُقاومة الفاشيّة؟
جاستن كوشال
ترجمة وتقديم وتعليق: بيسان عابد
على سبيل التقديم..
بالإضافة للآراء الخاصة المتعلقة بفلسفة الجمال وأخلاقيات الفن، وجدليات التجاري والسياسي في الفنّ، تقدّم هذه المادة وجهة نظر حول موقع الفنّ في التغيير والمقاومة. تجنح الآراء المذكورة إلى تعزيز فردانية الفنّ واستقلاله عن المجتمع وتجريده من الهوية والمفاهيمية، لمنحه القدرة على التغيير، لا بأخذه مسافة من المجتمع لنقده فحسب، ولكن أيضًا بتعمّد الصدمة ومخالفة المعايير السائدة، بما في ذلك المعايير الجمالية، وقد تبدو هذه الأفكار مفهومة في سياقها الغربي الاجتماعي والسياسي، وبما قد تتضمنه من نزعة احتجاجية على النظام الرأسمالي السائد في الوسطين السياسي والاجتماعي، لكنّ السياق العربي عمومًا، والفلسطيني منه خصوصًا، مختلف من حيث طبيعة الأسئلة، والتي تتعلق بالدرجة الأولى، بالاستعمار، ومن ثمّ ضرورة الوحدة الاجتماعية لمواجهته، بما يستدعيه ذلك من نقل المفاهيم عبر الفنّ، وعدم الاكتفاء بالمعايير الذاتية للعمل الفنّي نفسه، كما أنّ المسافة الضرورية للعين الناقدة لا تعني بالضرورة الانعزال عن المجتمع. والقدرة على الملاحظة المختلفة قد تكون من الداخل كما هي من الخارج. وعلى أية حال، تحرص إطار على إعادة عرض وجهات النظر المختلفة بهذا الخصوص، مع التأكيد على هوية المنصة ورسالتها، وتنوّه إلى مقدّمة المترجمة التي تمثّل مدخلاً مفيدًا لإدراك طبيعة المادة المترجمة.
· التحرير
مُقدمّة المُترجِمة
جاءَت ترجمة هذا المقال لاستحضارِه مساحةً غائبةً عنّا؛ وهي إدراك مدى تأثير الفنّ وجدواه على الخارطة المُجتمعيّة والسياسيّة، وفي حين أنّ عنوان المقال موهِمٌ للقارئ، ويُحيل ظاهرًا إلى الحديث عن مقاومة الفنّ للفاشيّة تيّارًا سياسيًا وفكريًا؛ إلّا أنّ اختيار الفاشيّة بدا لي من خلال النصّ صيغةً للمُبالغة والتهويل؛ أي الذهاب بالموضوع إلى أقصى يمينه، واختبار قدرة الفنّ على التصدّي لهذا الشكل من الراديكاليّة، ذلك أنّ النصّ يستعرض مقاومة الفنّ في ظلّ حكومات تعدُّ ديموقراطيةً أو أنوقراطيّةً كالولايات المُتحدّة، وكأنّه يشير إلى رواسب الفاشيّة المُتبديةِ في أشكال الحكومات الديموقراطيّة الحديثة.
