سيف الدين الزعبي .. مختصر حكاية المستعمِر وخدمه

عبد الله مفلح

على سبيل التقديم..

يعتمد عبد الله مفلح في هذه المادة، على مذكرات سيف الدين الزعبي، الموسومة بـ "شاهد عيان: مذكرات سيف الدين الزعبي"^[1]، وإن لم تكن المادة مراجعة كلاسيكية لتلك المذكرات، وإنما تنطلق منها، للنظر في بعض سياسات الاستعمار التي انتهجها الاحتلال مع الفلسطينيين في الداخل المحتل عام 1948، وأدواته في توظيف البعض من السكان الأصليين لصالح مشروعه الاستعماري، ولذلك ناسب أن تكون هذه المادة في قسم غبار المختص بالعدوّ وسياساته، ومن نافلة القول إنّ المعالجات التي في المادة تعبّر بالتأكيد عن وجهة نظر كاتبها.

·      التحرير

بعد انتهاء نكبة عام 1948 وقيام "دولة إسرائيل" ظلّت أقلّيّة عربيّة في وطنِها، نجح بن غوريون، الشّخص السّياسيّ الأوّل في حينه، في فرضِ الحكم العسكريّ، الّذي اعتُمِدَ في قانونيّته على أنظمة الدّفاع الانتدابيّة زمنَ الطّوارئ عام 1945، إذ لم يكن يتعاملُ ]بن غوريون[ مع العربِ بمبدأ الأمر الواقع؛ بل عامَلَ العربَ بما يمكنُ أن يفكّروا به (أيّ بوصفهم سيكنون العداء للصهاينة بالضرورة). هذا الحكم العسكري لاقى قليلًا من المعارضة؛ واستمرّ لغاية عام 1966، ساعد على إبقائه منذ بدايته حتّى نهايته شخصيّاتٌ عربيّة، دافعوا عنه في جلَسات الكنيست، وصوّتوا لأجل بقائه.

هذه الحالةُ من التّبعيّة، الّتي ترافقتْ في غالبِ الأحيانِ مع الخيانة، لم تكنْ وليدةَ إفرازاتِ النّكبة وقيام "دولةِ إسرائيل" عام 1948؛ يمكن أن نُعيدها لما قبل ذلك، للثّورة الفلسطينيّة الكبرى عام 1936، بالذّات لما أُطلِقَ عليه: الثّورة المضادّة، إذ رفضَ جزءٌ من النّخبة السّياسيّة المتمثّلة في بعض العائلات خطَّ الثّورة، والمتمثّل في أهمّ مظاهرها: الإضراب. هذا الرّفضُ -الّذي تقمّصَ قميصَ الخيانة- كانتْ تغذّيه العائليّة، والمصالحيّة، وخلافاتٌ كثيرة مع الحاجّ أمين الحسينيّ.

كان بَيْعُ الأراضي لليهود والسّمسرة عليها مصدرًا للثّراء ذلك الوقت، عُرِفَ كثيرون بذلك، وارتبطَ بيعُ الأراضي -في الغالب- بالعمل الاستخباريّ لصالح الهاجاناه.

سيف الدّين الزّعبيّ، المولود حسْبَ شهادةِ ميلاده سنة 1914، وحسْبَ ما أخبره أهله سنة 1913، وُلِد في قرية نين، إحدى قرى الزَّعبيّة، جنوبَ الناصرة، نشرَتْ زوجُه إنعام الزعبيّ مذكّراته (شاهد عيان) بعد وفاته.

كان متعاونًا مثاليًّا مع المحتلّ، يطبّق وينفّذ أنظمة السيطرة على الفلسطينيّين، في فترةٍ اتّسمت بالخوفِ والضائقة المعيشيّة والحكم العسكريّ، يمكنُ لهذه الدراسة أن تُضيء شيئًا حول سيف الدين الزعبيّ وكيف أفادَتْ منه المؤسّسة العسكريّة والسياسيّة الإسرائيليّة.

