﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ﴾: العبادة الغائبة ومشروع القوة الحضارية
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ (الأنفال: 60)
من بين الآيات القرآنية التي قدمت توجيهًا يحقق للمجتمعات العربية والإسلامية مكانتها بين الأمم، تبرز الآية الستون من سورة الأنفال: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾؛ فالآية إعلانٌ لمبدأ الوجود الحضاري للأمة، إذ تحوّل "الإعداد" من فعل عسكري إلى عبادة دائمةٍ تمتد إلى كل مجالات الحياة اليومية وفعالياتها. ومن ثَمَّ، فإنّ غياب هذه العبادة عن وعي المجتمع يؤدي إلى ضمور الإرادة، وركود الفاعلية فيه. لقد أصبح الأمر الإلهي: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ﴾ فريضة غائبة؛ غابت من الفكر قبل أن تغيب من ميادين الحياة اليومية، فالإعداد ليس تكديسًا للسلاح، بل بناء للإنسان.
تسعى هذه المقالة لفهم هذه العبادة من خلال تتبّع معاني "آية الإعداد" في اثني عشر قسمًا متسلسلًا: مِن علّة نزولها والمخاطب بها، إلى تعريف القوة، وتعريف الاستطاعة، مرورًا بتفسير النبي ﷺ للقوة في قوله: "ألا إن القوة الرمي"، وصولًا إلى تفسير تعبير "رباط الخيل" بمعنيَيْه التراثي والمعاصر، ثم إلى تحليل مفهوم "الإرهاب" القرآني في مقابل معناه الغربي، وتحديد العدو الذي تقصده الآية، وانتهاءً بيان الجزاء الدنيوي والأخروي لعبادة "الإعداد". ومن خلال هذا البناء، يتضح أن الآية تقدم مشروعًا حضاريًا، يضع أفراد المجتمع أمام مسؤولية الإسهام فيه.
ولعل من المفيد قبل الشروع في بيان دلالات آية إعداد القوة، أن نُشير إلى أن عددًا من الأكاديميين المعاصرين المتخصصين في تاريخ الفتوحات العربية - أي في دراسة التوسع الذي حققته المجتمعات الإسلامية حين امتلكت عناصر القوة - يؤكدون أن تجربة هذه المجتمعات في امتلاك القوة كانت من أرفق التجارب الإنسانية بالضعفاء؛ فقد ذهب كلٌّ من هيو كينيدي[1] وروبرت هيولاند[2] إلى أن المجتمعات الإسلامية، حين بلغت ذروة قوتها، فتحت المجال أمام الضعفاء ليشاركوا في ثمار تلك القوة التي أعدّتها وحققتها.
1. عِلّة النّزول
يذكر المفسرون أن علّة نزول آية الإعداد هي التنبيه إلى ضرورة الأخذ بالأسباب، والتذكير بأنّ الصراع بين الأمم يكون وفق القوانين السببية التي أودعها الله في الكون، وأنّ النصر يتحقق بالاعتماد على الغيب مع العمل بما جعل الله للكون من سنن. يورد الرازي أنّ أصحاب النبي ﷺ في غزوة بدر خرجوا إلى عدوّهم من دون آلة ولا عُدّة، فأراد الله بهذه الآية أن ينهى المؤمنين عن تكرار ذلك، ويأمرهم بأن يُعِدّوا ما يستطيعون من القوة والعدة[3]. ويُفصّل الماتريدي هذا المعنى فيقول: "قال بعضهم: ’وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة‘، ولا تخرجوا إلى الحروب والمغازي كما خرجتم إلى بدر بلا سلاح ولا قوة، وأما غيرها من الحروب والمغازي فلا تخرجوا إليها إلا مستعدين لها [...] وإن كان عز وجل قادرًا أن ينصرهم على عدوهم بلا أسباب [...] لكنه أمر بالأسباب، لما أن جميع أمور الدنيا جعلها بالأسباب، من نحو الموت والحياة وسائر الأشياء". ثم يبيّن أن الله أجرى سننه في الكون وفق نظام الأسباب، كما جعل للغذاء دورًا في بقاء الإنسان، وللدواء أثرًا في الشفاء، وإن كان قادرًا على فعل ذلك بلا وسائط[4].
ويؤكد القرطبي هذا المعنى فيقول: "فإن الله سبحانه لو شاء لهزمهم بالكلام والتفل في وجوههم وبحفنة من تراب كما فعل رسول الله ﷺ. ولكنه أراد أن يبتلي بعض الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه النافذ"[5]. أما البقاعي، فيُبرز البعد البلاغي في نظم الآية، فيرى علاقتها بالآية التي سبقتها[6] أنها من باب قوله ﷺ: "اعقلها وتوكّل"؛ أي لا يحملنّكم الاتكال على قدرة الله على ترك الأسباب، بل ابذلوا جهدكم وطاقتكم فيما أُمرتم به. فالإعداد عنده وجه من وجوه التوكل الحقّ؛ لأن الاتكال على الله لا يعني تعطيل السعي، بل أداؤه بأقصى ما تتيحه الطاقة البشرية[7].
ويقدم سيد قطب مقاربة تلخّص الموقف، فيقول: "الإسلام يتخذ للنصر عدته الواقعية التي تدخل في طوق العصبة المسلمة؛ فهو لا يعلق أبصارها بتلك الآفاق العالية إلا وقد أمن لها الأرض الصلبة التي تطمئن عليها أقدامها؛ وهيأ لها الأسباب العملية التي تعرفها فطرتها وتؤيدها تجاربها". وهكذا يتبيّن أن علّة نزول هذه الآية كانت توجيه المجتمع إلى الجمع بين التوكل والأخذ بالأسباب؛ فالنصر لا يتحقق بالانفعال ولا بالتمني، بل بالإعداد الواعي الذي ينسجم مع سنن الله في الخلق والتاريخ[8].