وقبل أن يضيع القارئ في متاهات النصّ وإغراقه بحجج الاستطيقا (Aesthetics) -أي فلسفة الجمال- لإعادة موضعة الفنّ في مكانه، فإننا في سياقنا الفلسطينيّ، وفي أماكن أقربَ إلينا من الحُجج الفلسفيّة العالية، نشهد الاعتقال والمُلاحقة، بل والاغتيال أحيانًا، الذي يتعرّض لهُ الفنانون، وبخاصة رسّامو الكاريكاتير بفعل قوّة تأثير أعمالهم وجدواها في المُقاومة. وإنّه لا ضيرَ أيضًا، ومن المُهمّ إعادة التفكير جماليًّا وفلسفيًّا في قُدرة الفنّ على المُقاومة من خلال فلسفة الناقد الألمانيّ ثيودور أدورنو (Theodor Adorno) (1903-1969)، وتأمّلاته في تفرّد "الفنّ الأصيل" ورفضه الانسجام، واستقلاليّته وديناميكيّته وتنافره، وقدرته على التفكير النقديّ ورفض الاتّباع، بيدَ أن آراء أدورنو قد تعزز من نخبويّة الفنّ وابتعاده عن المُجتمع. وفي حين أنّ المسافة عن المجتمع تُمكّن الفنّ من نقده وتغييره دون الانجرار إلى قوالبه المهيمنة، والانسجام فيها قوالِبهِ؛ فإنّها قد تقود إلى القطيعة عنه في الوقت ذاته. ويتضّح أن أدورنو في فلسفته الجمالية كان مسكونًا بمقاومة البراغماتية والرد على المجتمع الاستهلاكيّ الرأسمالي، وتلك "الثقافة المصنّعة" التي يحاول الفنّ الأصيل التعالي عنها، في حين أن فنّ الدعاية والإعلام الأداتيّ انساح فيها، فبدا وضيعًا ومُخالفًا للوظيفة القيميّة والتاريخيّة للفنّ.
مُقدّمة المقال
في الوقت الذي تتقدم فيه الحركات الشعبوية/ الشعبيّة عالميًّا، ما الفائدة من الفنّ؟ أليس الاتّجاه إلى الفنّ أو الموسيقا أو الأدب في الوقت الذي تهتزّ فيه أساساتُ المجتمع والنظام الدوليّ ضربًا من الانغماس الذاتي؟ وهل يُمكن للفنّ فعلاً تغيير العالَم؟
الاحتجاجات الفنيّة ومدى تأثيرها
نستحضر عام (2016) مثالاً، لمُلاحظة تأثير الفنّ في الفضاء السياسي؛ حين ادّعى فنّانون أمثال ريتشارد سيرا، وسيندي شيرمان، ولويز لولر، وجوان جوناس، وجولي ميريتو، بأنه كان مُمكنًا الاحتجاج على تنصيب الرئيس ترامب من خلال إغلاق المتاحف والمعارض الفنية بشكل رمزي في جميع أنحاء الولايات المتحدة. وأوضحَ هؤلاء الفنانون أن هذا الاحتجاج لن يكون "إضرابًا عن الفنّ أو المسرح أو أي شكل ثقافي آخر، إنّما دعوة لتحفيز هذه الأنشطة من جديد، لإعادة تخيّل هذه المساحات أماكنَ يمكن فيها إنتاج أشكال مقاومة تتمثل في التفكير والرؤية والشعور والتمثيل".
أثار الاقتراح حينئذٍ جدلاً في صحيفة الجارديان (Guardian) (9 يناير 2017)، حيث عبّر جوناثان جونز بأن الاحتجاج أظهر فقط مواقفَ راديكاليةً ضحلةً من النّخبة الثقافية من الأثرياء والمُترفين، وبعبارة أخرى، بما أن الفنانين لا يُخاطرون بشكل شخصي، فإن احتجاجهم السياسي يفشل. ثُمّ يضيف جونز قائلاً، دعونا نواجه الأمر، الفنّ والثقافة الجادة هامشيان تمامًا في الحياة الأمريكية.
ورأى أنّ إغلاقَ المتاحف لا يؤثّر حقيقةً على الدّاعمين لترمب، ويُنهي جونز بالقول إنّ السبب الحقيقي وراء عدم جدوى الإضرابات الفنية والكلمات الجميلة في أفلام غولدن غلوبز (Golden Globes) هو أنها قاصرة عن وصف الخطر الذي يتعرض له العالم، فهو يرى أنّ الفنّ غير قادر على التعبير الدقيق عن أهوال العالم الحقيقيّ بإنصاف، وأنّ كُلّ عمل فنيّ يدّعي أنه راديكاليّ، فهو بالتأكيد يتجنب الخطرَ الملموس الذي يواجهه، وفي المُقابل، أولئك الذين يخرجون إلى الشوارع احتجاجًا على الحرب النووية أو التحيز الاجتماعي أو عنف الشرطة، يتعرّضون لمخاطرة الاعتقال والسجن والمضايقة أو حتّى الموت.