ذاتَ مرّة، حين زاره أعضاء لجنة الداخليّة في الكنيستَ قال لهم سيف الدين: "إنّ البلديّة والأهالي لا يشعرون بوجود الحكم العسكريّ" (يريد المزيد منه ومن حضوره في حياة العرب). وتشبُّهًا به، فقد صوّتَ دياب عبيد، عضو الكنيست من الطّيّبة، ضدّ إلغاء الحكم العسكريّ؛ الأمر الّذي أجّل إلغاء الحكم العسكريّ سنواتٍ، إنّك حين تنعِمُ النظر في هذه المواقف تعلمُ أنّ الحكم العسكريّ هو البيئة الّتي يعملُ فيها مثل أولئك المتعاونين.

في مذكّراتِ الزعبيّ تمرُّ أسماءُ شخصيّاتٍ مثل: أهارون كوهين، وآبا حوشي بكونهم في دائرة الصداقة والمعارف، لقد كانوا قادة أفرعٍ في هشاي (مخابرات الهاجاناه) ولن تندهشَ حينَ تعلمُ أنّ توجيه سيف الدين الزعبيّ لتكوين قائمة عربيّة متحالفةٍ مع حزب مباي إنّما كان بحَثٍّ وتحفيزٍ من آهارون كوهين وغيره في انتخابات الكنيست الأولى، ومعرفة الزعبيّ برجال الهاجاناه أمثال هؤلاء خلال النكبة وقبلها قد يقوّي فرضيّة عمله في عقد صفقات بيع الأراضي، خاصّةً أنّ هذا المعرفة قد تصلُ حدّ الصّداقة كما يُطلِق عليها أحيانًا، غير أنّ إشكاليّةً قد تواجهنا في مذكّراته، وهي أنّه يخلع على الأشخاصِ أوصافَ الصّداقةِ دون سياقِ بَدْء هذه الصداقة؛ إذ قد تكون قد تكوّنتْ في مراحل عمرِه البعديّة للأحداثِ.

والدّراسةُ هذه لا ينفي كاتبَها ولا يدّعي الموضوعيّة، كما هي مفهومة، باعتبارها مرادفةً للحياد، وإلّا فأين تظهرُ قضيّة فلسطين؟ كيف يكون الانتماء إليها دون قَدْرٍ من التّعصُّبِ لأجلِها، وأنت ترى التّعصُّب في نقائضها!

عملَ الزعبيُّ في وزارة الزراعة أيّام الانتداب البريطانيّ، وقد أوكلت له الهاغاناة كذلك سمسرة الأرض، إذ أوكلتله ولبعض أقاربه مساعدة الصندوق الدائم (الكيرن كييمت) في شراء أراضٍ من مناطق قرى الزعبيّة شرق جبل طابور وما حولها، من هنا يربط مؤرخون تعرُّف سيف الدين إلى رجال الاستخبارات. يتحدث في عنوانٍ من مذكّراته (لقاء مع المفتي: ماذا بيّت لي هذا اللّقاء) عن لقاء جمعه بالمفتي عشيّة عيد الأضحى في شهر تشرين أوّل/ أكتوبر من عام 1947، إذ تعرَّضَ الزعبيّ بعد هذا اللقاء لمحاولة اغتيال، وجعلَ هذه المحاولة مدبّرة من قبل أعوان المفتي، وإذا ثبتت الحادثة فيمكن إرجاعُها إلى تعامُل الحاجّ أمين الحسينيّ مع بعض سماسرة الأرض.

هَدَفَ الحكم العسكريّ الذي فُرِضَ عام 1948 إلى السيطرة والمراقبة على "الأقلّيّة" الفلسطينيّة الباقية، إذ جعل أهمّ أدواته الّتي استخدمها لإحكام السيطرة: ترسيخ التفرقة الموجودة القائمة على أسس دينيّة وجهويّة وعائليّة، واستيعاب نخب عربيّة بواسطة تسهيلات خاصّة تمنحُ لها؛ لإبعادها عن السعي وراء أهداف جماعيّة لمجموعاتها الإثنيّة، وكذلك تعزيز التبعيّة الجماعيّة خاصّة في المجال الاقتصاديّ.