2. من المخاطَب بهذه الآية؟
يتّضح من سياق الآية أن الخطاب موجّه إلى عموم المجتمع، لا إلى فئة مخصوصة منه. فالإعداد تكليفٌ جماعيٌّ يندرج ضمن وظائف الأمة كلها، لأن كل فرد يُسهم في بناء قوتها بحسب موقعه وقدرته. ويؤكّد أبو السعود هذا المعنى في تفسيره، حين يشرح قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ﴾، فيقول: "توجيه الخطاب إلى المؤمنين لما أن المأمور به من وظائف الكل"[9]، وهو الفهم ذاته الذي يكرّره الألوسي، إذ يرى أن الخطاب عامّ يشمل جميع أفراد الأمة، لا طائفة دون أخرى[10]. أما محمد رشيد رضا فيوضّح أن هذا الخطاب "موجه إلى الأمة في كل زمان ومكان كسائر خطابات التشريع حتى ما كان منها واردًا في سبب معين"[11]. وهكذا يتّضح أن الإعداد عبادة جماعية متجددة، تتنوّع أشكالها بتنوّع الأزمنة والظروف، لكنها تبقى واجبة على كلّ فرد بحسب قدرته ومجاله؛ فمن يُعلّم، ومن يُنتج، ومن يُبدع، ومن يُدافع جميعهم مشمولون في خطاب الإعداد. وبذلك يتحوّل الأمر الإلهي إلى مشروع حضاريٍّ متكاملٍ يربط بين العبودية لله تعالى والمسؤولية الاجتماعية.
3. ما معنى الإعداد؟
وإذا كانت عبادة الإعداد شاملةً جميعَ أفراد المجتمع، فما المقصود بالإعداد الذي يأمر به القرآن؟ يبيّن ابن عاشور أن الإعداد هو التهيئة والإحضار؛ أي جعل الشيء مهيّأً للاستعمال عند الحاجة[12]. ويفسّره البغوي بأنه اتّخاذ الشيء لوقت الحاجة[13]، في حين يرى محمد رشيد رضا أنّ الإعداد هو تهيئة الشيء للمستقبل. ويتّضح مما سبق أنّ المقصود بالإعداد ليس ردّ الفعل العاجل عند وقوع الخطر، بل الاستعداد المسبق والمستمرّ لما قد يأتي؛ فالمطلوب من الأمة، أفرادًا وجماعات، هو تهيئة القوة، واتخاذ الوسائل، وإحضار العُدّة قبل الحاجة إليها، استعدادًا لكل مُحتَمَلٍ في المستقبل.
4. ما معنى القوة؟
فما القوة التي ينبغي إعدادها؟ يقول ابن عاشور إنَّ "القوّة" تُطلق مجازًا على "شدة تأثير شيء ذي أثر"، وكذلك تُطلَق على "سبب شدّة التأثير". ويوضح الطبري هذا المعنى في قوله: "ولا وجه لأن يقال: عني بالقوّة معنى دون معنى من معاني القوّة، وقد عمّ الله الأمر بها" أي شمول اللفظ لكل وجوه القوة[14]. ويشير طنطاوي في تفسيره إلى أن المقصود: إعداد وسائل القوة على اختلاف أصنافها وألوانها وأسبابها، وأن لفظ "القوّة" جيء به على سبيل العموم ليشمل كل ما يتقوّى به في الحرب[15].
ويوضّح سيد قطب أن معنى القوة يتغيّر بتغيّر العصور، فيؤكد: "الاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد؛ والنص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها؛ ويخص ’رباط الخيل‘ لأنه الأداة التي كانت بارزة عند من كان يخاطبهم القرآن أول مرة [...] والمهمّ هو عموم التوجيه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾". ويتبنّى محمد رشيد رضا هذا الفهم العمومي، إذ يرى أن واجب العصر يقتضي تعلّم الفنون والصناعات اللازمة لصنع وسائل القوة، لأن "ما لا يتمّ الواجب المطلق إلا به فهو واجب"، ومن ذلك صناعات آلات القتال وكل ما تقوم عليه معيشة الأمة من صناعاتٍ رافعةٍ للكفاية. أما الشعراوي فيوسّع دائرة المعنى لتشمل عناصر ذاتية ومجتمعية، فالقوة قد تكون "ذاتية في النفس" كصحة الجسد، وقوة العقل، وشجاعة الإرادة، إلى جانب قوة السلاح، والركائز الاقتصادية والإعلامية، وبهذا تصبح القوة شبكة عناصر متكاملة: علم، وتقنية، واقتصاد، وإعلام، ووحدة كلمة[16].
ويشدّد أبو حيان وغيره من المفسِّرين على شمولية أمثلة القوة: من الرمي، والخيل، وقوّة القلوب، واتفاق الكلمة، والحصون، وآلات الحرب وعددها، والأزواد، والملابس الباهية! فكلّ ما يُتقن ويُعدّ لصالح الأمة يدخل تحت مظلّة القوة[17]. واتفق المفسرون على اعتبار اتفاق الكلمة والتضافر من وجوه القوة التي ينبغي إعدادها، كما أشار القرطبي حين وصف القوة بأنها "كلّ ما تعده لصديقك من خير أو لعدوك من شر فهو داخل في عدتك".
يتضح، إذن، أن كل فعل سواء في البيت أو المصنع أو المدرسة أو الجامعة يمكن أن يدخل في حساب "إعداد القوة" إذا كانت النية موجهة لطاعة الأمر الإلهي، فمصير ميادين الحرب في حقيقته يُقرَّر في ميادين التربية والعمل والإنتاج والعلم قبل أن يُحسَم في ساحة القتال.