وفي أسوأ الأحوال، قد يُواجه الفنّانون خطرًا غير ماديّ، وقد يؤثّرون على الشارع من خلال إنشاء أعمالَ فنية تُطوِّع اللون أو الخط، وتؤدّي لاستجابة عاطفية، أو من خلال تطوير التقنيات الفنيّة الجديدة التي تتحدى الجماهير، مع أننا لا نشهد دائمًا معاينة هذه التأثيرات واقعيًّا. والسؤال الآن، لماذا لا نقبل بحقيقة عجز الفنّ في المجال الاجتماعي والسياسيّ؟ لماذا لا يقبل الفنانون أنّهم سيبقون دائمًا على الهامش في السياسة والتأثير الراديكاليّ؟
يُعارض المُنظّر والناقد الألماني (والناقد الموسيقي أيضًا) ثيودور أدورنو (Theodor Adorno) رأي جونز فيما يخصّ الفن، ويُدافع أدورنو (1903-1969) عن قدرة الفن على جعلنا مُدركين للعنف (الذي نشهده في الأنظمة الرأسمالية والفاشية)، وقدرته أيضًا على التعبير عن المعاناة والأمل، مما لا يمكن التّعبير عنه باللغة، وأن الفنّ يقاوم الظلم، ليس من خلال تحقيق تغيير عملي مباشر، إنّما من خلال إجبار الجمهور على إدراك العنف الذي يقودُ تاريخهم، والنظام الاجتماعي الذي يُحاصرهم، وهذا الأسلوب المُتفرّد في المقاومة يثير الأفكار عوضًا عن الأفعال.
قاومَ الفنانون الحداثيون أمثال جيمس جويس وأرنولد شوينبيرج وصمويل بيكيت وباول سيلان وبابلو بيكاسو، مُمارسات المجتمع اللاأخلاقية في رأي أدورنو، وقد تصدّوا لها بشكل غير مباشر من خلال إعادة تكوين تجربة الفرد، وإظهار كيف شُوِّهت وعُطّلت قُدرتنا على التفكير العقلاني بسبب مُجتمعاتنا اللاعقلانية؛ وأنّ الفن التجاري، كالموسيقى الصاخبة، وأفلام هوليوود، والبرامج التلفزيونية، والروايات الشعبية، تفشلُ في تحدي الأعراف الاجتماعية والتاريخية لأنها تابعة لطلبات الجماهير.
يُدافع أدورنو عن قدرة الفن على جعلنا مُدركين للعنف (الذي نشهده في الأنظمة الرأسمالية والفاشية)، وقدرته أيضًا على التعبير عن المعاناة والأمل، مما لا يمكن التّعبير عنه باللغة، وأن الفنّ يقاوم الظلم، ليس من خلال تحقيق تغيير عملي مباشر، إنّما من خلال إجبار الجمهور على إدراك العنف الذي يقودُ تاريخهما
والفنّ التجاريّ غالبًا ما يكون طفوليًّا ونمطيًّا، وهو قاصرٌ عن خلق مسافة بينه وبين المُجتمع، وبالتالي فهو غير قادر على تغيير الوعي الفردي، على سبيل المثال، تسعى الموسيقا الشعبية إلى تعزيز الهوية الوطنية والثقافية من خلال تكرار الروايات التي يعرفها معظم المستمعين، في أمريكا مثالاً، تتضمن هذه التكرارات مفاهيم القوة والاستقلالية والحرية والاعتماد على الذات بعمومها وفردانيّتها، والتي يحفظها المُستمعون جيّدًا.