وأمّا مجال السّيطرة الاستعماريّة فكان في: مصادرة الأرض العربيّة، والتحكّم في دخول الأيدي العاملة العربيّة إلى سوق العمل الإسرائيليّة، ومنع الفلسطينيّين من التواصل مع أبناء شعبهم خارج "إسرائيل"، ومنع الفلسطينيّ في الأراضي المحتلّة من القيام بعملٍ سياسيّ منظّم وفعّال^[2]، كلّ هذا مهّد لفئة المتعاونين أنْ تُمارِسَ دَور "الوساطة" بظهْرٍ مسنود، إذ تطرحُ نفسَها منقذةً من ضيق الحياةِ الاقتصاديّة وصعوبة التنقّل، وهذا يتماشى مع ما طرحه سيف الدين الزعبيّ عن نفسه في مذكّراته، فهو يؤرّخ لجهوده و"وساطاتِه" إذ أعاد فلانًا إلى قريته، وأخرجَ آخر من السجن، وساهم في إصدار تصاريح عمل وهويّات، وغير ذلك كثير، كما أنّه يعدُّ نفسَه سببًا في بقاء قرى الزعبيّة وعودة الفلسطينيّين لها^[3]، وهذا ادّعاء كبير، فقد كانت ظروف احتلال الناصرة أكبر من الزعبيّ.

ومن تسويقاتِ الزعبيّ لنفسِه، أنه ساهمَ في حصاد مزروعات أهالي القرى. لكنه في المقابل حرص على دفع ثلث محصول الذرة، طالبًا من مكتب الأملاك المتروكة إرسال أحدٍ ليستلم حصّة الحكومة!^[4]

ظهر التنظيم السياسيّ لفلسطينيّي الأراضي المحتلّة في شكليْنِ اثنيْن: تنظيماتٍ سياسيّة تمثّلت في الحزب الشيوعيّ، وقوائمَ سياسيّة^[5] متّصلة بالأحزاب، يُعَدُّ سيف الدّين الزعبيّ وقائمته الّتي شاركَ فيها في انتخابات الكنيست الأولى: القائمة الديمقراطيّة للناصرة مثالًا عليها.

كان الحزب الشيوعيّ يُركّز على قضايا التمييز العنصريّ والأغلبيّة والعلاقة مع الدولة، أمّا القوائم العربيّة فكانت تلعب دور "الوسيط" بين السكّان والحكم العسكريّ، هذه "الوساطة" هي ما يُبْقي هذه العلاقة قائمة، إذ كثيرون من المنضوين تحت قوائم عربيّة إنّما كانوا من المتعاونين قبل النكبة، ومنهم مَن عملوا لصالح الهاجاناه حسبَ بعض المراجع عند كتّابٍ محسوبين على النخبة الأكاديميّة الإسرائيليّة، الّذين يقدّمون بالطبع معرفة استعماريّة^[6].

"دعوه يتكلّم، إنّه رجلٌ طيّب"^[7] جملة قالها بن غوريون عن سيف الدين الزعبيّ قد توضّحُ براجماتيّة بن غوريون في تعامله مع القوائم العربيّة، "دعوه يتكلّم" فيها إمكان التحكّم بالحرّيّة، "إنّه رجل طيّب" فيها مجاملة يهشُّ لها الزعبيّ، ولا ضيرَ بها ما دام يرسّخ سيطرتنا، ويزيد مقاعدنا في الكنيست.