5. ما حدود التكليف بالإعداد؟
ما حدود التكليف بالإعداد؟ يجيب سيد قطب بأنها "حدود الطاقة إلى أقصاها. بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها". وبمعنى آخر: المعيار هو ما يسْتَطِيعُه الفرد أو الأمة بحسب طاقتهما ومقدورهما. هذا التفسير يتقاطع مع ما ذهب إليه عددٌ من المفسّرين، فالطبري يُعرّف حد التكليف بعبارة موجزة: "ما أطقتم أن تعدّوه لهم"، وابن كثير يقرّر المعنى نفسه بقوله: "أي: مهما أمكنكم"[18]، في حين يضيف الشوكاني أن المراد بالاستطاعة "وإن كان يسيرًا حقيرًا" فهو داخل في التكليف[19]. ويكمل البقاعي القول موضحًا: أي ما "دخل في طاعتكم وكان بقوة جهدكم تحت مقدوركم وطاقتكم".
أما الشعراوي، فيعيد صياغة العلاقة بين الأخذ بالأسباب ووعد النصر، فيقول: عليك أن تعدّ قدر استطاعتك ثم تطلب العون من الله، فلا مبرر لليأس أمام تفوّق العدو في المعدات مادام للمؤمنين "مددٌ سماويٌّ" قد يبدّل المعادلة، كما في قوله تعالى: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾.
ويحذر القاسمي من نتيجة إهمال فريضة الإعداد، فيقول: ترك فريضة الإعداد دفع بالأمة نحو التراجع والتبعية، فباتت معاملها ومنشآتها العسكرية تُستورَد من خصومها، ما يُسهل طَمْعَ القوى الخارجية في أرضها واستقلالها. ويرى القاسمي أن ترك العمل بهذه الآية أصبح سببًا في أن "مالوا إلى النعيم والترف فأهملوا فرضًا من فروض الكفاية"[20].
وباختصار، فإن حدّ التكليف مرتكز على استطاعة الفرد والجماعة، ولكن الالتزام شامل وممتد، فما دخل في نطاق الطاقات يُحتسَب داخل واجب الإعداد. وفي المقابل، فإن الإهمال أو التهاون بتحمّل هذا الواجب يحيل الأمة إلى حالة ضعفٍ تُهدّد استقلالها وكرامتها.
6. هل القوة هي الرمي؟
ورد في الحديث النبوي أن النبيّ ﷺ قرأ آية الإعداد ثم قال ثلاثًا: "أَلا إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ"، فكيف نُوفق بين هذا التخصيص النبوي لمفهوم "القوة" وبين المعاني الأوسع التي استنبطها المفسّرون؟
استجاب الاجتهاد التفسيري لهذا السؤال، إذ يقول الطبري: إنّ "الخبر وإن كان قد جاء بذلك فليس في الخبر ما يدلّ على أنه مراد بها الرمي خاصة دون سائر معاني القوّة [...] فإن الرمي أحد معاني القوّة". وفي الاتجاه نفسه يعلّق الرازي بقوله: إن تصريح النبي ﷺ بأن "القوة هي الرمي" لا ينفي اعتبار وجوه أخرى للقوّة، بل يبيّن أن الرمي "جزءٌ شريف" من المقصود. وبتعبيرٍ مماثل، يرى ابن عطية أن السهام كانت من أنجع الأسلحة في الحرب، لذلك خصَّها النبي ﷺ بالذكر والتنبيه إليها[21]. ويقول ابن عاشور إن أكمل أفراد القوة هو "آلة الرمي"، لكنه يؤكد أن المراد ليس حصر القوة في الرمي فحسب. كذلك يؤكّد الألوسي أن تخصيص "الرمي" إنما كان لشدّته وأثره الفاعل في المعركة، "والظاهر [أي ظاهر النص] العموم إلا أنه ﷺ خص الرمي بالذكر لأنه أقوى ما يتقوى به فهو من قبيل قوله ﷺ ’الحج عرفة‘".
ويورد الشوكاني أن في استحباب الرمي أحاديث كثيرة، ويذكر ابن كثير - نقلًا عن أحمد بن حنبل - أن النبي ﷺ قال: "ارموا و اركبوا وأن ترموا خير من أن تركبوا"، ويؤيد ابن كثير قول أكثر العلماء بأن الرمي أفضل من ركوب الخيل. ومن الأحاديث المذكورة عن فضل الرمي ما رواه البغوي عن أبي نجيح السلمي أنه سمع النبي ﷺ في حصار الطائف، يقول: "مَنْ بَلَغَ بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ". وثمة أحاديث تنهى عن ترك مهارة الرمي بعد أن تُتعلم، ومنها ما رواه عقبة بن عامر: "مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا أَوْ قَدْ عَصَى". وقد وردت أحاديث تصنّف لهوَ الإنسان وملذّاته بأنها باطلة عدا مسائل مرتبطة بالرمي والفروسية وتعلم السباحة.