إنّ وظيفة الفنّ الراديكالي تتمثّل في مقاومة الاندماج في الوضع الراهن، ووفقًا لأدورنو، فإن الغرض منه هو التحريض على تجربة أخرى، تجربة جديدة، تقع خارج الأعراف الاجتماعية والثقافية للجمهور.
إنّ أدورنو يرى أنّ الفكرة التقليدية للجمال يجب ألا تحكم إنتاج الفنانين للأعمال الفنية بعد الآن؛ لأن هذا الجمال يدّعي أنه يعزز السلام والوئام ويسمح بالتعالي عن الحياة اليومية؛ ولكنّه في الواقع يمُرّ فوق العنف الذي ينتشر تحت سطح المجتمع "المُهذب" ظاهريًا. وهذا يُذكّرنا بالدعايات الفارغة التي نراها على اللوحات الإعلانية وهي تسعى للتغطية على حقيقة كراهية النساء أو العنف الجنسي المؤسسي. فإذن، يجبُ أن يحاول الفنّ الحقيقي -وبشكل سلمي- مُحاكاة عُنف المجتمع من أجل التعبير عنه، ويُمكن رؤية هذه المحاولة في تنافر أعمال الموسيقي شوينبيرج (Arnold Schoenberg).
فقد أنتج شوينبيرج (1874-1951) تقنيةً رسميةً جديدةً لتأليف الموسيقى، وهي نظام الاثنتي عشرة نغمةً، تعبيرًا عن العنف التاريخي من خلال الشكل الجمالي، حيث يعمل هذا النظام من خلال رفض الانسجام. وبدلاً منه، تعبّر الأعمال المتنافرة عن الاختلاف - التفرد النوعي- في النغمات المكونة لها. ليكون التعارض بين النغمات الخاصة عاكسًا للعنف الاجتماعي. وعند أدورنو، الأعمال الفنية الحقيقية، هي تلك التي لا تخجل من التعبير عن المعاناة، وهي متنافرة وغامضة ويصعب فهمها. فعندما نفكر في مسرحية بيكيت مثالاً، ندرك أن عقلانيّة المجتمع الرأسمالي هي الرغبة العملية في كسب أكبر قدر من المال بأقل جهد ممكن، وهذه ليست إلا نسخةً مشوهةً عن العقلانية الحقيقية التي لا تحكمها الضرورات العملية والأداتية، ولكنها تتيح بدلاً من ذلك التفكير الفلسفي وتجربة الآخر والتفرّد.
جورج أورويل (George Orwell)، الذي حارب الفاشية حينما كان متطوعًا في الحرب الأهلية الإسبانية، قبل أن يكتب روايتيه الشهيرتين: مزرعة الحيوان، و1984.
الفنّ يتحدّى
إذن كيف يُحارب الفنّ الفاشيةَ؟
يُمكن القول بدايةً إنه على الرغم من أن الفن الراديكالي يُعتبر هامشيًا إلى حد ما في الحياة الغربية؛ إلا أنه لا يحتاج إلى جمهور كبير من أجل إحداث التأثير المزعزع للاستقرار، وقد أشار جونز في مقالته التي شكك فيها في الفائدة السياسية للفن؛ إلى أن التجارب الوحيدة المؤثّرة ثقافيًا أو سياسيًا، هي تلك التي يمكن قياسها على نطاق واسع (Mass Scale)، إلّا أنّ شعور فرد واحد بالصدمة والرعب عند النظر إلى لوحة بيكاسو (Pablo Picasso)، غيرنيكا (Guernica)، هو حقيقةً تأثير جليّ للفنّ على الأفراد.