إنّ أسوأ ما يشعرُ به المرءُ وهو يقرأ مذكّرات سيف الدين الزعبيّ حين يمرُّ على نعتِ قادةِ الاحتلالِ مرتكبي المجازرِ بأنّهم مسالمون، وحين يترحّم عليهم، ويضحك المرء من سذاجته السياسيّة (ذلك إن كانت سذاجة)، إذ يتّخذ آراءً فيحوّلها أفعالًا مرتكِزًا على ردّات فعل عاطفيّة، ثمّ يظهرُ له خطأ قراره بعد سنوات، ظهر هذا في اعتراضه على تسمية وزارة للأقلّيّة العربيّة، إذ إنّ لفظ الأقليّة فيه من الإساءة والإهانة ما فيه، فوافقوا على طلبه بتعيين مستشار للشؤون العربيّة، فصار المنصب محكومًا بالأشخاص، فلم يعد لهذا المنصبِ أهمّيّة تُذكَر.

ولعلّ أخطرَ ما في علاقةِ التعاون مع المستعمِر أنّها تخلخل القيمَ والمبادئ الرّافضة، تخذل الحقّ والحقيقة، وتناوِرُ لأجلِ تحويل الحدث إلى بنيةٍ ذات ثبات، إنّها تحاول تبرير التعاون، يظهرُ هذا عند سيف الدين الزعبيّ الّذي وقبل النكبة -بحسب مذكّراته- أيّد قرار التقسيم، ورفض الحرب، وهو في الوقت ذاته يتجهّزُ ويناوِرُ لمرحلةٍ يكون فيها ذا شأن ومصلحةٍ في لحظة تاريخيّة تتغيّر فيها موازين القوى، وقد حصل، ولعلّ تعريف التعاون مع المستعمِر بقربه من الخيانة أو بعده منها إنّما يكون مرتبطًا بالدور التاريخيّ والوظيفي للمتعاون في ظلّ لحظة تاريخيّة ما، وما ينجم عن تعامله مع هذه اللحظة التاريخيّة اضطرارًا أو مناورةً أو مغامرة، ثمّ تحوّل هذه اللحظة إلى بنية اجتماعيّة وسياسيّة ثابتة، لها قنواتها وممارساتها.^[8]

يمكنني أن ألخّص حياةَ سيف الدين الزعبيّ بقولي: إنّ تعاون سيف الدين الزعبيّ وأمثاله مع المحتلّ من خلال استلام دور الواسطة بين الحكم العسكريّ ومصالح الناس المعيشيّة إنّما هو مساهمة لتكريس مبدأ السيطرة على فلسطينيّي الأراضي المحتلّة، وإسهام في اختراق المستعمِر لهذا المجتمع العربيّ، ومثلُ هذا الدورِ من الغباء أن يُجانِبَ أحدٌ سوء النّيّة والقصديّة فيه.

^[1]. شاهد عيان: مذكرات سيف الدين الزعبي، راجعته وأعدته للطبع: إنعام الزعبي، (شفا عمرو: دار المشرق للترجمة والطباعة والنشر، 1987).

^[2] التنظيم السياسيّ للفلسطينيّين في إسرائيل فترة الحكم العسكريّ، مهند مصطفى، أسعد غانم، في كتاب: الأقلّيّة العربيّة الفلسطينيّة في إسرائيل في ظلّ الحكم العسكريّ وإرثه، تحرير: مصطفى كبها، مدى الكرمل، 2014، ص53

^[3] شاهد عيان، سيف الدين الزعبي، ص20

^[4] المرجع السابق، ص21

^[5] التنظيم السياسيّ للفلسطينيّين في إسرائيل فترة الحكم العسكريّ، مهند مصطفى، أسعد غانم، في كتاب: الأقلّيّة العربيّة الفلسطينيّة في إسرائيل في ظلّ الحكم العسكريّ وإرثه، تحرير: مصطفى كبها، مدى الكرمل، 2014، ص54

^[6] بالطّبع هليل كوهين أوّل مَن ينقدح الذهن بشأنه.

^[7] هذه مقولة بن غوريون عن سيف الدين الزعبيّ لأعضاء كنيست يهود، بعد أن اعترضوا على وجود الزعبيّ الّذي يتحالف مع حزب مباي، ويُصرّح ضدّ الحكومة في ذات الوقت.

^[8] مقدّمات لدراسة التعاون مع المحتلّين، خالد عودة الله، موقع باب الواد على الشبكة الإلكترونيّة.