ورغم ما تقدّم من حثٍّ نبويٍّ على تنمية مهارة الرمي وما يتصل بها من فنون وعلوم، فإنّ الواقع المعاصر يكشف غياب المجتمعات الإسلامية غيابًا واسعًا عن ميادين الرماية العسكرية والترفيهية على السواء. ويُظهر رصد نتائج الأولمبياد صورةً لهذا الغياب؛ إذ نُظّمت في تاريخ مسابقات الرماية (Shooting sport) أكثر من 300 بطولة لم يحصد العرب والمسلمون فيها سوى ميداليتين ذهبيتين، في حين حققت كندا أربع ميداليات ذهبية![22] أما رمي النبل (Archery sport)، فقد شهدت الأولمبياد أكثر من 70 بطولة لم يظفر فيها المسلمون إلا بميدالية واحدة غير ذهبية[23]، في حين لم يُسجَّل لهم حضور يُذكر في رمي الرمح (Javelin throw sport) سوى المعجزة التي حققها البطل الباكستاني أرشد نديم مؤخرًا في أولمبياد باريس عام 2024 حين حصد الميدالية الذهبية وحقق رقمًا قياسيًّا أولمبيًّا جديدًا[24]. تشير هذه الأرقام إلى أن التقصير تجاوز ميادين القتال إلى ميادين الترفيه نفسها، التي أكّد النبي ﷺ مشروعيتها وأهميتها حين جعلها من "الحق" لا من "اللهو الباطل".
7. الخيل: الجمال والقوة
يمثل "رباط الخيل" شكلًا آخر من مظاهر القوة التي أمرت الآية بتهيئتها وإعدادها. وقد وردت في استحباب اتخاذ الخيل وإعدادها وما في ذلك من ثواب أحاديثُ كثيرة، وخصص لها بعض العلماء مصنفات مستقلة، دلالةً على مكانتها في فقه القوة. ومن تلك الروايات ما رُوي عن أبي ذرّ - رضي الله عنه - من دعاء الفَرَسِ لصاحبها مع كل فجر، ومنها حديث عروة بن أبي الجعد في صحيح البخاري: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"، وما صحّ عن خالد بن الوليد من تفضيل الإناث في القتال لقلة صهيلها، وما رُوي عن ابن محيريز من تفضيل الصحابة ذكورَ الخيل في الصفوف وإناثَ الخيل في الغارات. وقد وُصِف بعض التابعين بأن لهم سبعين فرسًا معدّة للجهاد، وأنهم استحبوا من الخيل الأُنثى باعتبار أن "بطنها كنز وظهرها عزّ". كما وردت أحاديث تحثّ على حسن تسمية الخيل وتزيينها والعناية بصفاتها البدنية.
ورغم المكانة الكبيرة التي تحظى بها الخيل في الثقافة العربية، والتي عبّر عنها العمل الفني "بنات الريح" بعمق وصدق، من خلال كلمات الأمير خالد الفيصل التي جسدت معاني القوة والجمال، ومشاهد تصويرية مذهلة أظهرت روعة جمال الخيل وتناسق حركتها، يفاجأ مُشاهِدُها بأن تصوير العمل الفني كان في الولايات المتحدة الأميركية، وليس في بيئة عربية. كما أن معظم أفراد الفريق الفني، ولا سيما المختصون بالخيول والتصوير الميداني، هم من غير العرب والمسلمين![25] وهذا التباين بين الأصل القرآني والواقع الثقافي يكشف عن تراجع رمزيّ لمكانة الخيل في الوعي الجمعي الإسلامي.
8. رباط الخيل: من الحصان إلى المُحرِّك
لقد أثار التركيب اللغوي "رباط الخيل" لدى المفسّرين إشكالًا لغويًّا ونظريًّا كما بيّن الألوسي؛ فمن المعروف أنّ "الرباط" اسم للخيل المربوطة في سبيل الله، فيُستشكل إضافة الشيء إلى نفسه أي إضافة الخيل إلى الرباط! فردّ الألوسي بقوله: إن "الرباط" يستعمل بمعنى "المربوط" مطلقًا، لكنه خصَّ بالخيل، وأن هذا من جنس الإضافة اللغوية المشروعة، فالرباط لفظٌ مشتركٌ بين معانٍ متعدّدة؛ إذ يُستعمل للدلالة على انتظار الصلاة بعد الصلاة، كما يُستعمل للإقامة على جهاد العدوّ في الحرب.
أما الشعراوي، فيقدم قراءة تأويلية مختلفة: "رباط الخيل هو القوة التي تحتل الأرض"، فمهما بلغت قدرة العدو في الرمي فلا تكفي لامتلاك الأرض، لأن الاستيلاء عليها يكون عبر دخول راكبي الخيل، وما تقوم به المدرعات اليوم من احتلال للأرض هو ما كانت تقوم به الخيل سابقًا. ومن هنا يصبح "رباط الخيل" مجازًا للآلية التي تجمع القوّة وتربطها في وحدةٍ قادرةٍ على الاستيلاء، الخيل في الماضي، والمدرعات والمركبات الحربية في الحاضر، إذ يقول الشعراوي: "ونجد أن الحق سبحانه وتعالى جاء في القرآن الكريم بالأداء الذي يعلم ما تأتي به الأيام من اختراعات الخلق، ونجد في زماننا هذا كل قوة للسيارة أو المدرعة أو الدبابة إنما تقاس منسوبة إلى الخيل، فيقال قوة خمسة أحصنة أو خمسمائة حصان".
وبهذه النظرة تتحول عبارةُ القرآن إلى مبدأ مفتوح على اختراعات العصور، وما يربط القوةَ ويجعلها فعّالة في الاستيلاء على المكان، سواء أكان ذلك رباطَ خيلٍ، أم منظومة مدرعات ومركبات آلية، فالمقصود ليس حَرْفيّة الحيوان، وهذا التفسير يوفّق بين تاريخية النص وعموميّة مقصده في بناء قوةٍ قابلة للسيطرة في كل زمان ومكان.