لوحة بابلو بيكاسو، غيرنيكا (Guernica)
صاغ أدورنو فلسفته التي كانت مسكونةً بمقاومة البراغماتية، وذهب بعيدًا للقول إن "كُل ما لا يتناسب مع هذا العالم هو فقط الصحيح"، ويعدّ أدورنو أن الحقيقة في الواقع هي عبارة عن قيم أخلاقية، وهذا التعريف يُعطي مساحةً للعمل الفني الحقيقي بتجنب التوافق والتعبير عن الفردية أو الاختلاف أو الاحتمال. وأن التزام الفنّ بشكل أعمى بالتعبير عن الفئات الاجتماعية، قد يحقق للعمل قدرًا من الشعبية ظاهريًا، لكنه يُفقده الكثير. يجادل أدورنو بأن الفعل الأخلاقي يتطلب استقلالية العقل والتفكير النقدي بالإضافة إلى تجربة خصوصية ما (أي التفرد النوعي أو المادي للشيء). فكيف يمكن للفن الوصول أو تمكين هذا المفهوم للحقيقة الأخلاقية؟
أّما السبب الثاني الذي يجعل الفن قادرًا على المقاومة، هو أنّ الأعمال الفنية لا تنقل الأفكار من خلال المفاهيم/ المصطلحات التي أصبحت عُملةً باليةً للحديث اليومي، إنّما تعبّر الأعمالُ الفنية عن الحقيقة من خلال اللغة الشعرية أو الفنية التي تخلق مسافةً بينها وبين الأيديولوجيا والمفاهيم اليوميّة التي تم قبولها بدلاً من فحصها بشكل نقدي، لذلك يرى أدورنو أن أفضل الأعمال الفنية الحديثة هي تلك التي تعبر عن النشاز وعدم الانسجام، وهي عنده تُمثّل الرعب والمعاناة، كما يلاحظ أن: "قصائد سيلان تتحدث عن أقصى درجات الرعب من خلال الصمت، ويصبح محتوى الحقيقة نفسه سلبيًا "(نظرية الجمال، ص 405). إنّ بإمكان الفن بهذه الطريقة، إنصافُ وصف الحالات المتضررة في العالم.
وبما أن الرأسمالية تجبر الأفراد بقوة على تقييم الأشياء من الناحية الربحية، بغض النظر عن قيمتها الجوهرية أو فائدتها، فإنّ الوظيفة الحقيقية للفن الحديث عند أدورنو، هي بناء أشياء غير مجدية،[1] لكنّها ذات قيمة جوهرية (وغير قابلة للقياس الكمي)، فهو يعارض جعل الأعمال الفنية سياسيةً بشكل صريح، لأن هذا يعني أنها أصبحت أدواتٍ عوضًا عن أن تكون إبداعاتٍ مستقلة.
مما يجعل الفن قادرًا على المقاومة، هو أنّ الأعمال الفنية لا تنقل الأفكار من خلال المفاهيم/ المصطلحات التي أصبحت عُملةً باليةً للحديث اليومي، إنّما تعبّر الأعمالُ الفنية عن الحقيقة من خلال اللغة الشعرية أو الفنية
وعلى الرغم من أن بيرسي شيلي مثلاً شاعر عظيم، إلاّ أن بعض أشهر أعماله، يستخدم فيها الشعر إلى حد ما لإيصال وجهة نظر سياسية، وفي المُقابل، تستخدم أعمال جون كيتس موضوعاتٍ تشكل جزءًا من التقاليد لانتقاد التقاليد نفسها؛ دون تحويلِ العمل الفنيّ إلى أداة سياسية، مثل عمله الفنيّ إلى الخريف (To Autumn). وللأسباب المذكورة آنفًا، فإنّ بوب ديلان هو فنان أقلّ فاعليّةً من بيتهوفن، لأن الأخير يواجه ويتحدى تجارِبنا أكثر من الأول، وهو أقلُّ سياسيّةً -أي تحويل عمله لأداة سياسيّة- بشكل علنيّ.