9. رباط الخيل المعاصر
لكلّ أمّةٍ قصّتها مع "رباط الخيل"؛ فقصة اليابان، مثلًا، بطلها المهندس تاكيو أوساهيرا الذي ابتعثته حكومته إلى جامعة هامبورغ بألمانيا لدراسة الميكانيك، فذهب وفي ذهنه حلم واحد: أن يتعلم كيف يُصنع المحرّك، القلب النابض للصناعة الحديثة، كما كانت الخيل قلب القوة في العصور الماضية. لم يكتفِ أوساهيرا بالدراسة النظرية، بل اشترى محركًا صغيرًا بقوة حصانين من ماله الخاص، ففككه قطعة قطعة، ورسم كل جزء وأعاد تركيبه حتى دار بين يديه، ثم انتقل إلى صناعة القِطَع بنفسه، فالتحق بمصانع صهر الحديد والنحاس والألمنيوم، عاملًا بين عمالها، يكدّ عشر ساعات يوميًا، ثم يسهر ليلًا يراجع القواعد الصناعية التي شاهدها في الميدان.
وبعد ثماني سنوات من العمل اليدوي والعلمي المتواصل، عاد أوساهيرا إلى اليابان، وأنشأ أول مصنع ياباني للمحرّكات، وقدّم للإمبراطور عشرة محرّكات صُنعت قطعة قطعة بأيدٍ يابانية. وحين رآها الإمبراطور تعمل، قال: "هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي، لقد بدأت اليابان تعزف سيمفونيتها"، وكانت تلك اللحظة بداية نهضة اليابان الصناعية الحديثة[26]. بدأت قصة أوساهيرا بمحركٍ مستورد بقوة حصانين، وانتهت بعد قرن من التطوير إلى سياراتٍ مثل نيسان GTR بقوة 1500 حصان.
يفسّر المؤرخ مسعود ضاهر سرّ الدافعية اليابانية، فيشير إلى عقيدة الكوكوتاي، أي عقيدة "الأرض اليابانية المقدسة" التي لم تطأها أقدام الغزاة قطّ، إذ يُربَّى الياباني منذ طفولته على أنّ الدفاع عن هذه الأرض واجب وطني وديني معًا، وأنّ أيّ عدوانٍ عليها هو امتهانٌ لكرامته. هذه العقيدة تحوّلت إلى محركٍ نفسيٍّ جماعيّ يغذّي روح العمل والإعداد[27].
اليوم، تُقاس قوة الأمم بآلاف الأحصنة الميكانيكية؛ فمحرك السيارة اليابانية قد يبلغ 1500 حصان، والصاروخ الأميركي ساتورن 5 (Saturn V) يدفعه خمسة محركات F-1 بقوة إجمالية تبلغ 275 ألف حصان[28]. أما المحركات الديزلية العملاقة كمحرك RT-flex96C الفنلندي، فتعادل قوته أكثر من 100 ألف حصان[29]، والسيارة الصينية Yangwang U9 Xtreme التي بلغت سرعتها 496 كم/ساعة أصبحت من أسرع السيارات الكهربائية في العالم، وهي مزودة بأربعة محركات كهربائية من نوع BYD Yi Sifang بقوة إجمالية تقارب 3000 حصان. وتبقى المفارقة أن الأمة التي أُنزل فيها الأمر الإلهي بإعداد "رباط الأحصنة" لم تنتج بعد محركها الأول!
10. مفهوم الإرهاب القرآني
لم يتعرّض مفهوم قرآني للتشويه كما تعرَّض مفهوم "الإرهاب" في الوعي المعاصر؛ يقول الرازي إن المراد بقوله تعالى: ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ هو أنَّ الأعداء إذا عَلِموا أن المسلمين متأهبون ومستكملون أسلحتَهم وعتادَهم خافوا، وهذا الخوف يُحصّل فوائد عملية: عدم اقترابهم من دار الإسلام، واحتمال هدايتهم إلى الإيمان، وعدم تعاونهم مع أعداء آخرين، فتزدهر دار الإسلام وتزداد زينتها. وبعبارة أخرى: الهدف من الإعداد هو صناعة الردع، إرهابُ المعتدي عن الإقدام على العدوان لا قتلُه أو إيقاظُ العداوة.
ويتقاطع هذا المعنى مع ما ذهب إليه السمين الحلبي، الذي يوضّح أن عبارة "تُرْهِبُونَ" يمكن أن تُقرأ حالًا للدلالة على كونكم مُرْهِبين نتيجة إعدادكم، أو حالًا لمفعول الإعداد[30]؛ والقولُان يفيدان أنّ المقصود بهذا الإعداد الإرهابُ بالمعنى النافي للقتل، أي صرف العدو عن العدوان. وقد فصَّل محمد رشيد رضا هذا البُعد بقوله إن: التقييد في الآية يُبيّن أن المقصود هو جعل الاستعداد سببًا لردع الأعداء المجاهرين والمستخفين، لا سببًا لإيقاد نار الحرب. هذا ما نُسميه اليوم "السلام المسلّح"؛ إذ إنّ الضعفَ يُغرِي الأقوياء، في حين الاستعداد يمنع التجرُّؤ. ولئن استخدمت فكرةَ الاستعداد دولٌ استعمارية غاشمة لتبرير سياساتها، فإنّ المقاصد الإسلامية مختلفة، فالإعداد وسيلة لحفظ النفوس والعدل والفضيلة، لا آلية للاعتداء.
وبأسلوب معاصر يوضّح الشعراوي أنّ "قصدَ إعداد القوة هو إرهاب العدو حتى لا يطمع فيكم"؛ ولغةُ العصر تسمي ذلك "التوازن السلمي"، أو ردع العدو عبر إبراز القدرة، ويشمل ذلك اليوم عناصرَ تتجاوز السلاح: اقتصادًا وإعلامًا وبنى تحتية تُلقي في قلب الخصم الخشية من رد فعل فعّال.
إزاء هذا الوضوح القرآني لمعنى "الإرهاب"، يقف تعريفُ المصطلح الغربي المعاصر في تناقض بارز؛ فمصطلح التيروريزم "terrorism" - كما عَرَفَتْهُ الثورة الفرنسية - كان سياسةَ حكم عنيفة مارستها السلطة ضد معارضيها فيما عُرف "بعهد الإرهاب" (Reign of Terror) بقيادة روبسبيير، وأسفرت عن مجازر هائلة، منها مجزرة "فيندي" التي تعد نموذجًا صارخًا في تدمير مدن وقرى بأعداد ضخمة من القتلى والمفقودين.
يعد ما وقع في منطقة فيندي (Vendée) مثالًا صارخًا على تطبيق سياسة التيروريزم، فلقد اجتاحت جيوش الثورة الفرنسية هذه المنطقة حيث تَجَمَّع أنصار الكنيسة الكاثوليكية، وفي الفترة ما بين كانون الثاني/ يناير وأيار/ مايو 1794 قتلت القوات الجمهورية ما بين 20 إلى 50 ألفًا من أهل منطقة فيندي، ويعتقد المؤرخون أن من بين 15 ألف فينديٍّ وقع في أسر الجمهوريين، قتل 7 آلاف بالرصاص أو المشنقة، في حين مات 2200 في الأسر نتيجة الأمراض! إن تقديرات عدد القتلى في صراع فيندي من كلا الجانبين يتراوح بين 117 إلى 450 ألفًا من عدد سكّانٍ إجماليٍّ يقارب 800 ألف فقط! يقول مارك ليفين، وهو مؤرخ متخصص في دراسة الإبادة الجماعية: تعتبر فيندي النموذج الأصلي للإبادة الجماعية الحديثة!
وفي نهاية المجزرة بعث الجنرال فيسترمان رسالة إلى قادته السياسيين يقول فيها: لا وجود لفينديٍّ، فوفقًا لأوامركم لقد دسنا أطفالهم تحت أقدام خيولنا، وذبحنا نساءهم كي لا تلدنَ قُطّاع الطرق، ولم أترك أسيرًا ليلومني، لقد أُبيدوا جميعًا[31]!
إنّ التوصل إلى تعريف دقيق للإرهاب مسألةٌ معقّدةٌ سياسيًا وقانونيًا، فمئات المحاولات الدولية لتعريفِه باءت بالفشل، لأنّ كثيرًا من التعاريف المقترحة قد تُدرج أفعالَ دولٍ ذات قوة عظمى ضمن خانة الإرهاب. إن المحاولات الأميركية المتأنّية لوضع تعريفٍ عمليٍّ باءت بالفشل، إذ إنّ كثيرًا من التعاريف قد تنطبق على أفعال بلادهم نفسها، فكان الحلّ تشريع تعريفٍ بمجلس الكونغرس، ولكن التعريف لم يخلُ من إشكال أيضًا، إذْ يؤسّس لمبدأ دبلوماسيٍّ مضلّل مفاده: "الإرهابي هو من تراه أنت إرهابيًا"[32].
الخلاصة هنا مزدوجة: أولًا، الإرهاب في المعيار القرآني هو صناعةُ الردعِ لمنع العدوان إرهابٌ يحقق السلم، وينفي القتل. ثانيًا، التعريف الغربي للتيروريزم تاريخيًّا وأيديولوجيًّا متحوِّلٌ وخاضعٌ لمقتضيات القوة، لذا فإن اتهام المسلمين اليوم بتهمة الإرهاب بمعناه الغربي يسقط أمام القراءة التاريخية الدقيقة. فبينما يجعل القرآن من "الإرهاب" وسيلةً لصون الحياة، يجعله التاريخ الغربي أداةً لقتلها.
11. من العدو؟ وما أسباب عداوته لنا؟
يعد سؤال "من العدوّ" من الأسئلة الجوهرية في فهم عبادة الإعداد؛ إذ لا يمكن إعداد القوة من دون معرفة من تُعدّ له ولماذا. وقد حاولت بعض الدراسات الحديثة الإجابة عن سؤال العداوة والعدوان، كما في دراسة المؤرخ ريتشارد ليبو "لماذا تتحارب الأمم؟ دوافع الحرب في الماضي والمستقبل" التي حلّلت 94 حربًا بين عامَي 1648 و2003، وخلصت إلى أن المكانة والانتقام كانا الدافعين الأهم وراء معظم الحروب[33].
يكشف القرآن الكريم أن الصراع على المكانة سنةٌ إلهية تجري في التاريخ، إذ يعمل كلّ طرفٍ على أن تكون كلمته هي العليا، يقول تعالى: ﴿وَقُل لِّلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾ (هود: 121-122)، ويقول أيضًا: ﴿قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ (الزمر: 39).
هكذا يصوّر القرآن سُنّة التدافع: كلٌّ يعمل على مكانته، غير أن المؤمنين يستندون إلى وعدٍ إلهيٍ بأن العاقبة للحق، في حين يعمل الكافر ليجعل منهجه هو الحاكم في الأرض. ويقول الشعراوي في خواطره: "ولا تظنوا أن من يواجهونكم هم أعداء الله فقط وقد سلطكم سبحانه عليهم، لا بل عليكم أن تعرفوا أن أعداء الله هم أعداؤكم أيضًا؛ لأنهم يفسدون الحياة على المؤمنين. وعدو الله دائمًا يحاول أن ينال من المؤمنين. وأن ينكل بهم، وأن يجبرهم إن استطاع على الكفر وأن يغريهم على ذلك. فالحقّ سبحانه وتعالى لا يغضب؛ لأنهم لم يؤمنوا به، بل لا يطبقون المنهج الذي يسعد الإنسان على الأرض، فسبحانه وتعالى لا يكرههم ولكن يعاقبهم بسبب الإفساد في الأرض وبغيهم وطغيانهم".