قد تبدو هذه النظرة نُخبويةً بعض الشيء؛ لكن أدورنو لا يرى هذا الاعتبار موضوع النقاش. إنّ استقلالية العمل الفنيّ عن المجتمع تُمكّنه من نقد المُجتمع -من خلال السماح للذات بإدراك الشكل الذي سيبدو عليه الموضوع دون أن يتدخل العقل الأداتي لتحديده، أو أن تتدخل قيمة التبادل المهيمنة. وبناء على ذلك، فإنّ أي عمل فنيّ لا يتمتع بالاستقلالية الكافية -البرامج التلفزيونية التجارية مثالاً، والتي تعتمد على رعاة الشركات، أو الموسيقا الأكثر شعبية، والتي تستخدم الألحان التي يمكن استيعابها واسترجاعها بسهولة دون بذل الكثير من الجهد- يجب أن يفشل باعتباره فنًّا. وفي حين أنّ الفن السياسي الصريح يُخبر الذات تحديدًا بما يجب أن تُفكر فيه من خلال توفير مخطط فكريّ مُسبق لتتوافق معه تجارب الذات؛ فإنّ الفن المستقل، وعلى خلاف ذلك، يسمح للذات بتجربة الآخر ضمن شروطه الخاصة -قد تكون شروط الفنِّ أو الذات-. وهذا يعني أنّه يفتح التفكير النقدي بدلاً من إغلاقه.
الفنّ وسيلةً للانفتاح على الآخَر
إنّ المفاهيم الشاملة غير قادرةٍ على الإحاطة بجميع السمات الخاصة بموضوعٍ حقيقيّ؛ وهذا ما يُطلق أدورنو عليه انعدام هوية "المفهوم" و"الموضوع"، نواجه هذا الانعدام عندما ندرك أن تجربةً ما نواجهها، فيها جوانب مفاهيمية غامضة وعمياء، فعلى سبيل المثال، يصعُبُ أحيانًا التعبير لُغةً عن السمات المادية للأشياء بشكل دقيق، وبالمِثل، فإن بعض الأعمال الفنية تكمن أهميتها في النظر إليها -تجربتها بصريًا- حيث لا يُمكن وصفها مفاهيميًا، ذلك أنَ المفاهيم قد تحجب الخصوصية بدلاً من التعبير عنها.
إنّ أي عمل فنيّ لا يتمتع بالاستقلالية الكافية -البرامج التلفزيونية التجارية مثالاً، والتي تعتمد على رعاة الشركات، أو الموسيقا الأكثر شعبية، والتي تستخدم الألحان التي يمكن استيعابها واسترجاعها بسهولة دون بذل الكثير من الجهد- يجب أن يفشل باعتباره فنًّا
إنّ الفنّ يتيحُ لنا مُعاينة "الآخر" واستكشافه، وهذه التجربة هي بالتحديد ما تسعى الفاشية لوأدِها، ولكن كيف يكون انعدام الهوية في الفنّ مظهرًا جماليًّا؟ وهذا ما قد نواجهه في معرض حين نقف في حيرة من أمرنا أمام عمل فنيّ يبدو عصيًّا على الفهم أو غريبًا أو مُحيّرًا، مثل العمل الفنيّ المشهور للفنّان السيرياليّ ميريت أوبنهايم (Meret Oppenheim) مثالاً، عام (1936)، حيث احتوى العمل الفنيّ فنجانًا وإناءً وملعقةً، مُغطّاةً كُلّها بالفراء.