وفي ضوء هذا الفهم يمكن قراءة ما توصّل إليه ريتشارد ليبو نفسه في تحليله غزوَ العراق عام 2003: فالحرب لم تكن لأسباب اقتصادية أو استراتيجية - كما بيّن - بل لإظهار القوة وبعث رسالة هيمنة. كان الغزو، في جوهره، بحثًا عن مكانة أراد صُنّاع القرار الأميركي استعادتها، وهو ما لخّصه ليبو بقوله إنّ نائب الرئيس ديك تشيني "كان يشعر بالخزي من فشل فيتنام، فأراد انتصارًا عسكريًا يمحو وصمة العار". لقد تحوّل تقصيرنا في الإعداد إلى فرصةٍ للعدو كي يمحو عاره بدمائنا ودماء أطفالنا.
غير أن آية الإعداد لم تحصر الأعداء بالعدو الظاهر، بل أشارت إلى نوعٍ آخر منهم: ﴿وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾، فهؤلاء - كما يفسّر القمي النيسابوري - هم المنافقون، إذ "الخائن خائف، فكلما اشتدت شوكة المسلمين ازداد المنافقون خوفًا وربما دعاهم ذلك إلى الإخلاص"[34]. ويضيف الرازي: "تكثير أسباب الغزو كما يوجب رهبة الكفار فكذلك يوجب رهبة المنافقين" وذلك "أنهم إذا شاهدوا قوة المسلمين وكثرة آلاتهم وأدواتهم انقطع عنهم طمعهم من أن يصيروا مغلوبين، وذلك يحملهم على أن يتركوا الكفر في قلوبهم وبواطنهم ويصيروا مخلصين في الإيمان". ويؤيّد ابن كثير هذا المعنى بقوله: "وهذا أشبه الأقوال، ويشهد له قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ﴾". أما ابن عطية فيرى أن ذكر المنافقين في الآية طعنٌ عليهم وتنبيهٌ على سوء حالهم وليستريب بنفسه كل من يعلم منها نفاقًا إذا سمع الآية، ولفزعهم ورهبتهم غناء كثير في ظهور الإسلام وعلوه.
وهكذا يتّضح أن "العدو" في منطق القرآن ليس كيانًا واحدًا، بل دوائر متداخلة: عدوّ ظاهر يحارب من الخارج طلبًا للهيمنة والمكانة، وعدوّ باطن يُظهر الولاء ويخفي الخيانة. ومن ثمّ، فالإعداد المطلوب ليس عسكريًا فحسب، بل إعدادٌ شاملٌ للوعي والعقيدة والصفّ الداخلي، لأن النصر لا يتحقق بقوة السلاح وحده، بل بتماسك الكلمة ووحدة الموقف أمام عدوٍّ يتربص من الخارج ويُنافق في الداخل.
12. جزاء عبادة الإعداد
تُختَم آية الإعداد من سورة الأنفال بإشارةٍ ربانيةٍ تُلخِّص فلسفة الإعداد في الإسلام، إذ يقول تعالى: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾. هذه الجملة الختامية تحافظ على توازن الفرد الملتزم بالإعداد، إذ قد يساوره القلق من التكاليف التي يتطلبها إعداد القوة، فجاء الوعد الإلهي بأن كل ما يُنفَق في سبيل إعداد القوة مردودٌ في الدنيا مضاعفٌ في الآخرة، من دون أن يُنقص الله من أجر صاحبه شيئًا.
يرى الشعراوي أن الآية تخاطب "هواجس النفس البشرية" حين تسمع أوامر الإعداد، إذ يخطر في بالها ما يتطلبه الإعداد من جهدٍ ومالٍ وزمن، فيقول: " فإياكم أن تنكصوا عن الاستعداد؛ لأن كل ما تنفقونه في سبيل الله محسوب عند الله. وإياكم أن تقولوا: إنّ الإعداد لقوة المجتمع يحتاج مالًا ويُقتِّر على الأبناء؛ لأن الله يرزقكم". فالآية - عند الشعراوي - تربّي الثقة في معادلةٍ ثابتة مفادها: ما يُنفَق في سبيل الله لا يُفقَد، بل يُضاعَف في الدنيا ويُثاب عليه المنفق في الآخرة.
يفصّل الطبري هذا المعنى قائلًا: "وما أنفقتم أيها المؤمنون من نفقة في شراء آلة حرب من سلاح أو حراب أو كراع أو غير ذلك من النفقات في جهاد أعداء الله من المشركين يخلفه الله عليكم في الدنيا، ويدّخر لكم أجوركم على ذلك عنده، حتى يوفيكموها يوم القيامة. وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ". وهذا المعنى - كما يقول - يجعل من آية الإعداد وعدًا بالبركة والعوض في الدنيا، ووعدًا بالوفاء الكامل في الآخرة، فلا يضيع عند الله شيء من جهدٍ أو نفقةٍ في سبيله.
أما الرازي فيرى أن الآية عامة في كل وجوه الإنفاق، فيقول: "﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ عامٌّ في الجهاد وفي سائر الخيرات، ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أي لا يضيع في الآخرة أجره، ويعجّل الله عوضه في الدنيا، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ أي لا تنقصون من الثواب شيئًا". ويؤكد ابن كثير المعنى ذاته بقوله: "مهما أنفقتم في الجهاد فإنه يُوفَّى إليكم على التمام والكمال".