Méret Oppenheim’s Object (1936)
يُقدّم الفنّ الحديث تجربةً لفهم الآخر تعجز الأساليب التقليدية عن التعبير عنها وتمثيلها، على سبيل المثال، المقطع الأول من قصيدة باول سيلان (Paul Celan) الشهيرة: مقطوعة الموت (Death Fugue) (1945):
حليبُ الفجر الأسود نشربهُ في المساء الطّالع
في الصباح والظهيرة.. نتجرّعهُ في الليالي
والقبرُ نحفُرُه في الهواء كي لا تضيق بنا المضاجع
والرجلُ في بيته يلهو ويكتُبُ بالأفاعي
عند الظلام يكتبُ إلى ألمانيا.. إلى شَعر مارغاريتا الذهبيّ اللامع
يكتُبها ويخرج والسماء تومِضُ.. والنجمُ في الأعالي
والكلابُ عند الصفير حولهُ تُسارع
واليهودُ في صفوفٍ يجرُفُهم في الضريح لا يُبالي
ثمّ يأمرنا باللهو والرقصَ ويتُابِع
هل يمكن بسهولة وصف هذه القصيدة أنّها جميلة، أو قبيحة، أو سيئة، أو غريبة؟ أولاً، نظرًا لكون كُل هذه الأوصاف محددة في الاستخدام الثقافي اليومي؛ فيجب حتمًا مراجعتها حتى لا تكون مجرد خيالات أو تخمينات ثقافية. ثانيًا، كما يزعُم أدورنو فإنه لا ينبغي اعتبار الجماليّات استجاباتٍ عاطفيةً ذاتيةً، بل يجب اعتبارها ميزاتٍ للموضوع في ذاته، ومن هذا المنظور فقط سنتمكّن من فهم التكوين الداخلي للعمل الفني، وقدرته على التعبير وإنتاج الحقيقة، بالإضافة إلى إيهامه الظاهريّ.
الفنّ يُلهمنا
أمّا الطريقة الرابعة التي يُقاوِم بها الفنّ الفاشية، فهي الإلهام، ذلك أنّ الأعمال الفنية تُلهمنا للتجربة والإحساس بالأمل والقُدرة، في الوقت الذي يُخيّم فيه اليأس والعجز.
يُخالف عمل باول سيلان الفنيّ العديد من القواعد التي تحكم الشعر التقليدي، فهو ينحتُ أحيانًا كلمات جديدةً، وبدلاً من إعطائنا رسالة مباشرة؛ يتحدانا لابتكار رسالة جديدة، نستلهمها من القصيدة. إنّ شعره رمزيٌّ أكثر من كونه سرديًّا، ورمزيّته هذه يصعُبُ كسرها. وكما كتب أدورنو في "نظريّة الجمال" (1969): "إنّ التشفير الجديد -الرمزيّة المحضة- هو تصوير للانهيار، وبحكم المضامين السلبية للانهيار ينطق الفنّ بما لا يوصف، وهو اليوتوبيا/ الطوبائيّة"(ص 41). وتوضيحًا للعبارة، فإنّ الفنّ قد ينقُلُ الناظر/ القارئ إلى المدينة الفاضلة -أي إمكانية وجود عالم آخر لم تعد فيه حاجة لنقد اجتماعي راديكالي- من خلال تطوير أشكال أو تقنيات جديدة لم يُعاينها الأفراد مُسبقًا، وبنفي الأشكال الموجودة مُسبقًا –أي من خلال الفن- تبدأ اليوتوبيا/ والطوبائيّة بالظهور.
وما المُهم في المدينة الفاضلة والطوبائية؟ إنّ مفهوم أدورنو عن اليوتوبيا سلبي تمامًا (باصطلاحه عن الديالكتيك السلبيّ)،[2] إنه مفهوم مقيّد يذكّرنا بأن كل فعل نقد يستلزم منطقيًا حالة لا توجد فيها العناصر المنفية، وإن إمكانية النقد تعني إمكانية التقدم.
يقودنا الحديث عن النقد إلى السبب الأخير الذي يجعل الفن مُقاومًا للفاشية، وهو قُدرته على التفكير النقدي في المجتمع، وبالتالي التطلّعُ إلى مجتمع أفضل، ولأن الفنّ مستقل جزئيًا عن المجتمع والتاريخ، فيسمح هذا الاستقلال للأعمال الفنيّة بأن تكون وسيلة أو ملجأً للنقد الاجتماعي المُستقل، قد لا يقود مثل هذا النقد إلى تغيير عملي مُباشر، فلا يمكنه مثلاً وقف الأوامر التنفيذية للرئيس، بيدَ أنّ النقد يتضمّن التفكير، الأمر الذي يُقاوم القبول الأعمى للقيم السائدة.