ويفسر ابن عاشور قوله تعالى ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ بأن التوفية استعارةٌ بلاغيةٌ، جعل الله فيها الجزاء كأنه دينٌ واجب السداد، بقوله: "جعل الله ذلك الإنفاق كالقرض لله، وجعل على الإنفاق جزاء، فسمّى جزاءَه توفية على طريقة الاستعارة المكنية، وتدلّ التوفية على أنّه يشمل الأجرَ في الدنيا مع أجر الآخرة". أما البقاعي فيربط بين مضمون الآية وخاتمتها فيقول: "ولما كان أغلب معاني هذه الآية الإنفاق - لأن مبنى إعداد القوة عليه - رغّب فيه بقوله: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ﴾، أي من أيّ شيء وإن قلّ، ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أي أجره كاملًا في الدنيا والآخرة [...] أما الزيادة فلا بد منها وهي على قدر النية".
من مجموع أقوال المفسرين يتبين أن أجر الإعداد مضاعف في بُعديه الزمنيّين: في الدنيا عِوَضٌ وبركةٌ ورزقٌ متجدد، إذ يخلف الله ما أنفق عبده ويزيده؛ وفي الآخرة أجرٌ كامل غير منقوص، يُوفّى إليه في ميزانٍ لا يظلم فيه أحد. فكل ما يُنفق في إعداد القوة - سلاحًا كان أو علمًا أو تدريبًا أو تخطيطًا - داخلٌ في وعد الله بالوفاء، بل هو من مصاديق قوله تعالى في موضع آخر: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ (البقرة: 245).
إذن، فالإعداد في الإسلام ليس عبئًا ماليًا، بل استثمارٌ إلهيٌّ مضمون العائد، يربط بين الجهد البشري والعطاء الإلهي في معادلةٍ لا تعرف الخسارة.
[1] هيو كينيدي، الفتوح العربية الكبرى: كيف غير انتشار الإسلام العالم الذي نعيش فيه، ترجمة: قاسم عبده قاسم.
[2] روبرت جي هويلاند، في السبيل الى الله: الفتوحات العربية وتكوين الإمبراطورية الإسلامية، ترجمة: الدكتور فلاح حسن الأسدي.
[3] الرازي، مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، طبع ببيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1418هـ- 1997م.
[4] الماتريدي، تأويلات أهل السنة، تحقيق فاطمة يوسف الخيمي، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى 1425هـ- 2004م.
[5] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان، طبعة رابطة العالم الإسلامي 1427هـ 2006م.
[6] {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ۚ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ}
[7] البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور.
[8] سيد قطب، في ظلال القرآن.
[9] أبو السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم.
[10] الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، طبع ببيروت، دار إحياء التراث العربي.
[11] محمد رشيد رضا، تفسير القرآن الكريم المشهور بتفسير المنار، طبع بدار الكتب العلمية 1420هـ - 1999م.
[12] ابن عاشور، التحرير والتنوير من التفسير، طبع بتونس، الدار التونسية للنشر، 1984م.
[13] البغوي، معالم التنزيل.
[14] الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر، الطبعة الأولى 1422هـ.
[15] الطنطاوي، التفسير الوسيط للقرآن الكريم. طبع بدار المعارف، القاهرة: 1993م.
[16] الشعراوي، تفسير الشعراوي.
[17] أبو حيان، البحر المحيط. طبع بالقاهرة، دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الثانية 1413هـ -1992م.
[18] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمد سلامة. الطبعة الثانية 1420هـ - 1999م.
[19] الشوكاني، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، طبع ببيروت بتحقيق سعيد محمد اللحام، دار الفكر، 1414هـ- 1993م.
[20] القاسمي، محاسن التأويل. طبعته دار إحياء التراث العربي، بيروت، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الأولى 1415هـ- 1994م.
[21] ابن عطية، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز. تحقيق عبد الله بن إبراهيم الأنصاري والسيد عبد العال السيد إبراهيم، الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م.
[22] https://en.wikipedia.org/wiki/Shooting_at_the_Summer_Olympics
[23] https://en.wikipedia.org/wiki/Archery_at_the_Summer_Olympics
[24] https://en.wikipedia.org/wiki/Javelin_throw_at_the_Olympics
[25] https://www.youtube.com/watch?v=IWKO7p6VlnQ
[26] سعد الكريباني، كيف أصبحوا عظماء.
[27] مسعود ضاهر. النهضة العربية والنهضة اليابانية: تشابه المقدمات واختلاف النتائج. الطبعة: الأولى- 1999م، الناشر: سلسلة عالم المعرفة – الكويت.
[28] https://en.wikipedia.org/wiki/Rocketdyne_F-1
[29] https://en.wikipedia.org/wiki/W%C3%A4rtsil%C3%A4-Sulzer_RTA96-C
[30] السمين الحلبي، الدر المصون في علم الكتاب المكنون، تحقيق د. أحمد محمد الخراط، بدمشق، دار القلم، الطبعة الأولى: 1406هـ- 1986م.
[31] https://en.wikipedia.org/wiki/War_in_the_Vend%C3%A9e
[32] https://en.wikipedia.org/wiki/Terrorism#cite_ref-USCode_4-0
[33] ريتشارد نيد ليبو، لماذا تتحارب الأمم؟ دوافع الحرب في الماضي والمستقبل. ترجمة: دكتور إيهاب عبد الرحيم علي. الناشر: سلسلة عالم المعرفة - الكويت - تاريخ النشر 2013.
[34] القمي النيسابوري، غرائب القرآن ورغائب الفرقان، طبع بدار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى: 1416هـ - 1996م.