وبالرغم من أن الفنّ قد يبدو عاجزًا مقارنة بحركات الاحتجاج الجماهيري، إلاّ أن الأعمال الفنية الراديكالية مهمة على وجه التحديد لأنها لا تستخدم نفس القوة التي تحكم المجتمع. حقيقةُ أن الأعمال الفنية لا يمكن أن تحدث التغيير هي في الواقع إحدى فضائلها، لأنها تعني أنها تقع خارج منطق المجتمع، وبدلاً من ذلك، قد تساعدنا بعض الأعمال الفنية في رؤية ما وراء الهياكل النفعية التي تحكم التجربة اليومية. وفي تأمله يتحدّث أدورنو أنّ "كل عمل فني هو جريمة غير مرتكبة". فيُمكن أن يكون العمل الفني عملاً تخريبيًا ضد نظام اجتماعي لا يطاق، وبما أن مثل هذا العمل الفني مستقل عن تلك القواعد والمعايير التي تحكم النظام الاجتماعي، فإنه لا يمكنه تغيير الواقع، وقد يُعبَّر عن حقيقة العمل جماليًا وليس عمليًا.
وبالنسبة لأدورنو، التفكير يكونُ ضمنيًا شكلاً من أشكال المقاومة، وكل نشاط عملي يتطلب ضرورةً التفكير والرأي إذا كان يهدف إلى تجنب العمى، وبالطبع، ليست كل الأعمال الفنية تقدميةً أو طليعيّةً، وإنّ العديد من اللوحات الواقعية السوفيتية عند أدورنو تظل مجرد دعاية، فهي تفشل في تطوير تقنية رسمية تظل مستقلة عن المجتمع، كما أنّ بعض اللوحات أو القصائد السريالية تظلُّ متحيزة في كثير من الأحيان.
الفنّ يتقيّد بعالَمين
إنّ البشر يُشبهون الأعمال الفنية؛ يسكنون عالمين في الوقت نفسه: الفعلي والممكن، فما البوصلة إذن التي يجب أن نستخدمها لتوجيه مسارنا في مثل هذه الأوقات المُضطربة؟ يشير صموئيل بيكيت (Samuel Beckett) إلى اتجاه بلا اتجاه:
"يجب أن أقول كلمات، طالما أنّها موجودة، إلى حين يجدوني، حتى يقولوا لي، ألم غريب، خطيئة غريبة، يجب أن تستمر، ربما فعلتُ ذلك بالفعل، ربما قالوا لي بالفعل، ربما كانوا قد حملوني على عتبة قصتي، قبل الباب الذي يفتح قصتي، إذا فُتح سيفاجئني، ستجدني أنا، سيكون الصمت حيث أكون، لا أعرف ما سأفعل، إنّك لا تعلم أبداً في الصمت الذي لا تعرفه، يجب أن تستمر، لا يمكنني الاستمرار، سأستمر".
(رواية مالون يموت، صمويل بيكيت، 1959، ص 418).
وبالنسبة لأدورنو، التفكير يكونُ ضمنيًا شكلاً من أشكال المقاومة، وكل نشاط عملي يتطلب ضرورةً التفكير والرأي إذا كان يهدف إلى تجنب العمى
References
Kaushall, Justin. “Can Art Fight Fascism?”. Philosophy Now, 2018.
https://philosophynow.org/issues/129/Can_Art_Fight_Fascism
[1] . غير مجدية ماديًّا أو ربحيًّا. (المترجمة).
[2] الديالكتيك السلبي هو أحد مفاهيم أدورنو في بناء نظريّته الجماليّة، والدّافع وراءه هو المُعاناة الإنسانيّة التي لا يُمكن إنكارُها.